الأمسية القصصية الموسيقية التي قدمها شادي نصير وحباب الخير والشباب الموسيقيين في ميوزيكافيه اللاذقية في 19/2/2010

يعود ويقدم لنا الكاتب الحُباب الخيّر نصه " جوليا "  بعد أن قدم لنا مسودته منذ اسبوعين تقريبا وهو في هذه الأمسية باسم  يهوذا، ثم نقدم نصوص شادي نصير، آملين التواصل معهم ولكم تحيات عالم نوح.

 

الحُباب الخيّر

يهوذا

أنا أكره المطر.. كلمة قالها بثقة عندما رأى المطر يتساقط بغزارة عبر نافذة المقهى..

ربما تذكُّره لملابسه المنشورة على حبل الغسيل كان أحد الأسباب الرئيسية لاتخاذه هذا القرار..

***

استجمع شتات نفسه. حزم أغراضه.. ومشى نحو منزله..

ترى هل كانت حبات المطر متواطئة معه لإخفاء دموعه عن المارَّة.. أم كانت دموعه تنهمر لأنها ستكون آخر مرّة تتعانق عيناه بمرأى المطر..

وحده إسفلت الطريق كان يسمع ما يجول في نفسه من أفكار ترسم مخطط رحيله..

***
الشيء الوحيد الذي لم يعرفه أحد.. هو لماذا اشترى يومها ثلاث علب سجائر..

وحده متشرِّد ألقى بنفسه على قارعة الطريق كان من رأى العلامة التي تشكلت على جبهته.. واستطاع شمَّ رائحة الموت المنبعثة من القطع النقدية التي تركها له..

ووحده الذي اقتحم منزله عنوة.. هو الذي رأى وروداً تطفو في الهواء وشقائق النعمان نبتت على البلاط..

الشيء الوحيد الذي لم يره أحدهم.. كان دموع الملابس المنشورة على حبل الغسيل.. والتي لن تلامس جسده بعد اليوم.. 

***

أما الذي رآه الجميع كان ورقة خطها قبل رحيله.. أدركوا من خلالها..
أن يهوذا القرن العشرين.. سمح لأفكاره أن تتناثر على ورق بخلاف سلفه الذي لم تسنح له هذه الفرصة..

ربما طرحي للكلمات التي خطها قبل رحيله.. هدفها الوحيد أن تدركوا..لماذا فعل يهوذا فعلته.. 

***

جوليا

تناثر صوتها من سماعة الهاتف.. كتناثر شقائق النعمان في حقل أخضر..

– آلو..

– أعشقك.. لم تدرك يومها أن ردّي أتى متأخراً سببه إبحاري في سيمفونية العندليب.

ضحكة خفيفة أتت عبر سماعة الهاتف..

– أعشقك.. كررتها مرة ثانية..

– أنت بالبيت.. أتى صوتها متثاقلاً كزحف الغروب..

– إن لم أكن.. سأكون… بمناغاة طفل أجبتها

– بعد نصف ساعة..

– أعشق انتظاركِ..

– وأعشق ملقاكَ..

صوت إغلاق السماعة أتى.. ومعه أتت أشياء كثيرة.. يبدو أن الذي اخترع الهاتف لم يدرك.. أن الرائحة تنتقل عبره..

وقفة موسيقى

الذي انتظر جوليا مرّة أدرك أنها ليست بحاجة لقرع الجرس كي يفتح الباب..

الذي التقى جوليا مرّة.. أدرك أنه من الممكن أن تحدث هزة أرضية لا يشعر بها سواه..

والذي لمس جوليا يوماً.. أدرك أن للموت نكهة الشوكولا..

وقفة موسيقى

جوليا تعشق صوت البيانو.. جوليا تشرب المتَّة.. جوليا تكره التفاح.. جوليا أدركت وهي نائمة على صدري أن الجميع قد تحولوا إلى وحوش.. جوليا تعشقني…وتهوى تيماء

تغيُّر طعم الهواء جعلني أدرك أن جوليا أصبحت خلف الباب.. آلاف الكريات الحمراء قضت نحبها إثر هزة أرضية سببها جوليا..

أعددت لها كأس المتَّة.. وضعت لها السمَّ في الإبريق..

ولأوّل مرّة مذ عرفتها أعددت كأساً من الشاي لي..

لن يدرك أحدكم كم كان موتها جميلاً..

لن يدرك أحدكم أن شقائق النعمان قد غيّرت اسمها..
إلى شقائق جوليا..

لن يدرك أحدكم كم من الأرواح قد أنقذت بفعلتي هذه..

ولكن الشيء الوحيد الذي سيدركه كل من رأى جوليا ..

أنها لن تتكرر على هذه الأرض…

شادي نصير و نصوصه:

شارع الموت ترتفع الكاميرا من أسفل الجرف الصخري بسرعة تشق جدار الصمت المسيطر على الصالة مبهمة المعالم، تفتح الأنوار لتعمي العيون وتظهر على الشاشة كلمة "The end" إنها نهاية الفيلم ويبدو أنه مصراً على التمسك بحبال الغريزة، نهضت بتثاقل، رمقته بنظرة اعتدت استعمالها في حالات مشابهة واتجهت خارجاً.
يضيع الوقت، ينهار والكتل الثلجية الضخمة غطت ما تبقى من الشمس المتلاشية فوق طبقة المياه الراكدة حيث لا زالت ترنم ترنيمة الموت في الصباحات الرمادية الكالحة أثناء تنسيقها لجدائل عشقها المدلاة كالعناقيد من الأسطح اللازوردية للحياة، أذكر بوضوح عدد الخطوات التي كانت تفصله عن فراشي، ورائحته النتنة والتي لاتزال تعلق بجوانب جسدي.
أصبحت في الحياة عمارة يعقوبيان، لم أعد جزأ من الحياة الطبيعية فالكل يرى في جسدي قطعة لحم تشبع شبقه الكوري وارى في عبد ربه مسكيناً ذليلاً أهين باغتصابه الطوعي ويبدو أنني أسير في طريقه الشائك.
كان رفيق دربي في الطفولة، مبعث فرحي، يكبرني بأقل من عشر سنوات مراراً ركضت حافياً لأتعلق بحبال شعر صدره المكشوف بتأنق لأضمه بقوة وأستمد منه الدفء والحنان اللذين يغذيان شعوري بحلاوة العيش.
تدور الساعة بسرعة وارقامها لا تزال ترتجف عندما تطأ ذلك الوقت ويومياً صراخها لا يزال يعلن الكره لم اقترفه
ـ لم هو يا إلهي؟
ـ لماذا فعل ذلك بي؟
سعيت لأوقات كثيرة ولدقائق حذفت من نبض التكوين أن أعيد النصاب إلى وضعه الطبيعي، أن أجعل العقارب تعاود رقصاتها المعتادة أمام كل دقيقة جديدة لكنه اقتراب الموت.
تلك الغريزة الحيوانية أحالته إلى ثور متوحش شرس وقتها وعندما غطى القمر وجهه بعباءة سوداء نزع عن جسدي ما علق به، رماه جانباً والتصق بالتحام شديد.
قبلها كان الليل ليلاً والشمس شمساً والعم عماً يدفئ صدر من يحبون عطفه بقوةٍ والقمر مكاناً يتفىء بظل نوره عشاق الحب العذري.
انهارت أحلامي وخوف وذعر لف قلبي وأحاله كتلة حمراء تنبض بوتيرة الاختلاج مبقية الجسد البالي يتحرك برتابة رسمتها الأقدار وأصبحت للوهلة الأولى شريط مصور فاشل اتكل على جرأة العدسة البلورية فخذلته وأعطته شريطاً اسود محروق أتلفه الضوء المبهر للفاجعة صباحاتي أصبحت مقرونة بتلك الدقائق المهزومة في السرير الكاذب الذي أولد رسم الموت وغذاه بحليب الخطيئة الفاسد.
ومع كل تعانق وتجاذب رضخت لوت الرغبة النجسة التي زرعت بذورها بداخلي وغذتها نقود خضراء لماعة حرقت ما تبقى من أفكار في مكتبة عقلي وقبلت كل شيء يأتي من طرفه ولو كان الثمن كل شيء.
لأول مرة اعرف الأمور بمسمياتها وبأن المال هو المال النفاذ إلى العقول والقلوب وعرفت الذكورة الطليقة في الشوارع وأزقة الحواري والتي تجلب ما لا يشبع عين إبليس المزروعة في جمجمة كل واحد منا…
شهوته باغتصابي شيء ما يزال يثقل روحي ويهدد أساسات بنائي الذي مكنني لأعوام طويلة من الذل أن أحيا متناسياً وأحالني إلى شيء يشبه القبر الفارغ من ساكنه.
الآن أعرف السبيل إلى إيقاف النهر الهادر في شرايين جسدي والذي مع كل إطلالة ضياء جديدة يزيد حرقتي ومهانتي…
فتحت باب غرفة نومه، لا يزال عارٍ كما تركته البارحة بعد جولتنا في أزقة المدافن المتكلسة، أغلقت الباب واتجهت إلى حائط يضاجع نافذته الوحيدة كل الأوقات نزعت صورة معلقة عليه ملأ الصدأ حروفها النحاسية، ابتسمت لوالدي المتوفيان وعمي الراعي الأنيق والذي يضمهما بقوة، وتركت لحبات صغيرة من اللؤلؤ المكنوز من أعوام الخير في محاجر مقلتي التدحرج بغزارة فوقها لتمحو ما علق بعيون شخوصها من ألم لم اقترف أمامهم وضعتها جانباً واتجهت خارج حدود المكان محلقاً في أرجاء الشارع الطويل المؤدي إلى مقبرة الحياة.

خيوط من عسل
غرفة الانتظار في العيادة تمتلئ عن بكرة أبيها، الوجوه مكتئبة، شاحبة ونحيفة وكأن مجاعات العالم جمعت هنا.
أراقب العيون بكل تفاصيلها وألوانها، زرقاء، خضراء، شهلاء، بنية اللون أو رمادية، وألمح انكسارات أمهاتٍ وآباءٍ، حالهم مثل حالي، بل لبعضهم حالاتٍ أكبرَ وأقسى ولبعضهم أقل من حالتي، ولكنهم ببساطة تناسوا الفرحة التي جمعتهم في لحظة صفاء لتأسيس طفل ينبض حياة.
وكان الطفل كما كان…
لا فرق بينه وبين الآخرين، فلكل واحدٍ منهم حياته، نشاطه وأحلامه وضحكه وشكله الذي اختاره الله، ولن أقبل بغير هذا الشكل مهما كان فهو الذي يملأ حياتي بألوان الفرح.
أذكر بكثير من الوضوح صورة الطبيب وهو يقترب مني، يربت على كتفي محاولاً التخفيف من آلامي.
أعترف بأنني صدمتُ وأحسستُ بأنَّ الحياة صبت جام غضبها فوق رأسي، ومع ذلك طلبت أن يعطيني الطفل، وقتها أحسست بصفحة السماء شقت وسرت قشعريرة في جسدي ففرحي به أكبر من أي شيء أخر، نظرت إلى الطبيب وأنا أشعر بالخزي من نفسي محذرة إياه أن يقول صفة "منغولي" في تقريره الطبي، فهو بالنسبة لي أكملُ ما خُلِقَ على هذا الكوكبْ، وضعته على صدري وتركته يستلذ بغذائه، وكم كبر الأمَلُ وقتها في عيني.
يفيقني من أحلام يقظتي صوته الجهوري، أتلقف عيون الجميع كسهامٍ بنصال حديدية، ابتسمُ، أرفعه إليَّ أضمهُ إلى صدري وأهدهد له وصوتي يترنم بأغنية يعشقها ليغفو في غفلة من الزمن.
أراقبه وهو يضع رأسه المتراخي على صدري ويسيل لعابه كخيوط من عسل وكشلال ماءٍ حريريٍ اللون والملمس، أمسحه بيدي وألعق ما علق بها بنهم كبير فهو غذاء الروح بالنسبة لي.
لايهمني ما يراه الآخرين، الكلُ يتناسى بأن للحياة صفحات، ودولاب يدور في عجلة وغفلة عنا ولا ندري متى يتوقف أو يغير مسار سيره المعهود.
أحس بارتخاء جسده المتصلب، وبسريان الدفء في أوصاله، انظر إليه، تتلاقى نظراُتنا يضحك بصوتٍ عالٍ يمسك بيدي ويلعقها بشغفٍ، أشاطره فرحه، أقبله، أنزله عن حضني، وأمسك يدهُ، ونسير خارجين من غرفة الانتظار، نهبط الدرج ونسير في الشارع، تتسارع خطانا، نبدأ بالركض نركض ونركض غير عابئين بما يجول حولنا، وغير مصغيين لهمس وتدليل الآخرين، أحس بنفسي لأول مرةٍ، شفافة وبغير طلاءٍ يخفي تفاصيلي الدقيقة.

توت توت وطار الحمام تلك الساعة جافلاً من صوت قطار المسافات الطويلة، أصبح رماد نار الفجيعة ونثر مع دخان قطار كانون الأول الداكن بعيداً إلى خلف الجبال البعيدة.
بالنسبة لي لم ينتهي أي شيء، أصبحت في حالة غليان، فالساعات القليلة التي مرت جزء يسير من متوالية الأيام التي سأنتظر فيها طويلاً وعقرب الدقائق يصر على لسعي بحركته الرتيبة في كل جزء متناهي الصغر من الوقت.
مضى على دخوله غرفة العمليات نصف ساعة، وزمني أصبح قريباً جداً من الوقوف التاريخي للساعات التقليدية في المدن العريقة، من بعيد يفتح باب عريض على مصراعيه ويخرج الطبيب ببطء أقترب بلهفة مسرعاً.
لم يخيل لنفسي بأنها ستنسج بإبر الألم وأنوال مهترئة الأوصال.
أعلم بأن حالته سيئة وبأن زرع الكلية لا يسير بحالة حسنة ولثوان قليلة تمنيت الخروج من جدران البناء وأن أطير وأطير مع السحب إلى مكان يضاء بلون الشمس الذهبي، انتبه لتفكيري، أقمعه بقوة…
أحتسي الألم ككأس عرق أبيض والأحجار اللؤلؤية ضمنها تذكرني بالصقيع الذي اجتاحني فجأة، أستمع لنصائح الأطباء وأدخل البوفيه، غرفة تشبه كل شيء إلا غرفة في مستشفى، علب سجائر فاخرة، علب تنك، وزجاج لمشروبات غازية و أطعمة بروائح ذوات نفوذ قوي على الأنوف وكأنها المديات، أقاوم الخوف الذي اجتاحني فجأة أغمض عيني وأسترجع صورة العذراء أقبلها وأدعوها أن تستره في هذه الساعات التي يعيشها بين الموت والحياة.
أنظر إليه بطرف ذاكرتي وابتسم أرمش له وأتذكر طفولة حالمة وورود تسيج أغلفة أيامنا وحبل غسيل يمطر ملاقط كونت منازلاً وحارات وهمية وطيوراً وسيارات وقطارات، يومها صوت قطاراتنا التي نسجناها بمخيلة بريئة كانت تصم آذان من في الحارة
أتذكر ذلك المشهد جلياً قطار لي وقطار له بعربات من ملاقط بلون الخشب وركاب بلون أحمر لي وأزرق له قالها بسعادة فالنتسابق ونموت باصطدام كبير هيا… هيا…
أصرخ
ـ نتسابق… نتسابق
نعود إلى اللعب بضجة صبيانية, نقترب من بعضنا ونبتعد وكأننا نهرب من قدر النهاية، نصطدم تارة نقع أرضاً ونغني توت توت ويعلوا الضحك ويرتفع توت… توت.. توت قطر زغنتوت
ألملم أوراقاً عمرها أعوام من بعثرة قسرية، أضمها ثانية واعداً إياها بأنها ستبقى كشذى أرزة في جبالنا العالية.
أعود إلى الممر الطويل أحضن والدة صديقي بكثير من الحب تغمرني وتغرق عينيها في بحر مليء بخوف عظيم وتنكتم الغصة في حلقي، ابتعد وأقف في زاوية معتمة انتظر ما تبقى من فصول.
الوقت رتيب وصوت النداء في المستشفى يوتر الأعصاب، ألمح طبيباً آخر مطأطأ الرأس يهب الجميع مسرعين أقف في الزاوية متلكئاً لا أتحرك أرى الكل في مشهد طقسي حزين، أحد يركع على الأرض وآخر يستند على جدار بحاجة لمن يسنده وصراخ يعلو
لا أميز الحدث….
أرى العجوز تتجه نحو النافذة، تغمض عينيها ترفع يديها عالياً، تسجد أرضاً ويتناهى إلى مسمعي صوت ارتطام قطارا ملاقط الغسيل ويتبدد صوت توت توت.