الثلاث تفاحات وعزت عمر
- فبراير 9, 2010
- 0
يقدم لنا هنا الكاتب عزت عمر دراسته لرواية الكاتب محمد أبو معتوق “ثلاث تفاحات”
وقد كان لنا اليوم 9-2-2010 لقاءا مع محمد أبو معتوق معتمدين على هذه الدراسة في محاورته وسوف ننشرها قريباً، و لكم تحياتنا.
"حلب" بأقلام أبنائها
الخطيئة والعقاب في رواية
"ثلاث تفاحات" لمحمد أبو معتوق
* تقديم الكاتب عزت عمر
كعادته في الدفع باللغة نحو بنىً تصويرية مشهدية ورشاقة شاعرية رمزية ناضحة بدلالاتها وإسقاطاتها السياسية والفكرية، يكتب الروائي السوري محمد أبو معتوق حكاية ال "ثلاث تفاحات" ليعيدنا إلى زمن الخطيئة والشجرة المحرّمة التي سببت كلّ هذه المآسي الموروثة للمرأة، بعدما اعتبرتها بعض النصوص المحرِّضة الأساسية لخروج الإنسان من الجنّة، ورمزاً للخطيئة التي تستوجب عقابها وعقاب جنسها. ومنذ ذلك اليوم ما زالت المرأة تعاني من قسوة وعنف الذكورة، امتثالاً لما وقر في الأذهان، أو لما فيه تعزيز القيم الذكورية التي لم تر فيها سوى مصدراً للإغواء فكان لا بدّ من إشادة الأسوار حولها وحبسها في بيتها وتجريدها من إنسانيتها.
وبذلك فإن الروائيّ، ومن خلال حكاياته المتناثرة، سوف يستعرض الكثير من حالات العقاب الذكوري للمرأة بتقنية بنائية شهرزادية ترتكز على الحكاية الإطارية، حيث تنفتح الحكاية على حكايات إضافية، ترتبط جميعاً بمحور واحد، يدور حول معاناة المرأة وأشكال اضطهادها من قبل الذكور سواء كانوا أخوة، أو أزواجاً يعانون بدورهم من سطوة التقاليد الاجتماعية، ويعيشون حالة من الحرمان العاطفي والجسدي والإنساني، وبالتالي فإن الحياة في هذه المدينة التي سوف تستحيل إلى ما يشبه السجن الكبير، الناس فيه أحرار ومأسورين، وكلّ معاقب بجريمة لم يرتكبها، وبالتالي فإن سجن النساء الذي تدور الأحداث فيه أصبح أكثر رحمة وإنسانية من سجن القيم والمعتقدات الاجتماعية المتخلّفة.
وما بين المكانين الضاغطين تدور أحداث الرواية، فنتابع الساردة في استهلالها الأوّلي وهي تحكي عن امرأة زرقاء تعمل سجّانة في سجن النساء، ولكنّ هذه الزرقة لم تأتها من عامل وراثيّ، وإنما اكتسبتها عن تحوّل انتابها بُعيد غياب زوجها عنها، فعادت إلى عملها في سجن النساء زرقاء، شأنها في ذلك شأن النسوة السجينات اللاتي أُصبن بالذبول نتيجة ابتعادهنّ عن أطفالهنّ ورجالهنّ، وبالتالي فإنّ الحكاية سوف تعزز حضورها في هذه الحيز العقابي، ليتابع القارئ الكثير مما تقدّمه تلك النسوة من حكايات مفعمة بالأسى عن علاقتهنّ القهرية بالذكور الجهلة، ومن رقص وأداء مسرحيّ وطقسيّ اقتضته طبيعة الحضور الأنثوي في حيّز لاوجود للرجال فيه.
وقد يظنّ القارئ للوهلة الأولى أن هذه الرواية تنتمي إلى زمن قديم.. إلى زمن لم تذهب فيه المرأة للتعلّم والعمل في وظيفة إدارية أو في معمل، ولم تصبح طبيبة أو محامية أو إعلامية بعد، ولكنه، مع الأسف، سوف يفاجأ أنها تنتمي لعصر التكنولوجيا الرقمية الحديثة، وفي المدينة التي تعتز بأنها موطن حضاريّ لألوف السنين التي خلت، ومدينة التعايش الأمثل ما بين الطوائف والاثنيات المختلفة؛ مدينة الكتّاب والشعراء والموسيقيين وكتّاب الموسوعات الضخمة، وهي تغضّ طرفاً عما يجري بين حواريها وخلف جدرانها من عسف واضطهاد للمرأة كأم وأخت وزوجة، نتيجة للثقافة الذكورية المهيمنة على مفاتيح التجارة والاقتصاد والمهن العلمية والتنظيمات السياسية رافعة شعارات التحرر.
وشهرزاد الراوية سوف تحكي لشهريارها الكثير من الحكايات مما يدعو للعجب والاستغراب من إمكانية استمرار الأزمنة القديمة بتقاليدها البالية وقيمها القاسية في حياة مدينة متحضّرة، حيث واظب مفهوم الشرف وغسل العار بالقتل، مستوطناً بعض الأوساط الاجتماعية، وعلى المرأة التي رافقتها الخطيئة منذ ولادتها أن تحرص على نفسها وشرفها من الذكور الذين يستبيحون شرفها من جهة، ثمّ يطالبون بقتلها غسلاً للعار. فالحبّ ممنوع والاختلاط ممنوع وكذلك الهواء الحامل لروائح الأحبة؛ عليها أن تحاذر من كلّ شيء، فلا تستسلم إلاّ للزوج الذي سيدعم باب بيتها بمزيد من الأقفال، ويراقب الطرقات التي ستمشي عليها، وعندما تخلو على هذا النحو أو ذاك سيسارع لاصطحابها إلى بيت أهلها، كي ترى أمّها وأخواتها، إذ إن كلّ شيء ممكن في عقل مجانين الغيرة هؤلاء، أو على حدّ تعبير أحدهم: إنها (الزوجة) كالجوهرة الثمينة التي يحافظ عليها الجواهريّ في صناديق مغلقة، وعندها ستقول له زوجته، لكن الجواهر أشياء ميتة، والبشر أرواح حيّة، فإذا سجنت الأرواح تذبل وتموت، وليس لأحد أن يعامل الأحياء كما الأموات، ولكن العنف القاسي سيمارس على هذه الجوهرة من قبل الزوج المشوّه جسدياًَ ونفسياً، وكأنه في ضربها وسحقها يريد إثبات رجولته وسلطته أمام هذه المرأة المتفلسفة. وتكتمل المصيبة عندما تلجأ هاربة لأخيها الذي يدير موقعاً إليكترونياً يدعو من خلاله لتحرير المرأة، فيزيد من مأساتها بأن يحوّلها وزوجته إلى خادمة، ثمّ يتواطأ مع زوجها على أن يعيدها إلى عصمته، وبالتالي فإن السجن بالنسبة لهؤلاء النسوة يصبح أرحم وأرحب من كلّ المدينة، نظراً لعدم وجود الرجال والحجارة التي يرجمونها بها، إذا لم تمتثل لشهواتهم، وإن امتثلت لها أيضاً.
وعلى الرغم من كلّ ذلك تحافظ النساء على ما تبقى من أنوثتهنّ فيصدقّن حكايات الحبّ، ويستسلمن بإرادتهنّ لإغواء الذكور، وفي السجن يحلمن بهم ويقمن علاقات مع الضباط المناوبين، كي يحافظنّ على أرواحهنّ من الذبول.
وباختصار إنها حكايات جمّة عن الأشواق والحرمان، والرغبة الكامنة في الذات الإنسانية يكشف عنها الروائيّ بمزيد من التشويق الموظّف في أنساق حكائية متعددة، حتّى لحظة دخول صاحبة "التفاحات الثلاث" السجن وهي حامل سفاحاً من جارها الذي هرب إلى بلاد أخرى تاركاً إياها لمصيرها بين أيدي أخوة عتاة، لتأتي سيرة التفاح ويستعير طقسيات الماء من الميثولوجيا والفراديس المفتقدة، ويوظّف كلّ ذلك في قالب سرديّ جميل، تكمن الروح الشهرزادية المتعاطفة مع بنات جنسها في كل تفاصيله، فتبدع لغة سردية يمكن وصفها بالسهل الممتنع؛ اللغة الإيحائية العالية الدلالة، والمشهديات المأفلمة الفائقة الجودة، وبذلك فإنّ السجن سيتحوّل إلى مسرح كبير، وثمة أمّ كبيرة تعمل على متابعة الأداء التمثيلي للسجينات اللاتي خلت حياتهنّ من العنف، فعمدن إلى استعادته عبر التمثيل، حيث ينقسمن إلى فريقين ويبدأن معركة طاحنة يتخللها الصفع وشدّ الشعر والولاويل، وعندما يصيبهنّ الإعياء "يقعن إلى جوار الجدران، ويتأملن بعضهنّ بحنق، ثمّ تنتابهنّ عاصفة من الضحك، وبعد ذلك ينهضن للعناق والغفران.." ولا تتوقف المشاهد الممسرحة أو المأفلمة عند هذا الحدّ، فاللغة المسرودة سوف تسعى دائماً لإثارة قارئها بما تنطوي عليه من شعرية أو أداء أو تمثيل.
إلاّ ان مشهد المرأة الحامل في السجن سيكون أكثرها إتقاناً وأغزرها عاطفة وإنسانية، ستعمل السجينات على أدائه إيمائياً، حيث تمتدّ الأيدي نحو بطن الحامل، فتمنع الأم السجينة الأيدي الملوثة بالدم من الاقتراب منها، ثمّ يبدأن الرقص والغناء، وتتجاوب الزنازين الأخرى مع ما يحصل هنا، فيأخذن في الغناء والهناهين والزغاريد، فتهرع السجّانات لتتوقف الأذرع والأجساد بغتة، فتعمل السجّانة على دفع الأجساد الجامدة كي تشاهد ذلك الشيء الباهر الذي يشع من بطن السجينة، وعندها ستراودها رغبة جارفة في أن تتحوّل إلى سجينة لتتمكن من مشاركتهنّ الفرحة بالمولود الجديد، وفي تلك اللحظة سوف تستعيد لون بشرتها الطبيعية.
وهذه الولادة ستأخذ في النهاية بعداً رمزياً يشي دائماً بقدرات المرأة الإحيائية، وبدورها الحاسم في ديمومة الحياة الإنسانية على الأرض، حتى ولو موضعتها الذكورة في ذلك الحيّز الضيّق المسمّى سجناً.
بقلم عزت عمر
الأديب محمد أبو معتوق
ولد في حلب عام 1950، نال إجازة في اللغة العربية – جامعة حلب 1974- 1975.
فاز بعدة جوائز أدبية، عضو جمعية القصة والرواية، مؤلفاته المسرحية: التغريبة المعاكسة، فوق هذا المستطيل وقع حادث -مسرحيتان – وزارة الثقافة – دمشق 1978، ثلاث مسرحيات للأطفال وزارة الثقافة – دمشق 1979، أوهام حارس الغابة، ومسرحيات أخرى، وزارة الثقافة – دمشق 1980، ست مسرحيات للأطفال – وزارة الثقافة – دمشق 1980، ملحمة الأيام الفلسطينية – مسرحية وثائقية- اتحاد الكتاب العرب – دمشق 1985، مغامرة الرأس المقطوع- المنشأة العامة – الجماهيرية الليبية 1990، أنشودة الخوذة – ست مسرحيات للأطفال -المنشأة العامة – الجماهيرية الليبية 1990، موت الحكواتي- ثلاث مسرحيات – اتحاد الكتاب العرب- دمشق 1990، الحبل والكرسي، مسرحيات – دمشق- اتحاد الكتاب العرب 1992.
والروائية: جبل الهتافات الحزين – رواية – ووزارة الثقافة- دمشق 1992، شجرة الكلام – رواية – لندن – دار الريس للطباعة والنشر – 1990، الأسوار – رواية – 1994. لحظة الفراشات، وزارة الثقافة، دمشق، 2000. العراف والوردة، وزارة الثقافة، دمشق، 2006. القمقم والجنّي، رياض الريس للكتب والنشر، 2008. ومجموعة قصصية بعنوان: اللعب بالأسرار، وزارة الثقافة، دمشق، 2005.
*ثلاث تفاحات، محمد أبو معتوق، دار نون للنشر والطباعة والتوزيع، حلب، 2008.