مقالة واقعية عن الأشباح بقلم المهندس باسل قس نصر الله. لن نزيد أكثر

و بالتشارك مع موقع علم بلا حدود نقدم هذه المقالة الواقعية عن:
  الأشباح 

بقلم المهندس باسل قس نصر الله

سبق أن كتبت منذ أعوام حول المخالفات القائمة في مدينة حلب، واليوم يسوؤني أن أعيد الكتابة حول المخالفات التي تقوم والتي ستقوم في مدينة حلب، وكأن شيئا لم يتغير ، باستثناء السيارات الجديدة التي نقودها والحبر والورق الجديدين اللذين نستعملهما في كتابة قراراتنا، فكأن الحبر شفاف والورق شفاف من لون الهواء، لا رائحة ولا طعم له، وكل هذه الشفافية في اللون والملمس هي من مبدأ الشفافية لا غير.

ومن نفس مبدأ الشفافية، أتقدم بالشكر لكل جهود المسؤولين الذين قدموا، والذين نددوا والذين رأيتهم في التلفزيون يوبخون ويدرسون، يرعدون ويزبدون ، وكأنهم لم يكونوا في الأمس القريب مسؤولين في مدينة حلب ، ولكأن الكثير من المخالفات لم تتم خلال فترة وجودهم في موقع القرار، ووجود من جاء بعدهم أو قبلهم ، ولكأن ما حدث هو نتيجة وجود الأشباح – بكثرة – في مدينة حلب ، حيث يقوم هؤلاء الأشباح ببناء الأبنية المخالفة والبقع السكانية المخالفة ، التي أصبحت تؤوي أكثر من مليوني شخص ، هؤلاء الأشباح الذين لم يستطع كل مهندسي وموظفي القطاعات في مجلس المدينة ، أن يضبطوهم متلبسين . إضافة إلى وجود من سهل عملية استيراد طاقيات الإخفاء التي تلبسها المخالفة فلا نعود نراها (سبحان الله). حتى أصبح هؤلاء المهندسون والموظفون المساكين يرتعدون خوفا من ظهور تلك الأشباح في أحلامهم.
ما يحدث ، هو مقدمة لما صنعناه بأيدينا ، عندما غضضنا البصر قليلا (وليس حياء) وتساهلنا (وليس محبة) وقبضنا (لكنها ليست رواتبنا)، حتى أصبحت مدينة حلب محاطة بأبنية مخالفة، ليس من ناحية التنظيم العمراني، الذي ينادون به ليل نهار، ويناقشونه صباحا ومساء، لا بل إن هذه الأبنية مخالفة لأبسط قواعد البناء من حيث مواد البناء أم التسليح، وأصبحت هذه الأبنية تتجاوز الآلاف لا بل عشرات الآلاف، ومن لا يصدق فليذهب إلى حارة المغاسل ودوار القمر، ناهيك بكرم الدعدع وكرم الصباغ ودوار الجزماتي وحقل الرمي، ولن أتكلم عن مراكز المدينة وغيرها الكثير.
هذه الأبنية التي يتم بناؤها بالبلوك الأسمنتي سببها الاتفاق غير المقدس بين تجار الأبنية وبعض عناصر- وخجلا لا أقول- مهندسي مجالس المدن وكل ذلك من أجل أن يتم غض النظر – لمدة معينة – عن قمع المخالفات التي غالبا ما تصل إلى أبنية ذات خمسة طوابق فوق الطابق الأرضي. وقد نسأل بعد ذلك، لماذا لا يقوم التجار أو الناس الذين يقومون ببناء الدور البسيطة ذات الطابق الواحد بالتراخيص أصولا، والجواب بسيط عند مجالس المدن وصعب جدا عند الناس، فكل هذه المناطق التي ذكرتها سابقا هي إما أن تكون غير خاضعة للتنظيم العمراني ، أو أنها قيد الدراسة التفصيلية لجزء من المخطط العام أو غيرها من الجمل التي ملخصها أن هذه الأرض لا يسمح بالبناء عليها حاليا، أو أن المنطقة لا يسمح بالبناء عليها لأكثر من طابقين، ثم يتحفونك بأن الأمر لن يتأخر.
كنت قد ذكرت سابقا أنه بعد الحرب العالمية الثانية قامت معظم دول أوربا وخاصة ألمانيا بإعادة تخطيط وبناء مدن بكاملها، وأكرر إنها عملية تخطيط وبناء مدن بالكامل، وذلك في مدة زمنية لم تتجاوز السنوات القليلة التي نستطيع أن نعدها على أصابع اليد الواحدة، ونادرا ما تتجاوز ذلك أما نحن فيلزم جهابذتنا الكثير من الوقت لتخطط، والكثير من السنوات لتوافق على التخطيط . وعندما يريد جهابذتنا أن يقوموا بالتنفيذ تكون معطيات أسباب التخطيط قد تغيرت، وتصبح المنطقة التي وافق هؤلاء الجهابذة على منحها نظاما تخطيطيا لطابقين فقط، مبنية بالكامل دون ترخيص ودون مراقبة وبارتفاع خمسة طوابق ، ونضع الحق في كل ذلك على الأشباح.
تشكل لدينا ما يسميه مخططو المدن بأحزمة الفقر أو الصفيح، وهي مناطق لا تراعى فيها أبسط القواعد الإنشائية والتخطيط العمراني، وعندما يريد مخططو المدن دراسة توسع المدينة يصطدمون بحالات كثيرة من هذه التجاوزات والمخالفات الهندسية التي أخذت الطابع الاجتماعي ، فعدم وجود المرافق الصحية والمدارس والمشافي وغيرها من الخدمات، وعندها لا نستطيع دراسة التوسع العمراني لعلة وجود الواقع المخالف للدراسة النظرية ، وهذا الواقع يأخذ بعدا اجتماعيا ينضوي خلاله الكثير من القاطنين لهذه الدور في أدنى مراحل الكرامة الإنسانية. أما عملية التكلفة الفعلية لمعالجة هذا الخطأ فهو يتجاوز عشرات المليارات من الليرات التي نحن بأشد الحاجة لأن نصرفها في التنمية ، وليس في إصلاح الخلل ونتيجة ذلك نجد أن عدم مواكبة التخطيط العمراني لحاجة السكان الفعلية يؤدي بنا إلى مناطق سكنية مخالفة أفقيا وشاقوليا، وتمنع التوسع العمراني الصحيح، وتؤدي بنا – وهو الأخطر – إلى حوادث وكوارث محزنة كان من الممكن تلافيها لو كنا نتابع منذ سنوات طويلة ، الحاجة الفعلية للتطور السكاني .
بعد كل هذا لا يجب أن نتنصل ونحاول أن نجد من نحمله أخطاءنا، كلنا أخطأنا، بدءا من راكبي السيارات السوداء إلى من استخدم ساقيه للتنقل وكلنا يجب توبيخه ومحاسبته، من ترك المسؤولية ومن لا يزال قائما يعيش في رغدها، من قدم إلى حلب ومن رحل عنها، لكن الأهم من ذلك أن علينا كلنا أن نجد الآلية لمواكبة التطور السكاني للمدينة والحد من تطور أحزمة الفقر والمخالفات، قبل أن تبتلعنا هذه الأحزمة، فعند ذلك لن يفيد ذلك البكاء ولا صرير الأسنان .
اللهم اشهد أني بلغت