حسن امكازن بن موسى
ألوان للثقافة والفنون ـ عالم نوح
الشاعرة نعيمة خليفي في مقاومتها للانزياح المستجد في الابداع المغربي نحو شاعرية رديئة..


حسن امكازن بن موسى
ألوان للثقافة والفنون ـ عالم نوح

الشاعرة نعيمة خليفي في مقاومتها للانزياح المستجد في الابداع المغربي نحو شاعرية رديئة..

وآراء بعض الادباء والشعراء والمفكرين في محاولة خضخضة شعور القارئ لبعث روح الرفض فيه لكل ما لا يخضع للجمال ولا للتناسب والتناسق…بل و الدعوة لمحاربة التطفل أحيانا كثيرة على الابداع كما تعبر الشاعرة بسخريتها الشاعرية الرمزية.

نعيمة خليفي كشاعرة اقتفيت آثار أشعارها قارئا و محللا لمرجعيتها الفكرية والاجتماعية والنفسية …لعلني أصل الى ما يؤسس لمفاهيم البناء في قصائدها الحداثية لأعرف الجذور والخاصيات والهوية التي تتخدها كمصادر في تأتيث نصوصها بمعاني مختلفة ودلالات مفهيمها مرتبطة أو منقطعة مع الواقعية…لأنتهي إلى أنها من المتحول الذي لا يترك مكانا للفراغ …وتترك الشعر مفتوحا على هوية السؤال. ما الشعروما مفاهيمه الدلالية لتجيب من خلال أشعارها أن الشعر رهين بالمعيش اليومي للشاعر ملاحظة ونقدا ودفاعا وعلاجا…لتمخر عبابه من أبوابه الصعبة, أي من الشعر النقدي…شعر السخرية من التضاد الأدبي بين الكم والكيف والجودة والرداءة.
فالشاعرة تدعو بلغتها الرمزية وتقول في مطلع إحدى قصائدها: دعونا نغرق في الطين…زائفة كل الأشياء. وهي تقصد الحياة الشعرية عندما تخلو من دلالاتها الحسية والشعورية …في معانيها الإبداعية فإن الشاعر يخلو من بعده الانساني.

وأقحمت هذه القولة في بنية الوعي بشاعرية نعيمة خليفي فيما تتحلى به من ربط أشعارها بالإنسان …كإنسان في طاقاته ووجدانه وعلاقة يومه بحياته الأدبيةالإبداعية.
إنها تضع الانسان داخل بوتقة رصيدها اللغوي والفني …فتحاوره حول وجوده المادي والروحي وتشرح نفسيته الخارجية دون إهمال عالمه الداخلي ومبعثرة أبعاده الحميمية وأحلامه وصبواته…ناشرة الرغبات والحاجيات ومعرية على الطموحات والمكبوتات في نسق نقدي لاذع وسخرية مبطنة لما تراه من مواقف حياتية تعكس الوجوه المتعددة الأقنعة في المجتمع .

هكدا لا تخون الشاعرة الإنسان في أشعارها ولا في نفسها ولا في الآخر…إنها مرآة صافية وبلورها يعكس الحقيقة المرة والحلوة على السواء وينعكس دلك في شعرها حين تقول..

دعونا نغرق في الطين
زائفة كل الاشياء
دعونا من التباكي
على شقائق النعمان الذابلة

فبعض الصور الشعرية عند الشاعرة ليست تشبيهية, أي لا علاقة لها بالمقارنة أو المقايسة …إنما هي مولود جديد لها يجمع بين متناقضين ويتوحدان في الصورة التي ليست إلا لبيان البلاغة الصعبة الادراك, ونتلمسها من البناء المجاز الذي ليس له أثر ظاهر بل يربط بين المرئي والمتخيل من أجل الكشف عن ما خلق ضبابية الصورة الشعرية …أي الكشف عن المجهول المضمر …عن حقيقة الإنسان المخفية في صورها الشعرية الشعورية واللا شعورية المتناقضة في دواخله …فتقول لأقنعة التضاد المتطفلة بلون الشعر وبألوان الطعام

للأنزياح وجه آخر
سيدتي
كي تتربعي على عروش الأفئدة
وتكوني حاضرة في كل مائدة
ليس مهما أن تكون أشعارك نافدة
بل أن يكون لنصك المثير
جرعة انزياح زائدة

وهكدا يمكن أن نصنف النص الشعري على مستوى مقاربته للأشياء وفي تأثره الانسانيالنفسي بعيدا عن البراكماتية والمنطق ,إن بناءه له معاني بنيوية رمزية في الشعور…حين تأمل الذات من الداخل …تأمل الوعي ورؤية الكينونة …إنها اليوغا الشعرية التي تؤثت النص الإبداعي الشاعري المعبر عنه من الدفق الإنساني ومن هواجسه الدفينة من بؤرة لاوعية …من لاشعور, إنه تعبير دلالي على استحواذ الأحاسيس والعواطف على مخزون الذاكرة الخلفية وترك المساحات الشاسعة للعقل والمنطق للذاكرة الأمامية المشرفة على الواقع اليومي …إنها يوغا النفس المتمثلة في هايكو مغربي يعبر بإيجازه عن هواجسنا في تغاريد السيكادا عند الشاعرة نعيمة في سخرية خفية من الشواعر والشعراء المغردين نعيقا كالغربان حيث تقول

هذا الصوت المغرد من أين يأتي؟
هناك تؤلف أغاني السيكادا
…صراصير الليل

فتشبّه صوت الرداءة بصوت الصراصير إيمانا منها بالرمز كإشارة إلى ما وراء المصطلح اللغوي أو البناء الإبداعي الخفي …حتى لا تنتهك الستار الحاجب ضبطا للقيم في النقد الموضوعي ,إضافة أنه تقنية تدفع بها القارئ إلى البحث في ما خلف الألفاظ وإلى تعدي الستائر لقراءة غير المحسوس …واستباحة البواطن, كما تتميز الرموز بسحر البيان من درجة الاخفاء وتقنية ربط المضمر بالظاهر من خلال القياس أو الانزياح أو الاسقاط …أوالمقاربة اللغوية في رسم الصور وتقريبها من نبض المتلقي والرموز عند الشاعرة بالصفات والأفعال والأسماء…وكل المتطابقات يمكن أن نشتق منها رموزا والإنسان يمكن أن يخلق من المتخيل رموزا بفعل التراكمات
وتقول نعيمة في التزامها بالرمز شاعرة في أحد قصائدها بعنوان ماذا لو..؟

وأنا أتجول في جنان الصمت ..
رأيت سماء الحاضر والامس بتراشقات الحجارة
رأيت الامل كفاكهة الصبر شائكا والعيون حيارى
فقلت في سري ماذا لو…؟
يصير للأمل أسلاكا شائكة تطرد اليأس بعيدا
بلى…لابد للأمل أن يكون حقل ألغام
سوف يكون للجحيم نكهة أخرى

وتقول الشاعرة نثرا في الموضوع:
الإبداع أسمى من أن يستعرض في الكرنفالات ومعارض النجوم …المبدع الحقيقي هو ذاك الإنسان المتشح بالجمال …ذاك الشغوف باستثارة مكامن أعماقه والتنزه في بساتين المعرفة متنقلا .بين الزهرات كلما ارتشف رحيقها ازداد ظمأ لاستكشاف كنهها ..
وتقول:
المبدع الحقيقي هو ذاك الإنسان المتواضع حد الشموخ, كلما قطع أميالا يشعر بأنه ما يزال قي أول الطريق, وهو المجدّ الذي لا يتباهى …ويترك أثرا طيبا في ممر الحياة ويمضي.
والشعر ليس متاحا للجميع, إنما هو مقصور على أهله وهم أهل اختصاص وموهبة ومعرفة و أهل خبرة ومراس في علوم اللغة…أما مجرد معرفة اللغة وقواعدها لا يكفيان لمولد شاعر, فالشعر له تقعيده بل هو علم قائم بذاته وله مبادئه الجمالية واللغوية والفنية والنقدية…

وكما عودتنا الشاعرة نعيمة خليفي من خلال أشعارها ومقولاتها نجدها تتفق مع كبار المبدعين المغاربة في تحديد خصائص المبدع وخاصيات الابداع فيقول الدكتور محمد السرغيني رحمه الله: إن الكتابة الفولكلورية وقضية الغرابة ضربان من العقوق

ويقول الدكتور عبد الله العروي في كتابه الايديولوجية المغربية المعاصرة…ص174

كل عمل فولكلوري يعكس مدى النقص التاريخي للبنية الاجتماعية التي أوجدته بل ويستمد منها في حقيقة الامر قيمة ذاتها.

إذن فالدكتور السرغيني و الدكتور العروي كما الشاعرة يقرّون أن أدبنا يعاني من الرداءة والنقص والغرابة, ولذلك ظهرت نصوص ثورية تتبنى طرح إشكالية الرداءة حيث تزخر بإدانة الاسلوب الرديء أو الفولكلوري المساهم في تمييع الساحة الادبية بأدب لقيط أحيانا لغة و تصورا
وبناء ومعنى مما يجعل الغيورين يحملون عليه شحنات من الغضب وداعين إلى إحباط كل أشكال التزييف الثقافي والتطاول بنصوص ومنتديات لا إبداعية للسيطرة على الساحة الفكرية والأدبية بأشكال من الفكر الجامد والأساليب المحنطة لتمييعها مستغلين في ذلك الجمعيات الشبه ثقافية.

وبذلك الشاعرة لا تقوم بتكرار تجربة سابقة لها ولا بتحنيط الشعر في منتديات تجميده بل خاضت سبل المقاومة بالحرف والكلمة …وانطلقت من اعتماد الشعر في بنائه دون ابتذاله على أنساق غيرها فهي تقارب أشعارها للأشياء …للعالم و للإنسان بحساسية مرهفة وحداثية متجددة, ولها جمالية خاصة في تجربتها,لأني أجدها ترى الشعر أداة للتوجيه والإصلاح ودحض مزاعم مفاهيم الرداءة المنتشرة… قصد تطوير المجتمع نحو الأدب الرفيع عبر الكلمة والحرف برموز لا تشوش على المعنى العام وتسخر الألفاظ المتداولة لتقترب من المتلقي دون إبهام من غير أن تفقد كلماتها بيانها ومعانيها الظاهرة والمضمرة السامية ولا أهدافها النبيلة باعتمادها الامتاع والإقناع واللغة الرصينة والبلاغة والبيان … وتتفق نعيمة في بناء شخصية الشاعر في ذلك على الأسس العلمية والموهبة والتكوين والاستمرارية … مع الشاعرة والأديببة المغربية ياسمينة حسيبي التي تدلي بدورها حول شخصية الشاعر الحقيقي وحول كيفية بنائه فتقول: من تريد أن تكون شاعرة عليها بالقراءة والقراءة و…وعليها أن تلتهم كتب النحو والصرف والإعراب والبلاغة وعلم الكلام والتأويل والقدرة على الاستدلال والإقناع والحجاج والقياس والإلمام بأنواع الخطاب…وأن تتابع الحركة الشعرية الحديثة في مراحل تطورها, وأن تقرأ القديم من الشعر وتتقن بحوره وتقعيده …وأن ترتوي من تجارب الشعراء الكبار الاحياء منهم والأموات, وأن تنسى لقب شاعرة وتكتب من أجل الكتابة لا من أجل التصفيق والتطبيل….وتقول ياسمينة: الشاعرة تحمل على عاتقها ثلاث مستويات
وهي: التجديد والإقناع والاختلاف…ومن تكتب لتكون على الموائد يوميا تستهلك نفسها دون طائل في نصوص تقريرية …فالشعر ليس بالكمية بل بالجودة وبالدراسة وبالتأني والتمكن من قواعد اللغة وأصولها.
فالشاعر إذن يجب؛ في نظر الشاعرتين، أن يكون موسوعة لغوية و اجتماعية و فنية إضافة إلى الموهبة والشعر نفسه عند خليفي مقاربة معرفية للمثقف الاكثر غنى حداثيا والاكثر شمولية في التحول نحو بناء مجتمع جديد وتطويره انطلاقا من مبادئ وقيم تتبناها الشاعرة وهي تدعوهم للتمعن في الشعر والبحث في معانيه للوصول الى ما نصبو اليه من تغييرات من خلال أشعارها ومثل دلك ما جادت به قريحتها دلاليا ضد التسرع في القراءة الشعرية السطحية وعدم الغوص في مقاصد الشاعر فتقول:

لا تمروا من هنا كالأحلام
لا تشيدوا بيني وبينكم جدارا
…يسد شهية الكلام
أو حين تقول
لا تبرحني
لاتبرحني
تلك العائمة كريشة طير رشيق
في بهجة نسائم المساء
تلك المتوغلة في طوايا مملكة الغيمة

وهكدا فالقصيدة عند الشاعرة ليست دائما مهادنة فهي سلاحها ضد النفي الأدبي ضد هجر الاقلام الرصينة والوفية للقضايا الانسانية اجتماعيا وأدبيا ولغويا وسياسيا…ضد شعر البطون المتحلقة حول الموائد المربعة والمستديرة والمستطيلة , إنها بسخرية متوقدة وبنظرة الغيورة تمضي على قرطاسها تخط هواجس نبلها دفاعا مستميتا عن الثقافة …عن الأدب …عن الشعر الرصين ضد التهجين الشعري والتمييع الأدبي بقولها مغردة كعادتها الساخرة.

و لأننا ننسى
ولأننا كبيت مهجور
في غابة موحشة …ننسى
نذوي كما يذوي التين في الخريف
وسراجنا في دخان ذبالته الأخيرة يتلاشى
ولأننا كدمعة في منديل قديم نطوى
وننسى…وننسى

ونرى أن الشاعرة من خلال هذه الأبيات توضح هجر المتلقي للشعر الجميل المتناسق الرصين نحو شعر المناسبات و الفولكلورية المتطفلة على الحقل الابداعي…ويقول الاستاذ عبد الكريم اضريس في إحدى مقولاته حول موضوع التطفل الأدبي والفني في بلادنا :أثار انتباهي تحليل وتحريم ا لكلمات …يبدو أن الامر مستجد والمعروف في الإبداع عموما والكلمة خصوصا قديما وحديثا هو الجمال والتناسب والتناسق…ويطرح السؤال:
هل تدعشت الكلمة لا قدر الله ؟

ويجيب الشاعر حسن خيرة عن الإشكال نفسه كما شاعرتنا في نقدها اللاذع لسقوط الكتابة الشعرية المدوي وتدني أسلوب الكثيرين من الشعراء المستجدين وبعضهم إلى مستوى الحضيض حين يقول بانفعالية الثائر على حدود الابداع في الحقل الثقافي عموما: يجتاح الساحة المغربية تسونامي الرداءة…وأنا لست شيطانا أخرس ولن أسكت على الحق و لا أخاف لوم لائم …إن ما بتنا نسمع من سرقات أدبية ومن تدني الأسلوب في الكتابة الشعرية سواء منها المعربة أو الزجلية بالإضافة الى تعظيم وتقديس أناس ووضعهم في مراتب أكبر بكثير مما يستحقون و اعتبارهم مبدعين وهم عن الابداع بعيدون.

وهكدا تلتقي الشاعرة نعيمة خليفي في نقدها للوضعية الادبية بالكلمة والحرف مع الشاعر حسن خيرة في غيرته المباشرة وخروجه الظاهر كما الاستاذ والمفكر عبد الكريم اضريس والشاعرة ياسمينة حسيبي

إنها موجة جديدة تلوح في الأفق لمحاربة صالونات ومقاهي الشعر الرخيص وتنظر لتمييز الغث من الجيد والكم من الكيف وتقول نعيمة بحرقة شاعرية معبرة عن ذلك:

كل ليلة
أشرّع النوافد على مصراعيها
أطرح الاوراق أرضا
كي يتعرى سر العلة
أو حين قولها
لم يكتشف
سر انطفاء مصباحه السري
في حقل الزيتون
إلا حين رأى
ثياب أمه مبللا بالدموع

ونختتم هدا المشهد الدرامي في التحول الشعري المغربي المهرب نحو الرداءة بقولة الأستاذ رشيد الياقوتي في مقالة له بجريدة العاصمة حيث يصرّح: بأن الملتقيات الشعرية في مجملها عالة على الشعر في مدن عدة بالمغرب.

أما الشاعر والأديب عبد اللطيف اللعبي فيقترح كحل للخروج من هذا الصدام الثقافي الذي ينخر الجسم الادبي المغربي بالرداءة فيقول: التجديد الثقافي والتحرر الفكري يدعو لتجنب ما يلي:
مأزق ثقافة بورجوازية أرستقراطية من شأنها التنميق والتضليل
الوصف والحياد السلبيين
ثقافة الموضة

فإلى أي مدى هذا الهجوم الشعري والنثري من شعراء وأدباء ومثقفين ومفكرين له مصداقية تؤثثه على الضعيف من الشعر والرخيص والهجين منه رغم أن كل مجالات الحياة تتعايش فيها كل الإشكال اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا الغث منها والسمين ؟

فلِما نستثني الشعر والأدب والثقافة من ذلك…والمرء من حقه أن يختار بين الجيّد ودونه كما يختار في حياته اليومية أي شيء ؟
فهل هناك فرق بين من يبني القيم وبين من يدعو لتشييئها
وهل يمكن أن نتنازل باسم حرية التعبير عن الجودة في الادب دون ترسيخه ؟

وأقتبس بتصرف مستسمحا الشاعرة نعيمة خليفي هذه الخاطرة الشعرية منها لأختم بها مداخلتي
وهي تقول بالحرف:

متشظية أنا
قد تهدأ عاصفة القلب
لكن
أما آن لعاصفة الشعر أن تهدأ


حسن امكازن بن موسى
الدر البيضاء في 24102014