أحمد كرنو في لوحاته وتطلعاته ..تموجات الطبيعة والشخوص وتنويع التجريد .. بقلم الفنان التشكيلي والناقد أديب مخزوم

                                                أحمد كرنو في لوحاته وتطلعاته ..

 

بقلم الفنان التشكيلي والناقد أديب مخزوم
عالم نوح


تموجات الطبيعة والشخوص وتنويع التجريد ..

أول مايمكن استشفافه من متابعة تجربة الفنان التشكيلي أحمد كرنو، تنقله الدائم بين مايمكن إدراجه في إطار الصياغة التعبيرية ، وبين الصياغة التجريدية بتنويعات عناصرها وأشكالها، وهذا ماوجدناه في لوحاته التي عرضها منذ سنوات داخل سورية، قبل ان ينتقل إلى العرض في الخارج.

وفي تحولات لوحاته بين المواضيع والتقنيات ( زيت، أكريليك، مائي وغيرها .. ) يبرز شغفه العفوي والتلقائي في صياغة المناظر الطبيعية والشخوص والأشكال المعمارية وغيرها، معتمداً على تداعيات الحالة الداخلية التي تتسع للتعابير الشاعرية والغنائية، وأحياناً الحروفية والتكوينات الهندسية، التي شاهدناها في لوحة له عرضها في دمشق عام 2011 ، حيث ركز لإظهار البنى المعمارية الأثرية والقباب والأقواس، ضمن تقاطعات أفقية وعمودية.

وإذا كنا أشرنا إلى أن المادة اللونية مشغولة بعفوية وبسماكة ، في معظم لوحاته، فهذا يعني أنه يقدم لنا حقولاً لونية تغلب عليها التلقائية، التي تتجاوز التفاصيل، وتعمل بالتالي على ابراز مساحة المشهد وأبعاده الداخلية ، وتجعل المساحة تتميز بتداخل ألوانها .

تجريد غنائي وهندسي

وأحمد كرنو يرسم الطبيعة بتموجات جبالها ووديانها وأعاصيرها وسكونها، ويركز لإظهار الطبيعة الجبلبة والسهلية والبحرية بلمسات عفوية تموج بالحركة، وبإيقاعات بصرية وضربات لونية مكثفة، إلا أنه لا يلبث أن يعود، في لوحات أخرى، إلى عوالمه التجريدية، بلمسات صغيرة ومتتابعة ومتجاورة ومتقاربة وبعيدة عن التسطيح والمساحات الواسعة. وهذا يعني أنه يطلق في لوحاته التجريدية ما يشبه المعزوفة البصرية ذات الإيقاعات اللونية المتواصلة. وهو يوزع لمساته اللونية، الساطعة والخافتة، وينثرها في المساحة، بما يضمن حضور الضوء الشرقي المستعاد من مخزون ذاكرته البصرية، وما يضمن إبراز كثافة في معالجة الألوان للوصول إلى لمسات أكثر حداثة واقتراباً من تقنيات فنون العصر، عن طريق تسميك العجينة اللونية، التي يجعل منها مادة ذات أبعاد جمالية وتعبيرية، تنقل الإحساس الداخلي المباشر، ولا تعمل على تقليد الشكل الخارجي أو التماهي مع المشهدية الخارجية.



فألوان هذه المجموعة تبرز بانف
عال وبمعالجة تهتم بمسألة إظهار بريق النور فيها، مع أن سطوح لوحاته لا تستقر على هذه الطريقة، حيث يقدم في مجموعة أخرى من لوحاته، ماله علاقة بالتجريد الهندسي وبالتسطيح اللوني. وهكذا نجد تحولاً من طريقة التركيز لإظهار، المساحات الموحدة للون، إلى طريقة التركيز لإظهار الغنائية اللونية، وفي كل الحالات يبتعد عن الصراخ اللوني الوحشي، ويركز لإظهار الأجواء التي توحي بالتقارب اللوني، وقد يتحول أحياناً إلى صيغة تشكيلية لها علاقة بالفن التعبيري الحركي، وهنا يصبح سطح اللوحة مجالاً للتشكيل الحر، بحيث تخضع معطيات العمل البصرية لحركة اللون، الذي يضعه على سطح اللوحة بحركة متشابكة ومتداخلة ومنفلتة من أي نظام زخرفي أو نمطي .

رمزية الشخوص

ويمكن القول أن احتكاك أحمد كرنو الدائم بالمعارض، التي تقام في الداخل والخارج، ونشاطه اليومي، وسوى ذلك من نشاطات ومتابعات فنية، سمحت له بتقديم معالجات لونية مشغولة بتنوع تقني تحركه انفعالات متنوعة، ترتد أحياناً نحو الداخل والعمق والإنفعال الذاتي، وأحيانا يطغى عليها الآداء العقلاني والخطوط والزوايا الهندسية الصارمة. والواضح في بعض لوحاته تلك الرغبة البادية في إظهار الإيقاع اللوني الغنائي، والاهتمام بتقديم اللوحة على انها صورة لا تمثيلية للشيء المرسوم، والوصول في لوحات أخرى إلى اختزال الشخوص أو المجموعة الإنسانية وتقديمها بطريقة رمزية ودرامية ومعبرة عن تداعيات القلق الذي يلف حياتنا المعاصرة، المسكونة بالعنف والدمار والموت والتهجير والترحيل القسري، حتى أنه في بعض لوحات هذه المجموعة يجعل الشخوص المبسطة والمختزلة إلى أبعد حد، تتداخل مع البنى المعمارية المحلية، كإشارة إلى هذه البيوت الخالية من السكان، والمهجورة بسبب كوارث الحروب المتواصلة دون توقف أو انقطاع.

و
في هذا الجو من الاخبارات اللونية والتقنية التعبيرية والغنائية والحركية والهندسية والحروفية أحياناً، يصبح عمله عرضة لتبدلات الحالة الداخلية، التي يعيشها أثناء إنجاز اللوحة.
فهو حين يكون في حالة قلقة ومتوترة، لا بد أن تأتي الحركات اللونية متوترة ومرتبطة ببؤرة الانفعال الرئيسية، وعلى خلاف ذلك حين يكون في حالة استرخاء وهدوء تأتي مساحاته اللونية رصينة ومحسوبة بدقة هندسية صارمة، وهذا لا شك يعمل على إغناء التجربة الفنية، ويدفعها نجو التنوع في المسارين التكويني والتلويني، ونجد حالات التنقل بين إيقاعية هندسية ضاغطة، إلى إيقاعية بصرية أكثر حركة وحيوية وإنفعالية.

إن الحرية الأدائية في المظهرين على الصعيدين التشكيلي والتقني، والتي تبرز بجلاء في مساحات أعماله السابقة والجديدة، تحمل كل المعطيات التي كسبها في حياته الفنية في سورية، ثم كثفها في المانيا مقر إقامته الحالية. فحين تختصر اللمسات السريعة أحياناً أشكال وعناصر الطبيعة الخلوية، وتعبر عن عمق إنفعالات الداخل، فإنما تختصر معطيات ثقافة بصرية ، أطلقتها عواصم الفن الكبرى في القرن العشرين، قرن التحولات والإنقلابات الفنية الكبرى.

___ أديب مخزوم