الفنان والناقد التشكيلي أديب مخزوم
- يوليو 22, 2013
- 0
الفنان والناقد التشكيلي أديب مخزوم لشادي نصير و عالم نوح: الحداثة التشكيلية لا تعني كما يتبادر للبعض مجرد سكب أو رش ألوان على سطح اللوحة بطريقة متناغمة أو عشوائية،
الفنان والناقد التشكيلي أديب مخزوم
يبشر بنهاية دورة وبداية دورة
ـ هل التشكيل السوري المعاصر يواكب النقد المحلي ؟؟
دمشق ـ عالم نوح ـ شادي نصير
يعتبر الناقد والفنان التشكيلي "أديب مخزوم" أحد الأسماء المميزة والتي تعتبر حجر الأساس في التشكيل والنقد السوري العربي، له نظرته الثاقبة ورؤيته المهمة في طرح ما يشوب الفن والنقد وقد التقاه عالم نوح بالمحبة وكان معه الحوار التالي:
*يمتاز الناقد التشكيلي أديب مخزوم برؤية ثاقبة للعمل الفني، وهذه الرؤية تجرد العمل الفني وتحلل تفاصيله وعوالم الفنان الذي رسمه. كيف يرى الناقد مخزوم واقع التشكيل السوري في ظل الفورة التي تجتاح القماش التشكيلي السوري، وكيف يسبر أعماق الفنان وعوالمه الداخلية؟
** تظهر اللغة التشكيلية والتحليلية كحاجة ملحة، لتغذية التوجهات النقدية الباحثة عن حلول جذرية لمشاكل النقد التشكيلي العربي المعاصر، فالغاية المتوخاة من أية دراسة أو مقالة نقدية تهدف التعريف بالتجارب، من منظور تطور علم الجمال الحديث عبر الغوص في تحليل الأسلوب واللمسة والألوان والتكاوين لإعطاء الملمح الخاص للتجربة التشكيلية، وإيجاد قراءة جديدة بمعناها التعبيري والجمالي كلون وضوء ووهج أمكنة، وهذا ما أسميه باللون المحلي المفتوح على خصوصية المشهد أو المنظور الضوئي السوري.
ولأن اللوحة أو المنحوتة أو المحفورة هي لغة بصرية، لذا يصعب التعبير عنها بلغة ليست تشكيلية، فمعظم الكتابات السائدة عندنا بمألوفها الأدبي، تبدو كمحاولة للهروب، لا للتعبير عن النواحي الجمالية والتقنية والتشكيلية في العمل الفني، فالمألوف ساهم إلى حد بعيد بتراجع أو باضمحلال اللغة التشكيلية والنقدية.
واللغة النقدية ليست كالمقرر المدرسي أو الأكاديمي، وليست كتابا مقدساً لا يجوز الخروج عليه، لقد اختلفت مرة مع فنان تشكيلي كبير ورائد حول مصطلح نقدي، ورد في دراسة كتبتها عنه، وقلت فيها يعالج (تكاوين) لوحته بدلاً من عبارة يعالج (تكوينات) لوحته التي أجدها مستهلكة، ولا تتوافق مع ضرورات تجديد وتحديث المصطلح النقدي الشائع والتقليدي، وهذه النظرة الضيقة إلى اللغة التشكيلية المتداولة عندنا، تجعل معظم الكتابات متشابهة وخاضعة لرؤية واحدة ترفض كل ما عداها.
ولا بد من الذهاب في النص النقدي الحديث، أبعد من الظواهر الخارجية، نحو أبعاد جمالية تقطف إيماءات الحالة الداخلية العاطفية، التي تبرز في لمسات اللون العفوي وتساعد على تحقيق الإنفلات، من إطار الرسم التقليدي الذي يتطلب درجة من الوعي والتركيز والدقة في العمل.
إلا أن الشيء الأكثر أهمية في الكتابة النقدية العصرية هو الوصول إلى لغة تحليلية خاصة، تعمل على رفد وتغذية الثقافة البصرية برؤى كتابية متطورة ومعاصرة تحمل المستجدات الثقافية اليومية، وتهتم بمسألة أساسية، وهي التماهي مع لغة العين والوصول إلى الضفاف الإبداعية التي تحرك وبقوة الانطباعات المقروءة في العمل الفني عبر الكشف عما يثير ويحرض الفنان والمتلقي معاً، وهذا لا يتم إلا من خلال إيجاد لغة نقدية تحليلية تعطي الناقد فرادة وشاعرية وأسلوبية متجددة ومنفتحة على ثقافة فنون العصر.
والنقد الموضوعي لايعني مطلقا السقوط في القشور الإيضاحية المفهومة، دون الوصول إلى النبض الداخلي في العمل الفني، الذي يعطي المبدع أسلوبية واستقلالية وخصوصية تتضمن انفعالاً ذا لون ومناخ خاصين.
ولا يمكن في هذا الإطار القول أن الكتابات التي تتناول المعارض التشكيلية عندنا، قد أثمرت حلولاً مقنعة في عمليات تحليل النتاج الفني، رغم وجود بعض الاستثناءات القليلة والنادرة، فمن السهولة التعرف إلى مجانية تلك الكتابات، التي بقيت متقوقعة في حدود طروحات الكتابات التقريرية الأولى، التي رافقت حركة المعارض منذ خمسينات القرن الماضي.
وأكثر ما يميّز الكتابات التشكيلية التي تنشر عندنا، هو دخولها في الإطار التعميمي، ويمكن القول أن النصوص والعناوين الكبرى، تنطبق على كل الفنانين القدامى والمعاصرين معاً. ولهذا فهي تضعنا أمام حالة من الالتباس والشك والانغلاق والإرتباك، وإلا ما معنى أن نقرأ مقالة دون أن نلمس فيها أدنى أشارة لمظاهر الاختلاف في النهج والمعطيات بين تجربة فنية وأخرى.
فالثغرة الأساسية في تلك الكتابات، تكمن في طغيان التغطية الشمولية،و بالتالي في البعد الواضح عن خصوصيات وتفاصيل التجربة الفردية. وهكذا تدخل الكتابة في إطار الكلام العام. وقد يجر هذا الافتراض إلى الوقوع في متاهات الصياغة الكتابية العشوائية، الحاملة هواجس سطحية مشتركة. تلك الكتابات يمكن وصفها بأنها جاءت كنتيجة طبيعية وحتمية للفوضى العامة، التي تعيشها حركتنا الفنية والثقافية، وهي تعمل على إيجاد حالة من التشويش عبر محاولاتها في إيهام القراء، أن هذا الاسم أو ذاك هو الأهم بين الفنانين جميعاً، مستفيدة إلى حد بعيد من غياب المراجع النقدية والمتحفية والتوثيقية.
فالكتابات في إيقاعاتها المتنوعة لا تأخذ بعين الاعتبار التحليل التشكيلي واللوني والتقني، حتى وإن تفاوتت التجارب إلى حدود التناقض، وهذا أضفى في البداية على تلك الكتابات الطابع الاستعراضي، ثم تحول إلى مجرد اختيار سهل لا يتعدى حدود الثرثرة الكتابية الاستهلاكية، البعيدة كل البعد عن إسقاطات التراث والمعاصرة وأسئلة الحداثة والبنية الهندسية والعفوية الخطوطية واللونية وسواها.
* شكل بيانك التشكيلي الأول "مشروعية التشكيل المعاصر" قفزة نوعية في عالم النقد، وأثار رود فعل متعددة، ما هي آليات البيان، وما الهدف من إطلاقه؟
** كان عنوان بياني التشكيلي الأول،الذي نشرته في مطلع التسعينات من القرن الماضي: مشروعية التشكيل المعاصر والبحث عن نقطة التقاء تثير الروح، ولقد أثار ردود فعل متناقضة في الوسط التشكيلي، لأن بعض الفنانين والنقاد المنحازين نحو الاتجاهات الواقعية والانطباعية وسواهما، اعتبروه خطوة في اتجاه تثبيت دعائم الاعتراف الفعلي بالاتجاهات العبثية التي كانت صاعدية في تلك الفترة ، بحيث كان هناك صراعاً علنياً بين أنصار الاتجاهات التشخيصية وأنصار الاتجاهات التجريدية العبثية. وهذا جزء من البيان المطول، ويمكن من خلاله، استشراق آفاق أبعاده الجمالية والفلسفية والعلمية، الرامية إلى تحديد المرتكزات التي انطلقت منها في مشواري النقدي خلال الربع قرن الماضي. وبعبارة أخرى كان الهدف من بياني التشكيلي الأول توضيح التقنيات التي سأعتمدها في خطوات تحليل اللوحة الفنية الحديثة. وتلك التقنيات اعتبرها البعض "ابستمولوجية وانطولوجية" لا تنطلق من الواقع، في حين اعتبرها البعض الآخر واقعية وعلمية والرأي الثاني هو الصحيح، ومن هنا بدأت حالات الإنقسام في الرأي حول بياني التشكيلي الأول. وهذا جزء من البيان يؤكد اتجاهي العلمي في التحليل والتشريح النقدي بخلاف ما ذهب إليه البعض.. بدأت نص البيان بقولي :
إذا أعطيناك قلما وورقة بيضاء وطلبنا منك أن ترتجل خطا كما تشاء، فأنك في جميع الحالات ستبدأ وتنتهي بنقطة، فالخط هندسيا هو نقطة متحركة على سطح مستو أو بعد واحد على سطح ذو بعدين وهو افتراض منطقي وعلمي. والمعطيات الجمالية الحديثة تشير أن لكل خط ارتجافات معينة تلتقط مباشرة ضربات القلب وإيقاع الدورة الدموية وتحولات الانطباع الشعوري واللاشعوري في الشخص "وهذا ما أكده العلم الحديث أيضاً" حركة النقطة ملتصقة بالذات الإنسانية كبصمات الأصابع وملامح الوجه وشكل العاطفة أنها محكومة بالتعقيدات الفيزيولوجية والعضوية والسيكولوجية. من هنا نجد أن النقطة المتحركة على سطح هندسي أو سطح تضاريس ليست حالة اعتباطية بل عملية ومسار والنقطة المتحركة (الخط) من هذا المنطلق تبدو بمثابة مقطع يسجل لحظة معينة من حركة الإنسان الدائمة بكل ما فيها من تقلبات ذاتية وتموجات عاطفية وانفعالية .فالحركة الارتجالية الفورية للخط تجعلنا نتحسس ونحدد القوى الخفية الكامنة داخل النفس دون اللجوء إلى أدوات علمية أو سيكولوجية معقدة، وهكذا نجد أن النقطة المتحركة تحدد الصفة الداخلية للذات الإنسانية. فالنقطة هي الحد الفاصل بين الوجود الذاتي وعدمه على سطح اللوحة أو بين الوجود الطبيعي "العضوي" والوجود اللاعضوي، الأثر الإنساني على سطح اللوحة (النقطة المتحركة تخلق خطاً والنقاط المتحركة مجتمعة تخلق خطوطا منفصلة أو متشابكة) تبلغ من العفوية والتلقائية ما يجعلها تلغي كل شيء يقوم بدور مباشر في سياق التعرف على الأنموذج العضوي أو المادي. أي تخلق رموزاً معقدة لا نسخاً مطابقة للجسيمات العضوية أو المادية. فالوجود الذاتي اللاعضوي يبدأ بمجرد تحريك النقطة على سطح اللوحة ولا ينتهي إلا بفناء هذا السطح. الخطوط الحائطية العشوائية من هنا تتخذ طابعا ذاتيا ،لأنها نتاج إنساني آخر الأمر، وتأخذ طابعاً ذاتياً معقداً وإن كانت خطوطاً ارتجالية غير واعية.
النقطة المتحركة بتلقائية وانفعالية "الخط" إذا أنموذجاً تجريدياً ذاتياً شديد الحساسية والتركيز والتعقيد. ولهذا السبب تنطوي حركة فرشاة الألوان "الخطوط المتحركة مجتمعة " على توسع هائل في الإدراك النفسي وبفضلها يكتمل التعبير عن عملية الرؤية الذاتية وسبراغوار النفس. فالتعبير باللون المجرد إذا محاولة مشروعة لأنه يعكس ذات الفنان وذات الإنسان. إضافة إلى ما يحققه من جمالية ومسرة ومتعة بصرية وروحية وحساسية عالية. والتصوير الحديث لا يهدف إلى رد الواقع المادي أو العضوي إلى سطح ذي بعدين، إنما هو يرده داخل ثنائية الأبعاد هذه بنسق من الرموز النفسية اللامادية واللاعضوية التي تدل على الذات ولا تردد الشيء أو تترجمه مثل الكتابة الهيروغليفية على سبيل المثال.
كيف نحول المفردات التشكيلية إلى مفردات مقروءة ومستوعبة معا " أي كيف نقرأ اللوحة الحديثة" أننا نحقق ذلك بالبحث عن نقطة التقاء تثير الروح عبرها نخترق الحاجز الأدبي أو الوسط الثالث ما بين العوالم الداخلية في اللوحة وعين المشاهد وندخل إلى المناطق السرية في ركن من اللوحة. هل باستطاعة هذه اللوحة أن تمنحني أزلي؟ في البدء يبدو كل شيء مرتجاً؟ وتبدو الرؤية ضبابية؟ لابد من البداية إذا والبحث عن نقطة الالتقاء؟ نقطة الالتقاء هي المدخل أو المنطلق الذي ينقل المتلقى من العوالم الخارجية إلى العوالم الداخلية في العمل التشكيلي بشتى معطياته الجمالية والروحية وبذلك يعيش المتلقي كينونة اللوحة كحالة سحرية وكمصدر من مصادر الحركة الذاتية. في كل مرة أقف فيها أمام لوحة تتلألأ أمام عيني إيقاعات بصرية كثيراً ما أتمثلها في مفردات تشكيلية تنتمي إلى عالم السحر، من هنا فالسباق إلى اكتشاف هذه نقطة الالتقاء لا يتوقف وهي تعبر خير تعبير عن ذوق الفنان والمشاهد معا ومدى درجة حساسيتهما البصرية والروحية، أن الظواهر التشكيلية الحديثة اللامادية التي أدت إلى كبت الظواهر والتجارب المباشرة وضعت في مقابل الواقع المادي، عالما أرقى مصمماً تصميماً جمالياً يتأرجح ما بين العقل والعاطفة، فالفنان لا يرسم أكثر مما يمكنه أن يلتقطه في لحظة الانفعال أو الوعي وطردياً مع درجة الانفعال غير أن اللون يكتسب ذاتية نسبية تزداد بازدياد نسبة الضوء الذي يمتصه أو بازدياد درجة الإضاءة المسلطة عليه، حيث يكون الفيصل في التعبير للخطوط اللونية الأشد حساسية والتي تعطي اللوحة في النهاية شحنتها الانفعالية الصادقة، فالمطلوب من الفنان والناقد الفني على حد سواء تحديد أشد الخطوط حساسية في اللوحة (والتي تتقاطع في اشد النقاط إثارة للروح) ومن الواضح أن اللوحة الانفعالية تعوض ما تخسره من وعي بما تكسبه من طاقة حركية وجمالية، والواقع أن هذا الكسب هو الشغل الشاغل للفنان الحديث، فالتصوير الحديث إذ يعزل العناصر التصويرية عن العناصر المادية الفيزيائية، ويؤكد استقلال ما هو ذاتي عما هو تسجيلي، فإنه في ذلك ينتقل من الخاص إلى العام ومن الجزء إلى الكل ومن النمطي إلى الفردي ومن التجربة الحسية الطبيعية إلى التجربة الذهنية التصويرية .
وهذه النظرة العلوية إلى الحجم المادي تعطي الموضوع طابعاً متغيراً غير مكتمل، إذ لم تعد اللوحة مجرد تمثيل لشيء مادي، ولم تعد تذكراً بصرياً أنما أصبحت استبصاراً، لذلك نجد الفنان المعاصر يضع مقابل الأنموذج الموضوعي تكويناً مستقلاً خاصاً به، يدل على المعنى الأدبي ولا يكرره أو يردده كما كان يفعل في الماضي.
لكن الانتقال من الألوان الساكنة إلى الألوان الدائبة يعطي حركة نحو الداخل، في حين يعطي الانتقال من الألوان المتحركة إلى الساكنة حركة معاكسة، إضافة إلى التوضعات البصرية المتضاربة الأخرى التي قد تبرز أو تظهر في أحيان كثيرة، وهذا ما نسميه في مصطلح النقد بانقسام التجربة الفنية وضياع الأسلوب في بحر من الهوامش.
كيف نوحد الحركات المتعارضة في حركة موحدة، أننا نحقق ذلك بالبحث عن نقطة التقاء "مفترضة" وبذلك نكون تصوريا قد لوينا أشد الخطوط حساسية نحو تلك النقطة التي تصبح محور التقاء كل الحركات الموجودة في فراغ السطح التصويري وبعبارة أخرى نكون قد عزلنا "ذهنيا" الخطوط الغبية العديمة الحساسية عن الخطوط الذكية ذات الحساسية بحدودها الدنيا إن وجدت .
*من وجه نظرك كناقد، هل استطاع التشكيلي السوري أن يؤسس لنهضة فنية خاصة، أم أن التقليد الأعمى دون الابتكار أوقعه في التكرار ؟
** لقد حاولت خلال مشواري الطويل مع الكتابة في مجال النقد التشكيلي، تقديم أجوبة مقنعة لهذا السؤال الحائر والدائم:
فالمطّلع على تاريخ تطور الفن العربي في مجال الرسم والتصوير، وبخاصة في قممه التي مثلها يحيى الواسطي، منذ قرون، لايمكن إلا أن يخلص إلا لنتيجة واحدة محتواها إن الفن العربي حالياً، لم يكن بمثل ذلك العلو أو السمو الذي وصل إليه منذ قرون مع منمنمات الواسطي الذي مثل النهضة العربية الأولى في الفن التصويري.
بعد ذلك وقع الفن العربي في أسر التقليد والعادية، أثناء وبعد الإحتلال العثماني، ولم يكن بمقدور الفنان العربي أن ينتج فناً حديثاً في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، أي في وقت متزامن مع ولادة الإتجاهات التشكيلية الأوربية الحديثة، لأن من يعيش ذلك التخلف الذي عاشته أمتنا العربية في تلك الفترة لايمكن أن ينتج فناً حديثاً بشكل أو بآخر بشهادة علم الإجتماع.
لاشك بأن الفنان السوري والعربي استطاع أن يجدد بعض الشيء قياساً على السائد والمألوف، لكنه لم يؤسس لنهضة فنية مغايرة وحديثة بخلاف ما هو شائع لأن لهذه الحالة الإبداعية شروطها الخاصة التي لا تتوفر في مثل ظروف الفنان العربي، الذي لا يزال يتنفس التخلف حتى ولو كان مقيماً في باريس أو في لندن أو في لوس انجلوس أو في أية مدينة أو عاصمة عالمية.
وكانت من أولى دلائل هذا التخلف هو التقليد والإستنساخ والتشبه بالأخر إنطلاقاً من الانبهار بحضارة الغرب الأوروبي والأمريكي. فجميع التجارب عندنا (من الرواد الأوئل إلى اليوم) تنتمي إلى تجارب مرحلة الحداثة الأوروبية وما بعدها، ولاسيما الآتية من محاولات تخطي الثوابت الواقعية والإنطباعية التقليدية وصولاً إلى الإتجاهات التجريدية التي أصبحت فنوناً تقليدية موغلة في القدم، في معايير النقد العالمي المعاصر.
هكذا وبعد مقارنة بسيطة مابين معطيات التجارب المتنوعة للفن التشكيلي السوري والعربي، والفنون الأوروبية والأمريكية (لما بعد جاكسون بولوك) نكتشف أن عندنا مهارات تقنية، وخصوصيات فردية، واحتواء جديد للمدارس الغربية، ضمن الأطر النقدية والتنظيرية الأوروبية الحديثة والمعاصرة .
فالحداثة التشكيلية لا تعني كما يتبادر للبعض مجرد سكب أو رش ألوان على سطح اللوحة بطريقة متناغمة أو عشوائية، فمن يريد الإمساك ببدايات مشروع تشكيلي تعبيري أو تجريدي يحتاج على الأقل إلى حد أدنى من الموهبة في الرسم والتلوين، حتى يصل نتاجه إلى درجة من الحيوية والإتقان والإقناع.
وهذا يعني أن التشكيل التجريدي هو الأكثر صعوبة من عمليات نقل ما هو متوفر في الصورة أو في الواقع، لأن الانفلات من إطار الرسم الجاهز والوصول إلى خصوصية أسلوبية يشكل الخطوة الأولى في تأكيد الموهبة والمقدرة واستخدام العفوية والجرأة واللمسة اللونية الماهرة والواثقة.
إلا أن المشكلة الأساسية التي تعترض خطوات البحث عن أسلوب خاص قبل التخرج من كلية الفنون تكمن في أن أكثرية الطلاب يريدون تجاوز الزمن الفني والوصول إلى أقصى حالات التجريد في الرسم والنحت على حد سواء. وهكذا نلاحظ في أكثرية التجارب التشكيلية الشابة تدرجاً، بعيداً عما هو مألوف في المحترف الأكاديمي، حيث يبدأ الكثيرون بالتشكيل التجريدي، وتتدرج تجاربهم من الصياغات اللونية البحتة إلى تقديم الشكل المجرد، مع العلم أن الرسم الأكاديمي الصحيح يشكّل بالنسبة لطلاب الفنون الضمانة الوحيدة والأكيدة القادرة على صقل تجاربهم في المستقبل و توجيههم بخطوات واثقة باتجاه التشكيل التعبيري والتجريدي .
* هل ترى أن الكتابات التشكيلية النقدية استطاعت الوصول إلى رؤية فيها من الحقيقة والقوة بما يؤسس لمرحلة جديدة من النقد أم أن النقد لا يزال مرتبط بالهوائيات الخاصة بالفنان ورؤيته التي تكون بالغالب قاصرة حتى على قراءة اللوحة التشكيلية والتداخل اللوني؟
** أن نقول إن التشكيل السوري المعاصر لا يزال دون دراسات نقدية معمقة، فهذا يعني أننا نساهم في خلط الأوراق، ونجهل كتابات أولئك الذين وهبوا سنوات عمرهم في البحث والمتابعة والتحليل والنقد والتوثيق، والعبارات الجاهزة التي تقول بأن النقد لا يواكب حركة تطور الفن السوري سقطت، ولم تعد تصلح للمرحلة الراهنة، والمستقبلية، خاصة وأن بعض نقادنا ينشرون في أشهر الصحف العربية الصادرة في لندن وبيروت. لقد أنهى النقد التشكيلي السوري في بعض جوانبه المتقدمة دورة من المراوحة في ترداد الشعارات الجاهزة دون تميز أو تفريق وبدأت الآن دورة عكسية قائمة على استحقاقات مرحلة جديدة عنوانها: هل يواكب الفن التشكيلي السوري حركة النقد المحلي؟
غير أننا نستطيع القول: إن الحركة الفنية التشكيلية السورية، لا تزال تفتقد لدور المتحف ومراكز التوثيق والمعلوماتية التي تساعد في إعادة كتابة مراجع الدراسات الفنية النقدية والأكاديمية. كما أن النقد السوري المتقدم والعصري والراقي، لم يدرس، ولم يفهم كما يجب، ربما لأن البعض يجد في العمق النقدي والتحليلي غموضاً، بدليل أن بعض أدعياء النقد، حين يكتبون عن الفن فإنهم يسهبون ويسترسلون في الأخطاء والمغالطات والتناقضات، الشيء الذي يكشف بالتالي عدم قدرتهم على استشراف آفاق الكتابات النقدية الموضوعية والجادة. فحتى اليوم لا نكاد نعثر على دراسة نقدية مطولة واحدة تتناول كتابات هذا الناقد أو ذاك في إطار ما يسمى «نقد النقد» وقد يأتي اليوم، الذي يعيد فيه النقد القادم الاعتبار لبعض نقادنا الرواد والحاليين ويتم تصنيفهم كقامات إبداعية غير مكتشفة.
وثمة ظاهرة عالمية واحدة يجب الانتباه إليها، وهي أن كتابات الفرنسي أندريه مالرو أحد أشهر وأبرز نقاد الفن في هذا العصر، لم تكن مدرسية ولا منهجية، ورغم ذلك فالكتب التي تناول من خلالها تاريخ الفنون وخاصة منذ عصر النهضة وحتى مجيء بيكاسو يتم تدريسها اليوم في جامعات عالمية.
وقد يكون أندريه مالرو أشهر مثقف عالمي لم يحصل على شهادة جامعية، حيث توقف عن الدراسة منذ حيازته على الثانوية، وبدأ البحث عن النسخ النادرة والتفرغ للقراءة والكتابة والسفر والسياحة، حتى استطاع الوصول إلى منصب وزير ثقافة فرنسا وتحقيق حلمه بتحويل باريس إلى عاصمة ثقافية عالمية في عهد الجنرال ديغول. فالنقد ليس شهادات أكاديمية ومجرد شروحات وقواعد ثابتة ولا معادلات رياضية محسومة النتائج، إن النقد أبعد من ذلك بكثير، وقد يتخطى الأزمنة والأمكنة، حيث يمتلك القدرة على استشراف مستقبل وآفاق العمل الفني.
وثمة دعوات كتابية ارتدادية إلى ثقافة ستينيات القرن الماضي، تقدم تنازلات فنية وتضع الحواجز أمام طموحات نقاد الفن التشكيلي دون الإشارة في أحيان كثيرة إلى الحدود الشاسعة التي تفصل لغة الفن التشكيلي عن لغة الأدب.
فكل متابعة فنية لا تأخذ بعين الاعتبار النواحي التشكيلية الوثيقة الصلة بتأملات وتحولات وانقلابات تيارات فنون العصر تعتبر بمثابة ردة إلى الوراء لأن عملية إيجاد جمهور متذوق للفن التشكيلي لا تتم باستخدام عبارات أدبية مهما أثبت الكاتب من قدرات إبداعية في خطوات انتقاله من جملة شاعرية متقنة إلى أخرى.
قد يتغذى النقد التشكيلي من الأدب والشعر وليس العكس وهنا تكمن الصعوبة في عدم قدرة الأدباء على تشريح التكوين التشكيلي وتفكيكه والتدرج من إيقاع لوني إلى آخر، علاوة على طغيان المظهر التأويلي الشمولي الذي يكاد يلتقي في قواسم دلالية عامة ومشتركة. ورغم أن الأخطاء والمغالطات من السمات البارزة في معظم المقالات الأدبية التي تتناول معارض الفن التشكيلي فإن هناك من يحكم على نقاد الفن التشكيلي بالاغتراب عن الواقع والناس في محاولة لإعطاء الكتابات الأدبية والصحفية البحتة شرعية البقاء والتواصل والاستمرار في رصد معارض الفن التشكيلي. والمشكلة الرئيسية التي تعترض خطوات تطوير التجارب النقدية التشكيلية تكمن في أن الأدب يساهم في أدلجة التجربة الفنية وإضاعة خطوطها ويحرفها في اتجاهات ومسارات مفتعلة تزيد من حدة العلاقة الملتبسة القائمة بين الفن التشكيلي والأدب.
فالأدباء والشعراء في نهاية الأمر وفي أوله أيضاً يقاربون جماليات الفن أو ضرورته من زاوية الأدب أو الشعر وعلى ضوء قناعاتهم واهتماماتهم التي أملتها قراءاتهم لكل شيء عدا الفن التشكيلي (رغم وجود بعض الاستثناءات القليلة والنادرة).
فالكتابات الصحافية التي تنشر عن الفن التشكيلي عندنا كثيراً ما ترتكز على قناعات قاصرة، عندما تشير إلى أن اللوحة التجريدية الحديثة هي لوحة وافدة، وما عداها أساليب لها صلتها بالواقع المعاش وبالحياة العربية، وهذه النظرة السطحية التي تحكم توجهات بعض الفنانين أيضاً، جعلتهم يستعيدون بطريقة تقليدية التكوينات التراثية والفولكلورية الجاهزة تعبيراً عن الذهنية الأدبية والاقتباس التقريري المباشر الذي يمارسه هؤلاء، فليس الهدف مطلقاً أن يكون الفن فولكلورياً أو صورة وصفية عن ألوان وأشكال الواقع المحلي، بل أن يحمل دينامية المتغيرات المستجدة على الساحة الفنية للوصول إلى مقدرة تشكيلية مغايرة تحمل نبض الحقيقة أو الأصالة أو اختبارية العصر، فالخلل الكبير الذي أصاب بعض التجارب العربية التي ظلت بعيدة عن الطروحات الغربية، يكمن في ارتباطها المباشر بالتكوينات السياحية والفولكلورية، بدلاً من ارتباطها بالذوق المحلي المتعصرن، الذي جاء كخطوة ذكية لإنعاش روح البحث عن حركة التجليات التشكيلية الجديدة لعوالم السحر الشرقي، دون التقوقع في إشاراتها السطحية أو المباشرة، حيث تتجاوز من الأساس الإيقاعات التشكيلية المألوفة في الفضاء الواقعي المرئي. بهدف الوصول إلى ما يمكن تسميته بمؤشرات تخريب الفضاء التقليدي والنفاذ إلى جوهر الشيء المرسوم، بعد إزالة تلافيف قشوره الخارجية، مع المحافظة على روح أو جذور التراث العربي، والإبقاء على بريق اللون المحلي، الذي يضيء اللمسة اللونية المتحررة المتأثرة بأجواء اللوحة التجريدية الأوروبية الحديثة، ويمنحها معنى آخر خارج حركة المألوف في التيارات الغربية، كما أننا بحاجة إلى كتابات تحليلية ونقدية تتجاوب مع الجماهير العريضة دون الرضوخ إلى السهولة، لأن السهولة الميسرة تقتل العمل الفني وتضعه في قائمة الأعمال اليدوية الصرفة، فالكثير من الذين يمارسون الكتابة عن الفن التشكيلي في بلادنا ما زالوا يخلطون في قراءاتهم بين الجمال السمعي والبصري، ومازالوا ينظرون إلى العمل الفني من زاوية أذواقهم الخاصة، فنجد بعض هؤلاء يدافعون عن اللوحات التقريرية المباشرة ذات الطابع التسجيلي المتقوقع في إطار الفنون الاستهلاكية التجارية، وفي ذات الوقت يستهجنون و بكل وضوح الاتجاهات التجريدية الطليعية، وعلى هذا يتحول هذا المحرر أو ذاك في بعض الأحيان إلى ناطق رسمي يدافع عن اتجاه ويحارب اتجاه آخر، ليس لأن أغراضاً شخصية تدفعه إلى ذلك فحسب، بل لأنه أيضاً لم يمتلك بعد الحساسية البصرية والروحية، التي تساعده على كشف جماليات العمل الفني الحديث عندما تصل التجربة إلى أقصى حدود المغامرة، في محاولة من الفنان للإمساك بالنهايات الثقافية المميزة لهذا العصر.
* كناقد كيف ترى إمكانية حل مشكلة النقد وتطويره في الشرق الأوسط ،وتحديدا في التشكيل السوري الذي يفتقر إلى نقاد، باستثناءات قليلة بينها "حضرتك؟
** اللوحة الفنية هي لغة بصرية، ولهذا يصعب الدخول إلى عالمها بقراءة ليست تشكيلية، فمعظم الكتابات السائدة عندنا بمألوفها الأدبي، تبدو كمحاولة للهروب، فالمألوف ساهم إلى حد بعيد بتراجع أو باضمحلال اللغة التشكيلية والنقدية.
هكذا تظهر اللغة التشكيلية والتحليلية كحاجة ملحة لتغذية التوجهات الكتابية الباحثة عن حلول جذرية لمشاكل النقد التشكيلي العربي. فالغاية المتوخاة من أية دراسة أو مقالة نقدية تهدف التعريف بالتجارب الفنية من منظور تطور علم الجمال الحديث عبر الغوص في تحليل الأسلوب واللمسة والألوان والتكاوين، في خطوات إبراز الملمح الخاص في التجربة الفنية، والوصول إلى لغة تحليلة مميزة، تعمل على رفد وتغذية الثقافة البصرية برؤى كتابية متطورة تحمل المستجدات الثقافية اليومية، وتهتم بمسألة أساسية، وهي التماهي مع لغة العين والوصول إلى الصفات الإبداعية، التي تحرك وبقوة الانطباعات المقروءة في العمل الفني، وتكشف عما يثير ويحرض الفنان والمتلقي معاً.
وهذا لا يتم إلا من خلال إيجاد لغة نقدية وتحليلية خاصة، تعطي الناقد فرادة وشاعرية وأسلوبية متجددة ومنفتحة على ثقافة فنون العصر. فالثغرة الأساسية التي أصابت النقد التشكيلي المحلي، تكمن في طغيان اللغة الأدبية والكلام العام، وبالتالي في البعد الواضح عن خصوصيات وتفاصيل التجربة الفردية، وتلك الكتابات جاءت كنتيجة طبيعية وحتمية للفوضى العامة التي تعيشها حركتنا الفنية والثقافية، وهي تعمل في كل مرة على إيجاد حالة من التشويش والتشكيك بالكتابات الجادة، مستفيدة إلى حد بعيد من غياب المراجع النقدية والمتخفية والتوثيقية.
والأزمة الفنية عندنا هي أزمة ثقافة بصرية أكثر منها أزمة نقد والدليل الساطع على ذلك أن الحركة الفنية التشكيلية السورية والعربية تنمو وسط غياب كلي لا جزئي للثقافة البصرية التي تغذي العين وتستشرف جماليات اللوحة أو المنحوتة من منظور تطور الفنون الجميلة .
فالثقافة المرتبطة باللوحة أو المنحوتة أو المحفورة هي معدومة تماماً في الأوساط الشعبية وتكاد تكون محصورة فقط عند أصحاب الاختصاص من الفنانين والمتابعين مع بعض الاستثناءات التي تبرز في حالات قليلة جداً ونادرة .
يتحدثون عن أزمة النقد ويتجاهلون عن قصد أو غير قصد أزمة الثقافة الفنية التشكيلية أو البصرية وأزمة الدوران في فلك الفنون الوافدة مما ساهم ويساهم في هيمنة حالة من الرتابة والضياع في موجة المعارض الفنية التي كانت ولا تزال تقام كحركة دون بركة أو كصورة استعراضية وسطحية لما هو بائد في الغرب الأوربي. فالنقص الكبير في حياتنا الفنية والثقافية لا يكمن في غياب النقد وإنما يكمن في غياب المتابعة لما يكتب حتى من قبل الفنانين أنفسهم الذين يطلقون الأحكام العشوائية دون تمييز ودون متابعة لما ينشر عن المعارض مما أدى إلى صعود موجة جديدة من الفنانين الأميين الذين يطلقون الأحكام على النقد التشكيلي دون معرفة بأبسط مبادئ اللغة الفنية البصرية بهدف التشكيك بالآخرين وعدم الاعتراف بقدراتهم الإبداعية. أليس من الأفضل البحث عن الخصائص القومية والوطنية لفنوننا بدلاً من السعي وراء الشعارات الجاهزة والفارغة التي تحتمي وراء مقولة غياب النقد أليس من الأفضل الحديث عن أزمة الأمية البصرية التي تطال حتى بعض الفنانين التشكيليين التي تطغى على أحاديثهم وحواراتهم وأعمالهم الفنية النزعات الأدبية التي تؤكد جهلهم بالمفاهيم والمصطلحات الفنية التشكيلية .
أليس من الأفضل الاعتراف بعدم متابعة ما ينشر والمساهمة في إيجاد مخرج من أزمة القراءة و أزمة الثقافة وأزمة الإبداع. وفي متابعتنا اليومية لما يكتب وينشر في شؤون وقضايا الفن التشكيلي، نترقب ونتأمل ونبحر في زورق الكلمات القادرة على تحريك الإبداع المحلي، ورفده برؤى ثقافية مميزة تحمل ملامح الإضاءة العصرية، وتحقق عناصر الدهشة والإقناع.
فلغة التهميش والإقصاء والادعاء والتناقض، والتشكيك بقدرات الآخرين، لا تطور نقداً، ولا تصنع فناً، وذلك لأن الفنان هو من يقدم الفن، والناقد المختص هو من يقدم النقد، ومن يفشل في كتابة جملة نقدية واحدة، ولا يستطيع الإشارة إلى مواقع الخلل والصواب، لا يحق له أن يعترض على وجود النقد والنقاد.
والمشكلة في النقد ليست في عدم وجود قسم له في كلية الفنون، وذلك لأن أهم النقاد التشكيليين عندنا من أمثال: طارق الشريف وصلاح الدين محمد ليسوا من خريجي أكاديميات الفنون، كما أن معظم الذين يمارسون الكتابة النقدية في المجالات الإبداعية كافة، ويساهمون بالارتقاء بالذائقة الجمالية، ليسوا أكاديميين بالمعنى التقليدي لهذه العبارة وبالتالي فكتاباتهم واهتماماتهم الأساسية ليس لها علاقة بدراستهم وبشهاداتهم الجامعية.
من ناحية أخرى الفنان الأكاديمي من وجهة نظر النقد الموضوعي هو من يستطيع الوصول إلى إيقاعات الإتقان والتناسب والحيوية في تشريح معطيات الواقع، حتى وإن كان قادماً من خارج المحترف الأكاديمي، كما أن المشكلة ليست في عدم وجود اتحاد للنقاد التشكيليين، وذلك لأن مثل هذا الاتحاد لن يكون أفضل حالاً من اتحاد الفنانين التشكيليين.
وعلى الرغم من وجود النقد الفاعل الذي جاء كبديل عن النقد الأكاديمي الغائب، نجد البعض يعملون على تقويضه والتقليل من أهميته، وهم في ذلك يسيرون على ما تعارف عليه النقد العربي من تمجيد مطلق أو تهميش مطلق، دون القدرة على كسر الحد التقليدي الثابت والارتقاء إلى مستوى النص التحليلي الخالص.
والمزاجية في الكتابة النقدية تعني غياب المقاييس الفنية وغياب المسؤولية وبالتالي غياب المعايير الثابتة التي تحدد مفهوم هذا المصطلح أو ذاك ولقد وصل البعض إلى الفوضى النهائية في طريقة التعامل مع المصطلحات النقدية .
هذه الإشكالية تطرح ببساطة لائحة من الاتهامات أمام الثقافة البصرية الغنية التي تعاني من أزمة عدم تمكنها من تحديد مفهوم المصطلح الفني في التعامل مع النتاج الفني المعاصر .
بالطبع هناك فضاءات غير نهائية للتعامل مع العمل الفني باعتماد التأويل والاجتهاد اللامحدود وهنا يكمن دور الناقد في استشراف آفاق تطور التجربة الإبداعية بإعداد دراسات جمالية يمكن أن تغذي العين وتنشر المعرفة التشكيلية .
غير أن الاجتهاد والتأويل شيء وغياب المعايير والضوابط التي تحدد مفهوم المصطلح شيء آخر فما أريد أن أوضحه هو أن بعض الكتابات الصحافية عن الفن التشكيلي غالباً ما تستخدم المصطلح في غير مكانه ويتم إلصاقه في أكثر الأحيان بتجارب لا تمت إليه بصلة بل وقد تكون متناقضة معه .
فالمأزق التشكيلي الكبير الذي يقع في شركه الكثيرون من النقاد والفنانين يكمن في طريقة التداول أو التعامل الخاطئ مع هذه المصطلحات مثل الواقعية والواقعية الجديدة والانطباعية والتعبيرية والتكعيبية والتجريدية والدادائية والمستقبلية والسوريالية وصولاً إلى الفن المفاهيمي الأكثر حداثة من تجهيز وفن كمبيوتري وإشعاعي وتكنو- نووي وغير ذلك .
فاللوحة الانطباعية لا تتحقق بهذه السهولة وهي من أكثر الأعمال الفنية انتظاماً وارتباطاً بالمعايير ولقد حددها "كلود مونيه" بدقة في كتابه "قانون التباين اللحظي" فحسب هذا القانون لا يكون الفنان انطباعياً إلا إذا خرج إلى الطبيعة ورسم في الهواء الطلق واستطاع نقل تبدلات الضوء على الأشياء المرسومة في المنظر الواحد وبالتالي تمكن من تسجيل ملاحظاته حول علاقة اللون بالنور والمرئيات.
*ما هو الجديد في كتاباتك النقدية التشكيلية؟
** التركيز على النص التشكيلي الشعري كان ولا يزال في مقدمة اهتماماتي والنص الذي أكتبه لا يشكل اغتراباً عن اللوحة التشكيلية، والدليل على ذلك أنني في أحيان كثيرة أستهل مقالاتي بلغة شعرية قريبة من مشاعر وأحاسيس الناس، ثم عندما أريد البحث في الجوانب الفنية أبدأ بالقول (من الناحية التشكيلية أو على الصعيد التشكيلي والتقني) وبذلك فأنا أفصل وأفرق في مقالاتي بين اللغة التشكيلية وبين اللغة الأدبية والشعرية الخالصة.
وهناك اعتبارات أخرى عامة يفرضها أسلوب الفنان الذي أكتب عنه، فالرسم الواقعي والانطباعي على سبيل المثال يقرب القراءة النقدية من اللغة الخطابية المباشرة. وعلى العكس من ذلك لا يمكنني أن أستخدم عبارات تقريرية وأدبية في تحليل لوحات تجريدية، فالصياغات الفنية اللاشكلية أو التعبيرية لها دلالات نفسية وروحية وجمالية غير محدودة، وبالتالي فهي تفتح الباب على مصراعيه على التأويل والاجتهاد وتجعل الكتابة تعتمد التحليل التشكيلي والتقني والجمالي والسيكولوجي والهندسي، وما إلى ذلك من تحليلات تشكيلية خالصة بعيدة كل البعد عن العبارات العادية والسهلة.
وهكذا يمكن التفريق بين النص التشكيلي الشعري الذي أتبعه في بعض مقالاتي، وبين النص الأدبي الخالص، الذي أحاول في كل مرة الابتعاد عنه حتى لا أقع في مطب الوصف التقريري الخطابي والمباشر.
إن إيصال اللوحة إلى الناس بأسلوب الإغراء الكتابي الشعري، المتداخل مع مفردات اللغة التشكيلية، يخفف من حدود الصدمة التي يتلقاها القارئ، ويجعل النص النقدي التحليلي قابلاً للدخول إلى قلبه ومشاعره وأحاسيسه العميقة.
وأنا على هذا حين أكتب عن تجربة فنان تشكيلي، أبذل جهدين أحدهما أساسي يكمن في إيجاد المدلول التشكيلي، والثاني جهد اضطراري، لكنه بالنسبة لي أساسي أيضاً، هو تقديم الجانب الفني التشكيلي والجمالي والتقني بأسلوب الصياغة الانسيابية الشاعرية، البعيدة كل البعد عن قصيدة النثر الأدبي.
وعندما لا أجد العبارة التشكيلية الشاعرية المناسبة، ألجأ إلى اللغة التشكيلية الخالصة، وهذه الطريقة وكما أرى، تفقد المقال التحليلي النقدي كثيراً من جاذبيته ولمعته. عمق الفن في النقد، والمعرض يكتسب أهميته من الرؤى النقدية التي ترافقه، وهذه الإشارة تدخلنا في متاهات البحث عن جوهر التجربة الإبداعية، وهنا تكمن المعادلة الصعبة.
هذه المعادلة جعلتني أكتشف شيئاً فشيئاً، إن المناخ الضوئي عندنا، يتشابه في حدود الإطار الجغرافي، وهذا ما عبّرت عنه مراراً في مقالاتي بإيقاعات اللون المحلي أو بنورانية المنظر المحلي، وهي بدرجاتها اللونية المعينة لا توجد في غير المشهد المحلي، لأن المكان المكشوف على ضوء الشمس يلعب دوره في تحديد درجة إضاءة هذه النورانية.
وأعتقد أن المأزق الذي يواجهه الفنانون العرب في تصويرهم للمكان يكمن في هذه النقطة بالذات، هنا يبرز في الواقع دور الفنان العربي الحديث، دوره أن يستشعر روح الشرق كحاجة روحية مستعادة، وينظر إليه ويعالجه كبنية تشكيلية توحي وتتجدد وتختلط بشخصيته وروحه، إني أقصد الفنان بصفته معاصراً ومبدعاً ومتجاوزاً للمعطيات التراثية الملمومة والبائدة.
إنني لست ضد الحداثة التشكيلية الأوروبية، فالفن لا يعترف بالحدود، وهو ضد الاستيطان، ومن حقه أن يكون متوجهاً لكل إنسان، في أي زمان ومكان، وإنما أشعر بأن تطوير الفن العربي والكشف عن طابع الشخصية الثقافية والحضارية العربية، بحاجة إلى مزيد من التعمق والاجتهادات الهادفة إلى عصرنة التراث، إن ما يهمنا بمعطيات التراث والحداثة هو خصوصية هذه المعطيات وندرتها وسحرها، والفنان الحقيقي يعي جيداً قيمة الندرة للإبداع، ولهذا يظل طيلة حياته يبحث وينقب عن الحقائق الحية بعيداً عن المؤثرات الأدبية والقصصية أو التقريرية التي تتعارض وطبيعة التوجه الإبداعي للتراث كمنظور وشكل ومادة.