أساور مريم لنسيم الرحبي
نبوءة المطر في الأرض اليباب ..
عن دار الشروق في بيروت، ( الغلاف والرسوم الداخلية للفنان أنورالرحبي )

"أساور مريم " لنسيم الرحبي ..
نبوءة المطر في الأرض اليباب ..

———————————————- أديب مخزوم ————-
في مجموعتها الشعرية ( أساور مريم ) الصادرة حديثاَ عن دار الشروق في بيروت، ( الغلاف والرسوم الداخلية للفنان أنورالرحبي

تكشف الشاعرة والكاتبة والإعلامية نسيم الرحبي، عن علاقتها الوطيدة بالقصيدة النثرية، متجاوزة بذلك الأنماط التقليدية والكلاسيكية ، في خطوات المجاهرة بحريتها التعبيرية ، والارتماء في فضاءات التلقائية والدهشة النهائية,حيث الرؤية الشعرية الحديثة والمعاصرة، تخترق الشكل والمحتوى معاً، وتحقق حالات الوصول إلى الرؤى الحلمية والخيالية، التي تثير المشاعر ، بحركة الصور المتداخلة إلى حدود التخيلات السوريالية: 

يمد أصابعه للغيب .. للغيمة ..
للمنديل المطرز على شعري ..
فتجوس أصابعه النحيلة كيانات ..
تستولي على شرفة النعاس ..
كنت مثل سمكة يطاردها قط ..
تغتسل بماء المطر .. 

وهي من هذا المنطلق تبتعد كل البعد عن الاشارات التقريرية المباشرة, وتدخلنا في جوهر الحالة الرمزية، وفي تخيلات الصورة الشعورية واللاشعورية، التي تروي في بعض فصولها، مناخ الحكايات الحلمية: 

النبيذ في دمه كسرب
تغويه زينة الشعر.. بالورد الأحمر ..
يهمس من بوابة القصر للحمامة التي يغطيها المطر ..
تطل رائحة التفاح من صندوق صدرها ..
انها وحشة المحبين .. 

وتقترب نسيم الرحبي من حدود أو ضفاف السواد، الذي يغلف عتمة احزاننا في ازمنة الحروب وأهوالها, إلا أن نبوءة المطر قادرة على انبات الشجر والعشب الأخضر في الأرض اليباب: 

هطل الشوق وخمد الاشتعال ..
بكت شجرة السرو ..
وحده المطر .. لم يعكر البكاء ..
خافت وانحت .. وتنفس الجسد من جديد ..
وشاها الشمس ..
واثقلتها سعفات النخيل .. 

وتتجه في هذه المجموعة التي أسمتها ( أساور مريم ) لاطلاق مواقفها الساخطة، بشكل غير مباشر، تجاه ما تشهده المدن العربية المحاصرة، من مآس تقدم يومياً باسم التمدن والحضارة ، على اعتبار ان لهذا الليل الأسود، علاقة بواقع الحروب الراهنة والمتواصلة: 

وردة داهمتها الريح ..
استولى عليها اليباس ..
شرعت ذراعيها اقدامها انكسرت ..
خارج اللحظة ما مات الوقت ..
أشياء فرت من المخبأ البارد ..
لحافها ليل أسود .. 

وتثير في رمزيتها الشعرية تساؤلات صوفية متجذرة في رموز علاقة الموت بالولادة ، فهي لا تقع في سكونية البعد المتلاشي في الفراغ والعدم, وإنما تصل بالجوهر الإنساني، إلى ضفاف الصورة المطهرة، والمستمدة من تلميحات الثقافة الشرقية ومنابعها الصوفية: 

أمراة تخرج من صناديق الخشب معلبة ..
يقول عنها العراف:
تسترت من قش الخشب ..
في عينيها سماكة السواد ..
ترتدي البسة من المطاط ..
تخرج من شجر اليباس .. 

وتذهب الى الدلالة الرمزية دون ان تجعلها بديلة عن النص الصريح ، وبالتالي تشير الى إمكانية التلميح دون ان تذهب الى ذاتية جانحة، وهي تصوغ مفرداتها الشعرية مرتكزة احياناً على دلالات فلسفية، وهذا ما نجده على الاقل في بعض الأبيات القادمة من تأملات الانسان والطبيعة والوجود . انها دعوة لتحرير الذاكرة من تأثيرات الالوان الرمادية والقاتمة واعلان ما يمكن تسميته بالأجواء التفاؤلية ، أو بولادة يقظة جديدة تتجاوز الايقاعات الحاملة مسحة سوداوية واضحة.
البس له من لون الفراشات لباسا لكل المواسم .. 

فمي قهوة مهيلة في الصباحات ..
موائد للنرجس والقرنفل ..
وقبالتي فيض الشذى .. 

وآثرت الشاعرة أن تخاطبنا إلا من باب القصيدة، التي تتجسد عبر الشعور بالصدمة اليومية ، من معايشة فصول الرعب وفواجع القلق والتوتر والترقب والموت، فهي تختصر في رمزيتها الشعرية خريطة المدن المتصدعة والمدمرة والهامدة والمحروقة: انها ردة فعل حتمية تجاه لا مبالاة الاستمرار في معايشة فصول دوامة الموت المعلن والمؤجل : 

إني افتقد صديقتي الشمس ..
والماضي المشرق في طياته الفصول ..
إني انسحب من الاتي ..
من فوضى الوقت ..
وإبريق الشاي لم يعد ساخنا .. 

فالقصيدة هي في النهاية صرخة رفض تعبر عن الحدة المأساوية التي تلف الواقع، فالاحساس بعمق المأساة سيد الموقف، رغم ما نستشفه من مساحات بيضاء تحاول من خلالها الانفلات من كل ما يسمى بكوابيس سوداوية معاشة ومشتركة: 

حاول السطو على رائحة النهوض ..
أجهض ..
اختلطت اشياءه بالتنادي ..
وتجوس الليل بحذر ..
امتلىء بالذعر فتوقفت اللحظة ..
وضل الطريق ..
واحتفل من جديد .. 

تطل نسيم الرحبي في كتابها الشعري باحثة عن أجوبة حرة لتساؤلات مستمرة تبرر مواقفها وصورها وتمردها على المألوف الاجتماعي. وتريد ان توصل لنا رسالة مفادها انه لابأس بالاعتماد على عنصر المفاجأة والمغامرة التي تشد الاعصاب, دون توقف,في خطوات الانتقال من صورة الى اخرى, والوصول الى نهاية ايقاع ايحاءات احلامها ورغباتها, انطلاقاً من اشياء رمزية,بالأخص عندما يصبح التعبير الجسدي المظهري عنصراً اساسياً في لعبة الارتجال, وجزءاً اساسياً في ايحاءات الدلالة التعبيرية التي تبنى عليها الاحلام والرغبات .
صدري هديل للبرق برق الشهوة اللقاء ..
للرزاز النهري فوق كفي ..
حينها اسافر بالفيض والذكريات ..
وامعن وقت تفرقني القهقهة ..
وقتها اشبه الغمام .. 

فهي تعتمد على ذاكرتها الثقافية وتأملاتها الطبيعية والانسانية واندماج الانسان المعاصر بعالم الآلة والانترنت ، كما تمنحنا القدرة على العمل، الذي يمكننا من استرداد الامل والحياة . وتركز على المرأة الرمز في التعبير عن تداعيات الحلم والسكينة والثورة والشهادة، انها حقل ثراء حقيقي يمكن من خلالها الكشف عن مزيد من العلاقات الايحائية، والوصول الى مسحة روحية مقروءة في مذكرات الوجوه الواجمة والحزينة وصولا الى الموت والولادة الجديدة . 

وفي قصيدتها( رسم بالحوار) تعمل على تكثيف الصور والرموز والايحاءات وتصر على مبدأ الحرية التعبيرية، لزيادة الإحساس بالمدلول الايقاعي النابض باحتمالات التجاوز عبر التأويلات غير المباشرة، التي تضعنا امام وعي الضرورات الجمالية الحديثة لهذا العصر: 

رسم دائرة ..
خلع ثيابه تمدد على الاسفلت ..
ظلت الشمس بعيدة تكور ثم تدحرج الى داخل الدائرة ..
مات النهار البارد ..
حضن سماكات الليل ..
استلقيت أنا بجانبه داخل الدائرة ..
فكان مرسوماً من الحوار .. 

هكذا تتجه الى كسر الصورة الواقعية، وتدخلنا في اجواء رومانسية تجسد الشحوب الانساني وتشققات اليباس والقتام ودموع الاحزان والسقوط في دوامة التمنيات ، ورغم حدة المعاناة تضاعف التأثير الرومانسي الحامل حنين انفلات وانعتاق من دلالات التعبير المأساوي ، فهي لا تقع في سكونية البعد المتلاشي في الفراغ والعدم, وإنما تصل بالجوهر الانساني إلى ضفاف الصورة المطهرة والمستمدة من تلميحات الثقافة الشرقية ومنابعها الصوفي : 

تجمعنا اللحظات الدافئة ..
صوته ناي عذب ، وقلبه دف ..
ينتظر الجمع ، زغاريد الأمهات
ونافذتي تغسلها الشمس بالورود ..
ويتدلى الرطب في الزوايا ..
وتحت الدالية .. 

نسيم الرحبي حولت القصيدة النثرية،الى مكان عاصف ينضح بالرومانسية والذكريات والامل، ولمحت الى الحالات المأساوية الحية، المترسخة في الوجدان والذاكرة الجماعية، فالاشارات تكمن خلف تأويلات غير مباشرة وخلف ذلك الكسر المتعمد للمباشرة الخطابية ، وهذا الكسر او الهدم للصورة الواقعية المباشرة يؤدي الى تحريك المشهد والوصول الى حالة حلمية، تتداخل فيها الصور والاشارات والرموز الخاضعة ايضا للانفعال الذاتي والوجداني .