بعد أن فاجأ الجميع بقدرته على الرسم والتشكيل .. دريد الأسد – دردو الحلم الأسطوري والسخرية من واقع متأزم، تتلمذ في طفولته على يدي عمر حمدي
بقلم: أديب مخزوم ، عالم نوح

بعد أن فاجأ الجميع بقدرته على الرسم والتشكيل ..
دريد الأسد – دردو الحلم الأسطوري والسخرية من واقع متأزم
تتلمذ في طفولته على يدي عمر حمدي 


بقلم: أديب مخزوم  
عالم نوح
—-

يجمع الفنان التشكيلي د. دريد الأسد – دردو في جدارياته ولوحاته ورسوماته بين مناخات الأسطورة والكاريكاتير الساخر ولقطات الحقيقة، بين الخرافة والواقع للوصول في أحيان كثيرة إلى الايقاع التشكيلي الساخر، المعبر عن حدة تناقضات الواقع الراهن، المسكون بالعنف والتوتر والاضطراب. ورغم ميله الواضح نحو استعادة معطيات الاسطورة، في بعض لوحاته وخاصة في جداريته " داماسكا " وفي مجموعة من لوحاته، يطل وبشكل دائم، موضوع مصارعة الثيران ، وصولاً الى موضوع عبلة وعنترة، ومروراً بالكاريكاتير المبسط والمختصر . إلا أن خطوط الرسم التي تحدد العناصر ، تبقى معبرة عن موهبة تعود لأيام طفولته – كما قال لي ، حيث كان دريد يتلقى دروساً أولية في الرسم، على يد عبقري الخط واللون الفنان الراحل الكبير عمر حمدي – مالفا. 

وفي جميع أعماله وتحولات مواضيعه وتبدلات معالجاتها، على الصعيدين التشكيلي والتقني، يبقى هاجسه التعبير عن مرارة الواقع المتردي، وعن عمق المعاناة اليومية التي نعيشها، لاسيما ,وأن لوحاته ولدت مع بداية الحرب المدمرة، وكانت معبرة عن ويلاتها وأوجاعها ودمارها وتناقضاتها. و قد تجتمع في اللوحة الواحدة، المفاهيم التعبيرية والجمالية والذاتية ، مثل اللوحة التي تتداخل فيها ثلاثة رؤس بطريقة جانبية وأمامية وتسطيحية، وبألوان متقاربة ، مع العناصر الحياتية المفجعة والمرعبة والمؤلمة، وهو إلى جانب تفاعله مع الهموم الحياتية والواقع المأساوي، لا يتوانى عن البحث الفني الذي يمنحه اسلوبية وخصوصية، حيث يتنقل بين المواضيع والتقنيات، دون أن يخون أحاسيسه ومشاعره الداخلية .
وهو يجسد اشكاله ( بألوان الزيت وبخطوط قلمية أساسها زيتي .. على الكانفاس والكرتون والخشب ..) وصولاً الى لوحاته التي تبرز فيها المساحات اللونية المستوية، وعناصر الأشكال المحورة والمتداخلة ، ومروراً برسوماته الكاريكاتورية المبسطة ، المفتوحة في كل تحولاتها وتنقلاتها وتبدلاتها، على احتمالات انتشار السخرية، فوق مساحات الأمكنة المغمورة بالشحوب والمرسومة بخطوط قلمية وبوسائل مختلفة. 

دلالات الأسطورة
ومنذ العصور القديمة برزت السخرية في الرسم والنحت معاَ، وتتضح هذه العلاقة أكثر فأكثر في الأعمال الفنية القريبة من الأجواء الكاريكاتورية، فمسخ الصورة الحقيقية وإظهارها على هيئة غير واقعية، يحقق قدراً كبيراً من السخرية، ولوحات دردو – دريد تشكل عودة الى تلك الرؤى التخيلية، التي برزت منذ آلاف السنين في النحت السوري، وتواصلت في الفنون الحديثة في الشرق والغرب معاً، يعود إليها ليقدمها برؤية جديدة وخاصة به، قائمة على جمالية التحوير والتلخص والاختزال . كما نجد الرؤى الخيالية الساخرة، تلعب دورها في توضيح الدلالات المرتبطة بالماضي والحاضروتوليفة المستقبل. 

وفي مجموعة رسومات ولوحات " مصارعة الثيران" بوضعياتها المختلفة، يرمز إلى ذاته، ويستعين بالكثير من الدلالات والرموز، ويحول العلاقات والأشكال أيضاً، إلى ما يشبه الحالة الساخرة ، ويتجه نحو إقامة العلاقة، التي توازن بين التجسيد والتسطيح (فالتجسيد يظهر عمق الأشكال وظلالها ). ولوحاته تبحث عن الأمل رغم المخاض والأحزان والقلق، الذي غالباً ما يعالجه كحالة إيمائية ، تدهش وتحير بأجوائها الغرائبية.
ولوحاته على هذا تشكل مدخلاً رمزياً وذاتياً للتفاعل مع الحلم، في لحظات الانفلات من تأثيرات الواقع المشحون بالقلق والتوتر والاضطراب، فهو يعيد الأجواء الاسطورية للأمكنة المصطرعة ليثبت من خلالها تداعيات إشارات استمرارية الحياة، كما أن التضاد اللوني ما بين القتامة والوهج يمكن أن يشكل أيضاً مدخلاً لحضور الحياة وغيابها ، بما فيها من مفارقات ورؤى قريبة من الاجواء الكاريكاتورية الساخرة . 

وأمام تلك الرؤى الاسطورية، التي يحملها من العالم ، لابد من الإشارة إلى تلك الصدمة المؤلمة ، الناتجة عن حالات المفارقة الموجودة في حياتنا ، والأجواء الاسطورية، تدفع بالمشاهد إلى تساؤلات أساسية جوهرها البحث عن الخلاصة والعبر الناتجة عن قراءة احداث الماضي والاستفادة منها، حتة لايتكرر الخطأ في حياتنا العصرية الراهنة. 

نبرة انتقادية لاذعة وساخرة
تسيطرعلى بعض لوحات دردو- دريد ملامح السخرية الكاريكاتورية للتعبير عن المهزلة، وأقصى درجات التعبير هي السخرية، وسخريته من الواقع المشحون بالتناقض تبرز في العديد من لوحاته التي يكثف فيها نبرته الانتقادية الساخرة ، قبل أن يتجه شيئاً فشيئاً نحو اختزال رموزه التشكيلية والتخلص من ألوانه الرمادية، ومع ذلك تبرز لوحاته كصدى لحالتين متناقضتين هما الموت والولادة، فالموت هو رمز لإيقاع الخارج (العالم الراهن القلق والمتفجر) والولادة هي الأمل المشع عبر المساحات اللونية الزاهية. كأن الفرح اللوني الموزع على مساحات لوحاته الجديدة ، هو صدى لمحاولات الخروج من تأثيرات الواقع المفجع، واقع المدن المصطرعة بالعنف والمغمورة بالأحزان والتطلعات الشاحبة. 

ورغم المنطلق التعبيري الفجائعي السائد في المدن المدمرة والمحروقة والمحاصرة، لا نجد في أحيان كثيرة ، فواصل زمنية بينة. أما النبرة الأنتقادية اللاذعة والساخرة، فهي أكثر ما يميز عالمه، حيث يظهر قدرة لافتة على ابراز مفارقات الحياة المعاصرة ولا سيما حين يرمز الى الأحداث الجسيمة التي عصفت في سنوات الحرب المدمرة بالمجتمع السوري، الحدث الفجائعي، واحتمال إطلاق إبتسامة، إذ تشكل الفكاهة في التشكيل الساخر استراحة لابد منها أثناء الانتقال من لوحة إلى أخرى. 

ولقد سعى في العديد من لوحاته ورسوماته لإظهار الدمج الحيوي ما بين التشكيل الفني المأساوي الرمزي، وبين المظهر التفاؤلي الذي لا يجعل اشكاله تفقد علاقتها بالواقع، فاللوحة عنده على الرغم من أنها ارتبطت بشكوى الأرض في لحظات الاقتلاع والأبعاد، الا انها تشكل فسحة للانفلات من نسيج الأحزان في أزمنة الحروب والمجازر المتواصلة دون توقف أو انقطاع.
وجمع في لوحاته بين معطيات الفن الفطري والكاريكاتوري والشعبي والاسطوري والرمزي ، ويتنقل من طريقة المعالجة بخطوط سوداء رفيعة، والى تقنية اخرى بطريقة مغايرة لأجواء الصياغة .
والسخريه من الواقع المتأزم، تجعل المشاهد يستغرق في ابتسامة تشكل استراحة لا بد منها في أجواء التعب والتوتروالبؤس والمعاناة. كما ان الفكرة التي يبحث عن أجوائها رسام الكاريكاتور الساخر، ليست سوى صرخة رفض لواقع حاد ومفجع ومفتوح على بشاعة الحياة وآلامها. لإبراز تداعيات الموت والتطلعات الشاحبة المستمدة من ألوان الواقع، وحتى لا تتحول هذه الرموز إلى رؤى كابوسية، كان يعود بين الحين والآخر إلى الواقع ليروي علاقة تبادلية بين اليأس والأمل، وبين رموز الموت والولادة الجديدة.

عنترة وعبلة
وبخلاف الفنان السوري الشعبي الشهير الراحل أبو صبحي التيناوي، الذي رسم بطريقة فطرية موضوع ( عنترة وعبلة مئات وربما آلاف المرات، فهو يمنح هذا الموضوع الكثير من العقلانية المركزة، ويهتم بموضوع التسطيح ومنح الحصان ألوان رمزية – بعض درجات الأخضر، المغاير للون الحصان الأصلي، وهنا يلتقي ويفترق عن المدرسة الوحشية، التي اهتمت بهذا الجانب، إلا أنها كانت أكثر تلقائية وانفعالية في وضع اللون على سطح اللوحة .
فقد اظهر دردو- دريد في في بعض لوحاته رمزيته التعبيرية الواقعية ، من خلال التركيز على هذه المواضيع الشعبية ، كأنه يسعى من خلال تجسيده لهذه الأشكال إلى كسر الموضوعات المثبتة في اللوحة التقليدية، والمجاهرة بإيقاعات لعناصر مرسومة بدقة واقعية مشحونة بالتفاصيل والرموز، كما يرسم الفراغ المحيط بالاشكال ليعبر عن الصورة الحياتية المتلاشية في الفراغ والصمت. 

ومن أجل ذلك تقترب لوحاته من الواقع الحياتي المأساوي الذي نعيشه في كل لحظة، انطلاقاً من أشياء رمزية ، يصل من خلالها إلى تجسيد حالات السخرية من الواقع الراهن الذي اغتال الذكريات والرؤى الأحلام الجميلة . منطلقا في الوقت نفسه من حالات التعبير، عن الواقع الحياتي المحمل باليأس والمرارة والألم. كما أنه حاول اقتطاف لقطات من أبجدية واقعنا اليومي المشحون بالتناقض والعنف ولعبة الحرب التي لا تعرف الرأفة، وهذا يعني أن لوحاته التي قدمها في خلال فترة الحرب حصراً، تطرح في النهاية تساؤلات غير مباشرة حول مصير الإنسان المعاصر المحاصر بحالات القلق والاغتراب والإحباط، إنها عناصر لمسرح تشكيلي يعبر عن الواقع المعاشي والعصر بشكل عناصره وتشعباته وتفرعاته الكابوسية والساخرة . 

بين الفطرية والعقلنة
وتتميزبعض لوحاته بمسحة فطرية ـ ولا سيما قي بعض الخطوط العفوية والمساحات اللونية التلقائية، ولكنها ليست نهائية ، اذ ثمة تلاقياً أحياناً بين العقلنة والفطرية ، حتى في اللوحة الواحدة، والفن الذي يبحث عنه يوازن بين مزاولة الحياة ببهجتها وبهمومها معا، وهذه الحالة وصفها "بيكاسو" مرة " بالإبتهاج الحزين " إنها صورة لعلاقة اللوحة بالحياة وبتناقضاتها التي تضحك وتبكي في آن واحد. فالإنسان يتلمس بهجة الحياة ويتفاءل بالمستقبل، رغم كل الأهوال والحروب، وكل أدوات الشر. ويمكن القول أنه يستعين ، في آحيان كثيرة، بتراث الأختزال السائد في الفنون الشرقية القديمة، التي كانت تحرص على تمثيل الأشكال الإنسانية والحيوانية والنباتية في صياغة مبسطة ، تعمل على تسطيح المساحة للوصول إلى حالات الصدق والصفاء والجماليات الروحانية. وهو يستمد من حركة الخط مقومات الاختزال والتبسيط. كأنه يكتشف جمالية الحركة الصافية التي تطل بقوة في أعماله للوصول إلى شاعرية الصياغة المختزلة (العقلانية والفطرية) كما لو أن المختصر المفيد لموضوع لوحته يشكل منطلق القدرة على التعبير، عن الحركة الحية النابضة دون فقدان مظهرها الساكن أو الهادئ . وفي لوحاته الأحدث ( وخاصة في جداريته مار جرجس220×135cm يستعين بالعصر الأيقوني والروحاني، في خطوات البحث عن حل لأزمتنا السورية الوجودية، كما أنه يجسد الموضوع بأسلوبه الذاتي والخاص. 

الأختصار والتسطيح والأجواء الصوفية الشرقية ..
الايقاع التشكيلي الاختزالي الذي نلاحظه في لوحات الفنان د. دريد الأسد – دردو يأتي بعد سلسلة لوحات ورسوم كاريكاتورية، بدأها بخطوط قلمية رفيعة وبالتجسيد التهكمي اللاذع، مع بداية النكبة السورية، منذ أكثر ست سنوات، و هي تؤكد امتلاكه لحيوية الرسم الحديث والمعاصر، والمفتوح بذات الوقت، على معطيات الماضي والتراث الحضاري، وهو في لوحاته الجديدة يفسح المجال لتشكيلات وزخارف نباتية مختارة بعفوية، وبنوع من المجاورة البصرية بين الدقة والأجواء الفطرية وبين البناء التشكيلي المتماسك، الذي يساعد على حضور العقلنة والعفوية في آن واحد. 

وبقدر ما يحضر موضوع الفارس أو الفارسة والجواد في لوحاته، بقدر ما تتراجع اللوحة التسجيلية التقليدية، التي فاتها ما حققته مدارس الفن الحديث منذ مطلع القرن العشرين، ويطغى المناخ التعبيري السحري على العناصرالتشكيلية المشحونة بالتعابير الصادقة، حيث تتبدى مظاهر الانفلات من التناظر الزخرفي، في الخطوط والدلالات ذات الأعماق الإنسانية والروحية والجمالية والوجدانية .
وتتداخل إيقاعات الألوان المسطحة والموحدة ضمن المساحة الواحدة، بصياغة فنية بعيدة كل البعد عن الحس الهندسي البارد، والأطر القاسية، التي ترتكز عليها الزخرفة التقليدية بشكل عام، رغم اقترابه كما أشرنا من الأشكال والعناصر، التي تتخللها إيقاعات زخرفية نباتية. 

من التجسيد الى التسطيح
وإذا كنا أشرنا إلى تحول الشكل ، بين لوحات الأمس ولوحات اليوم، فإن تعامله مع المساحة اللونية يتجه هو الآخر، إلى نوع من التغيير ، من طريقة التجسيد إلى التسطيح، وتتفاوت المساحة بين الواقع ووجدانه من لوحة إلى أخرى، حيث يختبرها، بمناخات ودرجات لونية مختلفة، ليصل إلى ذاكرة تشكيلية وتقنية مختمرة غنية بالحساسية والروحية . وهذا يعني أن الرسم والتشكيل لديه ، لم يكن وليد سنوات المحنة فحسب، وأنما جاء كثمرة عشق مزمن وتجارب تعود لمرحلة الطفولة، إلا ان إندلاع شرارة الحرب المدمرة، سرعان مافجرت طاقاته الفنية المختزنة ، ودفعته نحو تشكيل مساحات بانورامية احياناً، والتي تؤكدها امكانياته في التشكيل والتلوين الخارج عن كل قيد، إلا التقيد بالضرورات الفنية والتقنية، مع حدوث تغييرات كما أشرنا على الصعيدين الأسلوبي والتقني، لاجتذاب العين إلى حقل بصري، تتقاطع عنده الخطوط الرفيعة والأشكال الإنسانية والحيوانية والنباتية.
ولوحاته تحافظ رغم تحولاته وتنقلاته على ذلك الخط الأسلوبي والتقني، الذي تميز به في مراحل سابقة، والذي نجد فيه تجريباً على أشكال محددة أبرزها العناصرالانسانية والحصان والتشكيلات النباتية، ففي كل لوحة جديدة تتكرر هذه العناصر ، ضمن رؤية شديدة التماس بشخصيته، تبوح بما في أعماقه، وتبحث عن صياغة لونية تقترب من الشاعرية البصرية وتستجيب لعاطفته وأحاسيسه الداخلية. 

وهذا يعني أنه يستعيد موضوعات سبق وطرحها في بعض لوحاته السابقة، عبر حساسيته التقنية الخاصة، التي يريد من خلالها الوصول إلى صياغة عمل تشكيلي، يحمل بعض الإضافات الجديدة، على الصعيدين التكويني والتلويني، وهو بذلك يضعنا أمام تجربة تبحث باستمرار عن أفقها وتميزها الأسلوبي. وهكذا نجد أن تكرار الموضوع في لوحاته هو طريقة لتطوير الأسلوب، ووسيلة للبحث عما يمكن تسميته برحابة التجربة ومرونتها وقدرتها على منح أشكاله وموضوعاته إيقاعات متجددة. 

رمزية اللون وروحانيته
و تظهر الوضعيات أو الحركات المختلفة للفارسة والحصان، ضمن درجات لونية محددة ومختارة بعناية ، وبمعنى آخر تتحول إلى اللوحة إلى مساحات لونية لها قيمتها التعبيرية والرمزية، المرتبطة بالمظهر الروحاني الشرقي، وعلى سبيل المثال اللون الأخضر تكرس على مر كل العصور القديمة كرمز ديني له قدسيته وروحانيته الخاصة .
بهذا الإحساس يواجه موضوعه التراثي والروحاني، وبهذا المناخ اللوني يستعيد موضوعه المفضل الفارس أو الفارسة بلباس الرأس وبملامح مختزلة أمامية وجانبية ، كما تتبدل وتتنوع حركة الأطراف والأصابع ) وهكذا يتواصل مع أجواء الخط الأسلوبي، بمنهج تصاعدي، بعيد كل البعد عن مظاهر العبث والفوضى التشكيلية المتواجدة بكثرة، في المعارض الفنية التي تقام عندنا.
والسؤال الذي تثيره تجربته: هل يمكن التغاضي عن هذا التنوع الأسلوبي الذي قدمه في سياق تجاربه الفنية المتواصلة، وهل هذه التعددية في الطرح واستخدام التقنيات المتنوعة تجد قوتها من تصاعد إيقاعها أو نسيجها الخاص.
لا شك بأن الفنان دريد ، يعتمد مبدأ الرسم الاختباري لبلورة حساسيته البصرية والروحية تجاه المسائل التشكيلية والتقنية ، وبالتالي اكتشاف إشارات الخطأ والصواب، وفي هذا الإطار فالتجريب الاختباري هو منطلق صحيح لتشييد أولاكتشاف لغة تشكيلية تجد قوتها من محاولات الاستفادة من النتائج الإيجابية على الصعيدين التكويني والتلويني، التي يصل إليها عن طريق البحث المتواصل والمتنوع، علاوة على أن التجريب أو الاختبار هو وسيلة تكسر رتابة الجمود والتقوقع في شرك الترداد الأسلوبي المعرض أصلاً لمواقف الرفض والنقد.
وهذا يعني أن الاختبار التقني المتنوع هو المدخل الحقيقي لتحريك الصياغة التشكيلية الجامدة عبر تحديد نقاط ارتكاز الخطوط واللمسات اللونية، التي تتضمن انفعالاً صادقاً يؤكد الناحية الأسلوبية في عصب التطور التشكيلي والتقني.
وهذا ما أوصله في نهاية المطاف إلى اللوحة الخاصة، القادمة من تعددية التقنيات والمعالجات ،والتي لا تلغي في الأساس الأسلوب التشكيلي التصاعدي الصحيح، والرغبة في امتلاك قدرات تشكيلية وتقنية خاصة، جعلته يتعمق في البحث عن آفاق اختبارية جديدة، من خلال الدمج ما بين المواد اللونية المختلفة، لإيجاد تأثيرات بصرية جديدة، تضاف إلى خصوصيات البحث عن إيقاعات تشكيلية خاصة، تتجه أكثر فأكثر نحو إشراقة الداخل، في انحيازها الواضح نحو التبسيط وإضفاء الملامح التعبيرية وإبرازها كأنغام موسيقية، من خلال الدمج ما بين المسلكين الواقعي والرمزي. 

الحصان رمز الفروسية والتاريخ العربي
ويتجه لإضفاء المزيد من الاختزال والاختصار كمدخل لإظهار روحانية الشكل، وبالتالي إخفاء مظاهره الواقعية المادية ، وهذا يجعل لوحاته غير بعيدة عن أجواء التفاعل مع معطيات الواقع المأساوي الموجود في عالم اليوم. وبالتالي فهو بالرغم من بحوثه التشكيلية والتقنية والاسلوبية والروحانية، فإنه يظهر من خلال هذه المواضيع، تعاطفه المطلق مع مشاعر القلق والاضطراب والاختناق واللحظات العصيبة. كما أن المساحات اللونية الواسعة الموجودة في لوحاته الأحدث، تجسد خواء الأمكنة المصطرعة بالعنف والمغمورة بالأحزان، وعراء الأغصان في إحدى لوحاته يجسد عراء الأمكنة المحاصرة والمهجورة . فالتعبيرية الإنسانية المأساوية تطل في لوحاته السابقة والجديدة ولو بشكل خفي غير علني، وهذا ما نجده وراء استعادة مواضيع دينية وأجواء روحانية ، تنشد العودة إلى الصفاء والعلاقات الحميمية المفقودة في عالم اليوم اللاانساني. 

هذا يعني أن لوحاته تظهر كحقول تجارب وتقنيات واختبارات لونية وشكلية، يعمل من خلالها لتوثيق علاقته ببيئته وتراثه ومحيطه، ليس فقط من خلال الارتباط بإشارات الحصان كرمز للفروسية والبطولة والتاريخ العربي فحسب، وإنما أيضاً من خلال الذهاب نحو العمق الآخر للون، الذي يحكي بالضوء صورة العين ، التي استعادت ذاكرتها البصرية عبر التأكيد على مظاهر علاقة اللون بالنور المقدس في الشرق العربي تحديداً .
وهو يعتمد على خطوط دقيقة جداً، وعلى رؤوس أقلام رفيعة، استوحت الأشكال الإنسانية والحيوانية والزخرفية النباتية، وهذا يبرز تعاطفه مع الدقة التفصيلية التي عرفتها بعض الفنون العربية القديمة (على طريقة الزخرفة السجادية والمنمنمات ورسوم الكتب القديمة وغيرها) غير أن ذلك لم يمنعه من إبراز الرغبة في امتلاك أسلوب خاص وشخصي، اندمج عبره مع طموحات الحلم الشرقي وقصصه الاسطورية والخرافية والخيالية . 

فالحلم الشرقي في لوحاته الأحدث شكل عودة للروح العربية، الباقية في مشاهدات الرسوم التراثية المختلفة والزخارف النباتية وغيرها، والتي وصل من خلالها إلى نفحة شعرية تجاوزت المعطيات السياحية الرتيبة ، وحملت القدرة على اثارة انتباه وإعجاب الجمهور المختص والعام ، ومن كل المستويات والشرائح والأعمار.

الفنان التشكيلي والناقد أديب مخزوم