البعد الملحمي في قصيدة إلا إليك للشاعر محمد بشير دحدوح
في مجموعة إلا إليك
يكشف عن هواجس إنسانية فكرية تتحدث عن القيم التي ترتكز على أسس خفية مشبعة بالرموز والمفاهيم الدينية والتراثية

البعد الملحمي في قصيدة إلا إليك للشاعر محمد دحدوح
في مجموعة إلا إليك


ريبر هبون

في مجموعة (إلا إليك) تساؤلات ملتاعة بالعديد من الرموز التي تحمل عبق مضامين مستمدة من تجليات دينية تراثية صيغت في حياتنا بطرائق تماهينا معها وهذا ما يجسده الشاعر هنا ،حيث يوغل ملياً في شتى تفاصيل الفكر الذي نوظفه في سياقات وأطر موغلة في اتساعها وأدب الشاعر محمد بشير دحدوح انعكاس هادئ وقوي ،شعري المستوى،حساس التساؤلات،ينفي كل خلل ينم عن الشبهة، جلي من ناحية المضمون والشكل الجديد المؤثر، يكشف عن هواجس إنسانية فكرية تتحدث عن القيم التي ترتكز على أسس خفية مشبعة بالرموز والمفاهيم الدينية والتراثية وهنا نتأمل في مطلع قصيدة إلا إليك :ص8
لا تنتمي إلا إليك
فلا تؤافك أصغريك
فخزائن الأسماء مترعة ومشرعة عليك

ينطلق الشاعر من تمثله بشخصية صحابي اسمة حارثة وحارثة رمز موظف يدل من خلاله الشاعر على العديد من التساؤلات التي تعتري مسيرة الإنسان الحر ،الباحث عن أفق رحبة
الانتماء الذي تجسد في النص هو انتماء للذات القادرة على أن تكون النموذج المقتدى على حد تعبير الكاتب عبد الفتاح قلعة جي حيث تكمن نزعة الفكر لدى الشاعر في ملامسته لعمق الرموز وفق مدلولات النص عبر إيقاع شعري يحاكي الحالة التأملية لدى المتلقي ويوسع من مدركات تصوراته نلحظ عبارة خزائن الأسماء التي تنم عن حالة الزخم التي يتجلى فيها المعبود في صميم المخلوق ،والفضاء التصويري لدى الشاعر مبهم يعكس نظرة تفحصية تتجلى فيها أنماط الأسطورة والحكاية الشعبية وأثرها على الفضاء المكاني الذي رسمه الشاعر دحدوح عاكساً الطبيعة التي تفيض بغزارة الأفكار والأشكال والقيم الحضارية ،إن مسيرة الشاعر تتشكل من خلال كم الاتساع والرحابة في النص المتبلور في إطار وحدة ثقافية معرفية واعية ومعاصرة تجمع بين الأصالة والانزياح التصويري الحداثوي لتقديم لمحات بنائية يرتأيها برؤيته الخاصة ووفقاً لهذا التوصيف نتذكر رؤية الكاتب عبد الفتاح قلعة جي حين يقول:
إن الأسطورة التي تفترق عن الخرافة وعن الحكاية الشعبية ،لها دائماً حقيقتها البدئية الخاصة بها كما أن لها تركيبتها ضمن جغرافية مبهمة أو متبدلة، وزمن دائري غامض مرتبط بحركة الفكر والطبيعة
وحقيقة الأسطورة والبعد الملحمي متجلية بأبعادها الفنية هنا حيث يقترب الشاعر من خيوط مفصلية تكشف عن حقيقة الإرث الحضاري الديني المتجسد هنا:ص8
ياحارثة
يالازباً صلصاله المفتون من حمأٍ يداري عجزه ضوءاً
تقطع من بساط الليل
تقطر من عيون الكبر هذي القطة العمياء
تخمش في جبين الآنفات مزاعماً براقة كالبدر

الشاعر محمد بشير دحدوح
إن النص هنا يتجلى بالتنقيب حول حقائق دينية تمتاز بالتماس الجذور الكامنة في مفردة المنادى (ياحارثة)، ثمة وقع متكرر لهذه المفردة كونها عقدة حساسة تتضوع حولها الطاقة الشعرية بألق وقوة ومتانة متجلية بكم هائلٍ بالرموز التي تنم عن ثقافة معرفية واحتواء المفاهيم القيمية على صعيد الفهم والإدراك والإيمان ،ومن خلال مرورنا الهادف في هذه القصيدة نجد أنها متموجة بتمازجات رؤيوية ملحمية خالية من المباشرة والوعظ التعليمي ، والحديث في هذه القصيدة ذو شجن وعمق من ناحية الفكرة وطريقة توظيفها في سياقات مهمة استفادت من طريقة القص القرآني والأقوال التراثية وهي بمثابة محاكاة لدى الشاعر للعمق الهائل المفعم بالولادة والغنى والمفردات لديه تميل إلى المتانة وتنم عن حيوية مفعمة بالتصوير والرقة أحياناً فتكرار الانتماء من مطلع القصيدة وفي منتصفها يشير إلى حدة الحوار وإثارته حيث يعمد الشاعر إلى هذا الزخم في الحوار ليبعد جو الرتابة والبرود عن قصيدته التي تتوسط الغنائية والملحمية ولتعبر عن هذا التوارد والتناص بدراية وفنية دقيقة وعالية حيث يقول هنا ص9:
يا حارثة
احمل من الأزواج ما يبقي الحياة تضج بالشكوى
وتحفل بالسؤال
واسلك دروب الموج عبر مسارب الضوء الذي يحيي الموات
ويبرئ الخطوات من عرج

إنه يمتلك طاقة سردية متواصلة غير متقطعة تميل إلى الحوار الجذاب لتحقيق الإثارة الفنية على مستوى بيان الفكرة فمفردات-السؤال ، الشكوى-تحمل هاجساً معيناً لدى الكاتب وهي حكمة تستدعي منه أن يقف على أطلال حارثة ليسأله ويشكوه، والقطع الشعرية لديه تخلو من المباشرة والسرد الثقيل ، يلتمس من خلالها الشعرية الحقة التي لا تخدشها مفاهيم خارجة عن سلطان الشعر والفن الحقيقي، إن الذائقة التي يستمد منها الشاعر متانته وسيطة بين ألوان الحداثة والمتانة التراثية فهو شديد الحذر ، عابق بلفظة الكلمة ومغزاها القريب والبعيد يخلق صياغات وتشابيه تعبر على سريان الحالة الشعورية بأدق وصف فالصراخ الإيحاءي كامن في هذه القصيدة من بدايتها لنهايتها دون برود في النص أو رتابة أو استطراد خارج عن مناخ النص فهو يحقق وحدة القصيدة التي تعبر عن المناخ الواحد الذي تحدث عنه أرسطو قديماً نلحظ في هذا المقطع سياقات تاريخية بالغة فهو يقول ص9:
من جذوة ضحكت هناك
تلمس النور الذي يغدو عصا
شقت مداميك الشقاق
الله أكبر
من بحيرات الضلال تلامعت أسماؤها وعناكب
نسجت بعين الليل هيكلها وساخت في التدلي

إن الرؤية المعاصرة لدى الشاعر في هذه القصيدة قائمة على الخلق وإعادة صقل اللغة بحيوية تبعث على الإيقاعية المتأصلة بالقيم الموروثة ، نلحظ استخدامه للتعابير المعنوية بخيالٍ حسي ظاهر من مثل بحيرات الضلال ،تلامع الأسماء، وهذا يؤكد جمالية المسعى الجمالي الذي ينتهجه الشاعر في رسم معالم قصيدة ملحمية معاصرة تخرج عن أجطر وقيود وأساليب الملحميين القدامى ،والبعد الديني يتجلى وفق إيقاع التفعيلة الوسيط بين النظم والنثر وفق رؤية تأملية طافحة بالعمق والتناص فهنا إشارة إلى عصا موسى(تلمس النور الذي يغدو عصا شقت مداميك الشقاق)
وهنا إشارة إلى المسيح(في دربك الآلام مترعة تدمي راحتيك) كل هذا يؤكد على حضور المادة المعرفية في نص زاخر بالمفاهيم الحديثة التي تنقل التراث بوعي معاصر وهادئ،ليؤكد على علاقة الذات بالموروث وعلاقة اللغة بالجذور حسب أنموذج بناءي وهذا مايدعونا إلى تمثل مقولة قلعة جي حين يقول:
إن وحدة الأسطورة يمكن أن تكون إحدى مقومات الوحدة المؤدية للتقارب بين الأمم والشعوب
ونحن نشير أن وحدة المضامين التراثية والميثولوجية وتماهيها مع النص الشعري كما في تجربة الشاعر محمد دحدوح يخدم الحالة البنائية الفنية الجديدة للنص لأنه يحمل طاقات جديدة تجعل القديم متماهياً وبجمال وفرادة في حضرة الجديد الإبداعي،فاللغة تأخذ مكانتها من مخزونها التراثي الذي يشكل عماداً لأي تشكيل أو ابتكار شعري مؤثر ومتوغل في الغد القادم هذا ماحاولت تجربة الشاعر أن تستخلصه لرصد أطوار جديدة يتماهى فيها المبدع بالأثر وهنا تتحقق الألفة
منبج-نيسان2012م ـ ريبر هبون

ديوان … إلا إليك