أخلاقيات احترام الطبيعة Environmental Philosophy: هو من تأليف مايكل زيمرمان ومجموعة من المختصين والمفكرين بالفلسفة البيئية وتمت ترجمة الكتاب من قبل معين شفيق رومية والصادر عن ”المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب” في الكويت. كما اخترت منه مقالة من الفصل الخامس وهي بعنوان” أخلاقيات احترام الطبيعة” وهي للكاتب ” بول و. تايلور

أخلاقيات احترام الطبيعة

• مقالات منوعة مختارة نشرت في البيئة الخضراء

للدكتور مجد جرعتلي

المراجعة لغوية لعالم نوح الصيدلانية منى تاجو

 

أخلاقيات احترام الطبيعة


ثمة تيارات في الفكر المعاصر تأخذ على عاتقها مهمة تحليل الجوانب الفلسفية للأزمة البيئية، وتطرح في هذا السياق سؤالا مركزيا فحواه ما مدى حاجتنا نحن البشر إلى فهم جديد لعلاقتنا مع العالم الطبيعي في عصر التدهور البيئي الذي نعيشه؟ حول هذا الموضوع أحببت أن أشارك القراء في مطالعتي لكتاب في غاية الأهمية، الجزء الأول منه "الفلسفة البيئية" ابتداء من حقوق الحيوان إلى الإيكولوجي (إيكولوجي Oecologia علم البيئة أحد العلوم الطبيعية وبالتحديد أحد فروع علم الأحياء الذي يدرس التفاعلات بين الكائنات الحية من نبات أو حيوان أو أحياء دقيقة ..) الجذرية، و هو من تأليف مايكل زيمرمان ومجموعة من المختصين والمفكرين بالفلسفة البيئية وتمت ترجمة الكتاب من قبل معين شفيق رومية والصادر عن ”المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب” في الكويت. كما اخترت منه مقالة من الفصل الخامس وهي بعنوان” أخلاقيات احترام الطبيعة” وهي للكاتب ” بول و. تايلور


مقالة

(أخلاقيات احترام الطبيعة)

 

منظومات المرتكز البشري والمرتكز الحيوي في الأخلاق البيئية
عندما نوضح الخصائص الأساسية لموقف احترام الطبيعة نرى أن المنظومة المرتكزة حيويا في الأخلاق البيئية لا يكون من الضروري كلياً أو عضوياً أن تصور أنواع الموجودات والتي تعد موضوعات جديرة بالاهتمام وذات اعتبار الأخلاقي. لا تتطلب مثل هذه المنظومات استخدام مفاهيم الاستتباب والتوازن والتكامل الإيكولوجي كمبادئ معيارية مرجعية، بالإضافة إلى المعرفة الواقعية و التزاماتنا المتعلقة بالمنظومات البيئية. لا يعتبر “توازن الطبيعة” معياراً أخلاقياً بحد ذاته، ومن خلال و وجهة نظرنا التي تبني موقفنا القائل باحترام الطبيعة مهما كان الدور الذي يلعبه نحو العالم الطبيعي. وأذكر كحجة أن خير الكائنات الحية الفردية و التي تكون بأحسن حال وعافية، كموجودات ذات قيمة أصلية، الموروث هو في النهاية ما يحدد علاقاتنا الأخلاقية مع مجتمعات الحياة على كوكب الأرض .

إن وصف النظرية التي نتحدث عنها بأنها متمركزة حيوياً فهي تخالف كل النظرات الناشئة عن المركزية البشرية. فوفقا لهذه الأخيرة، تعتبر أفعال البشر المؤثرة في البيئة الطبيعية وقاطنيها من الأحياء الأخرى تعد صائبة أو خاطئة تبعا لأحد معيارين : الأول هل عواقبها مؤاتية أو غير مؤاتية لسعادة الإنسان، و الثاني هل هي متسقة أو غير متسقة مع منظومة المعايير التي تحمي وتنجز الحقوق البشرية.

فمن وجهة نظر التمركز البشري هذه؛ جميع الواجبات تخص في النهاية البشر. ربما تترتب علينا مسؤوليات في علاقاتنا مع المنظومات البيئية والمجتمعات الحيوية على كوكبنا، لكن هذه المسؤوليات تستند – كل حال – إلى الواقعة العرضية التالية : هل يمكن لطريقة تعاملنا مع المنظومات البيئية ومجتمعات الحياة أن تعزز تحقيق القيم البشرية و/ أو الحقوق البشرية ، فليس علينا أي إلزام في تحقيق أو حماية خير الأشياء الحية غير البشرية بمعزل عن هذه الواقعة العرضية .

تعارض منظومة الأخلاق البيئية المتمركزة حيويا تلك المتمركزة بشرياً في هذه النقطة بالضبط . فمن جهة النظرية المتمركزة حيويا ترتب علينا التزامات خُليقة بديهية تخص النباتات والحيوانات البرية بحد ذاتها، باعتبارها في مجتمع الأرض الحيوي. فنحن ملزمون أخلاقيا بحماية و تعزيز خيرها الخاص ولأجل ذاتها وحسب. إن واجباتنا في احترام تكامل المنظومات البيئية الطبيعية ، والحفاظ على الأنواع الحية المهددة ، وتجنب التلوث البيئي ، تنبع من حقيقة أن هذه الواجبات هي وسائل نستطيع من خلالها المساعدة في تمكين مجموعات الأنواع الحية البرية من اكتساب وجود معافى والحفاظ عليه في حالة طبيعية. ومثل هذه الالتزامات هي حق لتلك الأشياء الحية بمعزل عن اعترافنا بقيمتها الأصلية. إنها إضافة إلى، ومستقلة عن، الالتزامات التي ندين بها لزملائنا من البشر. ومع أن كثيرا من الأفعال التي تحقق مجموعة من الالتزامات سوف تحقق أيضا الأخرى، فثمة أساسان مختلفان يتضمنان هذا الالتزام. وكما يعرف الإنسان فإن ينبغي تحقيق خيرها كغاية بحد ذاتها .

إذا وافقنا على نظرية أخلاق البيئة المتمركزة حيوياً إذاً يجب إعادة تنظيم جذرية لأخلاقيات عالمنا. وسنبدأ النظر في ضوء جديد إلى كامل النطاق الحيوي على الأرض ، وسوف نرى واجباتنا نحو “عالم” الطبيعة كمطالب بديهيه يجب أن توازن مع واجباتنا نحو عالم الحضارة البشرية. ولن نستطيع هكذا ببساطة تبني وجهة النظر البشرية وتقدير تأثيرات أفعالنا انطلاقا من منظور خيرنا الخاص فقط.

يتحقق خير كائن حي مفرد من غير البشر بالنمو الكامل لقدراته البيولوجية إلى المدى الذي يكون فيه قويا ومعافى فهو يملك كل القدرات التي يحتاجها للتعامل بنجاح مع بيئته وبالتالي حفظ وجوده خلال المراحل المتنوعة لدورة الحياة العادية في نوعه. أما خير جماعة أو مجتمع من هذه الأفراد فيتوقف على حفاظ الجماعة أو المجتمع على ذواتهم من جيل إلى جيل كمنظومة متماسكة من الكائنات الحية المترابطة وراثيا وإيكولوجي، والتي يكون خيرها الوسطي في مستوى أمثلي في بيئة معينة (تعني عبارة الخير الوسطي أن درجة تحقق خير الكائنات الحية الفردية في الجماعة أو المجتمع هي ، في المتوسط أكبر مما سيكون تحت أي نظام إيكولوجي أخر من العلاقات الداخلية بين جماعات الأنواع الحية هذه في المنظومة البيئية المعينة).

إن فكرة الخير الخاص لكائن ما، كما أفهمها لا تستلزم أن هذا الكائن يجب أن يضطلع بمصلحته في حياته، سواء نحو الأفضل أو الأسوأ. فنحن يمكننا التصرف وفق مصلحة الكائن أو عكسها دون أن يكون هو مهتما بما نفعله له، بمعنى أنه يريدنا أن نفعل ذلك. ربما لا يكون فعليا واعيا كليا للأحداث التي تقع في حياته وتكون في مصلحته أو في غير مصلحته. أعني بذلك أن الأشجار، على سبيل المثال، ليس لديها معرفة أو رغبات أو مشاعر. وهذه بلا شك الحالة التي تحدث عندما يمكن لأفعالنا أن تؤذي الأشجار أو تفيدها. فنحن نستطيع تحطيم جذورها إذا ما جعلنا الجرافة تعمل قريبا جدا منها. ونستطيع أيضا تولي أمر حصولها على الغذاء والرطوبة الكافية بتسميد وسقاية التربة المحيطة بها. مفاد ذلك أننا نستطيع إعانتها أو إعاقتها في تحقيق خيرها. لذلك فإن خير الأشجار بحد ذاته هو ما يتعرض للتأثير.
إن مفهوم خير الكائن، وفق هذا التأويل، لا يترافق مع القدرة على الإحساس أو القدرة على الشعور بالألم. لقد حاجج "وليم فرانكينا" في سبيل نظرية عامة للأخلاق البيئية يكون فيها أساس استحقاق المخلوق للاعتبارية الأخلاقية هو أحساسيته. ولقد قُدمت بعض الانتقادات لهذه النظرة في موضع آخر، لكن الدحض التام لهذه المواقف كما يبدو لي يعتمد في النهاية على الأسباب الموجبة للقبول بنظرية متمركزة حيويا من النمط الذي أدافع عنه في هذه المقالة .
بما إنني مهتم فقط بالمعاملة البشرية للكائنات الحية البرية وجماعات الأنواع الحية ومجتمعات الحياة كما هي موجودة في المنظومات البيئية لكوكبنا، فإن سوف أطبّق مفهوم “الخير الخاص” على هذه الموجودات وحدها لكني لا أنكر أن الأشياء الحية الأخرى ذات الأصول الوراثية والشروط البيئية المنتجة والمضبوطة والمتلاعب بها من قبل البشر ولغايات بشرية، تمتلك خيرها الخاص بالمعنى نفسه المنسوب إلى النباتات والحيوانات البرية. فليس من غرضي في هذه المقالة أن أبسّط أو أدافع عن المبادئ التي يجب أن ترشد سلوكنا في ما يتعلق بخيرها. وفقط إلى الحد الذي يكون إنتاجها أو استخدامها من قبل البشر له تأثيرات خيّرة أو شريرة في المنظومات البيئية والطبيعية وقاطنيها البريين هو ما يجعل أخلاقيات احترام الطبيعة تدخلها في الحسبان .

وجهة النظر المتمركزة حيويا إلى الطبيعة

إن المنظومة الاعتقادية الكامنة في موقف احترام الطبيعة “وجهة النظر المتمركزة حيويا نحو الطبيعة” (اعتمد هذا الاسم وذلك نظرا للافتقار إلى اسم أفضل). وبما أنه لا يمكن تحليلها إلى تأكيدات تجريبية جازمة، فيجب عدم التفكير بها ببساطة على أنها خلاصة للعلوم البيولوجية المهتمة بالمنظومات البيئية لكوكبنا. بل ربما توصف بأفضل ما يمكن، كنظرة فلسفية إلى العالم، وذلك لتميّزها عن نظرية علمية أو منظومة تفسيرية، مع أن أحد أركانها الرئيسية هو الدرس العظيم الذي تعلمناه من علم الإيكولوجي وفحواه أن الاعتماد المتبادل بين جميع الأشياء الحيّة هو نظام موحد عضويا يشكل توازنه واستقراره الشروط الضرورية لتحقيق خير مجتمعاته الحيوية المكونة له .

وقبل الانعطاف نحو وصف المقاومات الرئيسية لوجهة النظر المتمركزة حيويا، من الملائم أن نوضح البنية الإجمالية لنظريتي في الأخلاق البيئية ، كما انبثقت الآن . تتشكل أخلاقيات احترام الطبيعة من ثلاثة عناصر أساسية:
العنصر الأول: منظومة اعتقاديه.
العنصر الثاني: موقف أخلاقي أساسي.
العنصر الثالث: مجموعة من قواعد الواجب ومعايير الشخصية.

وترتبط هذه العناصر بعضها ببعض وفق الأسلوب التالي : تقدم المنظومة الاعتقادية وجهة نظر معينة حول الطبيعة، وهذه تدعم وتضفي المعقولية على تبني الفاعل المستقل لموقف أخلاقي أساسي هو موقف احترام الطبيعة. وهي تدعم وتضفي المعقولية على الموقف بمعنى أنه عندما يعي الفاعل المستقل علاقاته الأخلاقية مع العالم الطبيعي بواسطة وجهة النظر هذه، فإنه يعترف بأن موقف الاحترام هو الموقف الملائم أو المناسب الوحيد الذي يجب اتخاذه نحو كل أشكال الحياة البرية في النطاق الحيوي للأرض. وينظر وفقا لذلك إلى الأشياء الحية باعتبارها الموضوعات الملائمة لموقف الاحترام، وتُعد بالتالي موجودات تمتلك قيمة أصلية. وذلك يضفي على المرء قيمة ذاتية على تعزيز وحماية خير هذه الموجودات ونتيجة لذلك، يقطع المرء على نفسه وعدا أخلاقيا بالإخلاص لمجموعة من القواعد الواجب إتباعها، والإيفاء بمعايير محددة للشخصية الخيرة (بالقدر الذي يستطيعه بنفسه). وبافتراض تبني موقف الاحترام فإنه يقطع ذلك الوعد الأخلاقي على نفسه لأنه يعتبر أن تلك القواعد والمعاير إلزامية وسارية المفعول على جميع الفاعلين الأخلاقيين، وينظر إليها كأشكال مشخصة للسلوك وبنيات متميزة يتجلى فيها موقف احترام الطبيعة.

هذا المركب المثلث الأجزاء الذي ينظم داخليا أخلاقيات احترام الطبيعة يتساوى مع نظرية في الأخلاق البشرية مؤسسة على احترام الأشخاص. تتضمن هذه النظرية، أولا، تصور الذات والآخرين كأشخاص، أي كمراكز للاختيار المستقل. وثانيا، ثمة موقف احترام الأشخاص كأشخاص. عندما يتم إقرار هذا كموقف أخلاقي أساسي فذلك يتضمن الميل إلى التعامل مع كل شخص على أنه يمتلك قيمة أصلية أو “كرامة بشرية” ويفهم من ذلك أن كل كائن بشري، تبعا لبشريته فحسب، جدير بالاعتبار الأخلاقي، وبالتالي تضفي قيمة ذاتية على استقلالية كل شخص وسعادته. وهذا ما كان يعنيه "كانط" بتصوره الأشخاص كغايات بحد ذاتها. ثالثا ، ثمة منظومة من الواجبات الأخلاقيات يتم الإقرار بأن كل إنسان يدين بها للآخر. وهذه الواجبات هي أشكال من السلوك يتم من خلالها منح الاعتراف العام بالقيمة الأصلية لكل فرد باعتباره شخصاً.

إن هذا الإطار البنيوي لنظرية في الأخلاق البشرية يترك النقاش مفتوحا حول قضية المواجهة بين المذهب النفعي وعلم الواجبات فتلك القضية تهتم بالنمط الخاص لمنظومة القواعد التي تحدد واجبات الفاعلين الأخلاقيين نحو الأشخاص. وعلى نحو مشابه، سأترك النقاش مفتوحا في هذا البحث حول النمط الخاص لمنظومة القواعد التي تحدد واجباتنا المتعلقة بالعالم الطبيعي .

ثمة أربعة مقومات لوجهة النظر المتمركزة حيويا نحو الطبيعة :

(1) يجري التفكير بالبشر كأعضاء في مجتمع الحياة على كوكب الأرض، وهم يشغلون تلك العضوية بالشروط ذاتها التي تطبق على جميع الأعضاء غبر البشريين .
(2) ينظر إلى المنظومات البيئية للأرض بمجموعها كشبكة معقدة من العناصر المترابطة، حيث الوظيفة البيولوجية السليمة لكل كائن فيها تعتمد على الوظيفة البيولوجية السليمة للآخرين (هذا هو المقوم الذي أشرنا إليه أعلاه بالدرس العظيم الذي علمنا إياه علم الإيكولوجي .
(3) تبنى ذهّنية كل كائن حي مفرد كمركز غائي للحياة ، يسعى نحو خيره الخاص بطريقته الخاصة .
(4) سواء كنا مهتمين بمعاير الجدارة merit أو بمفهوم القيمة الأصلية ، فإن دعوى كون البشر بطبيعتهم الخاصة متفوقون على الأنواع الحية الأخرى هي دعوى بلا أساس، يجب نبذها وفق البنود (1)و(2)و(3) أعلاه، باعتبارها ليست أكثر من انحياز لا عقلاني لمصلحتنا.
يشكل اتحاد هذه الأفكار الأربعة وجهة النظر المتمركزة حيوياً نحو الطبيعة وفيما يتبقى من هذا البحث ، سوف أقدم وصفا موجزا للمقومات الثلاثة الأولى ، وسأتبعها بتحليل أكثر تفصيلا للمقوم الرابع. وسأنتقل إلى الخلاصة موضحا كيف أن وجهة النظر هذه تمثل طريقة في تسويغ موقف احترام الطبيعة.

البشر كأعضاء في مجتمع الحياة على الأرض

نحن نتقاسم مع الأنواع الحية الأخرى علاقة مشتركة بكوكب الأرض. وفي قبولنا وجهة النظر المتمركزة حيويا فإن الاختلافات بيننا وبين الأنواع الحية الأخرى لكننا نبقى في الطليعة ونبقى عينا الحقيقة المتمثلة في أننا ، بالنظر إلى علاقتنا بالمنظومة البيئية الطبيعية على كوكبنا ، لسنا سوى جماعة لنوع حي واحد بين أنواع أخرى كثيرة . ولذلك نقر بنشأتنا من الصيرورة التطويرية ذاتها التي كانت الباعث على نشوء كل الأنواع الأخرى ، وندرك أننا نواجه التحديات البيئية المشابهة لتلك التي توجهها . إن قوانين الوراثة والانتخاب الطبيعي والتكيف تنطبق على نحو متساو علينا جميعا كمخلوقات بيولوجية . وفي ضوء ذلك تعتبر أنفسنا واحدا منها ولسنا معزولين عنها . ويجب أن نواجه ، كما تواجه ، شروطا أساسية معينة على وجودنا تفرض علينا متطلبات تخص بقاءنا وسعادتنا . وكل حيوان أو نبات يشبهنا في امتلاك خيره الخاص . ومع أن خيرنا البشري (أي ما هو ذو قيمة حقيقية في الحياة البشرية ، بما في ذلك ممارسة الاستقلالية الفردية في اختيار منظومات القيمة الخاصة بنا) لا يشبه خير الحيوان أو النبات غير البشريين فإن تحقيقه غير ممكن ، مثل خيرهما من دون الضرورات البيولوجية اللازمة للبقاء والسلامة المادية .

عندما نتمعن في أنفسنا من وجهة نظر تطويرية ، نرى أننا لسنا قادمين متأخرين وحسب إلى كوكب الأرض بل إن ظهورنا كنوع حي جديد على الكوكب كان في الأصل حدثا ليس بذي أهمية خاصة بالنسبة إلى المخطط الإجمالي للأشياء . كانت الأرض تحفل بالحياة لوقت طويل قبل ظهورنا . وباستخدام المجاز في هذه المسألة ، نحن قادمون جدد نسبيا ، ندخل منزلاً كان مقاماً للآخرين لمئات ملايين السنين وهو المنزل الذي يجب أن نتشاركه الآن سوية معهم .
يمكن تصوير الفترة القصيرة نسبياً للحياة البشرية على الأرض إذا تخلينا المقياس الزمني الجيولوجي مكونا من فواصل مكانية . لنفترض البداية مع الطحالب ، التي كانت موجودة منذ 600مليون سنة على الأقل (وحيدات الخلية الأولى تسبق فعلياً هذا التاريخ بعدة مليارات من السنين) إذا مثلنا الزمن الذي انقضى منذ ظهور الطحالب بطول ملعب كرة القدم (100 متر)، عندها فإن الزمن الذي انقضى منذ أن بدأت أسماك القرش تسبح في محيطات العالم والعناكب تنسج شباكها سوف يشغل ثلاثة أرباع طول الملعب ، وسوف تظهر الزواحف في منتصف الملعب ، وتغطي الثدييات الثلث الخير من الملعب ، وأشباه الإنسان (الثدييات من عائلة Hominidae ) القدمين الأخيرتين ، والنوع هوموسابيانس Homo sapienz السنتيمترات الخمسة عشر الأخيرة .

ويظل موضوع ترقب إن كان هذا القادم الجديد قادراً على البقاء بمقدار ما بقيت الأنواع الحية الأخرى . لكن ثمة بالتأكيد فظاظة في الطريقة التي بنظر بها البشر شذرا نحو الحيوانات “الأدنى” خصوصا تلك التي انقرضت . فمثلا ، نحن نعد الديناصورات فاشلة بيولوجيا على الرغم من أنها وجدت على كوكبنا طيلة 65 مليون سنة . وقد عبر أحد الكتاب عن هذه النقطة بشكل مبسط وجميل :
نتحدث أحيانا عن الديناصورات الفاشلة ، سيكون الوقت كافيا لإطلاق هذا الحكم عندما يمر علينا مجرد عشر مدة بقائها .

إن إمكان انقراض النوع البشري ، هذا الإمكان الذي يواجهنا بقوة في العالم المعاصر ، يجعلنا نعي جانباً آخر يجب أن نتخلى عنه، و هو ألا نعتبر أنفسنا كائنات تحظى بامتيازات في علاقاتنا مع الكائنات الحية الأخرى . وهذا الجانب هو الحقيقة المتمثلة في أن حسن حال البشر يعتمد على السلامة الإيكولوجية وازدهار الكثير من مجتمعات النبات والحيوان ، في حين أن سلامتها وازدهارها لا يعتمدان ، على الأقل على حسن حال البشر وبالفعل ، ومن وجهة نظرها ، إن وجود البشر غير ضروري بتاتاً . كان من الممكن لأي رجل أو امرأة أو طفل سابق ألا يظهر على وجه الأرض وذلك لن يلحق أي ضرر ذي شان بمصلحة الحيوانات والنباتات البرية . بل على العكس ، ربما كان ذلك مفيدا للعديد منها لأن تدمير موئلها بواسطة “التطورات” البشرية سوف يتوقف وسينتهي تلويث وتسميم بيئاتها . كما أن تربة وهواء وماء الأرض لن تتعرض للتدهور الذي تخضع له حاليا والناجم عن التقانات الضخمة والنمو السكني غير المضبوط . وستعود مجتمعات الحياة في المنظومات البيئية الطبيعية تدريجيا إلى حالتها السليمة السابقة . فمثلا، الغابات المدارية سوف تكون قادرة من جديد على الاسهام الكامل بنصيبها في الغلاف الجوي الداعم للحياة في الكوكب ككل . والأنهار والبحيرات والمحيطات سوف تصبح (ربما) نظيفة من جديد . وربما النفط المتدفق والقمامة البلاستيكية والنفايات المشعة سوف يتوقف تأثيرها في النهاية بعد عدة قرون . وستعود المنظومات البيئية إلى توازنها المضبوط ، وتخضع فقط للاضطرابات الناجمة عن الحوادث الطبيعية من قبيل ثورات البراكين وحرائق البرق . يستطيع مجتمع الحياة أن يتعافى من هذه الاضطرابات ، كما حصل كثيرا في الماضي . لكن الكوارث البيئية التي يرتكبها البشر بحقه الآن – الكوارث التي قد لا يتعافى منها وصلت إلى الحد الذي لا يطاق .

إذن في حال حدث الفناء الشامل النهائي والمطلق لنوعنا البشري -وهذا جلبناه بأيدينا- وإذا لم نحمل منها جميع الآخرين إلى النسيان ، فعندها لن يتمكن مجتمع الحياة على الأرض من الاستمرار وحسب ، بل من المحتمل جدا أن يتعزز ازدهاره. باختصار ، إن حضورنا ليس ضروريا ، فلوأتخذنا وجهة نظر مجتمع الحياة وأعطينا الصوت لمصلحته الحقيقية ، فمن المحتمل جدا أن نهاية حقبتنا ذات الإنشاءات الستة ستكون موضع ترحيب عارم .

العالم الطبيعي كمنظومة عضوية

إن قبول وجهة النظر المتمركزة حيوياً واعتبار أنفسنا و مكاناتنا في العالم من منظورها يعني أن نرى النظام الطبيعي الكلي لنطاق الأرض الحيوي شبكة معقدة ، إنما متماسكة ، من الكائنات الحية والأشياء والأحداث المترابطة . إذ تشكل العلاقات الإيكولوجية بين أي مجتمع من الأشياء الحية وبيئتها كلية عضوية من الأجزاء ذات التواكل الوظيفي . فكل منظومة بيئية هي كون صغير بذاتها تؤلف التفاعلات بين جماعات الأنواع الحية المختلفة ضمنها شبكة من علاقات السبب – النتيجة المنسوجة بإحكام . فالبيانات المتنامية والمستقرة نسبيا في الآن ذاته ، من قبيل سلاسل الغذاء وعلاقات الافتراس وتتابع النباتات في الغابة تتمتع جميعا بالانتظام الذاتي وتمثل آليات تدوير للطاقة تحفظ توازن الكل .

وبقدر ما نهتم بمصلحة الحيوانات والنباتات البرية ، فإن هذا التوازن الإيكولوجي ينبغي ألا يخرب . ويصح ذاته على المصلحة البشرية وعندما نتطلع إلى ميدان الطبيعة من خلال وجهة النظر المتمركزة حيوياً ، يجب ألا نُغفل انه في المدى الطويل يعد تكامل النطاق الحيوي الإجمالي لكوكبنا ضروريا من أجل تحقيق خير مجتمعات الحياة المكونة له ، سواء أكانت بشرية أو غير بشرية .

ومع أن هذه الفكرة لا يمكن المغالاة في التشديد عليها ، إلا أنها أصبحت مألوفة ومعترفا بها على نطاق واسع الآن حتى أنني لن أتوسع في عرضها ، ولكن أود الإشارة إلى أن هذه النظرة “الكلية” إلى المنظومات البيئية الرضية لا تشكل بحد ذاتها معياراً أخلاقياً. إنها جانب واقعي من الحقيقة البيولوجية ، ويجب فهمها بواسطة مصطلحات تجريبية عادية باعتبارها مجموعة من الارتباطات النسبية . وإن مغزاها بالنسبة إلى البشر هو المغزى عينه بالنسبة إلى غيرهم ، أقصد أنها تضع شروطاً أساسية على تحقيق خير الأشياء الحية . أما المضامين الأخلاقية التي تطرحها على تعاملنا مع البيئة الطبيعية فتكمن تماما في حقيقة أن معرفتنا لهذه الارتباطات السببية تعد وسيلة ضرورية لتحقيق الأهداف التي نضعها لأنفسنا عندما نتبنى موقف احترام الطبيعة . زد على ذلك أن مضامينها النظرية التي تطرحها على أخلاقيات احترام الطبيعة تكمن في حقيقة أنها (إلى جانب عناصر أخرى في وجهة النظر المتمركزة حيويا) تجعل تبني ذلك الموقف أمراً عقلانيا ومفهوما يجب فعله .

الكائنات الحية الفردية كمراكز غائية للحياة

مع تزايد معرفتنا بالأشياء الحية وتوصلنا إلى فهم أعمق لدورات حياتها وتفاعلاتها مع الكائنات الحية الأخرى ، وللطرق المتنوعة التي تتكيف بواسطتها مع البيئة ؛ نصبح على دراية أوفي بالكيفية التي وفقها يقوم كل منها بالوظائف البيولوجية تبعا لقوانين طبيعته النوعية الخاصة . وإلى جانب ذلك أيضا ، فإن معرفتنا وفهمنا المتزايدين ينميان وعياً حاداً في داخلنا للتميز الذي يتصف به كل كائن حي مفرد . فالعلماء الذين يقومون بدراسات مستفيضة على حيوانات ونباتات محددة سواء في الحقل أو في المختبر ، يكسبون في الغالب معرفة بموضوعاتهم وكأنها أفراد ذات هوية . وقد دفعهم الرصد القريب طوال فترات مديدة من الزمن إلى تقدير تميز شخصيات موضوعاتهم وفي بعض الأحيان ’ قد يصل العالم إلى إعطاء اهتمام خاص لنبات أو حيوان محدد ، مع أنه يبقى طوال الوقت موضوعياً تماماً في تجميع وتسجيل البيانات . وعلى نحو مشابه ، قد يختبر غير العلماء نشوء هذا الاهتمام عندما يقومون ، باعتبارهم من الهواة ، بإجراء ملاحظات دقيقة عبر فترات مديدة من الاطلاع القريب على كائن حي مفرد . ومع الألفة المتزايدة للكائن الحي وسلوكه ، يصبح المرء حساساً تماماً للطريقة الخاصة التي يعيش وفقها هذا الكائن دورة حياته . ربما يفتتن المرء بهذا الكائن حتى أنه قد يختبر شيئا من الانهماك في مصائره الجيدة في وجود الشروط البيئية الصالحة أو السيئة في وجود الشروط البيئية غير الصالحة لتحقيق خيره. ويصبح الكائن الحي ذا معنى للمرء باعتباره فردا متميزا لا يمكن الاستعاضة عنه.

والتتويج النهائي لهذه الصيرورة يكون في الوصول إلى فهم حقيقي لوجهة نظر الكائن الحي والقدرة- بواسطة هذا الفهم- على اتخاذ وجهة نظره. فالمرء الذي يتخيل الكائن الحي مركزا للحياة يستطيع النظر إلى العالم من منظاره . هذا التطور من المعرفة الموضوعية للكائن الحي إلى الاعتراف بتفرده ، ومن الاعتراف بالتفرد إلى الوعي التام بوجهة نظره ، هو صيرورة تعميق لوعينا بما يعنيه أن يكون ثمة شيء حي فردي . أي أننا ندرك خصوصية الكائن الحي ، كمركز غائي للحياة ، يسعى لحفظ نفسه وتحقيق خيره الخاص بطريقته المتميزة الخاصة . وتجب الإشارة إلى أننا لا نحتاج إلى أنسنه زائفة عندما نتخيل الحيوانات والنباتات الفردية بهذا الأسلوب . إن فهمنا لهم كمراكز غائية للحياة لا يستلزم “قراءتهم” بواسطة خصائص بشرية . فعلى سبيل المثال ’ لا نحتاج إلى اعتبارهم يتمتعون بالوعي . ربما يشعر بعضهم بالعالم من حوله وبعضهم ليس كذلك . كما لا نحتاج إلى إنكار ضروب ومستويات الشعور المتباينة التي تتمثل عندما يكون الوعي موجودا بشكل ما . ولكن ، بوجود الوعي أو من دونه ، فإنها جميعا مراكز غائية للحياة متساوية ، بمعنى أن كلا منها يمثل منظومة متماسكة من النشاطات ذات الطابع الموجه إلى الهدف والمتوجه نحو حفظ ذاتها وتحقيق مصلحتها . وانطلاقاً من وجهة النظر الأخلاقية ، يعد المركز الغائي للحياة موجوداً يمكن رؤية "عالمه" من منظور حياته . إن النظر إلى العالم من ذلك المنظور يجعلنا ندرك الأشياء والأحداث التي تقع في حياته على أنها مفيدة أو ضارة أو حيادية . الأولى هي الحوادث التي تزيد قدراته على حفظ وجوده وتحقيق خيره . والثانية تنقص أو تتلف هذه القدرات . أما الثالثة فلا تؤثر بأي مما سبق على الموجود . ومن حيث دورنا كفاعلين أخلاقيين ، نستطيع وصف المركز الغائي للحياة على أنه كائن يمكن أن نأخذ وجهة نظره بعين الاعتبار عندما نصدر أحكاما حول ما نعده خيرا أو شرا، مرغوبا أو غير مرغوب من أحداث العالم . وفي إصدار تلك الأحكام يكون ما يعزز أو يحمي الخير الخاص بالكائن ، وليس ما ينفع الفاعلين الأخلاقيين ، هو معيار لتقييم . ويمكن إصدار هذه الأحكام حول أي شيء يحدث للموجود ويكون صالحا أو غير صالح له بالنظر إلى خيره الخاص . وكما أشرت سابقا ، لا يحتاج الموجود ذاته إلى امتلاك مصلحة (واعية ) بما يحدث له كي تكون هذه الأحكام ذات معنى وصحيحة . إن هذا النوع من الأحكام هو بالضبط ما نميل إلى إصداره عندما نتخذ موقف احترام الطبيعة . وإذ نتبنى ذلك الموقف تصبح تلك الأحكام ذات أهمية في تفكيرها العملي كأسباب للفعل كما تغدو حقائق وثيقة الصلة أخلاقيا بإرشاد سلوكنا .

عنوان الكتاب باللغة الإنكليزية :

Environmental Philosophy “From animal Rights to Radical Ecology”
By، Michael E. Zimmerman.