بمناسبة انتهاء مهرجان عمر أبو ريشة الشعري الذي غطاه موقعنا كاملاً ارتأينا أن نسترجع هذه التغطية لمؤية عمر أبو ريشة في جامعة حلب (2008) للكاتب بسام لولو والتي تناول فيها بعض ما قيل في الندوة من أسرار وطرائف من حياة أبو ريشة

أسرار عمر أبو ريشة

شاعر القَفْلة

بقلم بسام لولو


• وصف كبار الشعراء العرب "بالشحّادين" وتاريخنا بالكاذب وقصائده "بالخنفشارية" السخيفة ودراساتنا بالتافهة.

• فضّل الخريمي على المتنبي والبحتري وأبي تمام، وأُعجب بأم ثواب الهزانية وعشرقة المحاربية .

• لايؤمن بالموت.. وتعلم العربية من الإنكليز.

• نال مع طاغور جائزة المائدة المستديرة .

• التقى الملك فيصل وجون كينيدي وجواهر لال نهرو
ليس للشاعر عمر أبو ريشة ابنة اسمها "ريشة"، لذلك جاز له أن يلتزم الواو في لقبه "أبو ريشة"، وألا يعامله معاملة الأسماء الخمسة.. وفي بداياته كتب أبياتاً من عيار "اعقل قلوصيَ أيّهذا الحادي" ليدّعي أنها للنابغة الذبياني، مضللاً بذلك أصدقاءه وأساتذته.. وعندما أنشدته شاعرة حديثة: "دفنتُ نخاع البشرية تحت إبط الضفدع"، طار عقله، وقال لها: أنت تنفّذين مخططاً صهيونياً.. ولعل إصغاءه إلى شعر الحياة الصامت، بعد كل ما قاله وسمعه من شعر، لايقل فنية ودلالة عن شعره الذي أراد فيه لأمته منبراً للسيف أو القلم.

هذا قليل جداً مما تبدّى من عمر أبو ريشة، الإنسان والشاعر، في الندوة العلمية الدولية التي نظمها قسم اللغة العربية في كلية الآداب بجامعة حلب، مع جمعية العاديات الحلبية، بمناسبة مرور مئة عام على ميلاد أبو ريشة، وضمن احتفالات الجامعة بمرور خمسين عاماً على تأسيسها، وتحت عنوان "عمر أبو ريشة في محراب التاريخ والجمال" والتي استمرت يومين، وتخللها خمس جلسات أكاديمية، بالإضافة إلى جلستَيْ الافتتاح والختام، وتحدث فيها عشرون باحثاً، تناولوا جوانب شتى من حياة وشعر أبو ريشة، ما يكفي لملف أو كتاب عنه..

من جانبنا حضرنا الندوة، وحملنا ماتيسر لنا من بحوث، وخرجنا بالآتي، مركّزين على الجانب الخفي من شخصية أبو ريشة.

الوجه الآخر

 بدا الوجه الآخر للشاعر عمر أبو ريشة، من خلال بحثين تقدّم بهما الدكتور عبد الإله نبهان والأستاذ محمود فاخوري، فاستمد الدكتور نبهان مادة بحثه من سهرة جمعته مع الشاعر أبو ريشة في 13/10/1977، في محاولة لتقديم مايمكن أن يساعد على فهم مذهبه في الحياة والشعر، فلم تخل من أحكام أبو ريشة الآنية والانفعالية.

وقد بدا أبو ريشة في هذا البحث أو السهرة، غير مؤمن بالموت، بل بالتغيّر، وهي فكرة ظلت تتردد في أشعاره، خاصة غير المنشورة:

حبيبتي لاتخبري إخوتــي
كيف الردى، كيف عليّ اعتدى
قولي لهم سافر، قولي لهم
إن له في كوكب موعــــدا

وفي الحديث عن الشعر، لم ينحز أبوريشة في تلك السهرة إلا إلى الشعر، بغضّ النظر عن كونه قديماً أو حديثاً، وهو يتحدث عن الوزير "الكمالي" في العراق عندما عرّفه إلى شاعرة حديثة، راحت تنشده:

دفنتُ نخاع البشرية تحت إبط الضفدع
ذيل طاووس يحترق
كهوف عفنة
ثلاثة حوافر
حذائي….

فطار عقل أبو ريشة وجن جنونه وراح بعد ذلك يكيل التهم لأصحاب هذا النوع من الشعر، من مثل أنهم ينفذون مخططاً صهيونياً، ويتحدث في محاضراته عن هذا الشعر الهدّام، ويتعمّد جزالة اللغة وقوة السبك، نكاية بهؤلاء، في ملحمة حياته التي قرأ شيئاً منها، وقطع وعداً بألا ينشرها كاملة، لأنه يتحدث فيها عن الكثير مما عاصره، والتي يقول فيها:

ألفيتُ منزلها بوجهي موصـدا
مــا كان أقربه إليّ وأبـــعدا

كلّت يداي على الرتاج وعربدت
في سمعي المشدوه قهقهة الصدى

ثم وصف أبو ريشة، في سياق حديثه عن الشعر، شعراء المديح العرب بأنهم "شحّادون"، أساؤوا إلى الشعر العربي، وأعلن إعجابه ببعض الشعراء المغمورين، من مثل أم ثواب الهزانية وعشرقة المحاربية، وفضّل الخريمي على المتنبي والبحتري وأبي تمام، فتاريخنا يكذب، وهذا الشاعر صادق في قصيدته التي لم يقرأ من مستواها في الأدب العالمي، والتي تتحدث عن بغداد أيام فتنة الأمين والمأمون.

وقال أبوريشة عن نفسه إنه صاحب مذهب مختلف عن مذاهب شعراء الشرق والغرب، فهو لايتبع وحدة القصيدة فقط، بل يرى أن الشعر عنده يكمن في البيت الأخير(القفلة)، وكل ما يسبقه تمهيد وديكور و"خنفشاري" وسخيف.. وأشار أبو ريشة إلى أشعار كثيرة له لم تنشر، مثل أشعاره الصوفية وملاحم "محمد" و"الحسن بن علي" و"تاج محل".

ولم يتردد أبو ريشة في تلك السهرة من وصف دراساتنا بأنها تافهة وبدائية، وبأن طرق تفكير الإنكليز عظيمة، في سياق حديثه عن تعلمه اللغة العربية من اللورد هيدلي الذي عاش في مصر، وسمّى نفسه عبد الغفار، والذي كان له فضل كبير على أبو ريشة بإرشاده إلى المعجزات البيانية في اللغة العربية.

وقد تقاطع بحث الدكتور نبهان مع بحث الأستاذ محمود فاخوري، عند الحديث عن مواطن تأثر أبو ريشة بالمتنبي، وفي وعوده التي لم تمطر بالنشر، غير أن الأستاذ فاخوري علل ذلك بأن أبو ريشة اعتاد أن يكون شاعر منابر، لاشاعر صحف ودواوين، فهو نفسه قال عبارته ذات المغزى العميق: إني أخاف أن يأتي ذلك اليوم الذي لم تعد تحب فيه نفسي غير شعر الحياة الصامت.

كما تقاطع البحثان في الحديث والجدل عن مكان وتاريخ ولادة أبو ريشة، غير أن الأستاذ فاخوري انفرد في سؤال أحد أقارب الشاعر عن ذلك، فترجح لنا أنه ولد في منبج، من قرى حلب، عام 1908، كما انفرد في الحديث عن التزام أبو ريشة بالواو في لقبه، أينما وقع، وأشار إلى أنه أمضى دراسته الأولى في حلب، وأتمها في الجامعة الأمريكية ببيروت، حيث أخذ يقوم بمحاولات مبكرة وموفقة في تقليد الشعر الجاهلي، ليضلل الآخرين بها، كما فعل مع أحد أساتذته، عندما قدّم له قصيدة ادعى أنه عثر عليها في مخطوطة نادرة تضم أشعار النابغة الذبياني، وهي:

اعقل قلوصيَ أيّ هذا الحادي
إنـا بربع بثينة وسعـــاد

ربع عفته الريح في إعصارها
إلا بقايا النؤي والأوتـــاد

فوقفتُ والمعكاء ترزم حسرة
ولغامها متتابع الإزبــــاد

فجرت شآبيب الدموع وأبرقت
زفرات وجد من صميم فؤادي

فصدّق الأستاذ كلام تلميذه، وراح يشرح للتلاميذ وقوف الشاعر على الأطلال مع ناقته التي أعياها المسير وملأ الزبد مشافرها.

ولعله من المناسب هنا، أن نذكر أن أبو ريشة تابع دراسته في انكلترا، وشغل عدة مناصب علمية وديبلوماسية، فكان عضواً في المجمع العلمي العربي، وأول مدير لدار الكتب الوطنية في حلب، ووزيراً في بلاده وسفيراً لها، ونال عدداً من الجوائز، مثل جائزة المائدة المستديرة التي نالها طاغور قبله، والتقى عدداً من شخصيات عصره، مثل جون كنيدي وجواهر لال نهرو والملك فيصل، ومات في 15/7/1990.

سمات التجربة الشعرية

أما بقية البحوث في الندوة فقد توسعت في رسم ملامح تجربة أبو ريشة الشعرية، فبدا رومانسياً، ثائراً على الكلاسيكية في شكل ومضمون الشعر، ومؤمناً بدور الشعر في التغيير والإصلاح، ومغترباً بانتمائه القومي والوطني والعربي في أمته، وناهلاً موضوعاته من الأحداث والرموز التاريخية، والفنون التشكيلية، ومتأثراً بمدرسة الإبداع الشعري اللبناني، فتشابك الجمال والجلال في شعره، وتصدّر السامي في صراعه مع التافه قِيمه الجمالية، وتداخلت الأنواع الأدبية وفنون السرد في بعض أشعاره، وتقدّم مسرحه الشعري على مسرح أحمد شوقي، في مسرحيته "ذي قار" التي نظمها عام 1929، وتواءمت أساليبه وموسيقاه التعبيرية وأدواته اللحنية مع اندفاعاته النفسية.
انطباعات

لم تكشف الندوة عن جانب أبو ريشة الديبلوماسي وحياته في أواخر أيامه، وقصّرت في تواصلها مع المجتمع والإعلام، وسادت الفصحى مداخلاتها، فبدت متكلفة في بعض الأحيان، وخرجت عن الموضوع في أحيان أخرى، واقتصرت في غالب الأحيان على الباحثين المشاركين، فكانت مشاركات الطلبة خجولة ومقلّة.. ومن أسفٍ أن الندوة دلّلت على أن الخصومة بين أنصار الشعر القديم وأنصار الشعر الحديث لم تنته إلى الآن..

توصيات

لم تخرج الندوة بتوصيات تذكر، فقد تسمى أحد شوارع المدينة باسم الشاعر، وكذلك عدد من القاعات في المؤسسات الثقافية والعلمية، وهنالك نصب تذكاري له بالقرب من الجامعة من أعمال الفنان طلال أبودان.. لكننا نرى أنه من المهم العمل على نشر شعر أبو ريشة المخطوط، وكشف ملامح الحياة المنشودة في شعره لأمته التي تمنى لها أن تتربع على منابر السيف والقلم.

وقائع مهرجان عمر أبو ريشة الشعري، الدورة الأولى 13-14-16 تموز 2011