
إضاءات نقدية لنصوص ق ق ج
- أغسطس 25, 2010
- 0
وهذه الإضاءات النقدية القيت خلال كل أمسية، علما أنها شملت أغلب النصوص المقبولة للإشتراك حتى وإن ولم يأت كتابها، ونقدم كذلك بعض ما كتبه السادة الأدباء عمّا تعني لهم القصة القصيرة جدا.
وهذه آراء بعض السادة الأدباء الذين اشتركوا في هذا الملتقى الثامن للقصة القصيرة جداً بحلب 1-8-2010 ولغاية 4-8-2010، ثم يليها الإضاءات النقدية للسادة: محمد قرانيا، نذير جعفر و محمود الوهب عن رؤيتهم للـ ق ق ج.
إنها ومضة تناسب هذا العصر. المفارقة وعنصر المفاجأة التي تختزل الزمن والحدث وربما الكثير من المساحة والكلام.
أمينة رشيد
الشعور بكامل الحياة. القصة القصيرة جداً تجعلني أكثر تركيزاً وتكاملاُ. فدفقاتي الشعورية والواعية تظهر في هذا القص.
أنا أتمنى حقيقة للعمل الخلاق.. ولم ابتعد عما أريد في جملة قصيرة. إذا لم تعرف القصة القصيرة جداً فلن تعرف القصة الطويلة أو الرواية..
أكتب قصيدة النثر..وأجد أنني مخلوق لهذا القص.. وشكراً
ميلاد فؤاد أديب
القصة القصيرة جداً نص مكثف يقوم على الاقتصاد والإيجاز موافقا لروح العصر المتسارع الذي لا يتسع للمتلقي أن يلج عوالم تتسم بالإطالة ولذلك يستطيع كاتبها أن يوصل رسالته في أقل كلمات وإخالات وترميز تحمله إلى عالم كبير.
خالد المرضى السعودية
القصة القصيرة جداً اختزال نوعي للحياة نمر منها.. ومادامت الحياة برهة قصيرة
من السعادة, كانت القصة القصيرة جداً.
تعبيراً عن تلك السعادة المفقودة ومن هنا كنت والقصة القصيرة جداً في بحث دائم عن السعادة التي قلما تجد لها إلا حين تلجئ إلى ضفاف هذا الفن الجميل … بحب وسعادة
الناقد السوري محمد غازي التدمري
القصة القصيرة جداً سمة العصر الحديث السرعة الإيجاز التكثيف.
فكرة عرض خاتمة شيقة ومدهشة لذلك تعجبني وألفت منها ثلاث مجموعات قصصية.
ضياء قصبجي
هي جنس أدبي يحاكي لغة العصر…
تختزل الجمل ضمن مفردات وتعتمد على التكثيف والرمزية والقفلة الحادة.
رنا الخطيب
القصة القصيرة جداً هي ومضة… فلاش… لحظة خلق حقيقية…هي خلاصة الخلاصة ورصاصة الأديب المصيبة.
سناء الصباغ
الأستاذ محمد قرانيا
قصص الملتقى الثامن للقصة القصيرة جداً
حلب 1ـ 3 آب
محمد قرانيا
لا تتميز قصص ملتقى هذا العام عمّا سبقها من قصص الملتقيات السابقة، من الناحية الفنية، على الرغم من أن أسماءً جديدةً قد طعّمت فسيفساء أسماء الملتقى، وسنقف من قصص المشاركين في اليوم الأول، والتي اتّسمت بالسخرية السوداء والواقعية الانتقادية، والرمزية، والبعد الروحي، وسوى ذلك من السمات الشكلية والدلالية.
تعبّر معظم موضوعات القصص، عن التناقضات القيمية التي يعيش الإنسان العربي على إيقاعها. وهي موضوعاتٌ انتقادية مقتنصة من الواقع اليومي، الاجتماعي والإداريّ، الذي يوحي بانهيار الإنسان المعاصر، وجُدب المكان، وتلوّث الزمان، وموت القيم الأصيلة، وعدم التفاؤل، فـ "حسين قاطرجي*" الذي تمتاز قصصه ببُعد حكائيّ عالٍ، وقف في قصّة "تشرّد" على الهوّة التي يعيش فيها الفقراء، الذين إذا ناموا على الرصيف قضمت أصابعهم الجرذان، وإذا ناموا بين سيارتين فارهتين، قضمت أرواحهم العجلات. * الكاتب حسين قاطرجي قدم قصصه لليوم الأول ولكنه ألقاها في اليوم الثالث.
وركّزت أغلب قصص "رفعت شميس" على الفساد الإداري، فانتقد في قصة "حلال" اختلاف المعايير لدى الشخص الواحد، وصاغ نقداته بهدوءٍ وتعقّلٍ، وبكلمات موجزة، ومفارقة حادّةٍ، وقفت على حال المواطن قبل أن يكون في الوظيفة، وحاله بعدها: "عندما كان يجلس على الأرض كان شعاره (في الحلال البركة) وعندما جلس على الكرسي صار شعاره (حلال على الشاطر)".
وأظهرت "ماجدولين الرفاعي" عمق المفارقة في قصة "مظاهر" حيث النفاق الاجتماعي يضرب أطنابه، والذي تجلى في مشهد المحسن الكبير الذي كان برفقة شيخ الجامع لشراء ثريا للمسجد، وقد تبدّت حدّة المفارقة عندما دخلت طفلةٌ فقيرةٌ تطلب العونَ.. فركلها المحسن الكبير، وتابع إحسانه!.، مما يشير إلى تضخّم الشخصية الموسرة، وحبٌّ للظهور، وانسدادُ أفق المستقبل المتمثّل في الطفولة، التي لم تحظ من المحسن الكبير بغير ركلة قدمٍ.
وعلى عكس ذلك، كانت صورة الطفولة المتمرّدة على فطرتها وبراءتها، والتي تجاوزت حدودَها في قصة "أيهما أسهل" لـ "محمد كرزون" فالطالب لكي ينجح يعتمد على الرشوة بدل الدراسة: "أيهما أسهل؟. هل تقدّم المادة هذا الفصل، أم أن تؤجّلها إلىالفصل اقادم؟
أُفضّل أن أتفاهم في ذلك ودّيّا بهدية ما مع مدرس المادّة، ثم أُقدّم ورقتها هذه الفصل!!! عليَّ أن أتخرّج يا أبي!."
وقارنت بعض القصص بين عالم الكبار الذي يتسم بالشرّ والنفاق والكذب والزيف والكراهية، وعالم الصغار الذي يتّسم بالبراءة والطهارة والفطرة والحبّ. حيث تبرز هذه الخاصية في تصوير أحوال الطفولة المعذّبة التي تفقد حنان الأمومة وتعيش تحت رحمة زوجة الأب، التي جسّدتها "حنان بيروتي" في قصة "خطى عارية" بلمسات حانية، تقطر عاطفةً طفليةً، فالتلميذة المسكينة ما إن ترى المرأة التي جاءت إلى المدرسة لتسأل عنها، حتى تعترض طريق معلّمتها" "وقفت بوجهها الطفولي الملطخ بالخوف قبل أن تهمس بنبرةٍ تتقطر رجاءً: يا مس! يا مس ما تحكيلها عني إشي!.
بلحظة استعادت المعلمة صورتها في الصف، هادئة مطيعةٌ كثيرة السرحان. صحيح أن مستواها الدراسي متوسط، لكنها….
انتشلت المعلمة من أفكارها بسرعةٍ وهي تهمس بانكسار: يامس، هذه ليست أمي! إنها زوجة أبي!".
وواضح أن القصة تعبّر عن حال الطفولة البريئة التي تريد أن تعيش من دون ألم، نتيجة التفكك الاجتماعي، وتكسب مهادنة الكبار، خوفاً من العنف الأسري.
ولامس "جمعة الفاخري" في عددٍ من قصصه الرغبات الطفلية ملامسةٌ حانيةً، فالصغير في قصة "بالونان" لا يهمّه من أمر ولادة أمه الحامل سوى أنها تحمل في بطنها بالوناً لا يهمّه من أمر ولادة أمه الحامل سوى أنها تحمل في بطنها بالوناً، يتمنّى أن يحصل عليه بعد نقلها إلى مستشفى الولادة، والكاتب في تنوله الطفولة في قصصه إنما يضفي على عالم القصة القصيرة جداً حكاياتٍ تفتقر إليها الساحة الإبداعية العربية، ويثري بها هذا الفن ثراءً ندر الالتفات إليه، وهو لو تاب ذلك، لأغنى ظاهرةً قديمة جديدةً في فنّ إبداعيّ متجدّد، يُمَكّنه من امتلاك القدرة على تصوير الخصائص النوعية عالم البراءة والحبّ التي نحتاج ليها في زمن العولمة المعقد والمتأزّم..
هذه الإطلالات الاجتماعية والتربوية والإدارية المقتطعة من واقعنا الارهن، تقرّ مبدئياً ـ من الناحية الفنية الإبداعية بالتفاعل الجدلي الحاصل بين الشكل الفني والواقع الأدبي للقصة الومضة في إطار جدلية الأدب، الذي بات صدى للهزّات العنيفة التي مسّت المجتمع، ووجدت صداها في مرايا القصة الومضة. التي اختزلتها "سعاد مكارم" ـ على سبيل المثال ـ في قصة "شهادات" تعبيراً عن بطالة أصحاب الشهادات الجامعية، فاختصرت المشكلة العامة بأقلّ من عشرين كلمة، تقول فيها: "استطاعت شهاداتي أن تغطي الجدران، لكنها لم تستطع أن تحل مشكلةً قائمةً… فقط بقيتْ حبراً على ورقٍ، ينظرون إليها ليعرفوا تاريخ ميلادي".
هذه الكلمات المعدودة، تحمل دلالاتها الإيحائية، وتعبّر عن القلق، والغربة، والعجز، والفقر … وسوى ذلك من التيمات التي تعيد استثمار المداخل الوجودية للأدب كضجر المثقفين، وضياع حقوقهم، وعزلتهم، والشعور بعدم جدوى الحياة، وسوى ذلك، ممّا ينم عن باطن الذات وتمزّقاتها.
إن عدداً من الومضات حقّق جانباً من سماته الفنية، كالمفارقة والحكائية بتكثيف ٍ مترميزٍ واضحين، لكن عدداً آخر مما سمعناه اليوم، اختزل الواقع وعكسه عكساً آلياً فجّاً، فافتقرت بعض الومضات إلى الإيحائية الفنية، فلم تكن ذات تأثير كبيرٍ. بينما تألّقت بعض الومضات إلى الإيحاءات الفنية، فلم تكن ذات تأثيرٍ فجّاً، فافتقرت بعض الومضات إلى الإيحاءات الفنية، فلم تكن ذات تأثيرٍ كبيرٍ. بينما تألّقت ومضاتٌ قصصيّةٌ أجادت التقاط التحولات الواقعيّة، وعرفت كيف تُخرجها بشكلٍ فنّي، لأن التحولات التي تَلحق بالواقع تستقرّ في الوعي الجمالي للمبدع، وتجد لها شكلاً فنياً. وبخاصةٍ تلك الومضات التي رسمت مشاهد موجزةً من واقعنا المأزوم جرّاء الهزائم الحضارية والاجتماعية المتوالية، ورصدت تخلّفنا في مقابل تقدّم الآخر، وعكست ذلك بصورةٍ عفويةٍ بعيدٍ عن التقريرية.
السخرية اللاذعية:
وظّف عددٌ من الكتّاب السخرية الكاريكاتورية لانتقاد عالم الكبار، والأوضاع السياية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتربوية. واستخدموا في ذلك التنكيت والتلغيز والإضمار والحذف، كما في قصص رفعت شميس، وبعض قصص "محمد حسين الزهران" ومنها على سبيل المثال قصة "المواطن والنعجة" حيث اعتاد الفلاح أن يدفع لكل موظفٍ يوقّع على المعاملة مبلغً من المال لكل موظفٍ، كحال النعجة الهرمة التي أراد بيعها، في سوق الغنم، حيث كان المشترون يفتحون فمها ليفحصوا أضراسها بغية تقدير عمرها، ومع مرور الوقت وبحكم العادة، صارت النعجة تفتح فاها لكل من يقترب منها.. وفي هذه المقارنة بين مشتري النعجة والموظفين المرتشين قمّة السخرية والنقد.
وسخِر الكتّاب من القيم التي يدّعيها الإنسان المعاصر، والتي يُكذّبها الواقع وميدان المعاملات. وتجسّدت هذه السخرية القاتمة بلغة المفارقة وروح التهكم والتقابل بين ما هو مثالي وواقعي، في حواريةٍ منطقيةٍ استقطر فيها "محمد كرزون" سخريّةً وتهكماً يدين بهما العالم ويدمغه:
ـ من أين جئْتَ؟ وأينَ تريد أن تذهبَ وأنتَ لا تعرف لحياتك استقراراً؟! حدّد لي من فضلِكَ ساعةً واحدةً تكون فيها منسجما م نفسِكَ..
فيجيبه الآخر: من فضلك حدّد لي دقيقة واحدة يكون فيها العالم منسجماً مع نفسِه حتى أجيبك على طلبك.
شاعرية الإيحاء والتصوير:
وعمد عدد من الكتّاب في صياغة قصصهم إلى شاعرية الإيحاء والتضمين والوصف واستخدام التشابيه والنعوت والأحوال والصور البلاغية المجازية القائمة على المشابهة والمجاورة والترميز والإحالة وغالباً ما وظّفوا هذه الخاصية في المقابلة بين متناقضين، كالحب والكره، والخير والشر، وبقاء المرأة في كنف الزوج والطلاق، ففي قصة "جزوة" لـ "عايدة بدر" وبقاء المأة في كنف الذكورة والأنوثة، بين أن تبقى في المرأة في بيت زوجٍ تجد نفسها غريبةً معه، وبين أن تنفصل عنه، فلا تجد الكاتبة سوى التعبير الشاعري تُفرغ فيه ما بنفس شخصية قصتها، وهذا التعبير الشاعري يناسب البوح الأنثوي وخصوصيته: "حينما استجمعتْ نفسها التائهة في دروب الألم كان القرار عادلاً برأيها، فلا بد وأن يشاركها ما تموج به خلجاتُ روحها المهترئة… على ورقةٍ كبياض روحها الصبور كانت الدموع تسابق الحروف أيهما أولاً ليملأ المكان…".
ونجد طغيان الشعرية في قصص كل من "وجيهة عبد الرحمن سعيد" و "د. أحمد حسين محمد عسيري" الذي نقرأ له في قصة "التلاشي" ديباجةً صافيةً ليس فيها إيماضٌ، أو تكثيف حكائي، كما في هذا المقبوس: "بلغةٍ كونيةٍ، وخلفَ كواليس الزهور نشأت علاقةٌ محدّدة المعالم، المكان… الزمان… البداية… وحتى النهاية. فراشاتٌ حائرةٌ تتخافت… مشفّرةٌ بتمازج ألوان.. وترى بشعاع الإشراق الحالم الموعود بكل ملَكَة الجمال. لم يختلفن على النهج المعتاد لفناءٍ محتّمٍ في ضوءٍ أو وهجٍ فقط أولوية الدور.."
ومثل هذا السرد القصصي الجميل ينهض على ظلال التعبيرات الشعرية التي كثّفتها صورٌ خياليةٌ على مستوى البناء الفنّي، تتداخل فيها الحدود بين الشعر والنثر، بل تكاد تمّحي أمام دَوْزَنَةِ العبارة وموسيقا اللفظة، حتى لكأنّنا نقرأ سرداً شعريّاً، مكتنزاً بإيحاءاته يقوم على اختيار اللفظة، وأناقة العبارة، التي غطّت على البعد الحكائي القصصي.
ولعلّ ما يُميّز بعض النصوص الإبداعية قدرتُها على تتبّع تفاصيل الواقع وتسجيل مفرداته تسجيلاً فنياً موحياً ينأى عن التقريريّة والمرجعيّة والتشخيصيّة، فنصوص "جمعة الفاخري" "رفعت شمس" و "جهان سيد عيسى" تُشكِّلُ لوحاتٍ نصيّةً، زاخرةً بالإيحاءات، تمتازُ بالجُرْأة على الخوضِ في المسكوتِ عنه، وبصورةٍ خاصة، لدى "جهان سيد عيسى" التي عالجت موضوعاتٍ حسّاسةً في علاقة الذكورة بالأنوثة، وذلك، بلياقة التلميح، والابتعاد عن التصريح في كشفِ المستور من التابوهات العاطفيّة التي تملأُ فضاءُ القارئ العربيِّ التخييليِّ، وتمنعُه من تسليط يقظته الفكريّة على مجريات واقعة الراهن. تقول "جهان" في قصة البرتقالة:
"في تجويفة البرتقالة مستقبل البرتقالة
في تجويفة البرتقالة ضمان البرتقال
في تجويفة البرتقالة يكون البرتقال"
إن هذا النص الغارق في رمزيته يمكن ولوجه بسهولةٍ، على الرغم من أن سطراً واحداً تكرر ثلاث مرات، لم تتغيّر فيه سوى كلمة واحدة، وهذا ما أضفى على الومضة بُعداً فنياً عالياً، جسّدته البرتقالة / رمز الأنوثة، التي استبدلت بها الكاتبة التفاحة، حيث تجلّى طيف المرأة بوصفها رمزاً للخلق الفني، واستلهاماً يتّصل في مسارب النفس بمعاني الخص والحياة والحب، بعيداً عن الغواية والفتنة التي تحيل على الخطيئة، نلمس ذلك في بنية النصّ العميقة الدالة على هذا الكون التخييلي الجميل الذي يحتضن العالم الإنساني بأسره، بمعنى أن الأنوثة الخالدة التي تجذبنا إليها.
ويُلاحظ على نصوص ملتقى اليوم الأول، أن الطاغي على أفعال شخصيات القصص هو الزمن الحاضِرُ، وقليلاً ما يعضدُه الماضي القريبِ، بمعنى: أن الحاضر هو راهنُ فعلِ القراءةِ وهذا يجعل من المصّ المقروء نصّاً منفتِحاً على الآني، وعلى الآتي المستقبلي، بحضوره القويّ في ذهن المتلقّي وتوالد معانيه، وهو ما يُكسبُه ديمومةَ التأثيرِ، ويمنحُه القدرة على التواصل مع محيطه تواصلاً دالاً، فكل نصّ من نصوص "جهان سيد عيسى" و "رفعت شميس" و "جمعة الفاخري" و "د. حورية البدري" وقلّةٍ غيرهم، يشكّل حكايةٌ تامّةٌ، وكلّ حكايةٍ تتضمن حدثاً مُنتقىً برهافةِ حِسٍّ أدبيٍّ، وكلّ حدثٍ يتضمّن بدوره لقطةً تعبيريةً، وكلّ لقطةً أو ومضةٍ تُحيلُ إلى معنى محددٍّ، ينتشل النص من مرتبة التسجيليّة، ويرتقي به إلى مرتبة الإبداع، حيث تتحوّل الأشياءُ والكائناتُ بتلميحاتها من طبيعتها الأرضية الدّنسة إلى مراقيَ عُلْيا من جماليةِ الفنِّ.
التكثيف الوصفي: تمتاز كثير من القصص بالتكثير والإيجاز في التصوير والاقتصاد في التشخيص، وتفادي الوقفات الوصفية، وجدنا هذا الاختزال في قصة "حب" لـ "جهان سيد عيسى" وقصة "اعتزاز" لـ "حسين قاطرجي" وقصة "أصابع" لـ "عايدة بدر" وقصة "غزل متطور" لـ "ماجدولين الرفاعي" وقصة "مال واستوى" لـ "غفران طحان" وقصة "كلمة" لـ "حورية البدري" وقصة "تخمة" لـ "رفعت شميس" التي جاءت في ست كلمات: "باعت جسدها لتشتري خبزاً فقتلتها التخمة" وقصة "قفص" "للدكتور عسيري" وقصة "إنجاز" لـ "جمعة الفاخري" وقصة "قلق" لـ "ألوان عبد الهادي" التي جاءت في تسع كلمات، وحفنة حروف جرّ: "من كثرة التفكير في قصة شغلتها، أصبحت هي البطلة فيها" ولولا اتّسام بعض قصص هذه الكاتبة بالعفوية الإنشائية، لكان لها شأنٌ آخر. كما تجلّى الاختزال والتكثيف في قصة "محاكاة الربيع" لـ "رنا خطيب" التي اتسمت بعض قصصها ببساطة الطرح، وكاد بعض قصصها الآخر يبوح بكل شيءٍ، فلا يترك للقارئ شيئاً يكتشفه بنفسه.
البعد الروحي
اعتمد بعض الومضات القصصية على الإيحاء والتضمين الشاعري، النابع من القلب بغية إيجاد حالاتٍ رمزية روحيةٍ استلهمت الأصالة، وبعض أطلال الماضي، التي تبوح بدلالاتها، فاختار ثلاثة كتّابٍ أحداثاً تاريخيةً اقتنصوها من لوحاتٍ زمانيةٍ مضيئةٍ، حقّقوا بها شعار الملتقى (من حلب إلى الأندلس) وعملوا على إعادة تشكيلها بصورٍ جديدةٍ موحيةٍ، لتجسّد صوراً نسجتها خيوط التراث الذي ما زال سرُّه يعمل فينا في خفاءٍ من خلال الوعي الذي يمكن إسقاطه على أوجاع الحاضر.
يقول "حسين قاطرجي" في نصّ "قصر الحمراء"
"وقف وسط قصر الحمراء وقال لأصحابه الإسبان مفتخراً: هذا بناه أجدادي، فنظروا إلى بعضهم هُنيهةً قبل أن يستغرقوا في الضحك.
انتبه أن خارطة فلسطين لا تزال في يده، فطواها ودسّها في جيبه.".
إن رجوع "محمد كرزون" وحسين قاطرجي" و "د. حورية البدري" إلى الماضي بوصفه ملاذاً ساعدهم على تجاوز كبت الحاضر ومآسيه، على الرغم من أن الماضي يفتح الجراح من جديدٍ، لكنّه يحمل البشارة التي توحي بأن حضارتنا التي كانت لنا منذ العصر الإسلامي، وحتى الأندلسي يمكن أن تعود. لذلك، بدت النصوص لأول وهلةٍ وثيقةً تاريخيةً لزمنٍ جميلٍ لم يندثر، حمل في طياته رموزاً شبه أسطوريةٍ، تثير أحاسيس أشدّ عمقاً من مجرّد الشعور العاطفي، وبخاصةٍ نصوص "د. حورية البدري" التي اشتغلت على البعد الديني، بنزعةٍ صوفيةٍ، مع محافظتها على فن المفارقة، وشعرية النصّ، واللمسات الروحية التي تسحب المتلقي إلى فضاء التأويل من دون أن تفقد الحكائية اللازمةَ لهذا الفن، ففي قصة "منطق" تقول:
"كانوا يقرأون الأوراق.. الشفاه..
صدّقوها..
ولم يقرأوا منطق القلوب، فماتوا..
قتلوهم في الأندلس .. وفي أماكن أخرى.."
والكاتبة في تعبيرها عن أشواق الروح، تنشد الشفافيةَ والطهر، والرغبة في التسامي على لزوجة المادّة، بغية تحقيق مستوياتٍ عُليا من الصفاء النفسي، والكمال الخلقي، وهي حين تغذّي الجانب الروحي في فنّها، إنما تعبّر عن التزامٍ بالأصالة، وإيصال رسالة خالدةٍ إلى الإنسانية، تتضمّن دعوةً إلى الإنسجام مع الكون في توجّهه الفطري، وكماله الإلهي، والتأثير فيه، مصداقاً لمقولة الشاعر "محمد إقبال" التي تنصّ على أنه: "لا خير في نثرٍ وشعرٍ إذا تجرّد من تأثير عصا موسى".
*************************
الأستاذ نذير جعفر
إضاءة نقدية على نماذج من قصص :
الملتقى الثامن للقصة القصيرة جدا في حلب 2010م
الأمسية الثانية
رابط الأمسية الثانية 2-8-2010 عفوا
تكشف نماذج القصص القصيرة التي استمعنا إليها عن مكانة هذا الفنّ التي بدأت تتعزّز قراءة وتلقيّا ونشرا ونقدا عبر هذا الملتقى, وعبر الصحافة الورقية والإليكترونية. وهي نماذج معبّرة عن المستوى الذي وصل إليه, سواء في تقنياته أم في موضوعاته. فهناك القصة, والأقصوصة, والقصّة القصيرة جدا, والقصة القصيرة جدا جدا, والقصّة الومضة. وتكاد تحضر هذه الأشكال الخمسة في النماذج المقدّمة إمّا بشكل اعتباطي أو بوعي وتمييز لما بينها من فروق. والفروق فيما بينها ليست في عدد الأسطر إنما في البنية الفنية لكل منها. ففي الوقت الذي تحفل فيه القصّة بالشخصية عبر شبكة علاقاتها الإنسانية, والزمان والمكان والحدث والعقدة, والسرد, والعرض, ونقطة التنوير, فإن الأقصوصة تركّز على لحظة تحوّل مصيري في حياة الشخصية بعيدا عن أي تفصيلات نافلة, فيما تُعنى القصة القصيرة جدا برصد المفارقات النفسية والاجتماعية والسياسية المتنوّعة في حياتنا اليومية بمعزل عما قبلها وعما بعدها بلغة مكّثفة وموحية حتى لتغدو هذه المفارقات بما تحدثه من دهشة البؤرة الرئيسة في السرد. أما القصة القصيرة جدا جدا فقد تنحو منحى العبرة أو المثل أو التركيز على موقف أو لحظة أو شعور عابر, بعيدا عن أي تأطير زماني أو مكاني, بغرض إيصال معنى أو رسالة برقية للقارئ. وتنفرد القصّة الومضة بكثافة شعريتها, وباهتمامها باللحظة الخاطفة والمفاجئة, وبنقل الإحساس لا المعنى, وبإحداث الصدمة والدهشة عبر العلاقة الدلالية الخفيّة ما بين العنوان والقفلة. وفي النوعين الأخيرين من القصة أي القصيرة جدا جدا, والومضة, لا تعدو الشخصية أن تكون مجرد علامة لغوية دالة لا غير.
ويمكن تحديد المرجعيات الواقعية والتخييلية في هذه القصص في ثلاث مستويات:
الأول: مستوى التناص مع الموروث الحكائي والسردي والتاريخي والديني العربي كما في بعض قصص عدنان كزارة, وفيصل الزوايدي, وفتحي فطوم, وحسن برطال, حيث تحضر أسماء الأماكن والشخصيات التراثية مثل: الأندلس, وطارق بن زياد, وأشبيليا, والمعتمد بن عباد, والإمام الحسن, والمغيرة, ويوسف بن تاشفين. والكاتب يتكئ هنا على حدث تاريخي فيرهّنه في الحاضر, مانحا إياه حياة ودلالة جديدة تثير أسئلة المتلقي ودهشته في آن معاً, وغالبا ما يتسيّد ضمير الغائب دفة السرد هنا تاركا مسافة بين صوت الكاتب وصوت الراوي.
تبدو قصص عدنان كزارة ضمن هذا المستوى أقرب إلى القصّة الأمثولة التي لا تتغيّا الإبهار والإدهاش بل إيصال فكرة وعبرة وإثارة سؤال, وهو يعرف ما يريد بدءا من العنوان الذي يشكل نقطة استناد أولى وانتهاء بالقفلة التي تعزّز دلالة العنوان وفكرة القصّة. وإذا كان ينجح تماما في العناوين التي جاءت بصيغة المفرد النكرة في قصصه لأنها تحفّز المخيلة وتنفتح على التأويل, فإن عناوينه التي جاءت في صيغة المعرفة الموصوفة لا تتجاوز دلالتها المباشرة, فتغلق باب التأمل والاجتهاد عند المتلقي تأويلها, مثل: الرائحة القاتلة, في قصر الحمراء, فلو اكتفى في الأولى بعنوان رائحة, وفي الثانية بعنوان قصر, لكان الوقع والتأثير أكبر في المتلقي, والأمر نفسه ينطبق على فيصل الزوايدي أيضا, الذي ينجح في عنوان «أنثى», ويخفق في عنوان: «ملوك الطوائف» الذي لا يضيف جديدا لسياق السرد! أما فتحي فطوم فيقدم نموذجا فنيا رفيعا عبر تناغم العنوان مع السياق والقفلة في قصته «تصويت», ويبدو حسن برطال الأقدر على توظيف عناوينه بما يعمق فكرة قصته ودلالتها.
الثاني: مستوى العلاقات العاطفية والإنسانية والأسرية ( الحب, والخيانة, والعقوق..) كما في قصص حسنة محمود, وسهى شريِّف, وغادة البشتي, ومحمد الغربي عمران. وغالبا ما تلتقط هذه القصص لحظات مؤثّرة, وصادمة تستدعي تفاعل القراء معها وتحفيز مخيلتهم على رسم نهاياتها المفتوحة, وقراءة ما بين السطور. وينهض السرد في مثل هذه القصص بالتناوب ما بين صيغة ضمير المتكلم التي توهم بتطابق صوت الكاتب مع صوت شخصيته, وضمير الغائب التي يبدو الكاتب حياديا من خلالها.
تتوزع قصص حسنة محمود ما بين القصة, والقصة القصيرة جدا, والقصة الومضة, وهذا يعبر عن ارتباك في تجربتها, أو عدم تبلور, وربما كانت قصّتها التي جاءت تحت عنوان«ممنوع» أفضل مثال للقصة القصيرة جدا, التي يتناغم فيها العنوان مع السياق والفكرة والقفلة الفنية المنفتحة على التأويل محدثة بذلك أثرا نفسيا وعاطفيا في المتلقي. وتنجح سهى شريِّف في قصصها الثلاث: يأس, تشييع, القفص, في تحقيق المعادلة الصعبة بين عمق الفكرة, وشفافية الحالة, وجمالية العنوان والقفلة في تواشجهما ودلالتهما. وتبدو عناوين غادة البشتي أضعف ما في قصصها, فعنوانا: أحلام, واضطراب, لا علاقة دلالية أو إيحائية بينهما وبين سياق السرد فيهما! مع أن كثافة الجملة, وشاعريتها, وذكاء القفلة, إلى جانب الجرأة , كلها عناصر مهمة في تجربتها القصصية. ويتميز محمد الغربي عمران ضمن هذا المستوى بتناول حالات وموضوعات جديدة تتعلق بعالم الخدم, لكن تناوله يعاني أيضا من العنونة المباشرة, ومن الافتقار إلى القفلة المثيرة, أو المدهشة, أو الصادمة! وهذه عناصر مهمة في بناء القصة.
الثالث: مستوى العلاقة بالسلطة سواء أكانت سلطة الأب, أم المجتمع, أم الدولة. كما في بعض قصص عماد ندّاف, وعبد الهادي قاشيط, وعمران عز الدين, وهاني دقة, وحسن الشحرة. ولا تخلو هذه القصص من نبرة إيديولوجية حادة حينا, وهادئة حينا آخر, وهي تعوّل على استجابة القارئ المتذمّر مما يحدث لشعبه وأمته. وتتناوب فيها صيغتا الغائب والمتكلم على السرد أيضا. فيما تبدو صيغة ضمير المخاطب غائبة تماما عن مجمل التجارب القصصية!
يوظف عماد نداف عناوينه بشكل فني يخدم تعميق فكرته, وغالبا ما يلجأ إلى عناوين غير مباشرة, ولافتة للانتباه, مثل: آخيل, التجسس, كما يعنى بالقفلة التي تخيّب أفق التوقّع مما يعمّق المفارقة ويوسّع أفق الدلالة. وتتراوح العنونة عند عبد الهادي قاشيط ما بين العنوان الدال والمتناغم مع النص, مثل: رياضيات, واعتياد, والعنوان المباشر الوصفي الذي لا يضيف جديدا للسياق, كما في «تنظيم الأسرة», وربما كان تناوله لقضايا الساعة وللموضوعات الساخنة, هو ما يجعل قصصه ذات نكهة خاصة ومحبّبة.
وتبرز مشكلة العنونة بشكل حاد عند عمران عز الدين أحمد, في مثل: «مخاتير أمام العواصف», و«استئجار حمير», وليته اكتفى في العنوان الأول بكلمة «مخاتير» وفي الثاني بكلمة«حمير», لكانت الدلالة أعمق, وأفق التأويل أوسع. وقصصه على جرأة موضوعاتها ولقطاتها لا تخلو في معظمها من نبرة إيديولوجية حادة غالبا ما تكون على حساب فنية السرد.
عند هاني دقة تبدو القصة أقرب إلى الومضة, التي لا تنشغل بفكرة, قدر انشغالها بحالة, أو بشعور عابر, كما في قصته: «الشمعة», لكن عناوينه المباشرة أيضا لا تثري قصصه, مع أن القفلة لديه مدروسة وقادرة على الإدهاش.
ويمكن أن نشير إلى قصتين فقط متألقتين عند حسن الشحرة, وهما «لاجئ», و«إنكار», لتناغم عنوانهما مع سياقهما وقفلتهما من جهة, ولعمق فكرتهما وشفافية التعبير عنها من جهة ثانية.
تلك هي إضاءة سريعة ومكثّفة لأبرز مضامين وتقنيات هذه النماذج من ملتقى القصة في يومه الثاني, وإن بدا التركيز فيها على العنونة والقفلة أكثر من سواهما فليس ذلك عن عبث إنما لأن العنوان عتبة النص الأولى ومفتاحه وبطاقة ميلاده, ولأن القفلة سرّه وجواز مروره, ومن هنا لا بدّ أن ينسج كلا منهما بإبرة من ذهب.
*****************
الأستاذ محمود الوهب
الملتقى الثامن للقصة القصيرة جداً بحلب
مطالعة نقدية لليوم الثالث أو الأمسية الثالثة
رابط الأمسية الثالثة والأخيرة 3-8-2010
مع هذا الكم الكبير الذي ينشر في الدوريات أو ما يطبع في كتب، مما بات يعرف بالقصة القصيرة جداً، لم يعد ممكناً تجاهل تلك التجارب التي تحمل خصائص محددة لقصة قصيرة جداً، أو لأقصوصة قصيرة وتؤصل لها.. ورغم أن أحداً لا يستطيع أن يقول كلمة فصلاً في هذا المجال إذ ما تزال أبواب التقعيد والتأصيل مفتوحة لهذا الفن على نحو واسع إلا أنني أرى ما يلي:
إنّ القصة القصيرة جداً التي أراها مكتملة البناء هي القصة القصيرة ذاتها، لكنها الأكثر تكثيفاً، والأكثر امتلاء، وأصحابها أكثر اشتغالاً على الخاتمة التي يمكن عدّها أهم خصيصة أو ميزة للقصة القصيرة جداً. ومن هنا أرى إلى أهمية ثقافة الكاتب لا الأدبية فقط بل إلى ثقافته العامة أيضاً، فالخوض في هذا الميدان يحتاج إلى عدة أكثر غنى من تلك التي يحملها كتاب القصة في العادة شأنهم بذلك شأن شعراء قصيدة التفعيلة ومن بعدها قصيدة النثر.. فالثقافة الواسعة والفكرة العميقة البعيدة المرامي تساعد المشتغلين على هذا النوع من الفنون الأدبية.. لماذا أقول ذلك؟! لأنً بعضهم استسهل فكتب دونما عمق، فجاءت الفكرة سطحية الأمر الذي أضعف قصته بنية وتعبيراً.. فما أعتقده أنّ لعمق الفكرة دوراً رئيساً في تقوية فن القصة ويأتي الأسلوب، عندئذ، ليحملها على أجنحة الصورة المبتدعة في تعبيرها المستحدث.
من أين نبدأ؟ أ من عند منظم ملتقانا هذا الدكتور جمال طحان..؟! حسن فليكن:
الدكتور طحان وضع عنواناً للمجموعة القصصية التي أرسلها، وقرأ بعضها اليوم، وكلها كما رأيتم من القصص القصيرة جداً.. وقد سمّاها دموع ودموع.. ربما ليفصل بين أنواع الدموع التي أتى عليها في قصصه.. فمرة تكون الدموع دموع فرح، ومرة دموعاً فيها شيء من التهكم، ومرة ثالثة دموع الحزن التي نعرفها.. أعتقد أنّ الطحان يحاول ألا يبتعد كثيراً عن جوهر القصة التقليدية فالسرد عنده عنصر رئيسي، وهو يحرص كذلك على المقدمة الآسرة، ويتوقف كثيراً عند الخاتمة المفتوحة على التأمل المرتبط بالنص والعنوان بآن معاً.. أي أنّ الخاتمة عنده تعيدنا لاسترجاع القصة كلّها وفي ذلك زيادة في المتعة والتأثير.. ولا ننسى أن نشير إلى أنّ معظم قصص الطحان تنطوي على نوع من السخرية التي تمنح القصة أحياناً جمالاً إضافياً. والدكتور جمال، لا يجدد كثيراً في أسلوبه، ولا في صياغة الجملة التي يريدها بعضهم في هذا النوع من السرد أن تكون شاعرية..! ويجب أن أنبه إلى أن الصياغة هنا بالغة الحساسية، فكلّ زيادة أو نقصان قد يخل في الشكل والمحتوى..!
من قصص الدموع هذه، نأخذ قصة طالب الجامعة الذي جاء خاطباً.. لكنّه بدلاً من أن يرسم، أمام من يريد التقرب منها، بهجة الحياة، وأحلام السعادة المفترض أن تكون في أفق أسرة تتكون حديثاً.. راح الشاب يحدث خطيبته المزعومة عن أحزانه.. فكان أن ردته بنكتة لطيفة مستنبطة من سياق القصة ذاتها، وهي ذات دلالات عميقة، إذ تكمن دلالتها في توريتها.. وقد جاءت كخاتمة جيدة إذ لاءمت الأقصوصة بتكثيفها كل ما أورده الطالب.
وكنت أرى لو أنّ الدكتور أضاف إلى بداية حديث الطالب الكلمتين التاليتين:
«فيما قاله» لتصير الجملة كالتالي قال لها فيما قاله..! وكذلك لو أنّه حذف عبارة:
«الزيت ينظف الأذن ويشفيه» إذ إنّ ما قبلها يكفي بالغرض.
القصص التي قدّمها المنسق العام للملتقى جميلة وفيها كلّ مقومات القصة القصيرة جداً، كما أنه فاجأ الحاضرين بلعبة مسرحية في قصته الأخيرة عبر رسالة موبايل، مستخدماً التقنية الحديثة للقصة.
القاص نجيب كيالي نجيب كيالي يشغله الهم العام أكثر من غيره، فتراه يختار موضوعات كبيرة ذات عناوين لافتة، فهو على سبيل المثال مهموم بموضوع التقدم والتأخر كثيراً، وكذلك بموضوع حرية الرأي أو الفكر، وبالقمع الذي يأتي بالدرجة الأولى من العدو الإسرائيلي التي يعانيه الشعب الفلسطيني خصوصاً.. ولعلّ هذا الاختيار قد فرض على بعض قصصه نوعاً من المباشرة أحياناً، وكثرة الشرح في أحيان أخرى، علماً أن نجيباً يحسن انتقاء الأشكال الفنية المناسبة لقصصه، إذ هو يحملّها بعض الرموز التي تحيل إلى قضايا سياسية أو اجتماعية أو ثقافية، فقصة «طربوش ورأس» وقصة «شاربان» وكذلك استخدام القنباز والعقال في قصة «الوراء أحلى» يبرز هذا النهج.. ولعلّ قصة شاربين أنموذجاً التي ارتدت شكلها من خلال حوار يدور بين شاربين فوق شفة رجل ثمّ ينتهيان إلى المزبلة ويظلان على صراعهما في تعبير حي عن واقع حال الكثير من الشعوب والأقوام التي تجدها في حالة صراع دائمة، في الوقت الذي يتوجب عليها النهوض ومجابهة التخلف وأعداءها، وغالباً ما يكون سبب الصراع تافهاً.. القصة مفعمة بالسخرية ومعبأة بالرموز الدالة على ما يريده الكاتب ويلتقطه القارئ دون عناء ولم ألمح في القصة استطالة أو إقحاماً غير ما يحتاجه النص. ومثلها كذلك قصة خشوع التي تتحدث عن التواصل والتوارث.
القاص زياد محمد دعبول تقترب عند زياد عناصر القصة القصيرة جداً وفق رؤيتي لها، أعني تعريفي الذي جاء في المقدمة من الاكتمال.. فالقاص دعبول يحافظ على شكل السرد وجوهر الحكاية، ثم يعمل في نهاية القصة على تفجير الخاتمة على نحو مدهش.. وهو في موضوعاته يتحسس مشكلات مجتمعه السياسية والاجتماعية ويشتغل عليها وفق رؤى تنويرية غايتها تخليص المجتمع لتخليصه من أمراضه المختلفة.
في قصته نخوة يوضح القاص زياد أن الشرف الحقيقي ليس في قتل الأخت بل بتبني قضايا المجتمع والوطن الجوهرية.. وتقترب من قصة نخوة قصة سباق لكنها على النقيض الإيجابي فالفتاة الجميلة التي يعشقها فتيان الحي كانت قد نذرت نفسها لعملية فدائية في قصص زياد دعبول تجد معظم مزايا وتجارب القصة القصيرة جداً وهو كما قلت يلتقط موضوعاته بعين مستنيرة متفحصة.
القاص حسن علي البطران من العربية السعودية نمط آخر وتجربة أخرى في منهجية القصة القصيرة جداً.. فإذا كان بعضهم يرى في القصة القصيرة جداً اختزال القصة وفق مقياس معين وتكثيف عناصرها كافة.. فإن البطران يقترب مما يسمى بقصيدة الومضة، ولكنه يبالغ أحياناً في الرمز.. ففي أكثر الفلاشات التي يرسمها في قصصه لا تجد ما يمكنك من التقاط ومضته المشبعة بالفكرة التي تدعو إلى التأمل على نحو مباشر.. إنه يبقيك مهما بالغت في القراءة على التخوم بين الجهل والمعرفة، وهو بذلك يلتقي مع من يقول إن جما الأدب يقف في هذه المنزلة التي تدفعك إلى التساؤل.. هكذا هي قصته « فزع أحمر» وهي كذلك «تسلق». ويمكن أن تكون قصتاه قبل البدء وأخشاب وبراكين أكثر وضوحاً لكنهما تفتقدان حرارة الأجواء القصصية إذ تميلان إلى التجريد الذهني.. موضوعات البطران موضوعات ناقدة يدخل المجتمع والسياسة في مجالهما لكنه في المجتمع يتهم المرأة على طول الخط.
من خلال قصص الشاب حسين قاطرجي تجد أو يتراءى لك أنّ جيل الشباب هم الأقدر على مواكبة هذا الفن في تشكيله الأكمل والأجمل.. ولعلّهم كذلك إذ هم الأقدر على تحسس مشكلاتنا التي تفاقمت وتراكمت وما عاد ينفع معها إلا هذه الصرخات الوامضة المكثفة وكأنها صرخة تقول إلى أين أو ثمّ ماذا..؟ لا يوجد في قصص حسين حشواً ولا زوائد وهذا ما يجعل قصصه متقنة البناء إضافة إلى أن موضوعاته مستمدة من عالمنا الإنساني إذ هو يشتغل على الطباع البشرية وتناقضاتها.
خالد المرضي الغامدي هو الوحيد من بين المشاركين الذي أولى عنوان دورة الملتقى أهمية فجعل روائح الأندلس تفوح من قصصه حاملة انطباعاته ومشاعره في ثناياها.. وخالد من القاصين الذين يتقنون فنّ الومضة فمن عدة جمل منسقة ومصاغة على نحو دقيق يمنحك قصة متكاملة مقجمة وخاتمة وحشواً إن صح التعبير، ويستطيع بهذا الإيجاز أن ينشط ذهن القارئ ويحرك فيه مشاعره وحسبه هذا.
عبارة الغامدي سلسة.. وقصصه سهلة تمكّن الذهن من مضمونها، يحاول أحياناً أن يقدم ويؤخر في مفرداته ربما بحثاً عن إيقاع لغوي ليمنح القصة جماليات الشعر. حصل ذلك في قصة الغريب.. إذ باعد بين الفعل وفاعله مسافة لا بأس بها.
رندا قدسي تمتلك العبارة الأدبية السردية التي يمكن أن تصنع قصة قصيرة أو قصيرة جداً ولكنها تنساق أحيانا حول فورة عواطفها الكتابية فتنسى الاختصار والتكثيف الذي يتطلبه هذا الفن الجميل فتعطيك قصصاً هي أقرب إلى الخواطر كما أنّ صوتها يبرز كثيراً أو يعل فوق أصوات أبطال قصصها فهي لم تنس أن ترسل تحياتها في نهاية قصتها« قصة نعرفها جميعا» إلى بطلي قصتها أبا صالح وشريكة حياته على سلوكهما الأسري المغمس بالمشاعر الإنسانية النبيلة وبالوفاء المتبادل لبعضهما.
كلمة أخيرة إن هذا الملتقى الثامن الذي يقوم بمبادرات تكاد تكون فردية ويستطيع الاستمرار طوال هذه السنوات ويستقدم رواده من الأقطار العربية جميعها لهو جدير بالاحترام والتقدير وفي ذلك تأكيد على أنّ هذا الملتقى يأتي بالجديد والمفيد ويشير إلى ترسيخ هذا الفن المستحدث الجميل.