هنا مقالة كتبها المخرج عن قصة حنا مينة “على الأكياس” التي حولها إلى فيلم “اليازرلي” مع آراء عدد النقاد في الفيلم:

أما فيلم »اليازرلي من إنتاج المؤسسة العامة للسينما، في سوريا، 1974

 

العلاقة بين الأدب والسينما

فيلم اليازرلي 

قيس الزبيدي

 
 هذه المقالة أرسلها لنا المخرج "قيس الزبيدي" مشكوراً، وهي عن فيلم "اليازرلي" الي تم عرضه بتاريخ24/12/2011 في مديرية الثقافة في حلب، وتحمل المقالة الكثير من الأفكار الغنية والتحاليل امنطقية بالإضافة إلى آراء بعض النقاد حول الفيلم، أما فيلم "اليازرلي" من إنتاج المؤسسة العامة للسينما، في سوريا، 1974، تمثيل: عدنان بركات، منى واصف، ناديا أرسلان، عصام عبجي، عبد الرحمن آل رشي، والطفل: أكرم العابد – قصة: حنة مينة، مهندس الديكور: تاج الدين التاجي، مدير التصوير: جورج لطفي الخوري، مونتاج: هيثم قوتلي، مدير  إنتاج: محمد سالم، سيناريو وإخراج: قيس الزبيدي

بطل القصة الكاتب نفسه الذي يروي بصيغة المتكلم ذكرياته عن طفولته وتحديداً عن بداية انخراطه في عالم العمل وتركه المدرسة إلى الأبد. 

 

 لعل من يعرفون حنا مينة عن قرب لا يعرفون له علاقة بالسينما إلا عبر نقل بعض أعماله الروائية إلى السينما في سورية وهي أربعة أعمال أدبية: "اليازرلي" عن قصة "على الأكياس" القصيرة، و"بقايا صور" عن رواية بنفس العنوان، و"الشمس في يوم غائب" أيضاً عن رواية بنفس العنوان، و"آه يا بحر" عن روايته "الدقل"، لكن حنا مينة اقترب كثيراً من السينما وجرّب مرة حتى الكتابة المباشرة للسينما.

لسنوات كان الكاتب يشارك في "اللجنة الفكرية" في المؤسسة العامة للسينما /ربما من عام 1970 إلى عام 1974/ وهي سنوات حافلة في تاريخ السينما السورية. وكانت مهمة هذه اللجنة قراءة النصوص الأدبية السينمائية ودراستها، ومن ثم الموافقة عليها لدَرْجها في خطة إنتاج المؤسسة، كما كانت أول محاولة له لكتابة قصة سينمائية من قصص ثلاثية فيلم "رجال تحت الشمس" الفيلم الأول للسينما الجديدة في سوريا، وانطباعي المباشر عن علاقة الكاتب بالسينما بأنها لم تكن علاقة سهلة. وأذكر مرة أنه شاهد في النادي السينمائي بدمشق وفي صالة الكندي فيلم "عناقيد الغضب" لجون فورد عن رواية للكاتب الأمريكي جون شتاينبك، غير أنه غادر القاعة في الاستراحة لأن الفيلم لم يعجبه كما أعجبته الرواية العظيمة. وأنا شخصياً لا أعتقد أن حنا مينة أُعجب حقاً بأي من الأعمال السينمائية التي تم اقتباسها عن أعماله الروائية. 

من هنا أستطيع أن "أفترض" أن الكاتب الكبير لم يكن ليعجب بفيلم "الياطر" لو قدر لهذا الفيلم أن يُنجز أيضاً. 

أذكر إعجابه الشديد بالسيناريو الذي كتبته عن رواية "الياطر" وقتها قال لي ما معناه أنه لو كان شخصياً يجيد كتابة السيناريو لما استطاع أن يكتبه بشكل أفضل. وقد استطعت أن أجد في إعجابه عزائي المنشود. بعد أن لمست عدم رضاه أو إعجابه بفيلم "اليازرلي" الذي حينما شاهده في عرضه الخاص الأول ذهب دون كلام.. وأذكر هنا أنه تابع كتابة معالجته في "اللجنة الفكرية" ووافق أيضاً على السيناريو الأدبي واقترح عليّ في صفحتين إضافات واقتراحات أخذت بها كلها في الديكوباج أي: في نص التصوير والإخراج، ولا زلت أحتفظ بالصفحتين المكتوبتين بخط يده.  

أين تكمن المشكلة؟

ليس بوسعي أن أتحدث الآن عن الأفلام الأخرى. 

لكن يمكنني أن أتحدث عن فيلم "اليازرلي" وقد تحدث عنه آخرون كما تحدثت أنا عنه بعض المرات، وانصب فحوى أغلب الحديث عن إشكالية العلاقة بين الأدب والسينما، بين الرواية أو القصة وبين الفيلم. 

"اليازرلي" يشكل حالة خاصة وفريدة في السينما السورية – الفيلم أنتج عام 1974- فهو من جهة فيلم تجريبي كما أنه من جهة أخرى، فيلم أستحق العقاب "اللازم" به، ليس فقط لأنه محاولة شكلية جديدة فحسب، بل لأنه احتوى على مشاهد أيروتيكية* مستمدة من أدب حنا مينة الجميل. ومن يقرأ "الياطر" مثلاً يكتشف زخم الابتهاج الأيروتيكي البريء الذي ينسبه الكاتب إلى شخصية زكريا المثيرة. 

ولعل من حقي هنا – وأنا أقترب من هذه ("الإشكالية"/رواية- فيلم) والتي هي برأيي سبب عدم الرضى "المرتجى" عند أغلب أولئك الكتاب الذين تم تحويل رواياتهم أو قصصهم إلى السينما لأنهم ببساطة، لم يتعرفوا على صورة عالمهم على الشاشة – من حقي أن أعرف بقصة على الأكياس[1] مدار معالجة الفيلم. 

والقصة تبدأ في مساء من الأماسي المتشابهة، حينما لم يرجع الأب بائع "المشبك" من قرى اسكندرون إلى بيته وإلى عائلته الفقيرة الجائعة التي انتظرته طويلاً،كما كانت تفعل دائماً. وقد قامت الأم بنفخ روح الأمل في أفراد العائلة، الشقيقات الثلاث والصبي الصغير – لأنها كانت ترجو عودة الأب مهما تأخر- إلا أن الصبي التلميذ الناجح في دراسته، لم يعد يطيق مثل هذا الانتظار الدائم لعودة الأب، وقرر: "هذه الليلة وقبل أن أغفو، قررت فعل شيء لأجل الأم والعائلة وفكرت أن أعمل أجيراً في أي مكان"، وإذ لم يعد الوالد ليلتها، ذهب الصبي بصحبة أصدقائه من أولاد الحارة الذين كانوا يعملون عند رئيس المستودع "اليازرلي" على البحر وكان عملهم ينحصر في دفع عربات الحديد الصغيرة المحملة بأكياس الحبوب والقمح من "العنبر" إلى الصقالات الممتدة في البحر، حيث يتم تحميلها في البواخر. 

وهناك تعرف الصبي على "اليازرلي" الذي سمع عنه أشياء كثيرة ومثيرة، ولم يكن اللقاء سهلاً، إلا أن صديقه الشاطر، الذي يسعى لتشغيله مع بقية الأولاد، يتشاجر مع اليازرلي ويهدده بالتوقف عن العمل إذا لم يوافق على تشغيله, وبعد الموافقة المؤلمة يمضي الصبي مع صديقه "إلى العربة وأنا وراءه.. وبوضع يدي على الحديد دخلت دنيا العمل وودعت الدراسة.. كان ذلك آخر العهد بالمدرسة، وأنا في الثانية عشرة من العمر"، ويصف لنا الراوي/ الصبي جو العمل ومعاناته الأولى وهو يدفع العربة على جمر الرمال وتحت لهب الشمس بينما قدماه تخور رويداً رويداً.. ويؤدي به هذا إلى وقوعه مغشياً عليه من الحر الشديد والتعب والإجهاد. وقتها يتعرف على "اليازرلي" الشديد والقاسي، في صورة أخرى هي مزيج من الرعاية والعناية "الأبوية".

ويقع حادث، يتيح للصبي فرصة عمل أخرى هي: الكتابة بالفرشاة والحبر على أكياس الخيش لرسم "ماركة" البضاعة بالحروف اللاتينية، بعد أن فقدت الصفيحة التي تعمل لهذا الغرض. 

ويشهد الصبي مشادة عنيفة بين اليازرلي وعماله من الحمالين، غير أن بقية الرجال في العنبر يسارعون لاحتضان المتخاصمين وإبعادهم. وتنتهي المشاجرة الخطرة بالمصالحة والضحكات.

 "وعند الظهر كنت قد تأصلت في "وظيفتي"وبقيادة صديقي ذهبنا إلى البحر وغطسنا.. وأطعمته بعضاً من الحمص فقبله، وكذلك أكلت من زوادته، وعدت مرحاً إلى عملي. لقد أحببت العنبر ورجاله وشتائمهم ومعاركهم والروائح النتنة. وفيما أنا أرسم الحروف شرعت أتصور العودة إلى البيت.
 والكلمات التي سأقصها على الوالدة والأخوات.. كدرٌ واحد نغص فرحتي: أن أرجع فلا أجد الوالد في البيت".
 في المساء في نهاية يوم العمل، قام اليازرلي بتفتيش جيوب العمال لنهم غالباً ما كانوا يملأون جيوب ستراتهم وتحت بطاناتهم بالقمح والعدس، ويلاحظ الصبي أن اليازرلي يتحرى بعضهم بصورة شكلية ويتسامح بكميات القمح والعدس الصغيرة، ويكون عجب الصبي كبيراً لسهر اليازرلي وأمانته وقسوته وطيبته في آن واحد، وقبل العودة إلى البيت يمنحه اليازرلي ثلاثة قروش كهبة "خارج الحساب" بعد أن قام بكتابة بعض الحسابات في دفتره الصغير. وفي البيت" كانت البشرى: عاد الوالد! وعانقتني الوالدة وبكت فرحاً، وبعد أن قصصت عليها كل شيء أعطيتها القروش الثلاثة، فركعت أمام أيقونة العذراء، ونذرت لها نذراً، وخرجت فطافت بيوت الجيران قائلة:
                   سمعتم؟.. ابني توظف.. كاتب، والعقبى لأولادكم.
                   بعد ذلك يروي لنا الكاتب أحداث تجربته بعد أن دخل عالم العمل الصعب والمثير بطريقة "التلخيص" اليازرلي طلب منه في نهاية الأسبوع الأول أن يلبس سترة مثل الآخرين "وقل لأمك أن تكبر جيوبها.. ستأتي أيام الشتاء، وقليل من السليقة ضروري".
                   ودخل اليازرلي السجن بعد أن هجم على جارته وهي عارية تماماً، ولكنه عاد بعد فترة غير طويلة بكفالة تاجر واستأنف عمله في العنب وكما تابع الصبي تسجيل الحسابات والعمل عنده في العنبر.
 حدثت الهجرة وافترق الجميع.. وبعد عشرين عاماً، وبعد أن تقدم العمر بالراوي، عاد والتقى باليازرلي في أحد شوارع دمشق وهو يبيع السكاكر عند بوابة إحدى المدارس وعرّفه بنفسه وسلم عليه، وحينما أخبره صديق بصحبته بأن صبي الأمس أصبح كاتباً معروفاً، ابتسم الرجل المتعب على شيء من ذكرى وأطرق قائلاً: بدأ الكتابة عندي! على الأكياس!!
 ويشكل "الملخص" الذي عرضناه وسط ونهاية القصة، أما البداية فتحكي وضع العائلة أثناء انتظارها عودة الأب الغائب. عند الضحى بكت الأم ابنتها الصغيرة التي ماتت من وقت قريب وبعدها صلّت، كعادتها دائماً، على الغائب، لكي يحفظه الرب ويرجعه سالماً.

 وعند الظهر جلس الصبي في الحارة حيث يلعب الأولاد، وفجأة أتت سيدة في عربة حنطور وسألت الأولاد عنه لتعرفه، واقتربت منه وقبلته ودسّت في جيبه بعض النقود واختفت مثلما جاءت.. وإذ عرفت الأم بما جرى انطلقت إلى الطريق علّها ترى "ابنتها" الزائرة التي كانت تعمل كخادمة في أحد البيوت وفرّت مع رجل وتزوجته.
 ولم تجد صورة العائلة اليوم ما تأكله سوى الحمص الذي تحمصه والبيضة المسلوقة الوحيدة التي تتقاسمها الشقيقات والصبي.
 وبقيت صورة الأب الغائب تؤرق خيال الابن الذي كان يراه، وفقاً لحكايا الأم، وهو يجول في الجبال الملأى بالجن والوحوش والمشلحين وهو يتخبط في الوديان والمرتفعات بين الشوك والحجارة ومن حوله الظلام وعواء الذئاب.
 عبر وجهة نظر، تنتمي لما يسمى "بالسرد الذاتي" يتم رسم صورة عالم صغير وناسه على الميناء.
 وسنكتشف في نهاية القصة أن الراوي يحكي لنا قصة من طفولته هو، وأنه يحاول في "تقنية السرد" أن يقترب من ذاكرة طفولته نفسها لكي يروي حوادث الماضي من زاوية رؤية الطفل نفسه ووفقاً لطبيعة وعيه. ونرى في القصة كيف أن تجربة يوم العمل الأول تهيمن، تقريباً على فضاء النص.

 وكما عرفنا فإن "اليازرلي" هو الفيلم الوحيد الذي يعتمد في معالجته على قصة قصيرة وهذا –كجنس فني- يضع أمام المعالجة الدرامية ليس فقط مهمة إعادة ترتيب جديد لزمن القصة، إنما أيضاً تطوير لأحداثها وشخصياتها بما يتناسب مع زمن سرد القصة في فيلم روائي طويل، دون أن يتم، في هذه المهمة، إغفال الكيفية الجديدة التي يتم فيها سرد القصة.
 إن "وسيط" السينما البصري/السمعي له خاصية مميزة، حيث لا ترسم فيه أمام القارئ جملة الدلالات التي يتصور هو مدلولاتها أثناء عملية القراءة، إنما المتفرج يرى ويسمع: الناس والأشياء والطبيعة مباشرة. وبهذا يختلف منطق سرد "القراءة" عن منطق سرد "الفرجة" حيث لا تهدف الكلمات والجمل والوصول إلى خاصية "الأدب" إنما تنزع إلى التحول إلى صور وأصوات كدوالٍ مبتكرة في ٍأسلوب السرد. هنا لا يعول على "الأدبي" كقيمة في ذاته إنما على "الفيلمي" الذي تلبسه وتجسده اللغة، "الفيلمي" الذي ندركه في صوره الحسية.
 إنها نوع لغة واصفة ينتمي وجودها حينما تذوب في وجود آخر، عناصره الصور والأصوات التي ترسم العالم  المرئي والمحكي في الفيلم، هدف الوصف وجود آخر يلغيه، من هنا أهمية "التقابل" بين الأدبي والفيلمي الذي لا يمكن أن يتأسس على "التماثل" إنما على "التفارق" وضمن رؤية العلاقات المتبادلة الجدلية لعناصر المتشابهات والمتفارقات في وسيلتين أو وسيطين مختلفين يتسنى لنا أن نقترب من طبيعة هذه "الإشكالية".
 ومن المفيد هنا أن نرجع إلى رأي بازوليني بهذا الصدد، لأنه أديب روائي حوّل بنفسه بعض أعماله للسينما، فكما كتب الشعر والرواية كتب السيناريو الأدبي وأخرج أفلامه عن نصوصه. وباعتبار أن الصورة تلبس، أولاً، لباس الكلمات، يرى بازوليني أن السيناريو الأدبي يشكل نقطة تلاق بين الأدب والسينما حيث تقوم الكلمة بدور وحدة لغوية، أي: علامة وظيفتها إحلال شيء بدل شيء آخر: كلمة/شيء.
 أما العلامة في السينما فهي أيقونة بصرية تتطابق فيها العلاقة بين الشيء ومظهر الشيء نفسه العلامة/مظهر الشيء.
 في الحالة الأولى ينفصل الدال عن المدلول، كلمة أو مورفيم "شجرة" تقابلها الصورة الذهنية للشجرة.
 أما في الحالة الثانية فيتطابق فيها الدال مع المدلول، حيث هناك حضور الشجرة نفسها في الصورة.
 فالعلامة "الكلمية" تأخذ في السيناريو الأدبي صفة جديدة تنتج من نزوع الشكل نفسه إلى أن تتحول بنيته إلى بنية أخرى، وتتحول فيه الكلمة من مفهوم إلى مدرك حسي: علامة "كلمية" تثير معنى خاصاً من خلال علامة بصرية تخلق بدورها معناها الخاص، وهذا المعنى سردي يُبتكر عند عملية الكتابة وعند إنجاز العمل الفني. فالصورة، مظهر الشيء نفسه، لا تهدف في العمل الفني إلى تقريب دلالتها من فهمنا –ت. تودوروف- ولكن إلى خلق "رؤيا" وليس إلى "التعرف" عليه.
 إن "تصور" الكاتب يخلق، بابتكار، "صورة أدبية" بينما "تصور" السينمائي يخلق صورة "سينمائية" ومحاولة تطابق "التصورين" مستحيلة، لأن طبيعة كل صورة تستلزم تصوراً مختلفاً. لكن يبقى أيضاً الجوهري، فإذ يستمد كاتب كبير مثل حنا مينة صور أدبه الجميل الواقعي من "تصوره" الغني للواقع الاجتماعي، فإن بوسع السينمائي أن يستمد تصور الواقع الاجتماعي من "تصور" الكاتب الأدبي. وهذه مأثرة حنا مينة، فأدبه يمنح فرصة مؤاتية ومفتوحة أمام سينما عربية جديدة.
 في الفيلم ارتكزت المعالجة الفنية على أربع تيمات: الذاكرة، الوضع الاجتماعي، القوة البدنية، الجنس. ونحن إذ نرى في القصة حضور الصور في ذاكرة الطفولة فإننا نرى غياب الأب بمثابة حضور الوضع الاجتماعي: الفقر. أما الحضور الجسدي القوي لليازرلي، الذي تراه الذاكرة الطفولية مجرداً عن وضعه الاجتماعي، فيوازي ويقابل غياب الأب. كما يبدو لنا "الجنس" كشكل آخر من أِشكال القهر والحرمان، على هذا تتقابل في ذاكرة الطفولة صورة الأخت الخاطئة مع صورة الجارة التي يغتصبها اليازرلي.
 وتتقابل صورة الأب الغائب وصورة اليازرلي الحاضر.

 وكما يكتشف الطفل كتاب "ألف ليلة وليلة"  في عنبر الرجال المعزول على البحر نكتشف حضوره في روح الكائن المحروم "اليازرلي" وكذلك في نهاية القصة صورة اليازرلي مع صورة الأب المسحوق، ولا يبقى من القوة البدنية غير ذكراها العابرة.
 وتأخذ حلول هذه التيمات كمحاور تجسيدات درامية لشخصيات أما تُعاد صياغتها أو ابتكارها تماماً؛ "المعتوه" الذي يشكل صلة الوصل بين "العنبر" المعزول على البحر وبين "الأنثى" الغائبة والموجودة كرمز في كتاب "ألف ليلة وليلة" في قلب المكان.
 كما تصبح شخصية "صبيحة" صلة وصل ذهنية بالأخت الغائبة من جهة وامتداداً للرغبة الجامحة عند "اليازرلي" من جهة أخرى، فاليازرلي يعاقب بالجنون، كالمعتوه نفسه، حينما يلامس جسده جسدها العاري. وننوه هنا بأن الجنون –حسب فوكو- ليس كياناً مستقلاً، بل علاقة موجودة في صميم الواقع.
 ولا يبقى أمام الأحداث والشخصيات إلا أن تتحرك في بنية حكاية مفتوحة تخلقها وتشكلها ذاكرة طفولية بريئة وكأنها تأتي من أفق بعيد كتلك العربة "لازمة الفيلم" التي تقودها الأخت الغائبة، كأميرة، والتي تأتي بدورها، من أفق بعيد وتعود لتغيب فيه. ولا يبقى في ذاكرة "المشاهد" إلا تلك التنويعات الكنائية/الاستعارية، لكن الدرامية، لوضع اجتماعي قاهر تغيب فيه أطياف الجميع.
 ومثلما تعيد الذاكرة صورة الماضي الدقيق وتحوّل الغياب إلى حضور، تعيد العلامة الأيقونية رسم صورة الغياب وصورة الحضور في "صورة" واحدة. ويتم لقاح الغياب والحضور في "رؤى"، وتأخذ سلسلة "الرؤى" شكلها الشعري وتترادف لتدل على تلك الذاكرة الطفولية المليئة بالقوة والخيال، تماماً كما يكتب حنا مينة في "بقايا صور": "قوة انبعاث الأشياء الماضية في ذاكرته تفسر استرجاع طيوف الطفولة".
 وكمثال على ثنائية وجدلية الغياب والحضور نرى في الفيلم:
 – الأب وهو ملقى على الأرض وإلى جانبه حلواه الكاسدة، والصبي يقف قريباً منه. ويحاول الأب أن ينهض لكنه يعود ويسقط على الأرض من الإعياء ويتجاور الصبي مع أبيه كما لو أنه غائب ويخبر الأب ابنه الذي ينتظر عودته بأن الذئاب أكلته ويوصي ابنه بأن يحذر الذئاب وأن يرعى عائلته.
 – كما تستحضر الذاكرة صورة الأب مرة أخرى وتقابله مع صورة اليازرلي الذي فتح باب العنبر الحديدة ويدخل منه وينقض بشرشورهِ على كيس كبير وثقيل ويرفعه برشاقة في الهواء بينما يقف الأب إلى جوار الباب وهو مهموم يحدق في عمل اليازرلي الذي يبتسم وينصرف إلى رفع الأكياس بقدرة لا تجارى.. عندها يغادر الأب العنبر ويغيب شبحه في شمس الظهيرة الساطع.
 

3
 ماذا نريد من هذا الكلام؟..
 الآن وقد سنحت لي الفرصة لأتحدث عن فيلم "اليازرلي" اكتشف انتماء عالم هذا الفيلم، عبر وسيط آخر، إلى عالم حنا مينة. وسنكتشف كيف أن الناقد البولوني ليسلاف باير، في مقالة له عن فيلم "اليازرلي" يقرأ الفيلم وكأنه يقرأ في عالم الكاتب الروائي نفسه. مع أن الكاتب وقد حاولنا تفسير استحالة ذلك، لم يعثر على »تصوره« هو في "صورة" الفيلم.
 أثناء عرض فيلم "اليازرلي" في مهرجان طشقند عام (1974) تمت مشاهدته أيضاً من قبل ثلاثة نقاد سينمائيين وعلينا أن نذكر، ونحن نتذكر، أهمية مثل هذه المشاهدة وذلك بسبب من طبيعة وخصوصية كل واحد من هؤلاء النقاد وانعكاس ذلك فيما كتبوا بعدئذ. كان الناقد وليد شميط في قلب حركة التغيير التي بدأت في السينما العربية في بداية السبعينات وكان الناقد سعيد مراد في بعثة دراسية في موسكو وهو، من جهة، على معرفة بالسينما العربية، كما أنه، من جهة أخرى، على معرفة عميقة وشمولية بأدب حنا مينة. أما الناقد البولوني ليسلاف باير فهو على معرفة تاريخية بالسينما المصرية ولم يكن على معرفة لا بما كان يجري في المشهد السينمائي العربي، خارج مصر، ولا على معرفة بأدب حنا مينة. لقد لعبت وقتها الصدفة المجردة دورها في تواجد هؤلاء الثلاثة في مهرجان طشقند، ولعلها واحدة من اللحظات السعيدة القليلة في حضور وغياب فيلم "اليازرلي" الذي لم تتح له إلا فرص العرض الخاصة، وبهذا تحول نفسه إلى طيف.
 لنبدأ بوليد شميط الذي اكتشف "النبرة"غير التقليدية للفيلم ومحاولته أن يطرح نفسه كنموذج لمصطلح "السينما البديلة" الذي تم إطلاقه في مهرجان دمشق للسينما الشابة العربية عام 1972، بغية توجيه السينمائيين العرب نحو راية أخرى هدفها إيجاد سينما جديدة قادرة على التفاعل بعمق مع الواقع الاجتماعي العربي بأشكال فنية متقدمة. ووضح الناقد: من هنا تبدأ أهمية فيلم "اليازرلي" الذي عُرض في مهرجان طشقند، فهو أول فيلم تجريبي حقيقي من إخراج أحد الذين تحمسوا للسينما البديلة في دمشق[2] (..) إن اليازرلي محاول جادة وشجاعة وتجربة تستحق الوقوف عندها طويلاً، وفي الحوار الذي أجراه الناقد معي طرح فيما طرح مسألة العلاقة بين الأدب والسينما واعتبر أن الفيلم إذ يحافظ على روح النص الأدبي، فإنه يختلف في بنيته وفي بعض أحداثه اختلافاً جذرياً عن النص الأدبي. وقد دوّن وقتها جوابي على الشكل التالي: "إن تحويل العمل الأدبي إلى السينما يتطلب نوعاً من الأمانة، لكن هذه الأمانة نسبية. فالسينمائي يضع تصوراته في تجسيدات مادية ملموسة هي بالتأـكيد مغايرة لتصورات الكاتب أو حتى القارئ. الأمانة إذن تتجه إلى الأفكار والحوادث، وكان في ودي لو أن القصة القصيرة هي رواية لاستطعت أن أعتمد على الأحداث التي يرويها دون إضافات. لكن هذا مستحيل عند تحويل قصية قصيرة إلى فيلم (..) المقارنة يجب أن تتم مع النص الأدبي السينمائي وليس مع القصة لأن عناصر السرد الأدبية مغايرة لعناصر السرد السينمائية يبقى الأهم: وضع إبداع سينمائي إزاء نوعية أدبية، مع المحافظة على روح الأفكار وتفسير جوهر الأحداث الأصلية، هنا يجب أن تجري المقارنة. فالأدب ليس مطابقة للحياة والسينما ليست مطابقة للأدب".
 * أما الناقد سعيد مراد الذي تعامل أكثر من مرة مع الفيلم (يبدو أنه شاهده مرات عديدة في فترات متباعدة وفي مناسبات خاصة) فقد أشار وقتها في مجلة "الطريق" إلى عرض الفيلم في مهرجان طشقند وكيف اعتبر مفاجأة من مفاجآت شاشة المهرجان: "إذ لفت انتباه السينمائيين لجدية محاولته تجاوز الطريق التقليدية في التناول السينمائي التي سادت ولا تزال تسود الغالبية العظمى من الأفلام العربية، كما وتابعه الجمهور باهتمام ملحوظ«[3].
 ويبين الناقد أن العجالة في مقالته لا تعفيه من الإشارة إلى أبرز ما في الفيلم من علائم مميزة ستكون محور دراسة مقبلة.. وفعلاً كتب الناقد مثل هذه الدراسة ولم ينشرها كاملة إنما أخذ منها في بعض من استشهاداته عن الفيلم وقد توقف الناقد عند علامة "الأدب" و"السينما" واعتبر أن المعالجة الدرامية لقصة "على الأكياس" تتميز بالعصرية حيث حولت هذه المعالجة القصة إلى دراما ذات طابع ملحمي شعري ومع أنه اعتبر أن ما قاله الكاتب في قصته أكثر أهمية من قول الفيلم لأنه أكثر صلة بالحقائق الواقعية والاجتماعية المعالجة، إلا أنه يبين أن ليس للأفكار التي قالها الفيلم أية أهمية استثنائية، إنما كيفية قولها هي الجديرة بالاهتمام والدراسة.
 أما في المقالة الخاصة (المخطوطة) فإنه لا يعتبر المقارنة بين الفيلم معياراً نقدياً بسبب من أن الفيلم له خصوصيته وروحه ولغته التعبيرية وهدفه. ويعتبر "الأفلمة" قراءة ثانية للعمل الأدبي واعية وموجهة، يحكمها مدخل خاص لمعالجة هذا العمل بلغة فن آخر يمتلكها فنان آخر. هذا الاعتبار صحيح تماماً، وبوسعنا أن نؤكد أن "الوسيط" هو المحدد الأساسي الذي يميز شكلاً سردياً من غيره.
 وفي محاولة لرصد الواقع في الفيلم يبين الناقد مراد: "إنه واقع شعبي مسحوق تحت وطأة أعتى أنواع القهر: القهر الاجتماعي أو لنقل: الفقر. وهذا القهر يعم الجميع في الواقع الذي يتناوله الفيلم. من القهر أو الفقر "مصيبة المصائب" و"أساس كل علة" ينبثق كل أنواع وأوان القهر الأخرى.
 وفي مناسبة أخرى وبعد سنوات سيكتب سعيد مراد: "إن اليارزلي ينطوي في بنائه الدرامي، على عناصر شعرية وملحمية تعتمد في بروزها على وسائل بصرية مونتاجية"[4].
 ويكتب أيضاً سعيد مراد، في مكان آخر: "إن على الأكياس التي هي قصة قصيرة من السيرة الذاتية، مكتوبة بأسلوب ذكريات حارة، بسيطة، تحولت في الفيلم إلى بناء معقد يحوي معاني الاضطهاد في مجتمعنا: التخلف، الجنس، القسوة، والعنف، الاستغلال".
 هذه المعاني أريد أن يجعل منها نماذج معممة تجسدها الشخصيات التي يعبر كل منها عن واحد من تلك المعاني– القيم، وطرح ذلك علينا سلفاً مستفيداً من بناء مسرح بريشت: بث نوع من الملحمية في التخاطب مع الناس وفي بناء العمل، كما لجأ إلى مونتاج يحاول أن لا يفسح مجالاً لتأثير عاطفي بقدر ما يقطع هذا التأثير ليتوجه إلى عقل المُشاهد كي يحرضه على أن يتركز على هذه المعاني المجسدة، ثم يكشف عن الحقيقة الواقعية للحلم، ويرتفع بالواقع، ببعض تفاصيله مستوى الحلم، يتداخل ذلك في نسيج واحد فيجعل من الماضي والذكريات والحلم والواقع كلاً واحداً، وذلك بوسيلة بصرية ومونتاجية.
 وهذا ما نشاهد أكثر من مثال عليه.. فالشمعة التي تنتظر الأم، الزوجة، زوجها على ضوئها تصبح مرجاً من الشموع في موطن يكاد يضيع فيه الأب. موطن مليء بالأشباح وبعلائم الرعب، وهذه العلائم تتمثل بأقنعة مستقاة من السيرك، أقنعة تهريجية، ولكنها إيجابية"[5].
 * لنأت أخيراً إلى الناقد البولوني ليسلاف باير فهو إذ يرصد بعجالة، سمات الواقع الاجتماعي في الفيلم يبدو وكأنه يشير إلى روح حنا مينة القائم على رصد عالم التناقضات الاجتماعية بكل غناه وثراءه وشراعه وعاصفته. إذ يقف الشراع إزاء العاصفة كرمز للصراع والتناقض في عالم حنا مينة الروائي، فإن صورة الكاتب عن الواقع هي، في جورها، صورة يسكنها ويحولها باستمرار، التناقض.
 يكتب ليسلاف باير عن "اليارزلي" مقالاً نورد هنا ما جاء فيه[6]:
 "كم هي فقيرة أحداث الهيكل الروائي لهذا الفيلم.. عائلة فقيرة على وشك الموت جوعاً. الأب ضاع في مكان ما في العالم بحثاً عن الرغيف. وبقي صبي صغير في عمر العاشرة صمم على مساعدة أمه. يعمل حمالاً في ميناء صغير.. هذا هو كل شيء. وهكذا هي بسيطة قصة الفيلم السوري اليارزلي من إخراج قيس الزبيدي. وهذا الفيلم مثل سورية في عدة مهرجانات في عام (1974) كان يفتقد فيها ممثلو السينما المتطورة في الشرق الأوسط مثل مصر وإيران.
 والآن ما الذي لفت الاهتمام في هذا الفيلم؟..
 قبل كل شيء يبدو لي أن اليارزلي (عنوان الفيلم هو في الأصل اسم رئيس عنبر في  الميناء، وهو أحد الشخوص الرئيسية للفيلم) يبدد رأياً راسخاً في النقد مفاده أن كل فيلم طموح من بلدان العالم الثالث يرتدي هيئة هي طبعة أخرى لمدرسة الواقعية الجديدة الإيطالية. والحق أن هذه الأسلوبية تدل عليها شواهد كثيرة نلمسها في أفلام السنوات الأخيرة وكان يبدو أنها تنسجم مع مساعي أولئك الفنانين في تحديد موقفهم من القضايا الرئيسية لمجتمعاتهم والتي هي مؤلمة في كثير من الأحيان.
 وهذا التأثير فُسر حتى بوجود روابط شخصية. مثلاً لوحظ أن صلاح أبو سيف أستاذ معهد السينما في القاهرة والذي تخرج على يده جيل كامل من المخرجين العرب قد كان مقيماً في روما في أوائل الخمسينات، الأمر الذي أثر بشكل واضح على أفلام مثل "القاهرة 30"، وبشكل غير مباشر على الجيل الشاب من السينمائيين. ومهما كان الأمر فمن الأكيد أن فيلم الزبيدي هو تجربة شيقة وجديدة في عالم السينما العربية.
 اليارزلي هو فيلم عن البؤس البشري الذي لا مثيل له. ليس البؤس الفلسفي أو الحياتي بل المادي. ولربما يتسرب الشك إلى نفوسنا بأن إكساء هذا البؤس برداء من الشاعرية قد يكون تردداً فنياً وفكرياً. ولكن الأمر الأكيد هو أن المخرج قام بربط جريء لنزعة التعرية، بشكل فني هو في جميع الأحوال ليس بيومي. والواقع أن قصة الفيلم هي بسيطة في الظاهر فحسب. والكثير هنا يحدث في الحلم. فحلم الصبي وما يهزه أكثر، يعثر على نقلاته وتبدلاته في منطقة الحلم. أما الأخت فهي فتاة جميلة وهذا مصدر عيشها. يطردها أبوها من البيت. وهذا المشهد الدرامي المحروم من الكلام يعود كذكرى وعنصر مكمل لتكوين الحلم لكنه يحدد حالة اليقظة لدى الأبطال. ولو كانت عقدة الفتاة (الساقطة) وغيرها من العقد الكثيرة، قد قدمت بأسلوب (واقعي) لكنا قد حصلنا على تصوير آخر للحقيقة المعروفة عن أن الفقر نقيض ترف الأخلاق. إلا أن المخرج يفترض أن المتفرج يعرف ذلك فحسب أن يعيش هذه الحقيقة.
 إن الزبيدي يصهر في وحدة، الحس الاجتماعي بشاعريته الخاصة، إن فيلم اليازرلي يملك هيكله السردي الخاص. ليس هنا مسعى إلى نهاية معينة والدراماتورغيا تتميز بالصفات الكلاسيكية لما يسمى بالعمل الفني المفتوح. حتى أنه من الصعب القول من هو البطل الرئيسي هل هو الصبي الذي وضع في المركز الرئيسي من القصة والذي تخرج منه موجات الارتداد. وهل هو رئيس العنبر، ذلك الرجل القاسي في المظهر والحساس في الجوهر. الصارم في حل الخلافات مع العمال والقادر على تقديم المساعدة عند الحاجة؟..

 إذن لا يمكن القول إن قيمة الفيلم تكمن في حالات الارتداد. فالفيلم كله حالة نكوص. لكن نعثر هنا على نوع من النظام والحزم والغائية الدراماتورغية، ربما لأن الزبيدي يعرف كيف يربط في صورة واحدة أمزجة متباينة بل وحتى أهدافاً متناقضة. مثلاً يظهر صائد سمك يحلم برؤية أثداء بضع فتيات. وليحقق حلمه يدفع الثمن على هيئة قطع بائسة من الصابون. إنه مشهد مؤثر لبؤس الذي يدفع واللواتي يستلمن الثمن.
 وهناك في الوقت نفسه خيط من الكوميديا في هذه الصورة. إن تزاوج الرهبة والكوميدي في شخصية اليازرلي والإذلال والإضحاك والقوة والعجز، إن هذا التناقض الداخلي الذي يسيطر على كل واحد وكل شيء هو طريقة في تنظيم المادة الدراماتورغية. إن الحلم أيضاً يصبح أسلوباً لنقض الواقع، ويؤكد على شذوذ حالة اليقظة. إن هذا الصبي البائس ذا الملامح الرقيقة يعامل كدحه في الميناء، بادئ الأمر، كتسلية، لكن بعدها حين يدفع تلك العربة المليئة بالأكياس من الرصيف إلى المخزن وحين تغوص قدماه في الرمل الملتهب، وتلك الشمس الفظيعة يغمى عليه. وفي إغماءاته يظهر أمامه صف المدرسة طاف على سطح ماء بارد. وهذا أمر تقليدي، فلتعميق الأثر يلجأ الزبيدي دائماً إلى نوع من التزاوج بين الحلم والواقع. وهذا المبدأ الثاني للقصة المشيدة هندسياً. لكن علينا أن نضيف بأنه ليس مبدأ استغل دائماً. والهدف من اللجوء إلى مثل هذه الوسيطة هو مختلف كل مرة.
 والطراز الثالث من التزاوج هو التقاء نوع من الطبيعة بالتأمل الشاعري. وهذان العنصران المتناقضات يلتحم أحدهما بالآخر. وهناك توجد الحاجة إلى النظام وإلى ضرورة تبرير استخدام الصور المكررة. وفي لحظات معينة يبدو أن المخرج نفسه يحلم. فهناك مثلاً تلك الحديقة التي غرست فيها الشموع.. إنها مجرد زينة وليس عناصر مشهد إخراجي. ولم ينقذ المخرج من الوقوع في المبالغة الجمالية سوى الفكاهة والمراقبة الحادة والميل إلى التهكم.
 البؤس والبطالة والبغاء والأمية والأطفال الكادحون والأم المعذبة والرجال القساة والفتاة بإغرائها – هذا كل شيء بل وأكثر. إلا أن ذلك حديقة زرعت بعناية وإدراك. وفي الفيلم لا توجد أسئلة ولا حالات تشخيص بل مجرد وصف مؤثر لمصير كائنات بشرية، لا يلجأ إلى الأساليب (القويمة) والإيضاح الذي لا حاجة إليه. ولربما بسبب ذلك هناك في تلك الصور صرخة ما مكتومة لكنها تخرج بوضوح.
 


* حالة النزوع إلى الجنس بصفة عامة ثم كل مشاعر وأحاسيس وتصورات الشبق التي تمكن من ممارسته أو التحدث عنه "يوسف الصديق، في المفاهيم والألفاظ في الفلسفة الحديث" الدار العربية للكتاب، تونس (1980).

[1] – قصة "على الأكياس" ضمن مجموعة "الأبنوسة البيضاء"، حنا مينة، دار الآداب، بيروت، 1976.  

[2] – وليد شميط: مجلة الأسبوع الأدبي، تاريخ 7/1974. بيروت.

[3] – سعيد مراد: مجلة الطريق، العدد الثامن، آب 1974، بيروت.

[4] – سعيد مراد: مقالات في السينما العربية، دار الفكر الجديد، بيروت، 1991.

[5] – سعيد مراد: أفلام وقضايا، دار الينابيع، بيروت، 1995.

[6] – ليسلاف باير: مجلة فيلم، عدد 44 بتاريخ 3/11/1974، وارسو. نشر في نشرة النادي السينمائي بدمشق، نشرة رقم 28 بتاريخ 4/10/1977.

متابعة: أغيد شيخو_ عالم نوح