البطل جورج أستور
- أغسطس 16, 2010
- 0
بساق واحدة يتحدّى السبّاحين الأصحّاء.. الإرادة تتغلّب على الإعاقة … لقاء مع البطل جورج أستور و الدكتور جمال طحان. بطل حرب وبطل سباحة وبطل تحدي مصاعب الحياة…. وهو سوري فهل من جائزة باسمه تكرم أبطال التحدي من كل الفئات … نوح
بساق واحدة يتحدّى السبّاحين الأصحّاء..
الإرادة تتغلّب على الإعاقة
بقلم الدكتور جمال طحان
في حديث مع الدكتور "ميخائيل أسعد" وهو طبيب عظمية مهتم بالتراث والأثار، لفت انتباهنا
ذكره سبّاحاً وصفه بأنه أفضل مدرّب سباحة في "حلب" ولايملك سوى رجل واحدة . أثارنا هذا
الحديث فتوجّهنا إلى مسبح"سيروبيان" للقاء "جورج أستور" الذي يبلغ من العمر/ 53 /عاماً
، وقد تلقى إصابة في قدمه اليسرى أثناء تأديته خدمة العلم عام /1978/م في" لبنان "، مما
اضطره إلى بترالساق حتى الركبة. في المسبح التقينا "جورج" في مكان عمله حيث يعمل منقذاً
ومدرّباً للسباحة، وسألناه عن إصابته فقال: « كان معي عتاد حربي كامل، وعلى الرغم من
هذا كله إلا أنني طرت إلى مسافة لا بأس بها في الجو حين ارتطمت القذيفة بي وقتها شعرت
بالشظايا التي سقطت على قدمي تماماً ، كنا اثنين في هذه المنطقة لكن زميلي استشهد فوراً
على الرغم من أنه يبعد عني بمسافة مترين لا أكثر ، هكذا أراد القدر . حين سقطت أجزاء من
القذيفة على قدمي كنت قد وضعت مسبقاً في جيبي (جزداني) وفي داخله مبلغ /700/ ليرة سورية
مؤلفة من سبع ورقات مطوية مشكلة أربع عشرة صفحة صغيرة ، بالإضافة إلى ذلك يوجد فيه
بطاقة شخصية معدنية ، وقد تعرضت أثناء ذلك لسقوط قذيفة ارتطمت بالحائط وعادت إلى جسدي
باتجاه قدمي لتخترق الجزدان والأوراق النقدية وتقف عند البطاقة المعدنية وينتهي مفعولها
فكان للقدر وقفته معي من جديد . هدأت الأمور قليلاً وأنا لا أستطيع الحراك وحاولت
الاتصال بكتيبتي بواسطة الأجهزة التي أحملها فطالبوني بالزحف نحوالأمام لعدم تمكنهم من
الوصول إلي ، حاولت ذلك فعلاً إلا أنني لم أتمكن من ذلك حيث كانت الشطية معلقة برجلي
المبتورة تماماً وبقيت أجزاء بسيطة من اللحم معلقة بها ولم أستطع الحراك لا ميمنة ولا
ميسرة والمشهد يرثى له فعلاً . فالمكان مغطى تماماً بالدم ، والغبار يملأ كل مكان
وأصوات القذائف من كل حدب وصوب لم أستطع الحراك إطلاقاً ، فاضطررت لأن استسلم لقدري إما
الموت أو وصول المساعدة» . لقد كان حديثه مؤثراً فعلاً وهو يصف لنا تفاصيل إصابته ،
فسألناه عن شعوره آنذاك ،فقال:« كلما تأخر الوقت كنت أشعر باليأس وبدأت أفكر بالموت
والنهاية القريبة صراحة ، وبدأت أراجع شريط الذكريات لأن أودع من حولي ومن كان معي فأنا
متجه نحو الاستسلام للموت ، وتذكرت أصدقائي وأقربائي ، جيراني ، أخوتي ، حتى وصلت عند
أمي … توقف الشريط فجأة لم أستطع أن أكمل ، فكنت أحتاج إلى شخص ما ليوصل وصيتي لأمي
والتي تقول " ألا ترتدي أمي اللباس الأسود حزناً علي لأكثر من أربعين يوماً " لأني لا
أريد لأمي أن تتعذب أكثر من ذلك لأجلي». وماذا حدث بعد ذلك ؟ أجاب: « بعد لحظات ليست
بالقليلة سمعت صوتاً من بعيد ، نعم وصلت المساعدة فجر ذلك اليوم وسمعت صوت رجلين لم
أستطع رؤيتهما بشكل واضح فالظلام دامس والغبار يعج في كل مكان ، وعلى الرغم من أني أملك
صوتاً أجشاً وعالياً إلا أنني استنفدته خلال صراخي من شدة ألمي ، فعندما سمعت أصواتهم
قادمين نحوي بدأت أئن " أه أه " بكل قواي ولم أكن قادراً على فعل أكثر من ذلك . وعندما
اقترب الرجلان استطعت أن أدلهما على مكاني بقولي:" هنا هنا " ، فولدت لحظة أمل من جديد
بالحياة ، من خلال سماعي لصوت البشر من جديد ، وأخذاني إلى مكان آخر نحو المخزن الذي
يتجمع به أصدقائي ، وكانت الرحلة شاقة حيث حملني الاثنان ولسوء الحظ أنني وقعت أربع
مرات فوق أشلاء قدمي الممزقة التي لم أعد أشعر بها ونزيف الدم يطاردني في كل مكان وأنا
أحمل قدمي المبتورة والمعلقة بي أينما ذهبت. وصلنا إلى مكان أصدقائي وكنا نحو / 50/
مقاتلاً لم يصب أحدهم إلا أنا وحدي الذي كنت مسطحاً على ظهري أئن ، وقاموا بتضميد الجرح
من جديد إلا أن قذيفة ثالثة منعتهم من المتابعة ، احترق المخزن على إثرها بما فيه فتمكن
الجميع من الفرار إلا أنا بقيت لوحدي لا حول لي ولا قوة والنار تأكل كل شيء من حولي ،
وعدت إلى الموت من جديد ولكن بطريقة مختلفة وأشد صعوبة من سابقتها ، إلى أن استطاع أحد
رفاقي من مساعدتي بأعجوبة وتخلصت من النار فعلاً وحملوني على ظهر سيارة عكسرية سارت بي
بسرعة كبيرة وكلما انعطفت نحو اليسار سقطت قدمي نحو اليمين وكلما انعطفت نحو اليمين
وقعت قدمي نحو اليساروخلال ذلك نجونا من قذيفة رابعة أخطأتنا وارتطمت بالجبل على جانب
الطريق.ومررنا بسلام إلى أن وصلنا إلى نقطة طبية صغيرة تمت خلالها مساعدتي مبدئياً
واسترحنا فيها إلى أن تم نقلي أخيراً باتجاه دمشق عن طريق "شتورة"
وصلت إلى المشفى في "دمشق " وبالتحديد إلى" مشفى المزة العسكري" وأنا أشعر بدوخة شديدة
جداً لشدة نزف الدم ولم أكن قادراً على التواصل مع من حولي حتى أن والدي الذي جاء إلي
لزيارتي في المشفى لم يستطع التعرف إليّ وأنا على هذه الحالة فحاول كثيراً أن يكلمني
ليعرف مصير ابنه " جورج " الذي هو أنا ويقول لي : « أرجوك دلني على ابني جورج وأقسم أني
سأعود إليك لمساعدتك » . وأنا وقتها لم أستطع التفوه بأي كلمة لأقول له أنا "جورج" أو
حتى ألمس يده ليعرفني، لكنني كنت أسمع ما يقوله جيداً .أدخلت إلى غرفة العمليات وحاول
الأطباء كثيراً أن يعيدوا لي قدمي إلا أن ذلك كان مستحيلاً. كنت احتاج في هذه المرحلة
شخصاً حنوناً هو أمي لتقف إلى جانبي لكنني لا أريد أن أعذب أمي فلن تستطيع تقديم أي شيء
لي وسوف تتألم كثيراً لو أنها رأتني على هذه الحالة وبقيت أكابر على نفسي وأقوى من هذه
الظروف».
من صائغ إلى منقذ
بعد هذه الحكاية المؤلمة حاولنا تغيير الحديث فسألناه عمّا كان عمله قبل خدمة العلم،
فقال:« كنت أعمل في الصياغة " صياغة الذهب " قبل خدمة العلم، وبعد إصابتي قررت أن أخضع
لدورة إنقاذ في السباحة من أناس أسوياء ونلت الدرجة الأولى ، ومن ذلك الوقت أنا أعمل
منقذاً وصار لي تقريباً / 30/ عاماً في هذا المجال ، وأنا أول رجل في سورية يعمل
منقذاً برجل واحدة. تفرغت تماماً للعمل في هذا الميدان وهو عمل موسمي أي أنه فقط في
فصل الصيف ، وفي الشتاء أعمل على تدريس أولادي وتعليمهم ومساعدة زوجتي في أمور المنزل
لأنها هي الأخرى تعمل موظفة». وسألناه عن مستولا تعليمه فقال: « ذهبت إلى" موسكو" في"
روسيا " في فترة للعلاج استمرت / 11/ شهراً أتعالج في النهار وأدرس اللغة الروسية
ليلاً حتى أتقنتها بشكل كبير جداً وعندما عدت في عام /1987/ كانت سورية تستضيف دورة
ألعاب البحر الأبيض المتوسط , وكان مدرب السباحين السوريين آنذاك روسي الجنسية فكنت
أعمل مترجماً للمنتخب السوري عندما يغيب المترجم وأحفظ ما يقوله المدرب الروسي من
تكتيكات وأساليب في السباحة ، وبدأت في تطبيقها على أصولها كما كنت أسمعها» .
الدراجة العادية( بسكليت)
أول دخولنا إلى المسبح فوجئنا به يركب الدراجة العادية ويدور بها بركة السباحة فسألناه
: ماقصة الدراجة ؟، فقال:« أنا من عشاق ركوب الدراجة الهوائية لدرجة كبيرة قبل إصابتي ،
وبعد خروجي من المشفى قمت بتجربتي الأولى بمساعدة أصدقائي وكنت أعرف تماماً مدى خطورة
هذا الإقدام على هذه التجربة فأي خطأ لا سمح الله يخرب كل شيء علي وعلى عائلتي ولكنني
نجحت والحمد لله» .
الرحلة الأولى على الدراجة
كان يحضر اللقاء الطبيب "ميخائيل أسعد "الذي عرّفنا على السبّاح الذي يعرفه جيداً،
فسألناه عمّا يعرفه عنه، فقال: « أول رحلة قام بها "جورج"على الدراجة الهوائية كانت من
"اللاذقية" إلى "حلب" ، وكان يتدرب طوال النهارعلى ركوب الدراجة إلى أن قرر قطع الطريق
من "اللاذقية" إلى" حلب" عبر الدراجة الهوائية ، فخرج على الطريق عند الساعة الواحدة
والنصف ليلاً وكان الظلام دامساً ، وسأتركه يحدثكم عن الباقي بنفسه ». بتأثّر بالغ بدأ
"جورج" الحديث قائلاً:«خرجت بعد منتصف الليل بساعة ونصف وقد أرعشني ذلك بعض الشيء وكانت
أصوات الحيوانات على الطريق تهزني قليلاً إلا أنني لم أعط انتباهاً في البداية ولم أكن
أحمل معي أي شيء لمساعدتي كالضوء أو ما يلزم ، حتى شربة ماء لم تكن موجودة، وذلك لأنها
كانت التجربة الأولى وكان هدفها كسر الحاجز النفسي وأن أتحدى نفسي أولاً في تلك الفترة»
. فسألناه: بعد تلك التجربة ماالذي حدث، فقال:« في تلك الرحلة ، عند وصولي للقساطل قرب
مدينة "اللاذقية" ليلاً وفي الطريق تعرضت لهجوم من قبل ضبعين من ناحية اليمين ورغم أني
كنت مسرعاً ولم أكد أرى إلا فكيهما وأسنانهما تفتح وتغلق بشكل مروع للغاية ، وأنا أزيد
من السرعة رويداً رويداً وبقينا نتسابق لفترة طويلة وحاول احدهما أن يقطع علي الطريق
ومهاجمتي من أمام العجلات علني أقع أرضاً إلا أن هذا لم يحدث وبعد مسافة طويلة وسرعة
زائدة يبدو أنهما شعرا باليأس مني وتركوني وشأني .. وصلت للقساطل بسلام وتناولت فطوري
في إحدى الاستراحات على الطريق العام ، وتابعت رحلتي إلى أن وصلت إلى مدينة "أريحا "في
محافظة "إدلب "، ومن تعبي وشدة شعوري بالنعاس لم أنتبه إلا وانا أسير في وسط الشارع
مما اضطر السيارات لأن تنبهني لذلك ، وعلى الرغم من هذا كله إلا أنني قررت أن أواصل
رحلتي باتجاه "حلب" وتحديت نفسي وفعلاً نجحت في ذلك واستغرقت هذه الرحلة حوالى /13/
ساعة تقريباً. حالياً أستطيع أن أحمل إي قطعة منزلية كالبراد أو الغسالة على ظهري إلى
الطابق الثالث أو الرابع أو الخامس وأنا برجل صناعية وبدون استراحة ».
مشروع السباحة .. طرطوس .. أرواد
وكان قد حدثنا الدكتور " ميخائيل أسعد" عن مغامرات "جورج" في "أرواد"فأردنا أن نسمع من
صاحب المغامرة نفسه ، فقال:« اعتدت يومياً أن أذهب إلى "جزيرة أرواد" في مركب بحري،
وفي إحدى الزيارات قررت أن أقطع المسافة ذهاباً من شاطئ "طرطوس" إلى "جزيرة أرواد"
سباحة في تحدٍ جديد لنفسي ، وكنت أضع في جيبي بعض النقود لأذهب إلى الجزيرة وأشرب
الكولا ومن ثم أعود إلى ظهر السفينة ، وأذكر إحداها التي كانت أكثرها صعوبة عندما كان
البحر ممتلئاً بعوادم البواخر من أكياس نايلون وأوساخ مما أعاق حركتي أثناء سباحتي نحو
الشاطئ وأحياناً تشلني تماماً وانا أقاوم ذلك ولكنني بقيت مصراً على موقفي وتابعت رغم
كل هذه المتاعب ».
بطولات جمهورية لعدة أعوام ..
لم تنته رحلتنا مع السباح الصابر العنيد الذي يقوم برجل واحدة بأعمال يعجزعن القيام بها
الأصحاء. فسألناه عن باقي حكايته مع السباحة ، فقال: « حصلت على بطولة الجمهورية في
السباحة للمعوقين لعدة أعوام، وحالياً توقفت عن هذه المسابقات لأنها دخلت في سياق
الروتين وغياب الحوافز وأنا لدي أولاد وعائلة مسؤول عنها ». فسألنا د. "ميخائيل" عن
أسرة "جورج" فقال: « لديه ولدان اثنان في مرحلة التعليم الأساسي ، هما " فيكتور" و "
فيرا" وهما سباحان على مستوى عالٍ ، وهما قويان جداً وأتفاءل بهما وأعول عليهما الكثير،
ولاشك أنهما سيحصدان جوائز كثيرة في السباحة ، و"جورج"الآن ركّب ساق اصطناعية ولا
يستطيع أن يعيش بدونها إلا في حالة السباحة وركوب الدراجة». وبالفعل هذا الرجل يذهل كل
من يراه فقد راقبناه وسجلنا له مقاطع(فيديو) وهو يدرّب تلاميذه على السباحة ، ويقوم
بإنقاذ من يتعثّر منهم، كما شاهدناه وهو يركب الدراجة بساق واحدة مبتكراً طريقة فريدة
في السيطرة على دوّاسات الدرّاجة برجل واحدة فقط.
د.محمد جمال طحان
jtahhan@aloola.sy