أماسينا الأدبية (1) يشارك فيهاالشاعر الدكتور: حسام الدين خلاصي ـ القاص الأستاذ: محمود عادل بادنجكي وإدارة الأمسية الشاعر محمد داية على مدرج كلية الهندسة المعمارية

تحت شعار

ربط الجامعة بالمجتمع لإثراء الثقافة العربية
برعاية الأستاذ الدكتور نضار شحادة رئيس جامع حلب
جامعة حلب بالتعاون مع الجمعية العربيّة المتحدة للآداب والفنون تتشرفان بدعوتكم لحضور أماسينا الأدبية (1) "شعر ـ قصة قصيرة جداً"
يشارك فيها
الشاعر الدكتور: حسام الدين خلاصي ـ القاص الأستاذ: محمود عادل بادنجكي وذلك في الساعة السابعة من مساء يوم الأربعاء 3-11-2010 بمدرج كلية الهندسة المعمارية.
الدعوة عامة

قام بإدارة الأمسية الشعرية القصصية الشاعر محمد داية* :

مساء الخير ثمة شيء خفي يجعلني أحكم على الشعر بأنه سحر، فما إن تسمعه حتى تطرب و ما إن يصدر عن ذاتك حتى تشعر بالراحة و الطمأنينة.

أيها السيدات و السادة: باسم الجمعية العربية المتحدة للآداب و الفنون و تحت شعار ربط الجامعة بالمجتمع لإثراء الثقافة العربية، و باسم جامعة حلب، أرحب بكم أجمل ترحيب و أبدأ معكم أولى أماسينا الأدبية و هي أمسية شعرية قصصية، و هي من ضمن برنامجنا الثقافي لعام 2011، و الذي يقام برعاية كريمة و تعاون مثمر مع جامعة حلب.

محطتنا الأولى ستكون مع الشعر، و ضيفنا هو: خريج جامعة حلب
– حاصل على الدكتوراه في الهندسة الزراعية.
– له العديد من الأعمال الأدبية في قصيدة النثر و القصة القصيرة.
– عضو في مجلس إدارة الجمعية العربية المتحدة للآداب و الفنون.
– مدير منتدى أروقة الجنون الثقافية للقصيدة النثرية.
– مدير منتدى الصالون العربي المغاربي.
– محوار من الدرجة الأولى.

أيها السيدات و السادة: رحبوا معي بالأديب الشاعر الدكتور حسام الدين خلاصي.
إن ندرة شعره أكسبته التميز، ورقة حرفه أدخلته القلوب، ليس ثمة شحٍ لديه، يلقاك ببسمه، و يتحفك بحكمه مؤمن بأن السلوك إنطلاق للمحبة و نصرة لما تحمله من مبادئ و أفكار.

 

أحبك
هكذا ببساطة
ومنذ ولدتُ أحببتكَ
وجدتك َ حاضراً
حول حلمة َ الثدي المكور ِ
تحت أصابع أبي
في الصف الأول
قرب المدفأة على المقعد الثاني
وجدتكَ حاضراً
في كتب ِ القراءة ِ والحساب
في الدروب الترابية ِ
على أزهار ِ الليلك ِ والرمان
من خلال مياه النبع ِ والبستان
في تنور جدتي
وعكاز خالي
كنت لي في كل ِ مكان
في أغاني فيروز
في نزق ِ الرحابنة
في تعنت الطيور ِ المهاجرة
على رغوة ِ الفنجان
وجدتك َ حاضراً
في غناء ِ الصبايا
ودبكات ِ الرجال ِ
في التكايا والمزارات
في لقمة الطعام ِ ساعة الحصاد
تحت بلوطة ٍ هرمة ٍ
في حبات اللؤلؤ والتراب
سعدت ُ بك َ
كطائرة ٍ ورقية ٍ
في جولة ِ حقل ٍ صيفية
كقطعة ِ حلوى في العيد
ومضيت ُ أحبك َ
لأني منذ ُ ولدتُ
أحببتك َ هكذا ببساطة
واليوم ألمي وهرمي
وإنحاء ُ الظهر ِ
وابتعادي عن المكان
سببٌ لفقد ِ التوازن ِ والنسيان
عد إلي ِّ
انسكب فوقي كالحليب
مرغني فوق التراب
احملني فوق السحاب
أنبت ْ فوق جلدي غابةً
وقلبني بشدة ٍ
كما تقرأ الصبية
قبل امتحانها الكتابْ

إني أحبك َ
وما عدت أقوى إلا على نطقها
إني احبك َ
والزلازل تحاصرني
والغول ُ يركض ُ خلفي
والتمساح ُ والغبار ُ
إني أحبك َ
فلا تتركني
إني أحبك َ …. أيها الوطن

 

حبيبي …. أو ليس هكذا يبدو الملل
قرب طاحونة البن ِ
انهارت ْ أحلامُ البن ِ
قهوةٌ من ألم ٍ
نشربها بدون ِ سكر ٍ
آه كم كانت ذات يوم ٍ ذات َ نكهة

قربَ المدفأة
احترق حلم النار ِ
دفءٌ من صقيع ٍ
آه كم كانت ْ ذراعُـكَ دافئة ً
ساعة َ كنت َ تحتضنني

قرب َ التلفاز ِ
كل البرامج ِ صارت ْ عندك َ مملةً
"تشايكوفسكي" كان يطربنا
آه كم كنت أتراقص كبجعة لحظة َ سهرنا

قربَ الباب
يخرج ُ شبحُـكَ برشاقة ِ
قبلةُ الصباح ِ
مثلُ طعم الرمان الحلو كانت ْ
آه يا قبلةَ الصباح ِ كم أفتقدُك ِ

تمددْ قربي
وداعبْ خصلتين من شعري
بحْ بما يتداخلُ مع هواء صدرِكَ
فأنا أنثى تجيد الاستماع …. وتنتظر بوحك بفارغ القهر

تمدد كما لو أنك لم تفعلْـها من قبلُ
واعتقدْ أنني أصغي
فأنا استحق تاءَ التأنيث خاصتي ….
أنا مازلتُ أملك
كل مقوماتِ تلكَ التي أغويتها ذات يوم

قهوتنا في الصباح ِ لم تعد تستهويك
قبلة ُ قربَ الباب تنساها
نظرةُ خروجك من الشارع فرتْ هاربة ً
وأنا على الشرفة ِ أتقمر ُ كرغيفٍ منسيٍ في تنور

تنسى أني هنا .. وأراك هناك
أو ليسَ هكذا يبدو الملل

أحبك َ … أقسم بالله أني أحبك َ

أحبك َ … أقسم بالله أني أحبك َ
أذوب ُ فيك َ
أنهمرُ عليك َ
أتلاشى في حضرتك َ
أموتُ من غيابك َ

أتزين ُ لك َ
أرقصُ كزرافة ٍ
أنام ُ كفقمة ٍ
آكل ُ كلبوة ً
أفرح ُ كفراشة ٍ
أنتظرك َ مثلَ لهفة عقربِ الساعة ِ الصغير ِ لمضي الوقت ِ
أحبك َ ….. اقسم ُ برأس ِ لعبتي التي أحتفظ ُ بها

هذا اعترافي
وأنا الفرحة ُ مثلُ اسفنجة ٍ غزتها مياهُـكِ
فغدتْ ثقيلة َ الخطى

هذا اعترافي
وأنا الدجاجة ُ الملونةُ من قلب ِ بيضتها قبلَ النضوج ِ
تهتفُ لديكها … أن انتهى نداء ُ الصباح ِ فارجِعْ
فمرٌ هو انتظاركَ
وأنت َ لا تعرف كم أنا أحبكْ

محطتنا الثانية ستكون مع القصة و مع القصة القصيرة جداً، ضيفنا هو:
– مؤسس و رئيس جمعية ( من أجل حلب ).
– يحمل بكالوريوس اقتصاد من جامعة حلب.
– و هو عضو مجلس إدارة تنظيم الأسرة ( و الجمعية الوطنية للتنمية البيئية )
– له العديد من الأعمال الأدبية،
– ينشر أعماله في جريدة الجماهير و تشرين و العديد من المواقع الالكترونية.
– نال تكريم الجمعية الدولية للمترجمين و اللغوين العرب عام 2002.
– تكريم هيئة دعم المقاومة الإسلامية في شهر أيلول 2009.
أيها السيدات و السادة:
رحبوا معي بالأديب القاص محمود عادل بادنجكي.
حينما يكون الحصاد آفاقاً و عبراً جمة فمناه بأننا أمام إنسان مبدع بذل من الجهد ما بذل، و حرص كل الحرص ليقدم لنا المتعة و الفائدة.
مرة ثانية نقول للأديب القاص الأستاذ محمود عادل بادنكجي، أهلا و سهلاً بك ضيفاً عزيزاً على قلوبنا.

للحريّة بابٌ…يدقّ
يخشى الأماكن المغلقة. توصف حالته علميّاً ب(رهاب الاحتجاز)، بينما يعزوها هو لنزعة شديدة للحريّة يحملها في جيناته، بعد ما علم من والده الذي يعاني الأعراض ذاتها، أن جدّه وجدّ جدّه يحملون جميعاً مورّثات (الحريّة) تلك!!

لم يكن يحتمل اللعب مع أقرانه في باحة المدرسة عندما يتراكمون فوقه كلاعبي (الركبي)، فاختار صديقين هادئين ينزوون معاً عن الآخرين تجنّباً لألعاب خشنة مشابهة.

كان ينتظر في غرفة الصفّ حتى انصراف آخر التلاميذ تفادياًً لانحصار ينجم عن تدافعهم الجنونيّ فرحاً بجرس انتهاء الدوام.

كلما ازداد عمره ازدادت عقدته، فكان يحجز كرسيّاً في الصف الأخير من صال(سينما(، أو مسرح. و يستمع لخطبة الجمعة واقفاً، ليصلّي بجانب الباب، فيكون أوّل الخارجين بانتهائها.

يفضّل السير عن الركوب فترة الازدحام المروريّ، بظروف طقس حارّ أو قارس، لئلا يعلق في سيّارة تحاصرها السيّارات من كلّ جانب فلا يجد منفذاً للخروج حين يريد.

المصعد خطّ أحمر ولو كان مقصده الدور الخامس عشر، خشية انقطاع التيّار فيعاني الاحتجاز والعتمة. والطائرة شرّ لا بد منه يحتاط لركوبها بالأدوية المهدّئة التي وصفها له أحد الأطبّاء، و الذي نصحه أيضاً بمواجهة هذه المشكلة بتعريض نفسه لاحتجاز إراديّ يزيد زمنه تدريجاً وصولاً لاختفاء الأعراض.

كانت ترهقه الأخبار خصوصاً تلك المتعلّقة بحقوق الإنسان، والسجون السريّة، و)غوانتانامو(. غير أن برنامجاً وثائقيّاً على إحدى القنوات التلفزيونيّة عن التعذيب وأدواته، من تقييد، واحتجاز داخل تابوت، وحبس لمدّة طويلة في غرف ضيّقة ومظلمة، أثار مكامن الذعر لديه، فهرع إلى أدويته يهديء بها من روعه.

لم يعد يحتمل هذا النقص لديه، فهو محلّ سخرية زملائه في العمل، وبات يشكّل عائقاً في جوانب حياته يعرقل عمله، يهزّ صورته أمام مرؤوسيه، وأولاده الذين لا يرغب بانتقال هذا النقص إليهم بشكله الحادّ، على الأقل بحكم محاكاة أفعال الوالد، لو نجوا من انتقاله إليهم وراثيّاً.

عاد ذلك اليوم إلى البيت، وقد قرّر التخلص من عقدته.الوقت مناسب فالعائلة لدى بيت حميه ولا أحد يستطيع ثنيه عن تنفيذ ما خطّط له طويلاً، والذي لم يجرؤ على الإقدام عليه، ولو لمرة واحدة سابقاً!!

دخل إلى الحمّام دون إضاءة المصباح فيها، أقفل بابها بالمفتاح من الداخل، ورماه كيفما اتفق كيّ لا يضعف فيفتح الباب بعجالة، ليصبّر نفسه زمناً في البحث عنه في الظلمة، وبمساحة لا تتعدى سبعة أمتار مربعة، مطمئناً لمكان خالٍ من عوائق قد يفقد فيها المفتاح. لكنه لم يسمع لصوت ارتطامه أيّ ارتداد.

ازداد قلبه خفقاناً بعدد ضرباته وشدّتها، محاولاً تثبيت نفسه، مُسترجعاً نصائح الطبيب، وما احتوته الكتب العلميّة المتخصصة من إرشادات، ومستذكراً قصص أصدقائه، عندما علق ثمانية منهم -بينهم بدينَين- ذات مرة في مصعد صغير لمبنى جديد غير مأهول، بقوا فيها لليوم التالي، لا يستطيعون حراكاً وحتى قدوم بوّاب البناء ليخرجهم. ومقارناً نفسه بصور لأشخاص ظهرت على التلفاز وهم محاصرون بين الركام بعد كوارث زلازل مدمّرة.

حاول الجلوس على أرض الحمّام مرغماً نفسه كما حال السجين الذي يرضخ لتعليمات السجّان ُمكرَهاً. بدأ العرق البارد يتصبّب منه، و صوت أنفاسه بدت كأنفاس من يجري على سفح جبل صعوداً، يلهث كمصاب بنوبة ربو حادة. وصوت دقات قلبه ينعكس من طبلة أذنه التي تحولت إلى مؤشـّر نبضات وصل إلى حده الأقصى، شعر وكأنّ (الأوكسجين) قد نفد، وبدأت أطرافه ترتجف، ثمّ تتحرّك بشكل لا إراديّ، فمزّق قميصه مقطعاً أزراره، وقام كمن أصابه مسّ ملوّحا بيديه وكأنّه يهمّ بضرب أحدهم، فأصاب مرآة الحمّام متسبباً بجرح بليغ في يده، ثم جلس على أربع يتلمّس الأرض باحثاً عن المفتاح بحركات عصابيّة. مسح أرض الحمّام الصغيرة عشرات المرّات وداخل حوض الاستحمام، دون أن يعثر عليه.

بدأ بالصراخ بأعلى صوته يدقّ الباب محاولاً كسره، دون جدوى، وطفق يبتعد عن الباب ثم يندفع نحوه بشدة مرّات كثيرة مثل مكّوك النسيج، علّ ذلك ينفع في خلعه.

وضع رأسه تحت صنبور الماء لأكثر من دقيقة، تهدئة لحالته الهستيريّة. ترك الصنبور مفتوحاً على آخره وعاد لحركة المكّوك، إلا أنه انزلق ببقعة ماء من رشاش الصنبور فوقع أرضاً وارتطم قحف رأسه بحافة حوض الاستحمام.

بعد ساعات وعندما خلع أهله باب الحمّام وجدوه مغتسلاً بدمائه، ولم يعلموا لمَ أقفل على نفسه الباب، وهو أمر لم يكن ليفعله طيلة حياته، و الأشدّ غرابة أنه كان بكامل لباسه عدا قميصه الممزّق. المصباح كان مطفأ، والصنبور يتدفـّق وحوضه يطفح ماءً وجدران الحمّام و أرضها وبابها وحوضها ملطّخة ببصمات كفّه دماءً.. وقد شقّ الماء طريقاً على أرضيّة الحمّام بين مزيج من دمٍ حارٍ ومتخثّر. وفي إحدى الزوايا وجدوا مفتاح الباب عالقاً على جيب ثوب الاستحمام المعلّق!!!

 

أشباح كرم الفستق
في ليلة من قيظ آب تتألق حبّات الفستق الحلبيّ، بحمرتها المشوبة بالصُفرة على خضر أوراقٍ تحتضن عراميشها بحنوّ غامر، فتعكس الأضواء كأنها مصابيح مُنمنمة، قبل أن يخرس ضجيج مولد الكهرباء وتغمّ الأنوار الصفراء، في سباقها مع العتمة الشاملة.

لينقلب المنظر مخيفاً مع ظلال يرسمها سطوع البدر، فتتبدى أشجار الفستق.. كأشباح تحرّكها باستحياء أنسام الليل وتتهامس بأصوات طقطقة نضوجها وكأنها تتكلم بلغة الجن..

أّمَ ّ ثلاثتهم كرم الفستق عند انتصاف عطلة الصيف، برفقة أسرهم المكوّنة من أبناء وأحفاد الجدّ الكبير، ذي اللحية البيضاء المهيبة، بالتزامن مع حلول موسم الفستق، الذي يقطفونه ويأكلونه، ويتقاسمون غلاله (مونة) يملـّحونها، تكفي سهراتهم الممتدّة حتى الفجر، كامل أيام السنة، ثم يوزّعون فائضها هدايا سنويّة للأهل والأصدقاء.

تفرّقت الأسر للنوم في الكرم الواسع، منهم من اتـّخذ القبّة الطينيّة مأوى.. ببابها الذي فرّقت الأيّام ما بين خشباته، وأضيئت داخلها فوانيس انتصبت على شبابيكها، وفتحات النور فيها، ليرتسم خيال دخانها، وتراقص لهبها، أطياف حكايات على الجدران المكلـّسة، المكوّنة من أحجار الآجرّ المتكدّسة فوق بعضها آخذة شكل القبـّة.

بينما اختارآخرون بيت الجدّ (البيت الكبير) المطروش بالكلس.. والملوّنة أخشابه بلون الفستق الأخضر الفاتح..
بيت مكوّن من طابقين اختزنا ذكريات على جدران توزعت عليها، آيات قرآنيّة، منها بقلم خطاطين مشهورين، وأخرى مشغولة( بالكنفا) وتناثرت صور معتقة بالأبيض والبني للكعبة المشرفة، ولمشايخ أجلاء. بينما يرقب رأس غزال -استقر بعد صيد- في ركنه المرتفع متابعا حركة القاطنين بعين لا تنام، وإلى جانبه عُلـّقت آلات الدفوف المستديرة بأقطارها المتعددة، التي تنظم الإيقاع في الأذكار، تملأ فراغات الجدران بتناسق عفوي آسر، فيكتمل المشهد برسوم ملوّنة للسلاطين)العثمليّة( بعماماتهم التي تناطح السحاب.

وعلى مصاطب إسمنتيّة افترشت أسر أخرى.. حول البيت الكبير والقبة..مصاطب تسورها وتسقفها)عرائش) الكرمة، المتشابكة مع أحواض الورد، لتعلن خصوصيّة كل منها بحدودها الجغرافيّة الطبيعيّة.

اختار ثلاثة الشبان، ساحة الكرم المعبّدة التي تركن فيها السيارات. فاتكأوا على أرائك، نقلوها من البيت الكبير، ووسّدوها بوسائد تزكم الأنوف برائحة (النافتالين).
على قبّة السماء تناثرت النجوم بأعداد أكثر من تلك تحتويها سماء المدينة. وفيما البدر يكمل طريقه إلى كبدها، توقف برهة خلف برجين متدرجين بشكل هرمي، أعدّا لتجمّع الحمام البريّ بأعداد كبيرة، يرتفعان لأكثر من عشرة أمتار، فبدا ارتسامهما كحارسين عملاقين لأشباح الليل!!

لم يستطع ثلاثتهم النوم باكراً، فتبادلوا الأحاديث على أصوات الخنافس تغنّي نشيدها الأزليّ، ثم استلقوا يراقبون النجوم، كأنهم يخطئون عدّها، فيعيدون العدّ من جديد.

عندما بدأ(عبد الله( -أكبرهم – حديثه عن جدّهم الكبير، اعتدلوا من استلقائهم، وأصاخوا بدهشة أعمارهم الغضّة، فنزلت قصّة جدّهم –المتوفـّى منذ أكثر من عشر سنين – و تردّده لتفقـّد الكرم ليلاً، كالصاعقة، يتلقفون كلمات الراوي الذي لامس نجاحه في جذب اهتمامهم، من تشويق، وإثارة، ليسترسل بالمزيد، ثمّ يزيد تأكيده بقسم مغلـّظ أن كثيرين قد شاهدوا جدّهم بأمّ العين يتمشى في أرجاء الكرم و بين أشجاره.

طاووس مذعور من طواويس الكرم الطَلقاء يبعق بصيحاته بعد مرور أحد كلاب الحراسة بقربه، فيرتبك (حسن) و(نديم( من ذلك الصياح الذي اقترن برفرفة شديدة ونزول الطاووس من فوق بيت الجبّ كما السقوط.

لكن )عبد الله( استمرّ بسرد الدهشة، مع وقع الموسيقى التصويريّة للأجواء المحيطة.

وجد (حسن( نفسه وحيداً بعدما نام المتحدّث.. على أريكته.. ثم لحق به (نديم) بشخيره بعد قليل!!

ازدادت حاسة السمع قوّة لديه، حتى بات يحسب أنفاس آلاف طيور الحمام النائمة في البرجين.
وأصوات همهمة القطط والكلاب، وحركات الغزلان في حظائرها الواسعة، تضاف إلى طقطقة حبّات الفستق على أغصانها، وحفيف أوراقها، صفير خنافس، ونقيق ضفادع مستوطنة.

انتبه فجأة لوقع خطوات تشحط على الأرضK يزداد صوتها بانسحاب رمل متناثر على الإسفلت تحت القدمين الشاحطتين.

يا إلهي إنه هو!! وقع قدميه، يعرف هذا الصوت جيّداً، إنّه أثر حذائه الأحمر القاسي المصنوع من جلد الماعز.

تختلط الأصوات، يتقدّمها قرع ضربات قلبه، ويبقى شحط الحذاء طاغياً!!

تتوقف الخطوات، يسمع نقرات الدلو الخشبيّ على حافة الجبّ.. مترافقا مع صفير البكرة وصدى ارتطام الدلو بالماء، ثم صرصرة منتظمة لسحب الدلو المليء، ورجع صدى قطرات الماء المتساقط.

يصيخ إلى سريان الماء، وابتلاعه في بلعوم شاربه، ليعلو في أذنيه صوت محاولة تسهيل امتناع ريقه الجافّ ّرعباً.

تعود الخطوات بطيئة متواترة، بين الواحدة والأخرى زمن خمسة أنفاس متسارعة> حركات شخصٍ كأنّه يسير في المكان، لا تتغير مسافته اقتراباً أو ابتعاداً!!

توقـّف،بدأ يسمع دقّ المضخة اليدويّة بجانب البيت الكبير، مع احتكاك حديدها الصدء، و انسكاب مائها على الأرض.
لماذا يحتاج للمضخـّة، وقد سحب الماء من الجبّ قبل قليل؟
يبدو أنه يتوضّأ، لقد اقترب الفجر، وتمتمات دعاء الوضوء تصل إليه مبهمة، بصوت جدّه.. لم يعد يشكّ في ذلك!!
أذّن الجدّ للصلاة وكأنّه يُسمع به نفسه. ولكنّ (حسن) يستطيع تمييز أذانه جيّداً.. إنّه متأكـّد الآن!

تعاود الخطوات البطيئة بوتيرة أسرع هذه المرّة و بفارق ثلاثة أنفاس لاهثة بينها.. و.. إنّه يقترب.. الصوت يقترب.. لا يستطيع فتح عينيه.. ولا إيقاظ رفيقيه.

يدنو منذ فترة طويلة.. ولا يصل.. اعتاد القلب خفقانه السريع، والأنفاس تواترها المتزايد!

شعر بنور الفجر ينبلج.. لمحه بعين نصف مفتوحة. اقترب وقت استيقاظ)عبدالله( الذي سيوقظ الناس بدوره لصلاة الفجر.. ثمّ ينزل إلى المدينة، ليأتي بالزلابية، إحدى أطايب الإفطار لجمع الزائرين.

تمرّ الدقائق ثقيلة، بطيئة، كوقع الخطوات اللامتناهي، القادمة من المجهول.. والمتوجّهة نحوه بلا انتهاء.. ودون إدراك لمصيرها.

توقـّع كل الاحتمالات.. لكنه سيكون رحيماً به، نعم سيكون رحيماً.. وكيف يُرعب جدّ حفيده؟ والحفيد مشتاق للقروش الجديدة المذهّبة التي كان ينثرها عليه وعلى أقرانه! يفتقد حناجير العطر الأسطوانيّة الصغيرة التي ينتهي غطاؤها بنتوء بطول عود الثقاب، ينغمس في عطر الورد الذي كان يوزّعه على الكبار والصغار.

لكنّه ربما جاء ليعاتبه على تقصيره في أداء صلواته.. أو أنـّه.. ربما كشف عن.. يا إلهي ربّما كشف عن.. آه.. إنـّها ذنوبي الكثيرة.. ذنوبي الكبيرة ولا شكّ. يقولها مرتجفاً. هل سيعاتبه.. يعاقبه؟؟

لماذا تذكـّر تلك.. الأمور الآن؟ لو لم يستحضرها.. ربّما لن ينتبه جدّه.! لكنّه بتقريب ذاكرته السوداء إلى مكان وجود جدّه صاحب الكرامات.. الذي كشف الكثيرمن كذب الأولاد حين كانوا يسرقون الفستق المُملـّح المُخزّن فوق الخزانة العالية بغرفته.. أيام الشتاء.
.. بالتأكيد سوف ينتبه!!.

تزداد الخطوات اقتراباً ببطء.. تدنو حدّ الملامسة!! يبدو كأنه توقـّف فوق رأسه..

انكمش وجه )حسن( اقترب على بعضه.. جذب الغطاء بقوّة وارتجاف فوق وجهه..
وأخيراً لمسه!! بدأ الاحتكاك بالأريكة.. انحبست أنفاس) حسن (وشعر بقلبه يتوقـّف..
حتى سمع بقرب أذنه مُواء قطـّتين تلعبان.. إلى جانبه!!

دقـّت الساعة ليستيقظ الجميع لصلاة الفجر.. شمّر عن ساعديه.. وكان أول المتوضّئين.

على كرسيّ المصحف
لم تكد تنته المشاكل بين الخاطبين حتى طالب الأقارب بالزفاف، منعاً لتكرار الخلافات، وتجنـّباً لفكّ الخطوبة.
تمّ الأمر رغماً عن الخطيب المتعلم الذي قبل خطوبة طويلة على ابنة خمسة عشر عاماًً بشرط تأجيل الزفاف لأكثر من ثلاث سنوات كحدّ أدنى. لم تسعفه ثقافته، ولا حججه بثنيهم عن القرار العائليّ بالقدَرالمحتوم.
ربّاها على يديه، تطبيقاً للمثل الشائع.. حملت من الأسبوع الأوّل، وعانت طفولتها التي لم تكد تدركها، لتغادرها مُسرعة نحو الأمومة، حلم كل فتاة. تمارسه مع دماها وألعابها، ليكون واقعاً تختال به على قريناتها العازبات حين تجتمع بهنّ.. و تعُضّ شفاهها حين تكون وحيدة تكابد آلام حملها، ومن قَدَر سيقت إليه مرغمة بمزيج من ضغوط الأهل، و إغراءات بهرجة زينة النسوة مقترنة بكسب مقعد بين المتزوّجات. رغبةٌ لم تداعب خيالها كثيراً لتصبح حقيقة ضاغطة مُعاشة.
أما زوجها الذي أثقلت تكاليف الحياة كاهله مبكـّراً، بحمله مسؤوليّة أسرة كبيرة، تركها والده أمانة في عنقه، بعد ما أخذ الله أمانته، فأراد ملء الفراغ الكبير في حياتهم، بإرضاء أشقائه وإشباع رغباتهم كما لو كان الوالد حيّاً.. وتلبية رغبات الوالدة الأرملة، التي ضحّت بشبابها لأجل شبابها الثلاثة، فرضخ مُرغماً لرغبتها بزواجه العاجل، الذي لم يكن ليقبله بهذه الشروط، وهو من حمل مثاليّات حياة نموذجيّة منذ بداية وعيه، ورسم مستقبلاً على ورق مسحت تفاصيله الجليّة ظروف صعبة بممحاة الأقدار الصلبة.
مرّت تسعة دهور على مشروع الأمّ الصغيرة.. آلامٌ و وحام، وأثقال إلى أثقال.
حان وقت المخاض بمشاقّـّه التي تربك لشدّتها مسانِداتها، وهنّ يتحلقن حولها لدعمها.. فإذا بهنّ ينتحبن مع كل صرخة، ببكاء وكأنّهن في مأتم.. أو كمن يحضر احتضاراً، لتزداد حالتها فزعاً و رعباً. فالطلق عسير، والطبيبة منهمكة مع مساعداتِها.. بعمليات الشدّ، والكبس، وتهدئتها تارةً والصراخ في وجهها تارة أخرى. تجربة المخاض تلك التي أخرجت خديجها إلى الحياة بعد برزخ الرحم، وأخرجتها هي أيضاً من عالم طفولتها إلى عالم الراشدات بحكم خبرة الألم، ولذّة إنجابٍ أعلن عنه صراخ وليدها الذي تحوّل إلى بوقٍ يٌعلم الحاضر والغائب بأنّه أقبل إلى الحياة، وأصبح على استعداد لاكتساب كلّ حقوقه.
كان كامل الخَلق وأجمل من أجمل الدمى، التصقت به أمّه.. وأمّها تمسح عرقها ودموعها.. و دموعها!!
نصح الطبيب بوضعه في الحاضنة احتياطا. تشبّثت به إلى قلبها وامتنعت عن تسليمه. تدخّل زوجها بهدوئه، وقبّلها على جبينها مُباركاً وبلهجة إقناع: هو لك ولن يأخذه أحد منك.. الطبيب ينصح بذلك لأن هناك زُرقة حول شفتيه، وهذا يعني نقص في(الأكسجة) و يؤكـّد أنّ الأمر ليس إلزاميّاً بل من باب الاحتياط. قَبِلت تسليمه على مضض بعد وعود بأخذها لإرضاعه ثلاث مرّات في اليوم، وقد يكفيه يوم أو اثنان ليشفى.
كانت تعدّ الدقائق لموعد الإرضاع. ترتدي ثياب الخروج قبل وقت طويل، مع تحمّلها لعقابيل النفاس. كانت تركض في حالة تتوكـّأ فيه بقيّة النفاسى من الألم إلاها، وكأنّ موعد القطار سيفوتها.
تنظر إليه في الحاضنة غير مدركة لمحيطها، وحين يحملونه إليها تبدو متلهـّفة بجنون لاحتضانه وكأنّه مغترب منذ ردح، عائد إلى أحضان أمّه.
تغلق عينيها وتضمّه إلى صدرها، ثم لا تزيح ناظريها عنه وهي ترضعه، إلى أن يملّ زوجها انتظاراً.. وحتى تقتلع الممرّضة الصغير منها، لتعيده إلى حاضنته.
استمرّ الأمر أربعة أيّام، بعد تمديد بسبب يرقان ولاديّ ظهر عليه، وهو يحتاج إلى التعرّض للأشعّة فوق البنفسجيّة كي تساعده على التخلص منه. المشهد يتكرّر و فترة اللقاء تطول فيزداد تعلّقها.. وتزيد الممرضة جهدها لانتزاعه منها. يراقب الوالد المشهد تكتنفه مشاعر أبوّة تتصاعد يوماً بعد يوم. يحاول تفسير العلاقة الجديدة بينه وبين القادم الذي ملأ حياتهم صخباً وأخذ وقتهم وعقولهم.
صور تأتي وتغيب، عن مستقبل وليده.. تعليمه.. خدمته الإلزاميّة.. زواجه.. كلّها صور قبل أوانها، لكنّها تراود أباً مازال ولداً، حلم بتلك اللحظة طويلاً ليصبح (أبو يحيى( بحقّ بعد أن كان اسماً مجازيّاً يحمله بحكم العادات الاجتماعيّة، كونه بكر أبيه.
ألصقته إليها وهي تعود به إلى المنزل بعد سماح الطبيب، وضعته في سريره، تحيطه الألعاب المشتراة قبل أن ينبض قلبه، ليصبح أحبَّ الدمى بين دمى أصغر.
يداعبه والده ليطير بابتساماته الملائكيّة، يكتشف منعكساته الطبيعيّة بالدغدغة، ويضع سبابته في الكفّ الصغير الذي يطبق عليها، ثم يسحبها والده فيشدّ الصغير قبضته بإحكام، ويتركها ليعيد الحركة كرّات ومرّات، يسبح الخالق فيما صنع ويتأمل إبداعه.
تعتريه الأسئلة الأزليّة عن الدجاجة والبيضة، وسيرورة الحياة. أخيراً أصبح أباً.
بعد ثلاثة أيّام تقيّأ الصغير دماً، وعاد إلى الحاضنة من جديد. أكـّدت التحاليل إصابته)بالتهاب السحايا). بهمس أخبره أحدهم أنّها ربما تكون عدوى من طفل مُصاب بها سبقه إلى الحاضنة و لم تُعقّم من بعده.
ثلاثة أيّام كانت الأمّ تائهة، يصحبها زوجها الحائر بين تطمينات وتحذيرات. قد يشفى الطفل إنّما بعاهة دائمة، وكلّ الاحتمالات واردة!!
لم يستطع أحد إبلاغ الأمّ بالمحاذير على حقيقتها.. الكلّ قلقٌ.. وأكثرهم زوجها.
بعد ثلاث أخرى في الحاضنة، أعلن الأطباء زوال الخطر. بات الوالد ليل الخميس مطمئنّاً، ومُطمئناً زوجته والجميع، أنـّه سيعود بطفله يوم الجمعة بإذن الله، بعد الصلاة.
بعد الصلاة وصل إلى المشفى فوجد الطاقم مُلتفاً حول الحاضنة يُجري الإسعافات لطفله. تنفـّسٌ اصطناعيّ، وحقن، و.. تلتفت الممرضة الخمسينيّة إلى الوالد لتقول بحسرة وخجل من لحظة لا بدّ منها:"العوض بسلامتك، مازلت شابّاً، وامرأتك صغيرة، والله سيعوّضكم عنه".
لفّ الصغير بملاءة استعارها من المشفى، ونزل حائراً وحيداً لا يلوي على شيء. لم يستطع الذهاب به إلى المنزل.. ولم يستطع ألا يفعل. هل يترك أمّ الطفل تودعه للمرّة الأخيرة؟.. أم يعتمد على فراق لمدّة ثلاثة أيّام لم يدَعوها تراه خلالها، لتساعده في تسهيل مهمّة إعلامها؟ّ.
تبخّرت الصور التي رسمها لمستقبل طفله، لتحلّ محلّها لوحة رماديّة، تشبه طقس ذلك اليوم (الكانونيّ) المتلبّد بالغيوم الداكنة. سار مسافة طويلة بحثاً عن سيارة أجرة. يحمل ولده كما القربان يقدّمه على مذبح القَدَر.. ورجلاه متثاقلتان يجرّهما حالَ المحكوم بالإعدام يُساق إلى حتفه!!
لم يسأله سائق الأجرة الفطن عن الوضع بل واساه ببضع كلمات، حين رأى دموع الأب تُبلّل الملاءة البيضاء بصمت لتغرقها. توجّه السائق إلى منطقة المقابر بعد ما أومى له برأسه موافقاً.
في طريقه استدرك( أبو يحيى) حلقة الذكر التي تـُعقد بعد صلاة الجمعة. عرّج إليها أملاً بمساعدة من أحد. فهو لا يعرف ماذا عساه يفعل، ولا يعرف بيت التُربي!!
داخل الزاوية.. أجواء الإنشاد تملأ المكان هيبة وخشوعاً، لتبعث طمأنينة بتوليفة عجيبة من أصوات المنشدين، المختلطة بأصوات الطبلة التي ُتضرب بجلدة صغيرة، وصنجات النحاس تضبط الإيقاع بتميّزها عن بقية المضارب من طبل ودفوف. فيما يُنشد الذاكرون دور (إسق العطاش) بعد امتناع المطر عن الهطول لأكثر من ستة أسابيع.
رآه الحاج(عبدالله) عبر النافذة ولم يعتد رؤيته في حلقة الذكر. هرع إليه، وعلم ما في الأمر، ثم أشار إليه ليتبعه إلى غرفته. صعدا عبر الدرجات العالية الملساء، و المجوّرة بفعل السنين، الملتوية صعوداً كدرج المئذنة، يمسك (أبو يحيى) ولده بيمناه، وحبل الإستناد المربوط بحلقات إلى الأحجار الكبيرة التي تشكّل المكان، بيسراه.
ولجا الغرفة العتيقة الخالية إلا من فرشة ورفّ كتب، وإبريق ماء من التوتياء، وصحن فارغK وكرسيّ مصحف. وضع وليده عليه بانتظار الحاج (عبد الله) الذي خرج بغية تسخين الماء لغُسل الصغير، الذي تطهّره بقعة دم على رأسه الحليق جزئيّاً في موضع المصل. كان غُسل الصغير الميت اجتهاداً ارتجالياً من الوالد و الحاج (عبد الله(.
على كرسيّ المصحف بدأ الوالد المكلوم يتأمّل (يحيى) الذي لم يأخذ من اسمه نصيباً.. سوى بمعنى حياته في ذاكرة حياتهم. بدأ يمسح على رأسه، يداعب خصلات شعره الناعم، ثم وضع سبّابته في الكفّ الصغيرة دون أن تقبض عليها! كانت الكفّ باردة ومطبقة نصف إطباق.. يرفعها إلى أعلى كما اعتاد أن يفعل، لتسقط من جديد. يُمرّر اليد الصغيرة الناعمة على وجهه، وذقنه الخشنة التي نسي حلاقتها لأيّام، يمرّرها على شفتيه، اللتين تتابعا مسيرهما على الجسد الغضّ، فيما يُخزّن أنفه ما استطاع من رائحة هي أزكى من عطر المسك. كان يتأمّل الوجه الملائكيّ الباسم، فيردّ على الابتسامة بمثلها و الدموع تغسل الدموع، وكأنّ الصغير يعد أباه: (إن صبر فالجنّة لقاؤهما).
دخل الحاج(عبد الله) ومعه الماء الساخن، ومنشفة، و وعاء من النحاس لسكب الماء، وقماشة بيضاء.
بينما تتصاعد أصوات الذاكرين للفظ الجلالة)اللهم..اللهم( القادمة من ردهة السلم، ومن باحة الزاوية التي تطلّ عليها الغرفة، بصخب هاديء، يستدرّ دموع الأب السخيّة الصمّاء التي تتلألأ في عينيه لتعكس شعاع نورٍ يسقط من نافذة جاورت سقف الغرفة المدعّم بجذوع الخشب، فيتراقص النور والصورة في عينين لا تريدان للوقت انتهاءً.. وكيف للوقت أن يتوقف؟.. وقد صمت المنشدون وتفرّق الذاكرون؟.
استدرك الأب أن الوقت قد انتهى فعلاً، حين سمع صوت تمزيق قطع من الكفن الصغير لتكون رباطاً لمنطقة الرأس والرجلين والوسط. كفن لفّ الجسد الصغير الطاهر، والوجه الملائكيّ، ولفّ معه آمالاً لأبوّةً لم تستمرّ لأكثر من عشرة أيّام، وكفـّنَ بطريقه دمية لأمّ ودّعت طفولتها، إلا أنّها كانت دمية من لحم ودم.
في طريقه سيراً إلى المقبرة القريبة، استجاب الله لدعاء الذاكرين… وهطل المطر بسخاء.

 *****

أنهيت صلاتي للتو
بدأتُ صلاتي
وابتهالاتي
ترنحَ رأسي لليمينِ واليسار كعصفورٍ يتوقعُ حبةَ قمحٍ , فكانت صلاتي التالية :

إن كانت الأماكنُ كلها فارغةً
فلماذا سأذهبُ إليها
إن كانت كلُّ المقاعد خاويةً
فإلى جانبِ من سأجلسُ

ما عاد القمرُ يضيءُ
والغيمُ تفرق من تظاهرهِ السلمي
أهي حالة تشاؤمٍ
أم ذوبان ثلج ٍ
أم أنني أهذي

لا أستمتع بالبكاءِ وحدي
فصدرُكِ يَنقصني يا أمي
و يا حبيبةُ لسببٍ ما تركتني
يا وطناً ضمني حتى أنسى أني متوقعٌ حصولَـهُ

هي أوقاتٌ عصيبةٌ
تداعبُ القلب بسكين
تنخزُهُ بقوةِ فيل
هي أيامٌ ثقيلةٌ
كطحينٍ ابتلَّ للتوِ بالماء
ألم تشعروا بأننا انتهينا من تقديم العزاءِ فينا

هاهي طاحونة البنِّ أغرس أصابعي فيها
ليشربَ الوطن قهوته الصباحية

مثلَ لون باذنجانةٍ أصيرُ من الألم
ومثلَ لون برتقالةٍ أصيرُ من الوحدة
ومثلَ لونِ دمٍ نادرِ الزمرة أكتوي وحدي

المصيبة أني !!!
وحدي أشعر
وحدي أحس
وحدي ألحسُ طرفَ السماءِ بلساني
لأنها هبطتْ للتوِّ
والأرض ُ طارت بجناحَيْ خفاش

ها أنا أقتات على المرار من لبِّ سفرجلةٍ تشبهُك ِ
إنها الحياةُ بالمعنى السريالي
أينقذنا دالي من التخاريف
أم بوهيمياتُ "أزنافور" إن غناها

فإن كانت الأماكنُ كلُّها فارغةً
فلماذا سأذهب إليها
إن كانت كلُّ المقاعد خاويةً
فإلى جانب من سأجلسُ

وحتى تأتيني الإجابةُ
سأغفو بجانب كلبٍ أجرب
أشاركُهُ عظمة ًمن عظيم ٍ

فعلمتُ بأني أنهيتُ للتو صلاتي

سكير ٌ من نسل سكير

أقفلُ باب الحانة بكعب ِ القدمْ
وأبدي الندمْ
في جوفي عصارة الألمْ
ولونُ خمرة ٍ صيرني إلى عدمْ

سكيرٌ من نسل سكير ٍ
أنسل ُ كما الخرقةُ البالية ِ
نحو مصابيح الشارع أعوز ُ رفقتها
فتهديني
أنا المترنحُ
كعقب سيكارة قذف في الهواء

تفوح من عيني رائحة الدمع ِ
وعلى فمي بقايا ابتسامة ٍ
أتخبط بالرأس ِ نحو البلاغة ِ فلا أدركُـها
وتتراقصُ الكلماتُ حروفاً غير مترابطة ٍ
فتخرج ُ تلعثماً مربوط َ القدمين ِ

وأتذكرُ أني أنسى ستة َ رؤوس ٍ من اللحم ِ
وأنثى تلتف ُ حول مِخدة ٍ
لا تفوحُ منها رائحتي
وجدراناً معتقة ً بالعفن ِ
وباباً يشبهُ أبوابَ المدينة التي احتوتني

إني أنسى
أحب ُ أن أنسى
أعشق ُ أن أنسى

مواقفَ الباصات ِ الصدئة ِ
ونبشَ القمامة ِ
موتَ الاخضرار ِ على الشجر ِ
مقاهيَ الرصيف باهظةَ الثمن ْ

أنسى
ثوبَها المتطاير َ على حبل الغسيل ِ
قسوة َالرغيف ِ
رائحة ُ اللحم ِ المشوي
صفعات ٌ على الخد منذ زمن القهر ِ
أسئلةٌ رمتْ بي للتحدي

كم أحب أن أنسى

هو الخمرُ
هو الأمر ُ
فأنا السكيرُ وأنتم تصحون على سكري
فأنا المعاق ُ بخمر ٍ
وأنتم سادة ُ الأمرِ

ويلحسني إسفلت ُ الشارع
قد توسدتُ الأرض َ
والسماءُ تهمرُ مطرَها
توقظ الأنا …. تحرضُ الأقدامَ على الإقدام ِ
وأنا المستسلمُ المستلقي
أفتحُ فمي
ألتقط ُ القطراتِ
أشربُ النقاء
وأشربُ و أشربُ فلا أتعب ْ

نعم لقد تذكرت ُ للتو ِ
أني سكيرٌ من نسل ِ سكير ٍ
وأخبرتني السماء ُ أنه آخر مطرْ

أبو تنكة وطواحين الهواء
يا راكبَ الجحشِ المطرزِ بالحصان
هدئ من خبط الحوافر
فأنت في الأرض
واطوِ أجنحة الخيال
قد علم الجميع بحضورك

تنسابُ كل يوم ٍ تبحثُ عن عدو ٍ
تختالُ على جحش ٍ مبحوح ِ الصوتِ
مزركشِ الجنباتْ
فلا العدو يأتي … ولا تقتل الكلماتْ
كم هواجسُ الكر ِ والفر ِ ملأت ْ جواربكَ
فشجاعٌ أنت حتى المماتْ

لا يعرفُ السقمُ درباً إليك
والشعر مفخرة ُ عندكَ
تنظم البيوتَ…. حتى السحابُ تطاولها
ومن قال لك نقد ُ
أَخبَرتَهَُُ
أن الحقني هيهاتَ هيهاتْ

مشتبهٌ بك أنكَ رجل ُ
وعظامكَ تطاول خيال السيوف
مزروعٌ بالوهم والخيلاء
ومن حولك خواءٌ خواء

تشبه الطاووس بلا ريش
ومنطقتك َ مزروعة ُ بالنرجسية
تحسبها نرجساً
وتنام على مدح وتصحو عليه
والكل يغشى من ضحك ٍ
أن أبوك َ السقا قد مات ْ

وتطالعنا بنغمة المتصابي
وريشُك َ زغبٌ
وعظمُك َ فتات
تُخبرُ الناس انك ملاحق ٌ
وان الصبايا
في الهوى قُدتْ عظامها
وان قلبها شوقاً إليك َ قد مات ْ

وتنبئ قومكَ أن العدو
والفرسانَ الأربعةَ متربصين بجاهك َ
وأنكَ ضيغم ٌ للمعارك الطاحناتْ
فيستعد ُ القوم لطردكَ
لأنهم سئموا القص َّ والحكايات
ظنوا بك َ فارساً
فإذ بك َ
أبو تنكة ٍ لايخلفُ وراءه ُ إلا تنكات ْ

تعليق الشاعر محمد داية في آخر الأمسية:
إن عذوبة الكلام مع عذوبة الروح، و إن الإحساس الصادق المتدفق يكون من المعاناة الحقيقة و التجربة الطويلة، و إن نجاح الأديب أو الشاعر من بعد رقته و إحساسه و موهبته يكون بسبب حضوره الملفت، و أرى أن كلا الضيفين قد تمتعا بذلك.
فشكراً لهما على ما قدما و شكراً لهما على ما أبدعا.

محمد داية ينشر أعماله في جريدة الجماهير والموقع الألكترونية
له عدة دواوين حول المقاومة وحب الوطن
يكتب الغزل وهو بصدد توقيع ديوان غزلي بعنوان "القلب المعنّى"
وهو عضو في الجمعية العربية المتحدة للآداب والفنون

 

وقد حضر أيضا لتصوير الأمسية الفنان الشاب حبيب شريكجي من مجلة المشاهير