ويقترح علينا المهندس أسامة شريبا هذا البحث والتعريف عن التصميم المستدام والعمارة الخضراء: القطاعات العمرانية في هذا العصر لم تعد بمعزل عن القضايا البيئية الملحة التي بدأت تهدد العالم وتم التنبه لها في السنوات القلائل الأخيرة، فهذه القطاعات من جهة تعتبر أحد المستهلكين الرئيسيين للموارد الطبيعية كالأرض والمواد والمياه والطاقة، ومن جهة أخرى فإن عمليات صناعة البناء والتشييد الكثيرة والمعقدة ينتج عنها كميات كبيرة من الضجيج والتلوث والمخلفات الصلبة.

ويقترح علينا المهندس أسامة شريبا هذا البحث والتعريف عن التصميم المستدام والعمارة الخضراء.

 

 

التصميم المستدام و العمارة الخضراء

مقدمة :

بدأ العالم يعترف بالارتباط الوثيق بين التنمية الاقتصادية والبيئة، وقد تنبه المتخصصون إلى أن الأشكال التقليدية للتنمية الاقتصادية تنحصر على الاستغلال الجائر للموارد الطبيعية وفي نفس الوقت تتسبب في إحداث ضغط كبير على البيئة نتيجة لما تفرزه من ملوثات ومخلفات ضارة. ومن هنا ظهر مفهوم التنمية المستدامة (Sustainable Development) التي تـُــعرّف على أنها "تلبية احتياجات الأجيال الحالية دون الإضرار بقدرة الأجيال القادمة على تلبية احتياجاتها". وقد أولت معظم دول العالم في العقد الأخير من القرن المنصرم عناية خاصة واهتماماً واسعاً بمواضيع حماية البيئة والتنمية المستدامة، ولم يولد هذا الاهتمام من فراغ فقد تعالت الأصوات البيئية المنادية بتقليل الآثار البيئية الناجمة عن الأنشطة البشرية المختلفة ونادت بخفض المخلفات والملوثات والحفاظ على قاعدة الموارد الطبيعية للأجيال القادمة. ونتيجة لذلك فإن القطاعات العمرانية في هذا العصر لم تعد بمعزل عن القضايا البيئية الملحة التي بدأت تهدد العالم وتم التنبه لها في السنوات القلائل الأخيرة، فهذه القطاعات من جهة تعتبر أحد المستهلكين الرئيسيين للموارد الطبيعية كالأرض والمواد والمياه والطاقة، ومن جهة أخرى فإن عمليات صناعة البناء والتشييد الكثيرة والمعقدة ينتج عنها كميات كبيرة من الضجيج والتلوث والمخلفات الصلبة.


وتبقى مشكلة هدر الطاقة والمياه من أبرز المشاكل البيئية – الاقتصادية للمباني بسبب استمرارها وديمومتها طوال فترة تشغيل المبنى. ولهذه الأسباب وغيرها ونتيجة لتنامي الوعي العام تجاه الآثار البيئية المصاحبة لأنشطة البناء فقد نوه بعض المتخصصين أن التحدي الأساسي الذي يواجه القطاعات العمرانية في هذا الوقت إنما يتمثل في مقدرتها على الإيفاء بالتزاماتها وأداء دورها التنموي تجاه تحقيق مفاهيم التنمية المستدامة الشاملة، وأضاف آخرون بأن الإدارة والسيطرة البيئية على المشاريع العمرانية ستكون واحدة من أهم المعايير التنافسية الهامة في هذه القطاعات في القرن الواحد والعشرين. من هنا نشأت في الدول الصناعية المتقدمة مفاهيم وأساليب جديدة لم تكن مألوفة من قبل في تصميم وتنفيذ المشاريع، ومن هذه المفاهيم "التصميم المستدام" و"العمارة الخضراء" و"المباني المستدامة", هذه المفاهيم جميعها تعكس الاهتمام المتنامي لدى القطاعات العمرانية بقضايا التنمية الاقتصادية في ظل حماية البيئة، وخفض استهلاك الطاقة، والاستغلال الأمثل للموارد الطبيعية، والاعتماد بشكل أكبر على مصادر الطاقة المتجددة (Renewable Sources).

 
مفاهيم الاستدامة والعمارة الخضراء في القطاع العمراني :


التصميم المستدام .. العمارة الخضراء .. الإنشاءات المستدامة .. البناء الأخضر .. هذه المفاهيم جميعها ما هي إلا طرق وأساليب جديدة للتصميم والتشييد تستحضر التحديات البيئية والاقتصادية التي ألقت بظلالها على مختلف القطاعات في هذا العصر، فالمباني الجديدة يتم تصميمها وتنفيذها وتشغيلها بأساليب وتقنيات متطورة تسهم في تقليل الأثر البيئي، وفي نفس الوقت تقود إلى خفض التكاليف وعلى وجــه الخصــوص تكــاليف التشغيل والصيانة (Running Costs)، كما أنها تسهم في توفير بيئــة عمرانية آمنة ومريحــة. وهكــذا فإن بواعث تبني مفهـــوم الاستدامة في القطــاع العمراني لا تختلف عن البواعث التي أدت إلى ظهور وتبني مفهوم التنمية المستدامة (Sustainable Development) بأبعادها البيئية والاقتصادية والاجتماعية المتداخلة.

لم تعد هناك خطوط فاصلة بين البيئة والاقتصاد منذ ظهور وانتشار مفهوم التنمية المستدامة الذي أكد بما لا يدع مجالاً للشك أن ضمان استمرارية النمو الاقتصادي لا يمكن أن يتحقق في ظل تهديد البيئة بالملوثات والمخلفات وتدمير أنظمتها الحيوية واستنزاف مواردها الطبيعية.

والعمارة المستدامة الخضراء تعزز وتتبنى هذا الارتباط الوثيق بين البيئة والاقتصاد، والسبب في ذلك أن تأثيرات الأنشطة العمرانية والمباني على البيئة لها أبعاد اقتصادية واضحة والعكس صحيح، فاستهلاك الطاقة الذي يتسبب في ارتفاع فاتورة الكهرباء له ارتباط وثيق بظاهرة المباني المريضة (Sick Buildings) التي تنشأ من الاعتماد بشكل أكبر على أجهزة التكييف الاصطناعية مع إهمال التهوية الطبيعية، وهذا الكلام ينسحب على الاعتماد بشكل أوحد على الإضاءة الاصطناعية لإنارة المبنى من الداخل مما يقود إلى زيادة فاتورة الكهرباء وفي نفس الوقت يقلل من الفوائد البيئية والصحية فيما لو كانت أشعة الشمس تدخل في بعض الأوقات إلى داخل المبنى. فقد أثبتت الأبحاث الحديثة أن التعرض للإضاءة الاصطناعية لفترات طويلة يتسبب في حدوث أضرار جسيمة على صحة الإنسان على المستويين النفسي والبدني. وتعد عملية التعرض للذبذبات الضوئية الصادرة عن مصابيح الإنارة (الفلورسنت) والافتقاد للإضاءة الطبيعية من أهم الآثار السلبية التي تعاني منها بيئة العمل المكتبي، فقد ظهرت نتيجة لذلك شكاوى عديدة من المستخدمين في بعض الدول الصناعية المتقدمة تضمنت الإحساس بالإجهاد الجسدي والإعياء والصداع الشديد والأرق. كما أن الإضاءة الصناعية الشديدة تعتبر في مقدمة الأسباب المرجحة لأعراض الكآبة في بيئات العمل. أما الهدر في مواد البناء أثناء تنفيذ المشروع فهو يتسبب في تكاليف إضافية ويقود في نفس الوقت إلى تلويث البيئة بهذه المخلفات التي تنطوي على نسب غير قليلة من المواد السمية والكيميائية الضارة. وهكذا فإن الحلول والمعالجات البيئية التي تقدمها العمارة المستدامة الخضراء تقود في نفس الوقت لتحقيق فوائد اقتصادية لا حصر لها على مستوى الفرد والمجتمع.
حسب بعض التقديرات فإن صناعات البناء على مستوى العالم تستهلك حوالي (40%) من إجمالي المواد الأولية (Raw Materials) ويقدر هذا الاستهلاك بحوالي (3 مليارات) من الأطنان سنوياً. في الولايات المتحدة الأمريكية تستهلك المباني وحدها (65%) من إجمالي الاستهلاك الكلي للطاقة بجميع أنواعها، وتتسبب في (30%) من إنبعاثات البيت الزجاجي. إن أهمية دمج ممارسات وتطبيقات العمارة المستدامة الخضراء جلية وواضحة، حيث يشير المعماري جيمس واينز (James Wines) في كتابه "العمارة الخضراء" إلى أن المباني تستهلك سُـدس إمدادات الماء العذب في العالم، وربع إنتاج الخشب، وخُمسين الوقود والمواد المصنعة. وفي نفس الوقت تنتج نصف غازات البيت الزجاجي الضارة، ويضيف بأن مساحة البيئة المشيدة (built environment) في العالم ستتضاعف خلال فترة وجيزة جداً تتراوح بين 20-40 سنة قادمة. وهذه الحقائق تجعل من عمليات إنشاء وتشغيل المباني العمرانية واحدة من أكثر الصناعات استهلاكاً للطاقة والموارد في العالم. كما أن التلوث الناتج عن عدم كفاءة المباني والمخلفات الصادرة عنها هي في الأصل ناتجة عن التصميم السيئ للمباني، فالملوثات والمخلفات التي تلحق أضراراً كبيرة بالبيئة ليست سوى نواتج عرضية (by-products) لطريقة تصميم مبانينا وتشييدها وتشغيلها وصيانتها، وعندما تصبح الأنظمة الحيوية (bio-systems) غير صحية نتيجة لهذه الملوثات فإن ذلك يعني وجود بيئة غير آمنة للمستخدمين.

إن التكلفة العالية للطاقة والمخاوف البيئية والقلق العام حول ظاهرة "المباني المريضة" المقترنة بالمباني الصندوقية المغلقة في فترة السبعينات، جميعها ساعدت على إحداث قفزة البداية لحركة العمارة المستدامة الخضراء. أما في الوقت الحاضر فإن "الاقتصاد" هو الباعث الرئيس على التحول والتوجه نحو التصاميم والمباني الأكثر خضرة. المعماري مايكل كروزبي (Michael Crosbie) الذي يعمل في مكتب (Steven Winter Associates) يشير في هذا الصدد إلى "أن زبائنه الراغبين في تصميم مباني خضراء أكثر بكثير من الطلب، لأنهم يرون ويدركون الكمية الهائلة من الأموال التي يتم إنفاقها في سبيل الحصول على شيء ما مبني، وبالتالي فهم يريدون عائداً استثماريا مجزياً لذلك".


المؤيدون للعمارة المستدامة الخضراء يراهنون على المنافع والفوائد الكثيرة لهذا الاتجاه. في حالة مبنى إداري كبير – على سبيل المثال – فإن إدماج أساليب التصميم الخضراء (Green Design Techniques) والتقنيات الذكية (Clever Technology) في المبنى لا يعمل فقط على خفض استهلاك الطاقة وتقليل الأثر البيئي، ولكنه أيضاً يقلل من تكاليف الإنشاء وتكاليف الصيانة، ويخلق بيئة عمل سارة ومريحة، ويحسّن من صحة المستخدمين ويرفع من معدلات إنتاجيتهم، كما أنه يقلل من المسئولية القانونية التي قد تنشأ بسبب أمرض المباني، ويرفع من قيمة ملكية المبنى وعائدات الإيجار. وهكذا فإن التيار الأخضر في قطاع البناء يعمل على توفير تكاليف الطاقة على المدى الطويل، ففي مسح ميداني أجري على (99 مبنى) من المباني الخضراء في الولايات المتحدة وجد أنها تستهلك طاقة أقل بنسبة (30%) مقارنة مع المباني التقليدية المماثلة. لذا فإن أي تكاليف إضافية يتم دفعها في مرحلتي التصميم والبناء يمكن استعادتها بسرعة. وبالمقارنة بذلك فإن الإفراط في النظرة التقليدية لمحاولة تقليل تكاليف البناء الأولية يمكن أن يؤدي إلى مواد مهدرة وفواتير طاقة أعلى بصورة مستمرة.


ولكن فوائد المباني الخضراء ليست مقصورة فقط على الجوانب البيئية والاقتصادية المباشرة، فاستعمال ضوء النهار الطبيعي في عمارات المكاتب – على سبيل المثال – بالإضافة إلى أنه يقلل من تكاليف الطاقة التشغيلية فهو أيضاً يجعل العاملين أكثر إنتاجاً، فقد وجدت الدراسة التي أجراها المتخصصان في علم النفس البيئي بجامعة ميتشيغان (Rachel and Stephen Kaplan) أن الموظفين الذين تتوفر لهم إطلالة على مناطق طبيعية من مكاتبهم أظهروا رضى أكبر تجاه العمل، وكانوا أقل إجهادا وتعرضهم للأمراض كان أقل. أيضاً إحدى الشركات العاملة في مجال الفضاء (Lockheed Martin) تبين لها أن نسبة الغياب هبطت بنسبة (15%) بعد أن قامت بنقل (2.500 موظف) إلى مبنى أخضر منشأ حديثاً في كاليفورنيا، والمردود الاقتصادي لهذ الزيادة في معدل الإنتاجية عوض المبالغ الإضافية التي أنفقت أثناء تشييد المبنى خلال عام واحد فقط. وعلى نفس المنوال، فإن استعمال ضوء النهار الطبيعي في مراكز التسوق يؤدي إلى رفع حجم المبيعات، فالمجموعة الاستشارية المتخصصة في تقنيات المباني ذات الكفاءة في الطاقة (Heschong Mahone) ومقرها كاليفورنيا، وجدت أن المبيعات كانت أعلى بنسبة (40%) في المخازن التسويقية التي تمت اضائتها من خلال فتحات السقف (Skylights). وقد وجدت المجموعة أيضاً أن أداء الطلاب في قاعات الدرس المضاءة طبيعياً أفضل بنسبة (20%).
….
يتبع…