الباص العجيب لأغيد شيخو
- ديسمبر 11, 2011
- 0
تمنيت ولو لمرّة واحدة عندما أصعد إلى الباص أن أجد مكاناً أجلس فيه وأرتاح من عناء يوم قضيته مشياً على الأقدام لأجل العمل أو لغرض المشي فقط، وفي حال وجدت مكاناً لأجلس فإني أمسك قلبي لكي لا تأتي فتاة فأضطر إلى إعطائها مكاني
الباص العجيب…
لعل عنوان المقالة يشي إلى حد ما بمضمونها الذي بات مشكلة لدى الكثيرين ومنهم…..أنا، فمن منا لم يصعد إلى باص للنقل الداخلي ومن منا لم يُرتطم به على نحو ٍ قد يكون بعضها مقصوداً والآخر غير مقصود بحكم الزحمة المتواجدة في الباص وعدم القدرة على طلب سيارة الأجرة كل يوم من المنزل إلى مكان العمل أو إلى الجامعة وبالعكس.
تمنيت ولو لمرّة واحدة عندما أصعد إلى الباص أن أجد مكاناً أجلس فيه وأرتاح من عناء يوم قضيته مشياً على الأقدام لأجل العمل أو لغرض المشي فقط، وفي حال وجدت مكاناً لأجلس فإني أمسك قلبي لكي لا تأتي فتاة فأضطر إلى إعطائها مكاني، لأن اللافتة الموجدة أمام الواجهة الرئيسية للباص تقول"أفضلية الجلوس للنساء وكبار السن"، ولو قلنا بالحق أن أفضلية الجلوس لهؤلاء فأين نحن من كل هذا، هل هذا يعني إن كنّا شباباً أن نقضي طول الليل والنهار على أقدامنا!؟.
لم أعتد يوماً أن أكون متعباً في الباص أو بالأحرى أن أظهر بأنني متعب، فما إن تتكئ على زاوية النافذة وتضع رأسك جانباً وأنت في سكرة التعب حتّى تنهال عليك نظرات الازدراء والاستنكار التي تطالب بخفّة ورشاقة أن تبقى صاحياً نشطاً دائماً، والتي قد تتساءل في كثير من الأحيان حول ما أتعب هذا الشاب، فتضطر إلى الجلوس على وجعك والنهوض لتبقى صاحياً فتكون بذلك عند حسن ظن الناس بك أو عند حسن ظن من لا تعرفه بك، ولعل الأمر الأطرف في موضوع الباص هو موعد انصراف طلاب المدارس، يا إلهي كم أكره هذا الوقت، فأضطر إلى تحمّل ضربات الحقائب الثقيلة التي يجرّها ولد قد لا يتجاوز العاشرة من عمره، فما الذي يحملونه في هذه الحقائب، وهل هم مضطرون لحملها في كل يوم يذهبون فيها إلى المدرسة، حتى أنك هنا لا تستطيع أن تتفوّه بحرف واحد لأنّ الذي تتعامل معه هو أصغر منك بكثير ولا يجوز الحديث معه خارج الحدود فذلك إنقاص لمكانتك ودخول في "صراع أطفال"، صراحةً وددت كثيراً لو امسك بأحد هؤلاء الأطفال وأسأله عن المنهاج الذي يأخذه طوال اليوم وعن الأساتذة المتفهمين لعمرهم والذين يجبرونهم على حمل كل هذه الكتب والدفاتر يومياً والتي قد تلزم وقد لا تلزم، ولكن يبقى الأمر بأنه بقي لدي خمسة دقائق فقط لأصل إلى الموقف الذي سأنزل فيه لذلك لا داعي للخوض في معمعات وجدالات منذ الصباح الباكر.
في آخر مرّة صعدت فيها للباص كان الناس يجلسون فوق بعضهم البعض كالعادة وبالصدفة كان ذلك هو اليوم الوحيد الذي اعتنيت بحذائي فيه، وكأن الجماهير كافة عرفت بهذا الموضوع فأخذ الشاطر منهم يدوس على القدم التي تقابله وبعدها تمطر علي كلمات الاعتذار والأسف وأنا أنهال عليهم بالابتسامات وقول "عادي ولا يهمك"، فكانت أطول فترة أقضيها في الباص طوال مسيرتي الصباحية من المنزل إلى العمل، ضقت ذرعاً بذلك ولكن أيضاً ما باليد حيلة لأنه بقي نصف ساعة وأصل إلى مكان عملي، في الوقت نفسه قررت خوض التجربة لأرى التعامل الذي من الممكن أن يتعامله معي أحد الذين سأدوس على قدمهم، بالفعل خضت التجربة والتي أشعرتني بلذّة جميلة لم أشعر بها قط، فأخير يمكن الانتقام من أشخاص يسببوني لي "النرفزة" دون أية مشاكل وتكون ردّة الفعل ابتسامة وقول "عادي ولا يهمك" ما أجمل التسامح بين الناس وما أجمل الابتسامات التي قد تظهر وقتها على الرغم من أنها قد لا تظهر أبداً طوال النهار مع الأشخاص أنفسهم ولكن سبحان الله فالباص يجبرك على الابتسام طوال الوقت، فهذه سيّدة تريد أن تجلس مكانك فتبتسم لها وتعطيها الكرسي، وهذا داس على قدمك فتبتسم له كإشعار للمصالحة والود، وذلك طالب بريء لا ذنب له في أذيتك سوى أنّ الأستاذ طلب منه جلب مكتبته المنزلية في حقيبته فتبتسم أيضاً وكأنك تقول "معليش المهم عم تدرس"، أغرتني هذه الفكرة كثيراً وأصبحت أحب باص النقل الداخلي منذ ذلك الوقت لأتمتع بالابتسامات فأوزعها بمحبة وأتلقاها بمحبّة أكثر دون أن يعرف أحدنا الآخر سوى أننا أصبحنا "زملاء الطريق" في الباص، وحتى إن أردت الضحك أيضاً فليس لديك سوى الباص الذي أصبح بالفعل "الباص العجيب" أو باص السعادة، فأثناء الركام البشري الذي شهده الباص قررت الجلوس في مكاني وكأنني لست هناك لألا أعطي لأحد الكرسي الذي بالكاد أعرف ملمسه ولأستمتع بحقي بالتذكرة التي قطعتها "للجلوس" ولكن يبدو أنّ السائق قد واجه حفرة لم يحسب لها حساباً رغم أنه يمرّ في الطريق نفسه لأكثر من عشرة مرّات يومياً ولكن رغم ذلك يبدو أنه لم يحفظ الطريق عن ظهر قلب بعد، فاندفع باتجاهي شابٌ يحمل فكاهة بادية عليه و…..داس على قدمي…..فارتسمت الابتسامة "التي أصبحت تلقائية" على وجهي وقلت له "عادي تفضل ولا يمهك" فردّ علي بسرعة البرق: "أتسمح لي بالقدم الأخرى أيضاً!!؟"…وخرج من الباب الآخر ليتركني في موجة من الضحك…..والدهشة.
وأرى أنه لا بدّ لنا من معرفة قيمة هذا الباص العجيب الذي يعطيك سعادة فائقة بثماني ليرات فقط ولمدّة قد تتجاوز الساعة الواحدة، وأأسف كثيراً للذين يملكون سيارات خصوصية ولم يخوضوا تجربة "الباص العجيب" الرائعة بعد.
أغيد شيخو_ عالم نوح