ألقى الدكتور محمود حريتاني بـ 14/12/2009بالمعهد الفرنسي بحلب محاضرة طرح فيها العديد من الآسئلة، وكانت هذه:

قد يرى أحدنا (قلعة حلب) يوميا أو خلال أيام، فهل سأل أحدنا نفسه بعض هذه الأسئلة ، أو كلها، أو أسئلة عديدة أخرى؛ لتكون معرفته بهذا الكنز التاريخي العالمي وثيقة؛ وفخره بقلعته والحفاظ عليه واجب وطني كبير!؟
وأما الأسئلة فهي:
هل مُلِئ خندقها ماءا وحجمه: 550م × 35م × 22متراً ومن أين جاء الماء؟
هل وصلت منافذها السرية إلى كل بيت في حلب، وبالأخص إلى مغائر وأقبية مطاعم وفنادق حي الجديدة السياحية، كما يروق للجهلة أن يشرحوها؟
هل درس أحدنا خطوطها الدفاعية والتي جعلت منها عصيّة على كل معتد في تاريخها الطويل؟
هل استطعنا كشف تاريخها، وما اكتشف منه خمسة آلاف عام فقط، وهو تاريخ هذه المدينة العريقة، وإننا سنكشف تاريخا أقدم إذا استمرينا بالتنقيب!
هل فكرنا بمشاريعها السياحية، وقد قارب عدد زوارها المائة ألف زائر شهرياً، مشاريعها داخلا وخارجا وحولها.
هناك عشرات الأسئلة العلمية الأخرى، لا بد من معرفة الإجابة عنها، لنعرف قلعتنا كما يجب، ونعتز بها بما يليق بأهميتها التاريخية والمعمارية.








 

أُلقيت هذه المحاضرة يوم الاثنين 14/12/2009

في المعهد الفرنسي للشرق الأدنى ـ دار حماض ـ حلب

أشكر إدارة المعهد الفرنسي للشرق الأدنى ممثلة بالأخوة:

تيري وجمال ولمى على دعوتهم وجهدهم، وأخص بالشكر الأستاذ جمال باروت لأكثر من جهد، كما أشكر الأخ نذير جعفر الذي ناب عن الأستاذ جمال بإدارة الحوار.

إن منبر هذا المعهد هو علمي، موضوعي، ولثقافة هذا البلد والثقافة حاجة عليا للبشرية.

إن بعض أسلوبٍ جديدٍ جرى عليه هذا المعهد هو أن:

1-      يلقي المحاضر موضوعه، وقد تكون أسئلة كموضوع محاضرتي اليوم.

2-      الحضور وكل يدلي برأيه، باختصار وبوقت محدود، وعلى الأستاذ رئيس الجلسة إدارة الحوار ضمن توقيت المحاضرة.

3-      مواضيع كثير يخلقها هذا الحوار وعلينا أن نفكر بالإجابة عنها، وربما ليس الآن …

4-      وإذا انتهى موعد المحاضرة، فالمعهد يستضيفكم لإكمال النقاش حتى الصباح …

قلعة حلب العتيدة وتعرفون الكثير عنها وأنا أضيف:

هي مَعْلَمٌ أثري محلي ودولي؛ وهي الأولى في موسوعة غينيس للأرقام القياسية وريما قلعة أفغانية، كما علمت مؤخراً قد تحل محلها.

أوسع قلاع في عصرها.

أعلى وأضخم من أي مبنى أثر قديم وأكبر مساحةً.

نظام عمارتها فريد من نوعه حتى في العصور الحديثة.

لم يحتلها غاصب بالقوة، والمصدر الوحيد عن احتلال المغول ها هو رواية فيليب حتّي، ولكنه لا يذكر أي مصدر لروايته، ومنذ الفترة العثمانية واستعمال البارود، فقد القلعة مناعتها الدفاعية.

لم تجر حولها أية دراسة علمية: معمارية أو تاريخية سوى بعض أسبار طفيفة قام بها مفتش الآثار الفرنسي في فترة الانتداب (بلوادو روترو) ووضع وصفا عنها.

قامت المديرية العامة للآثار والمتاحف بترميم هام فيها بعد زلزال عام 1822 المدمِّر، وآخر أعمالها الهامة سقف قلعة العرش في ستينيات القرن الماضي.

وأخيرا بدأت فيها الأسبار والحفريات وظهر المعبد العتيد. كما أن اكتشاف خزان واحد لجمع مياه المطر أعطانا آثاراً كانت مرميّة فيه في الفترة المملوكية، ولا زلنا ندرسها …

المهم زيارة القلعة؛ ربما نزهة أثرية للبعض، ولكن شرح الكنوز فيها بعد جداً عن الواقع، ويجب شرها لكل زائر، ولِيَفْهَم أهميتها هناك أكثر من أسلوب يعطي المعلومات الهامة عنها، والتي يجب أن يعرفها ولسنا اليوم في صدد هذا الموضوع.

 

سؤالي الأول:

هلْ مُلِئ خندقُ القلعةِ ماءً وحجمه 550م طولا و 35م عرضاً و 22م عمقاً، ومن أين جاء الماء!؟

قرأتُ أكثر ما أورده الرحالة عن قلعة حلب والخندق بشكل خاص؛ فماذا قال ابن حوقل (القرن العاشر): عليها سور حصين يلجأ إليها أهالي حلب. أما المقدسي فقد نقل عن غيره وذكر القلعة الحصينة.

الاسطخري وابن بطلان ذكرا أهمية حلب وكذلك ناصر خسرو الإدريسي وأسامة بن منقذ والهروي. أما ابن جبير فهو الوحيد الذي ذكر شيئاً عن الماء، فقال: إن الماء فيها نابع وقد صُنع بها جُبّان وأضاف: "وفيها خندق لا يكاد البصر يبلى مدى عمقه والماء ينبع فيه …"

لم يذكر ياقوت الحموي شيئا عن الخندق.

ذكر القزويني: "ولها خندق عظيم وصل حفره إلى الماء. وفي وسطه مصانع للماء (أي خزانات) المعين (أي للشرب)، لم يذكر المغربي شيئا وكان صديقاً لابن العديم.

ابن بطوطة ينقل عن ابن جبير، ثم يقول: وعليها خندق عظيم ينبع منه الماء.

أبو الفداء نقل عن الرحالة أقوالهم.

آخر من ذكر عن ماء القلعة ورد في مخطوطة الثورة على خورشيد باشا، وردت في يوميات أبراهما كسوبليان فقال: (احتمال وجود قناة بين جامع المستدامية وبئر الساتورة وماؤها من القناة ويُرفع منها إلى سطح القلعة بواسطة غَرّاف تديرهُ دابة …)

والآن أقول أنا:

هل مياه قناة حلب؛ وتكاد تكفي بالتقنين للمدينة، تملأُ الخندق؟

إن اللون الأزرق في بعض اللوحات الحديثة نسبياً هو خيال الرسامين كما في منمنمة تعود إلى القرن السادس عشر.

لكن ومؤخراً مع المهندس فتح الله بلدي رئيس شعبة الهندسة سابقا في مديرية الآثار؛ تم الوصول إلى قعر الخندق أمام المقاهي وتبين وجود رطوبة كبيرة كبيرة، وذكر أحد مهندسي المياه، إننا هنا في قعر الخندق نكاد نصر إلى المياه الجوفية. فهل فكر الظاهر غازي بن صلاح الدين الأيوبي بذلك؟ وكَتَبَ الرحالةُ أن أن الماء ينبع في خندق قلعة حلب…؟!!!

سؤالي الثاني:

هل وصلت منافذ القلعة السرية إلى بيوت الجديْدة، كما يقول كثيرون من الجهلة حين يرون أقنية مياه حيلان تصل إلى آبارهم وصهاريجهم في طابق الأقبية أو المغائر!؟

سكت الرواة عن الحديث عن منافذ القلعة السرية، ولا بد أنها موجودة، إذ لا يعقل أن توجد قلعة وليس لها منفذ اتصال خارجي سري.

والآن ونتيجة البحث المنهجي العلمي في القلعة توصلنا إلى ثلاثة منافذ سرية جداً:

الأول كشفه أحد رؤساء العمال السيد محمد العبد، رحمه الله وحدّثني عنه، يربطُ بين قاعة العرش ويصل حتى خندق القلعة وكم سعيتُ إلى النزول معه لرؤيته بعد أن وصفه لي، وكان يؤجلني دائما، وقد شجعته أنني سوف أنشره باسمه، ولكن وفاته فجأة حالت دون ذلك، ولا بد أن من يريد أن يسأل زملاءه من العمال فلا بد أنهم كانوا معه حين كشف هذا الممر.

الثاني: كشفه المهندس نبيل قصبجي وحدثني عنه، ويصل بين قاعة العرش عبر الخندق وحتى مدخل خن الشونة، وقد أغلقه بنفسه، وكنت ألومه على ذلك ولو كان بيننا لحدثكم عنه، ولكنه توفي مؤخراً وفجأةً. ولا أعرف إن كان ترك شيئا بين أوراقه عن هذا الكشف!؟

الثالث: كشفه طلابي في كلية العمارة في مرحلة الدراسات العليا، ويبدأ من ثكنة إبراهيم باشا المصري ـ حاليا متحف القلعة، ثم إلى البرج الشمالي المتقدم، ثم إلى قعر الخندق بعد ذلك لأن المرور فيه صعب جداً ولا بد من اختصاصيين في المغائر ومعهم أجهزتهم للوصول إليه، وغالبا من هُدم على مر الزمن.

تلك هي المنافذ المكتشفة، أما ما يراه المهندسون الآن من أقنية تُرى في الجدار الخارجي السفلي للخندق، فهي أقنية حي تحت القلعة الذي هُدم بكامله في زلزال 1822 وذكره الغزي في وصفه لمدينة حلب. ويظن البعض إنها مصبغة لغسل الثياب !!! وغير ذلك.

 




سؤالي الثالث:

هل درس أحدُنا خطوط القلعة الدفاعية التي جعلت منها عصيّة على كل معتد: هولاكو وتيمورلنك وغيره؟؟!

لم يذكر لنا الرواة الذين وصفوا قلعة حلب شيئا من هذا القبيل سوى أن القلعة حصينة ويلجأ إليها سكان مدينة لب، ولها أسوار متينة، وإنها أعظم من قلعة بلخ (ناصر خسرو). أو شبه قلعة رحبة مالك بن طوق (ابن بطوطة) هذا وأضاف أن قاظان طاغية التتر قصد مدينة حلب وحاصر القلعة اياماً ونكص عنها خائباً.

الواقع أن تحصينات قلعة حلب فريدة من نوعها ولا شبيه لها في القلاع المعاصرة التي بناها الفرنجة أو التي أقام فيها الإسماعيليون.

تحصينات مداخل القلعة المتعرجة كتحصينات أبواب أسوار مدينة حلب، فجانب كل مدخل برج يحميه ويدافع عنه، فضلا عن تزويد الأبراج الحامية للمدخل بالسقّاطات ومرامي السهام، وبخصوص السقّاطات يذكر الكثيرون أن الزيت المغلي يُرمى منها على رؤوس الأعداء … هل الزيت رخيص .. وقيل القطران ولكن لا أثر له! فماذا يُرمى؟ لا ندري! وعمليا تُرمى جميع أنواع الزيوت الأخرى المغلية الحارقة أو قطع القماش المشتعلة أو أي شيء يعيق تقدم الأعداء و نَقْب الجدران.

لا شك أن القلاع الأخرى محصنة المداخل، ولكن بأسلوب آخر غير أسلوب  مداخل قلعة حلب.

لقدد عددتُ أكثر من عشرين خطٍ دفاعي في مدخل قلعة حلب، حتى أصل إلى داخل القلعة حيث السكن والحمامات والجوامع وغير ذلك؛  وخطوط الدفاع التي عددتُها ولستُ أنا لمهندس المعمار أو العسكري المختص هي: البرجان، الجسر المتحرك بينهما، جسر المدخل العالي، الخندق العميق، بلاط السفح ولا يمكن تسلقه، مدخل باب الحيات المتعرج والمحمي، المدخل المتعرج بين باب الحيات وباب الأسدين الضاحك والباكي (تقليد غريب له حديث آخر) الممر السري من قاعة العرش، الممر السري من قاعة الدفاع الكبرى تحت قاعة العرش، أخيراً الخروج من المنفذ السري ومواجهة الأعداء أمام باب الأسدين وشعار الدولة الأيوبية، والقيام بهجوم مضاد خلف المعتدين إذا كانوا قد وصلوا إلى باب الأسدين وشعار الدولة الأيوبية.

هذا فضلا عن المنافذ التي تحدثنا عنها وتحصينات تحت جسر المدخل، بعضها موجود وبابه من الحجر البازلت، ولا يعرفه إلا القليل من زوار قلعة حلب، وحتى الباحثين.

هذه الخطوط الدفاعية الكثيرة إذن، تحمي من احتمى في القلعة فضلا عن الحكام فيها وقصورهم.. أما منافذ أخرى فهذا لغو لا قيمة له…

 

سؤالي الرابع:

ماذا نعرف عن تاريخ القلعة، سوى مظهرها الخارجي وأيضا ما بني داخلها وهو ظاهر أمامنا، أو ما كتبته اللوحات النادرة في القلعة: القاعة البيزنطية، قاعة العرش، الجامع الصغير، متحف القلعة…

في كل يوم يمكن أن يَكتشف الدارسُ، وحتى المثقف وربما الدليل الباحث وليس الحاكي (غراموفون) شيئاً جديداً، خلال زيارته.

إذا قرأ أحدنا عن دراسات تمت، أو حفريات جرت، فسوف يعرف الكثير.

في القلعة عشرات العهود والكثير من الأزمنة، ويجب على الأقل أن نعرف عنها كلمة.

مرتفع القلعة هو 65% طبيعي و 35% تراكز طبقات أثرية، ضمت الكثير عن تاريخ هذه المدينة الذي بدأ منذ الألف الثالث قبل الميلاد واستمر في جميع العهود حتى الإنتداب الفرنسي، وحتى بناء المدرج الهجين إياه…

بدأ التنقيب في القلعة في عهد الإنتداب، وعملتُ أنا فترةً صغيرة لتأخير بناء المدرج الهجين، وعمل الدكتور حميدو حمادة فكشف أجزاء من معبد إلى الطقس، واكتُشِف أخيراً ربما عن طريق الصدفة خزانُ ماء قرب مدخل القاعة البيزنطية، وجدنا ي عشرات القطع المرماة من الفترة المملوكية وما بعده ولا أعتقد أنه من الفترة الأيوبية أو كما عُرف في السابق (مطمورة الحبوب).

توقف التنقيب، الذي قامت به بعثة سورية ـ ألمانية مشتركة وعمل فيه كاي كولماير ووحيد خياطة ومن جاء بعده من ممثلي المديرية العامة للآثار والمتاحف، وشارك فيه الخبير العربي المجد والمجتهد السيد محمد مفتاح، وكما صرح لي الجميع أنه لابد أن يوجد قصر إلى جانب المعبد، وقد تكون فيه غرفة محفوظات كما في ماري وإبلا وأوغاريت، لماذا توقف التنقيب؟ لا أدري السبب وقد تعرفونه أنتم…

تاريخ قلعة حلب، هو تاريخ هذه المدينة العريقة، فإذا كانت المدينة القديمة قد قامت فوقها المدينة الحديثة؛ لكن قلعة حلب كنز تاريخي وأثري لا ينضب معينه، ولا يزال ينتظرُ الباحثين والمنقبين والدارسين…

 

وموعدنا الأسبوع القادم في نفس الصفحة لتتمة المحاضرة