أماسينا الأدبية 7، قراءة وقراءة نقدية لقلب إنسان لعلي بدور
- يونيو 6, 2011
- 0
أماسينا الأدبية 7 ــــ قصص قصيرة للأديب الراحل علي بدور، يوم الثلاثاء 31 آذار 2011-06-06 ، مجموعة قلب إنسان،
مديرية الثقافة في حلب بالتعاون مع
الجمعية العربية المتحدة للآداب والفنون
تقدمان
أماسينا الأدبية 7
قصص قصيرة للأديب الراحل علي بدور
بمشاركة السادة الأدباء
عبد الغني مخللاتي: قراءة نصية
بيانكا ماضية : قراءة نقدية
إدارة الأمسية : مهند ميري
وكان ذلك يوم الثلاثاء 31 آذار 2011-06-06
في صالة المركز الثقافي العزيزية
قَـلب إنسان
مجموعة قصصية
مجموعة قلب إنسان هي مجموعة قصصية للأديب الكاتب المحامي علي بدّور كُتبت على مدار خمسين عاماً بين 1951 و 1997 ، وهي تتناول الإنسان بعواطفه و أحاسيسه وأحلامه وتطلعاته وطموحه وتفاعله مع نفسه ومع غيره من البشر أو غير البشر.
عبد القادر علي بدّور
***********************
وكتب الأستاذ الأديب محمود فاخوري
مجموعة قصصية
للأديب : علي بدّور
تضم هذه المجموعة جمـلة من القصص التي كتبـت فـي فتـرات متباعدة ثم جمعت في كتـاب.
وتتصف هذه القصص بحسن العرض ، وعمق التحليل ، والبراعة في تصوير الشخصيات ، والنفاذ إلى بواطنها ، ويتنقـَّل القارئ فيها بين مختلف أطياف المجتمع وشرائحه المختلفة التي توزعت في الحياة ، وعرفها البيت والسوق والقرية والمدينة ، وتعرض لنا جوانب إنسانية نبيلة ومشاعر فياضة بالوجدان والأحاسيس الجميلة التي تلائم مجتمعنا العربي ، بل المجتمع في كل جيل ، وتعرض ألواناً من الحب الإنساني السامي في الحلّ والترحال، وفي السفر والإقامة ، وفي ميدان العمل والأسرة وما إليها.
وهذه المجموعة جديرة بالاهتمام والنشر ، ولا سيما أن كاتبها متمرس جداً بالفن القصصي ومالك زمانه .
حلب 4/5/2007
محمود فاخوري
********************
قراءة في مجموعة (قلب إنسان) للقاص علي بدّور
بيانكا ماضيّة
بالكلمة ترسم المجموعة القصصية (قلب إنسان) للقاص علي بدور، عالماً ثراً من الأحداث التي تمر كشريط مرئي عبر الارتحال في أزمنة وأمكنة قصص المجموعة، الأمر الذي ساعدها على تكسير سكونية لغتها وثبات معانيها، عبر لغةِ تعالقٍ ناجح مع أنماطها السردية وأشكالها التعبيرية التي تدخل عوالم النصوص ككل، في نوع من التركيب، يحافظ على التقليد السردي القصصي، وفي الآن نفسه يغامر بتجديد التناول الدلالي لوقائع تخيلية من الأشكال الأسلوبية التي تجعل دلالات خطابات القصص تفيض بالتأويلات.
تعتمد المجموعة على الفعل التجريبي لأنها تمثل مكابدة اليقين العميق للبحث عن المعنى الوجودي الملتحم بالواقع الاجتماعي، ولعل هذا النوع من التجربة يعد محاولة للتعويض عن العلاقة الإنسانية التي يفتقدها المجتمع في كل أزمنته.
لقد جاءت المجموعة لتجد لنفسها فسحة في الحيز الإبداعي المترامي من محيط يعيش مفارقة الخيبة/الأمل، ومع ذلك فهي بذرة ترغب في تجسيد الحلم والرغبة، وتأسيس الفعل من أجل أن يكون جيل القاص جيلاً قادراً على تحقيق طموحاته في مقابل تجنب التعثر والوأد؛ حتى لا يقع فريسة حصاد فترة تاريخية يكاد يكون فيها كل شيء مجرد وهم، وفي هذه التجربة ما يثبت أن شيئاً ما يمكن أن يكون، أكان ذلك على صعيد الحلم والخيال، أو على صعيد الواقع الحقيقي.
لقد اتسمت المجموعة بخصوصيات جمالية مفعمة برغبة في تحطيم الحدود الفاصلة بين الكائن والممكن، ومسكونة بهاجس مضمر لتجريب قولي يمتح من روح الرفض عند القاص، رفض للواقع بتمفصلاته المشوّهة، لذلك جاء منطق حكيه غير مرتكن إلى مسكونات حكائية بقدر ما هو مسكون بالمغايرة والتدمير للنواة القصصية، وإعادة تشكيلها بلغة مباشرة، وبتردد جملي طويل النَفَس، تردد مشوب بطبع وتلقائية، لا تخلو من صنعة واعية بحدود وممكنات اللغة الحكائية، التي سعى من خلالها إلى التوفيق بين التناقضات القائمة بين الواقع والتخيل.
يتناول القاص علي بدور في مجموعته (قلب إنسان) جوانب ثلاثة : الفلسفي- الاجتماعي – الرمزي، وقد تمثل الجانب الفلسفي في قصة (بحر من ضياع الصباح) والاجتماعي في قصص (والصبح إذا تنفس) و(عاشق الورد) و(قوس قزح دمشقي) والرمزي في (روح الزهر وروح الإنسان).
المجموعة تنحو إلى حصر واقع الحياة المركبة التعقيد، ومن هنا تأتي تجربة (قلب إنسان) لتحتوي مساحة هذا الواقع المرير. وقد لعبت تراكيب القاص المتنوعة مثل البناء والخيال واللغة دوراً بارزاً في استجابة القارئ لها، من حيث كونها تؤسس لإثارة السؤال، ولاستخلاص النتيجة.
إن في أغلب القصص تمرداً على الواقع المرير، ففي قصة (والصبح إذا تنفس) يبحث القاص عن الجهل والفقر يقابلهما العلم والمعرفة، ليشكل هذان الأخيران منحى جديداً نحو التطور والتغيير، إلا أن الثيمة الأساسية التي طرحتها القصة هي نهضة الإنسان ونهضة الواقع، وأثرهما في قلب الأمور رأساً على عقب.
وكذلك نلحظ الأمر في قصة (روح الزهر وروح الإنسان) حيث تود السيدة الانعتاق من الروتيني، ومن المكان؛ ليكون لها مطلق الحرية فيما تعمل، ولتعطي أفكارها أيضاً مزيداً من الحرية، ويتقابل كل من النور والعتمة في هذه القصة، وكذلك كل من المكتب والشارع، وبين المرأة الإناء الروحي وبين إناء الزهر، حيث المرأة جسدا يعبق بالقيم والأفكار والحرية، وحيث إناء الزهر جسد يعبق بالرائحة والألوان والجذور.
ملامح إبداعية في مجموعة ( قلب إنسان )
لقد تمثل إبداع كاتبنا بما يلي :
– الأسلوب بسيط مليء بالحيوية والألفاظ الموحية، وقد مزج الكاتب بين الواقع والخيال بإحكام، وهو إلى جانب ذلك يحفل كثيراً باللغة والتعابير ويختار من بين الألفاظ أقواها، ومن التشابه أكثرها تصويراً للموقف، والحرص الشديد على اللغة وإلباسها ثياباً مميزة، انظر مثلاً قوله: ( كان نواس الفرح يبدأ بالتحرك يمنة وشمالاً منذ اللحظة التي كان القطار يأخذ طريقه وهو يشق جوف الليل)، أو قوله : ( وبينما كان يحاول أن يكحل عينيه برؤية معالم القرية قبل تبدد الأضواء يبدو كوحش مفترس يريد أن يطبق فمه على تلك الأسنان البيضاء المتناثرة هنا وهناك).
– لقد شوقنا الكاتب في كل قصة من القصص حتى تابعنا القراءة إلى النهاية، فكان لانسجام مادة القصص ووحدتها أنْ وضعنا الكاتب في حالة قلق وترقب إلى ما ستؤول إليه الحوادث، وتم ذلك بتنوع الصور وتفاوت درجاته والوضوح التام في العرض إضافةً إلى الدقة في توظيف عنصري اللون والحركة.
– البداية الجيدة لكل قصة، والنهاية التي لا تُنسى بسرعة، ورسم الشخصيات إذ هو رسم مقنع، بالإضافة إلى رسم المكان الذي حملنا إلى عالم بديع ساحر، وقد كشفت لنا المجموعة عن حقيقة لا جدال فيها أن الكاتب "علي بدور" قاص يحمل حقاً قلب إنسان مفعم بالعاطفة الجياشة تجاه كل ما هو إنساني وطبيعي.
– الشخصيات في المجموعة واضحة تماماً مقروءة مكشوفة، فهي واقعية بشرية، وبذلك يلبس الكاتب ثوب الواقعية الاجتماعية الواضحة لشخصياته التي تدور حول فلك مشكلاتها لتحاول إيجاد مخرج لها.
ـ الوصف: وهذا الوصف ظاهر وأظن أن الكاتب يستمتع به بطريقة مميزة فهو يرسم شخصياته هندسياً، ويصف البيئة المحيطة بهم بدقة متناهية، ومن أمثلة الاستقصاء في الوصف ماوجدناه في قصة (روح الزهر روح الإنسان) بقوله:
(خلال العمل على الآلة الكاتبة، كانت الأحرف وهي تصعد وتنزل، كانت الآلة تهتز كلها.. وكانت السيدة خلف الآلة تهتز أيضاً، في الوقت الذي كان إناء الزهر يهتز معها، الأغصان والأوراق تتحرك داخل الإناء)
– الوصف الخارجي من ملامح خارجية وطبيعة وظروف وطقس وملابس ومشاهد عامة.
– الوصف الداخلي، صفات وهواجس وأفكار، أما الحوار فقد خلت منه القصص جميعها، إلا أننا نلمح بالمقابل المونولوج الداخلي وخاصة في قصتي (بحر من الضياء الصباح) و(عاشق الورد).
– النهايات: كانت النهايات تنويرية تؤدي رسالتها الواضحة، وكأن الكاتب معلم يريد أن يختم قصته بخاتمة وخلاصة توجيهية مباشرة أو غير مباشرة، والقارئ يجد نفسه مرتاحاً وجدانياً وشعورياً لمصير الشخصيات والكيفية التي انتهت إليها الأحداث.
وأخيراً إن من المهم الإشادة بمهارة الكاتب في وصف الطبيعة وتمثل عناصرها بشكل رومانسي شاعري أحياناً، فهو في قصصه لا يترك شاردة أو واردة تحيط بالشخصية إلا ويرسمها، فهو في قصة (بحر من ضياء الصباح) يقول: (وكان ضوء الفجر يتصاعد من الشرق وينتشر في البرية فيتباعد الظلام شيئاً فشيئاً إلى أبعد ما ترى العين ويأخذ عالم النهار المضيء يطل شيئاً فشيئاً وهو يغسل نفوسنا بضوئه الرطب).
وفي قصة (قوس قزح دمشقي) يقول:
(شمس الربيع ليست ثابتة.. وأمطاره كثيرة.. وفجأة وفد هواء سريع من ناحية الجنوب.. وغبار.. واختفت الشمس وأشعتها خلف السحب، وسرعان ما تناثر المطر على الأرض العطشى، كان مطراً غزيراً تجاوب مع صوت الرعد في السماء القصية).
إن لغة المجموعة لغة موصلة للمعاني الثرية بالإحساس ببواطن الشخوص، عبر وصف لحالاتها النفسية والاجتماعية، بفواعل تعبيرية تؤثث عوالم الحدث بأفعال مشهدية ، الأمر الذي جعل شخوص ووقائع المجموعة في حركة وسفر دائم في مجتمعها، تبني عالمها الحالم لتكون متعة لحظة القبض عليه وهو ينمو ويكبر بتفاعله مع الواقع.
كل هذا الاشتغال الواعي من طرف القاص على متونه القصصية يذهب بنا إلى استنتاج مفاده أنه إن كان هناك تنوع في الموضوعات، فإنه في المقابل هناك وحدة في الانطباع بأن قطار السرد عند "علي بدور" قد انطلق ليسير نحو لملمة الأفكار والمواضيع في بنية الحدث بعيداً عن الارتماء في تجريب يعلي من شأن شهوة الكلام على حساب مضمون الخطاب.
*****************
محمد رؤوف بشير
"لأديب القاص/ الأستاذ علي بدور"
أنها لجرأة كبيرة أن أمنح نفسي شرف التحدث عن أخ أكبر مني قدراً وسناً وأرسخ قدماً في مجالات الأدب والقانون والعلاقات الإنسانية النبيلة على حد سواء.
وإنها لشجاعة أكبر في أن أتعرض لأكثر المواهب الكبيرة أهمية وبروزاً لدى هذا الإنسان ألا وهي موهبة الأدب بصفة عامة والقصة القصيرة بصفة خاصة ولكي لا أطيل عليكم فلقد كان أول لقاء حقيقي بيني وبين الأستاذ علي بدور من خلال بدء دراستنا معاً في كلية الحقوق بدمشق عام اثنين وخمسين وتسعمائة وألف عندما سلمني والدي إليه قائلاً: (هذا أخوك الصغير دير بالك عليه).
ولا أريد التحدث اليوم عن أسباب ومفارقات ما أقدم عليه والدي رحمه الله وجعل من الأستاذ علي بدور مؤتمناً علي مسؤولاً عني, فلقد كانت التوصية في محلها إذ أصبح لي ومنذ ذلك اليوم أخ أكبر وإن لم تلده أمي.
ولقد لاحظت ومنذ لقائنا أن لهذا الأخ هواية تشبه الإدمان على مطالعة الكتب الأدبية المختلفة وبخاصة القصة والرواية منها كما لاحظت إقباله على الكتابة كلما سنحت له الفرصة فقد وجدت أن يقضي ساعات طويلة من الليل وهو يكتب أشياء لم أحاول في البداية أن أعرف ماهيتها إلى أن أخبرني يوماً, أن ما يكتبه هو قصص قصيرة وأنه أرسل بعضاً منها إلى مجلة الآداب اللبنانية ذات الشهرة العالمية. وكان كلما نشرت له قصة يأتي إلي جذلان فرحاً ويطلب مني قراءتها فأقرأها وأناقشها معه مبدياً إعجابي ببراعته التي تؤكدها قبول هذه المجلة الكبيرة بكتابات هذا الشاب الصغير وهي التي لا تنشر لغير الأدباء اللامعين أمثال: نزار قباني, جبرا إبراهيم جبرا,نازك الملائكة, و فدوى طوقان, ورجاء النقاش, ويوسف إدريس وغيرهم, من عمالقة الأدب الذين لم تقصر قامتهم الأدبية حتى اليوم, برغم مرور قرابة ستين عاماً على إبداعاتهم الأدبية, بل زادتها السنين طويلاً وعرضاً.
ولقد كان الأديب الأستاذ علي بدور واحداً من هؤلاء الأدباء البارزين ولم يكن أقل منهم بالرغم من صغر سنه. وأذكر أنه في إحدى تلك القصص التي قرأها كان يصف فيها ضابطاً فرنسياً مفرط الأناقة والنظافة حتى أن الذبابة ما كانت تستطيع أن تقف على خده الحليق لفرط نعومته ونظافته ولكن هذا الأخ الفاضل لم يعد يكتفي بمشاركتي إياه القراءة والإطلاع على قلمه السيال, بل أخذ يطلب مني وبإلحاح أن أكتب أنا أيضاً مشيراً أي أنني أملك الموهبة الأدبية من خلال قراءته لرسائلي إلى والدي أو إلى أصدقائي أو من خلال بعض المواضيع التي كنت أكتبها وأنا طالب في كلية الحقوق ولكنني كنت أتهرب من إلحاحه علي مكتفياً بقراءة ما كان يحرضني على قراءتها باستمرار فأقرؤها على مضض إرضاء له أو هكذا كان يخيل إلي, إلى أن بدأت عدوى روحه الأدبية تتسلل إلى قلبي غارسة في نفسي حس الأدب ربما براً بهذا الصديق الوفي والأخ الكبير الأستاذ علي بدور وربما لأنني كنت أملك الموهبة دون أن أعرفها فأكتشفها هو وأيقظها من سباتها العميق ولهذا قلت في بداية هذه الدراسة أنني أجد نفسي محرجاً, ومزوداً بجرأة وشجاعة غير عادية وأنا أقف في محراب هذا الصرح الأدبي الكبير لأتحدث عن أدب وقصص الأستاذ علي بدور بكل تجرد وأمانة.
أقول عنها أنها في التقنية كبناء فني, أم أنها روعة في النفاذ إلى الروح الإنسانية وبدعة جميلة في وصف تلك الروح التي علمها من علم ربي, أو في استخدام مفردات اللغة برشاقة وعذوبة تحتض معها أدق الأوصاف والمعاني والأفكار تلبسها بعفوية بالغة أو تهرب إليها تلك الأوصاف والمعاني والأفكار تشكل مع كلماتها الفريدة مخلوقاً رائعاً يفيض بالصحة والشباب والجمال اسمه قصة. أم خير لي أن ألجأ إليكم مسمعين وقراء سائلاً مشاركتكم إياي في إصدار قراركم العادل من خلال عرض مقتطفات من قصصه لتحكموا بأنفسكم على أديبنا الراحل وأدبه وهو ما سوف أقوم به اليوم.
ففي قصة (بحر من ضياء الصباح) والتي تبدأ هكذا؟
( كان القطار يفتح طريقه في قلب الصباح متجهاً صوب الشرق في رحلته اليومية) ومن خلال تأملاته ووصفه لعربة القطار وغوصه في أعماق نفسه ينقلنا برقة وسلاسة إلى الصورة الأكثر دلالة وعمقاً من خلال قوله,(كنت والقطار يتابع سيره أبحث في نفسي عما يتركه فيها ذلك اللقاء الصباحي مع تلك المرأة وأحاول جاهداً الوقف طويلاً عن تلك البساطة المتناهية التي كانت ترافق كل شيء بدءاً من مائدة الفطور وفنجان القهوة مصحوباً بلفافة فيما بعد .. حتى لحظة المغادرة.في الوقت الذي لم تكن النفس قد تشربت بعد من ذلك الضياء المتناهي في الشافية ولم تأخذ حاجتها) وعندما نصل إلى كلماته ( كان نواس الفرح يبدأ بالتحرك يمنة وشمالاً منذ اللحظة التي كان القطار يأخذ طريقه وهو يشق جوف الليل وكانت عجلاته وهي تصقل السكة وتلمعها كلما أسرعت في الدوران عليها وكأنها تصقل نفسي وتلمعها من جديد).
أقول ما أن نصل في قراءتنا لهذه القصة وإلى هذا المقطع حتى ندرك تماماً أننا أمام قطارين واحد يسير فوق سكة الحديد, والآخر يزحف بداخل بطلنا في أروقة النفس الخفية, وزواياها المعتمة المتطلعة أبداً إلى قبس من الضياء إن لم يتوفر له هذا البحر من ذلك الضياء الذي وجده عند تلك المرأة الأخرى التي تتلوى بين ثنايا قلبه وجسده وروحه قبل أن يلتقي بها صباح اليوم التالي في بساطة متناهية حيث مائدة الفطور وفنجان القهوة مصحوباً بلفافة تبغ فيما بعد .. ليلي ذلك صمت وفراغ يستمر حتى لحظة المغادرة دون أن يذكر لنا كم يطول الصمت إلى أن يأتي دور اللفافة ثم المغادرة ودون أن يرتوي بطلنا رغم تشربه ذلك الضياء المتناهي في الشفافية فيغادر على مضض بانتظار اللقاء التالي.
ولكن هل يستمر ذلك الإحساس بالضياء والظمأ إلى اللقاء التالي إلى مالا نهاية يجيب بطلنا على ذلك بقوله ( …. وكان مجرد رؤية السكة الحديدية يعيد للذهن كل خواطر هذه السفرة السعيدة التي توشك أن تذبل في أعماق النفس, حيث لم يبق شيء من ذلك الشعور النامي الذي كان ينطلق القطار وهو يشق جوف الليل).
وكأنني اليوم اسمع إليه كما في الأيام الغابرة وهو يحدثني قائلاً:
(أخي رؤوف الزمن هو السيد هو الحقيقة أما ما عدا ذلك فلا بد أن ينتهي ويبقى الزمن سيد الموقف ليسخر منا جميعاً.)
فأخالفه مردداً معه قوله ( وكان طريق العودة كطريق الذهاب الصباحي … وكنت أربض في إحدى الزوايا أدقق في أي شيء .. وأحاذر أن يتساقط النور من ذلك الذي حفظته بين راحتي وفي عيوني … وفي أغوار نفسي … وكان لهذا النور حسنة هي أنه ولو تساقط هنا وهناك لا يرى إلا بعين اعتادت أن تجلس لغلى الفطور وتشرب القهوة وتدخن لفافة)مع تلك المرأة التي كانت تنتظره دائماً في مكان ما ( صوب الشرق). فالإحساس والشوق إلى الفطور وفنجان القهوة على مائدة يبقى ما دام المرء حياً, كل ما يمكن أن يتغير هو اتجاه القطار غرباً, شمالاً أو جنوباً: أو دائري ما دامت هناك حسناء وفنجان قهوة ولفافة تبغ تأتي في النهاية.
لعمري لم أجد من يستطيع أن يلتقط الضياء من ذلك الصباح ليوظفه قصة تتغلغل إلى أعماق أحاسيسنا ومشاعرنا ببراعة متناهية جامعاً بين مدرستين للقصة, الواقعية والرمزية ولكن في قصة واحدة تدور حول موضوع واحد كما فعل أديبنا.
فهو عندما يتطرق إلى القطار وعربته تجده يصف بجمالية واقعية ( المقاعد, والممرات والركاب من نساء ورجال يتوزعون في أماكنهم المختارة تلوح على وجوههم بقايا نوم وسهر مختلطين بعضها في بعض …).
كما يصف شروق الشمس وهي تتصاعد من الشرق ( … وينتشر في البرية فيتباعد الظلام شيئاً فشيئاً ويدفعنا في غمار الهموم اليومية بانتباه مركزاً على العودة إلى المنزل لمزاولة الحياة …)
فهو لا يخرج في قصته عن تصوير واقع يلونه هو بأطياف أحاسيسه الجميلة. لينتقل شيئاً فشيئاً برقة وساس إلى رمزية تغرق القارئ ثم تحمله معها إلى أحلام ضبابية وردية ليستطيع كل امرئ أن يتصورها على طريقته وهو يجلس إلى هذه السيدة على ( مائدة فطور وفنجان قهوة مصحوباً بلفافة تبغ ولكن فيما بعد .. وحتى لحظة المغادرة )
وقبل اللقاء .. وربما بعد المغارة ما يفتأ أديبنا أن يتساءل: ( خلال الرحلة كنت أفكر كثيراً كيف ..؟ متى ..؟ وكنت لا أجد جواباً كان السؤال واضحاً والجواب على غموضه واضحاً بالمقابل … وكنت أشعر في أمان وطمأنينة بين السؤال والجواب رغم الوضوح والغموض في كل منهما ذلك أنني لم أكن أبحث عن إجابة على كل شيء) وليته أضاف عليها جملة ( بل إجابة عن أي شيء) فالفطور الصباحي يتبعه فنجان القهوة ولفافة التبغ والمغادرة ( والنفس لم تكن قد تشربت بعد من ذلك الضياء المتناهي في الشفافية ولم تأخذ حاجتها منها) ليس بحاجة إلى أي سؤال, ولا لأية إجابة بل ليدع كل ذلك إلى تسربات ذلك اللقاء مع تلك السيدة تتغلغل إلى أدق خلاياه وأصغر زاوية في روحه وربما في روحنا فهل هناك جمال يفوق هذا الجمال في التصوير بين الواقع والأحلام المتراكمة في مكان ما من قلب كاتبنا وقلبي وربما قلوبكم أيضاً. ولأنني قلت في بداية دراسة هذه القصة أنه يسعدني كثيراً أن ألجأ إليكم لأسألكم رأيكم فيما قلت وفيما كتبته عن أدب الأستاذ الكبير علي بدور في قصة (بحر من ضياء الصباح).
ولقد كنت أفكر في أن أمر بعدد آخر من قصص أديبنا لأكشف لكم أو أن تكشفوا لي سمو قامة هذا الأديب الكبير وعلوها ولكنني أثرت الاقتصار على دراسة قصة واحدة لسببين:
– أولهما ضيق مجال هذه الأمسية عن الغوص في رحاب أدب الأستاذ علي بدور الواسع.
– وثانيهما أنني وضعت يدي على شريان الحياة في قصصه الرائعة التي اطلعت على غالبيتها, هذا الشريان الذي يهبها بحق الديمومة والخلود.
هذا الشريان الذي ينبع من الموهبة وعمق الرؤية والقدرة على التسلل إلى الروح الإنسانية وصياغة كل ذلك بجمالية وشفافية ساحرة من خلال تلك البراعة العالمية في فهم الأحاسيس والمعاناة وصياغتها في قصة نادرة المثال.
ففي قصص (عاشق الورد) و ( روح الزهر) و (ظلال الماء) وغيرها نجد ذلك الشريان الإنساني الحي المشحون بكل تلك الصور إلى مستوى الأحلام على هدي موسيقى عذبة وهمسات ناعمة وهي تسري بين أروقة النفس لتمنحها ذلك الشعور بالخدر اللذيذة والسعادة اللامحدودة على مائدة الفطور وفنجان قهوة ولفافة تبغ مع سيدة مجهولة.
وفي الختام لا يسعني إلا أن أسألكم مجدداً هل وفقت حقاً في الغوص في عمق بحر هذا الأديب الكبير, وهل ارتفعت إلى مستوى وصف درره النادرة أم فشلت؟
تاركاً لكم الإجابة على ذلك لكم فأنتم خير القضاة في أعدل قضية وأجملها هي قضية الأدب مع أديبنا الأستاذ علي بدور وقصصه النادرة.
31/5/2011 محمد رؤوف بشير