الفن التشكيلي والعمارة في حلب جـ2 للكاتب والفنان طاهر البني
- ديسمبر 6, 2009
- 0
نقدم الجزء الثاني من كتاب ” الفن التشكيلي والعمارة في حلب” للكاتب والفنان طاهر البني
مع صور للوحات بعض الفنانين التي وردت أسمائهم داخل البحث. ولكم أمنيات عالم نوح بقراءة ممتعة ومفيدة.
لفن التشكيلي و العمارة في حلب جـ2
طاهر البني
ب ـ في العصر الحديث :
شهدت حلب منذ نهاية القرن السابع عشر و خلال القرن التاسع عشر عدداً من الفنانين المستشرقين ، الذين وفدوا إليها ، يصورون معالمها التاريخية ، و مشاهد الحياة اليومية في أسواقها و أزقتها ، فكانت هذه الحركة الاستشراقية نافذة أطل منها الحلبيون على فن التصوير الغربي ، و من غير المستبعد أن تكون بعض الأسر الحلبية الميسورة ، قد اقتنت بعض أعمال المصورين الذين وفدوا إلى حلب ، و احتكوا بطبقاتها الغنية ، و لعل عدداً من أبناء هذه الطبقات ، يحتفظون بصور لأجدادهم و آبائهم من أعمال أولئك المصورين أو بعض المصورين الحلبيين الذين تتلمذوا على أيدي المستشرقين أمثال نديم بخاش و منيب النقشبندي الذي لازم الفنان الفرنسي الذي صمم ساعة باب الفرج و تعلم منه مبادئ فنون الرسم .
و إذا كانت آلة التصوير الضوئي ، قد دخلت حلب مع نهاية القرن التاسع عشر فلا شك أن محترفي هذه المهنة اضطروا إلى تكبير الصور الشخصية ، مستخدمين في ذلك وسائل التكبير اليديوية ، مما أتاح الفرصة لظهور فن الصورة الشخصية ، و في أوائل القرن العشرين ، اشتهرت بعض الأسر الحلبية بامتهان حرفة التدهين فكان منهم آل الدهان و آل القمري ، الذين كانوا يصنعون القمريات من الجص في البيوت و انتقلوا إلى صنعة التدهين ، فظهر لدى بعض افرادهم ميل واضح لفن التصوير من امثال عبد الحميد القمري .
و أما المطبوعات التي وصلت إلى حلب عن طريق الإرساليات التبشيرية ، أو عن طريق الطلاب العرب الذين درسوا في الأستانة أو غيرها من العواصم الغربية ، فقد كان أثرها واضحاً في نمو الوعي الفني لدى العديد من المثقفين في مدينة حلب أمثال جبرائيل الدلال الذي اشتهر بكتاباته الأدبية و اهتمامه بفنون الموسيقى و الرسم .
و حين تأسـس المكتب السلطاني ( ثانوية المأمون ) بحلب فـي مطلع القرن العشرين ، عُيّن الفنان منيب النقشبندي أول مدرس للفنون فيها ، و كان من تلاميذه (( غالب سالم ـ وهبي الحريري ـ إسماعيل حسني )) الذين تابعوا دراستهم الفنية في أكاديمية الفنون الجميلة بروما ، و ساهموا في تأسيس الحركة الفنية المعاصرة في سورية ، ففي عام 1936 عاد من روما غالب سالم كأول متخرج من أكاديمية الفنون الجميلة ، و تبعه في العام التالي وهبي الحريري الذي أسس أول محترف للفنون بحلب ، وكان من مريديه ( فتحي محمد قباوة ) الذي قدّم تجارب نحتية متميزة قبل سفره للدراسة في القاهرة و روما في منتصف الأربعينيات من القرن العشرين في الوقت الذي تألق فيه اسم الفنان ( الفريد بخاش ) نجل نديم البخاش حين أقام أول معرض للفن التشكيلي في هذه المدينة بعد الاستقلال مع مجموعة من الفنانين الهواة عام 1948 في دار الحمصي بالعزيزية .
و في مطلع الخمسينيات ظهرت مساهمات الفنان ( نوبار صباغ ) في التصوير المائي و الزيتي ، و تأسست أول جمعية فنية بحلب برعاية المهندس ( زاره كابلان ) الذي أشرف على تأسيس أكاديمية ( صاريان ) و كان من معاضديه الفنان ( حزقيال طوروس ) و الفنانة ( ليلى جانجي ) ، كما برزت مساهمات الفنانين الحلبيين في المعـارض الرسمية التي اقامتها وزارة المعـارف و مديرية الآثار و المتاحف بدمشق ، منذ مطلع الخمسينيات بمشاركة الفنانين (( غالب سالم ـ إسماعيل حسني ـ نوبار صباغ ـ حزقيال طوروس ـ الفريد بخاش ـ فاتح المدرس )) .
و في أوائل الستينيات تأسس مركز فتحي محمد للفنون التشكيلية بحلب ، و عُيّن إسماعيل حسني أول مدير له بعد تخرجه من روما عام 1957 ، فكان هذا المركز بمثابة أكاديمية صغيرة تخرج فيها عدد من الفنانين الذين رفدوا الحركة التشكيلية السورية ، و في تلك المرحلة عاد من روما عدد من الدارسين للفنون أمثال (( فاتح المدرس ـ لؤي كيالي ـ رولان خوري ـ طالب يازجي )) مشكلين القاعدة الراسخة للإنتاج التشكيلي الإبداعي ، من خلال معارضهم ، و تدريسهم للفنون ، و ترافق ذلك مع ظهور عدد من الهواة المبدعين أمثال (( وحيد مغاربة ـ محمد اعزازي ـ أسعد المدرس ـ وحيد استنابولي ـ سامي برهان )) حيث أقام الأخير معرضه الأول في دمشق عام 1961 .
رولان خوري بريشته
و في منتصف الستينيات عاد من فيينا ( وحيد استنابولي ) الذي درس النحت ، و تبعه ( فواز نصري ) الذي درس الديكور في روما ، و كذلك عاد من القاهرة ( وجيه ستوت ) و ( أحمد جزماتي ) و ( محمد عساني ) الذي أتم دراسته في دمشق ، و غدت الحركة التشكيلية في حلب تمور بشتى الفعاليات و الأنشطة الفنية ، حيث تقام المعارض ، و تعقد الندوات و تدار الحوارات ، و أضحى معرض الربيع يزهو بمعظم نتاج الفنانين الدارسين و الهواة و خريجي مركز الفنون التشكيلية من خلال المعارض الجماعية و الفردية التي كانوا يقيمونها ، كما ظهرت تجمعات فنية هامة كان أبرزها ( جماعة رواد الفن ) التي ضمت نبيه قطاية ـ محمد عساني ـ وليد سرميني ـ عبد الرزاق سباهي ، و جماعة ( الريشة الذهبية ) التي ضمت وحيد مغاربة ـ أسعد المدرس ـ غياث الناصر ـ محمد اعزازي .
و في مطلع السبعينيات عاد الفنان لؤي كيالي إلى حلب إثر ازمة نفسية حادة تعرض لها في دمشق ، و أخذ الفنانون الشباب يلتفون حوله ، و يشاركونه جولاته التصويرية في المقاهي الشعبية ، حيث يختارون موضوعاتهم ، و أنجز عدد منهم معارض فردية طليعية فكان منهم : مأمون صقال ـ سعد يكن ـ عبد الرحمن مهنا ـ طاهر البني ـ عبد الرحمن مؤقت ـ يوسف صابوني .
و قد آثر بعض الفنانين الشباب السفر إلى روما لمتابعة الدراسة أو العمل فيها ، فغادر حلب إلى روما : عبد الرحيم تاتاري ـ عبد المجيد صفو ـ علاء يازجي ـ غسان سياف . و في الوقت الذي تألق فيه نجم الفنان وحيد مغارية الذي أقام عدداً من المعارض الفردية و المشتركة بحلب و دمشق و بيروت ، و حظيت تجربته الإبداعية بتقدير كبير ، و إعجاب مستمر في الأوساط الفنية في سورية و لبنان ، و قد آثر السفر إلى روما لمتابعة دراسته فيها ، فغادر حلب في منتصف السبعينيات ، و عاد إليها في نهاية الثمانينيات ليتابع انتاجه و تألقه في حلب ، و يقدّم عدداً من المعارض في صالاتها .
أما الفنان لؤي كيالي فقد وجد في حلب مناخاً مناسباً لإنتاجه ، فأقام عدداًَ من المعارض التي حظيت بنجاح كبير في حلب و دمشق و بيروت ، لكنه واجه بعض الأزمات النفسية ، و تعرض للنقد اللاذع من بعض سماسرة الصحافة المحلية ، مما عجّل في وفاته محترقاً عام 1978 .
و في أوائل الثمانينيات أقام سعود غنايمي أول صالة خاصة لللفنون ، ضمت إليها أصدقاء الفن ، فكانت موئلاً لعدد من الفنانين و الأدباء ، و عرضت لمعظم الفنانين المقيمين في حلب و الوافدين إليها من المحافظات السورية .
و تزامن ذلك مع عودة عدد من الفنانين الذين درسوا في دمشق أمثال : سعيد الطه ـ زهير دباغ ـ يوسف عقيل ـ شكيب بشقان ـ شريف محرم ـ جبران هدايا ـ مراد ويس .
و صار لهؤلاء الفنانين نشاطهم المتميز و أساليبهم المحدّثة التي أكسبت الحركة التشكيلية بحلب حضوراً فاعلاً ضمن المشهد التشكيلي السوري إلى جانب عدد من الفنانين أمثال : عبد الرحمن مؤقت ـ سعد يكن ـ طاهر البني ـ علي الحسين ـ نبيه قطاية ـ عبد الرحمن مهنا ـ غسان صباغ ـ الأخوين بشير و نعمت بدوي ـ محمد صفوت ـ محمد أبو صلاح ـ وليد كموش .
و في هذه الآونة ، تم افتتاح عدد من صالات العرض الخاصة التي نشطت في إقامة المعارض بمستويات متفاوتة ، و كان من أبرز هذه الصالات : ( صالة إيبلا ) التي أسسها سعود غنايمي ـ و ( صالة سومر ) التي أسسها علي الحسين و ( صالة أكاد ) التي أسسها جبران هدايا و ( صالة النقطة ) التي أسسها سعد يكن ، و ( صالة الخانجي ) التي أسسها محسن خانجي ، و (صالة سرمد ) التي أسسها يوسف عقيل ، و ( دار أمية ) و ( صالة بلاد الشام ) التي أسستها أمية الزعيم ، و صالة ( دار كلمات ) التي أسسها عدنان الأحمد ، و صالة القواف ، و صالة الجسر ، و صالة بولمان الشهباء بالإضافة إلى صالتي ( تشرين ) و مديرية الثقافة ، و صالة ( الأسد ) التابعة لنقابة الفنون الجميلة .
و بذلك أتيحت الفرصة لظهور تجارب فنية جديدة ، كان بعضها وافد من الأقطار العربية و الأجنبية ، و وفد بعضها من المحافظات السورية ، و قد أخذت اللوحة الفنية تجد لها طريقاً إلى بيوت المقتننين الذين أبدوا حرصهم على اختيار الأعمال الفنية الجيدة من المعارض المتوالية ، فظهر بذلك مجموعة من المقتنين الذين يفاخرون بمجموعاتهم الخاصة لأشهر الفنانين ، حيث تحولت البيوت و المكاتب إلى متاحف صغيرة .
و في مطلع التسعينيات رفدت الحركة التشكيلية بحلب مجموعة من التجارب الواعدة وجدت لها ترحيباً واضحاً من قبل الجمهور الفني الذي وجد فيها مذاقاً متميزاً يتناسب مع روح العصر و آفاقه ، و نذكر هنا تجارب كل من : (( محمد قباوة ـ يعقوب إبراهيم ـ ناصر نعسان آغا ـ أحمد برهو ـ ألبير كندورة ـ وارتكس بارصوميان ـ ضياء حموي ـ حسين محمد ـ جوزيف كبابة ـ جورج بيلوني ـ صلاح خالدي ـ حازم عقيل ـ وحيد قصاص ـ إبراهيم حسون ـ زافين بردقجيان ـ آردو همبارسوميان )) .
و في هذا الخضم نشطت التجـارب النقـدية ، و التغطية الصحفية لمعظم هـذا الإنتاج ، فمنذ منتصف الأربعينيات ، أصدر غالب سالم كتاب ( موجز تاريخ الفن ) و تبعه فاتح المدرس بسلسلة عرض فيها أهم المدارس الفنية الغربية ، كما أصدر الدكتور سلمان قطاية كتـاباً عن الفنان فتحي محمد و آخـر عـن المدرسة الإنطباعية ، بينما قدّم رولان خوري ( بيان الواقعية الإيحائية ) بالاشتراك مع نهاد رضا ، بالإضافة إلى خمسة كتب أنجزها طاهر البني ، استعرض فيها الفن التشكيلي بحلب و سورية ، موسومة بالعناوين الآتية : الفن التشكيلي بحلب ـ فضاءات تشكيلية ـ تجارب تشكيلية رائدة ـ ذاكرة الفن التشكيلي في سورية ـ عشرة فنانين من حلب .
و في الوقت ذاته تصدى للكتابة النقدية عدد من الفنانين و الأدباء أمثال : غالب سالم ـ إسماعيل حسني ـ لؤي كيالي ـ سلمان قطاية ـ أسعد المدرس ـ نبيه قطاية ـ صلاح الدين محمد ـ عبد الرحمن مهنا ـ محمد أبو صلاح ـ وليد إخلاصي ـ محمد الراشد ـ فريد جحا ـ محمود علي السعيد ـ لؤي فؤاد الأسعد .
و في التغطية الصحفية للمعارض و الندوات برز دور : صفوان عكي ـ صفوان الجندي ـ هناء طيبي ـ فيصل خرتش ـ أنور محمد ـ محمود مكي ـ إبراهيم داوود و غيرهم .
كما أقيمت الندوات و المحاضرات ، تلقي الأضواء الكاشفة على التجارب الفنية المتميزة التي باتت إرثاً غنياً لمدينة حلب و للفن التشكيلي السوري .
و سنحاول فيمايلي استعراض أبرز الاتجاهات الفنية التي سلكها الفنانون في حلب عبر ثلاثة محاور (( التصوير ـ النحت ـ العمارة )) .
أولاً : التصوير :
يمكننا أن نحصر اتجاهات التصوير التي درج عليها الفنانون بثلاثة اتجاهات رئيسية : (( اتباعية ـ حديثة ـ مستحدثة )) ، و هذا التصنيف تقريبي إلى حد ما ، فكثيراً ما تتمازج هذه الاتجاهات لدى الفنان الواحد ، و ربما تنقّل الفنان في أكثر من اتجاه حتى استقرّت مواقفه ، و وضح اتجاهه .
آ ـ الاتجاهات الاتباعية :
و تشمل : (( الواقعية ـ التسجيلية ـ الرومانسية ـ الانطباعية )) لأنها تتبع المدارس الفنية الغربية التي اعتمدت المحاكاة و المماثلة في تصوير الإنسان و الطبيعة و لم تخرج عن قواعد المنظور و التشريح و النسب الرياضية في الرسم .
و من الطبيعي أن تنصرف اهتمامات الفنانين الرواد في حلب كما في غيرها من الحواضر السورية و العربية إلى محاكاة الاتجاهات الاتباعية و الكلاسيكية التي نشأت في الغرب ، تُعنى بالتصوير الواقعي دون تحريف أو تغيير ، و ذلك لأكثر من سبب ، في طليعتها إعجاب الفنان العربي بإنجازات عصر النهضة في الغرب لا سيما في التصوير و النحت ، بالإضافة إلى مواقفه المعادية للاتجاهات الفنية الحديثة التي تتجاوز القيم الكلاسيكية المدرسية و تبتعد عن المحاكاة فلا توافق هواه و وعيه الفني . و كذلك فإن تمسكه بالقيم التقليدية جاء نتيجة رغبته في تأكيد مقدرته على إنجاز أعمال فنية مشابهة ، تكسبه إعجاب جمهوره بصنعته الفنية التي تماثل آلة التصوير الضوئي في الدقة ، و إبراز الملامح المطابقة للأصل .
و ياتي الفنانون (( نديم بخاش ـ منيب المقشبندي ـ غالب سالم ـ وهبي الحريري ـ علي رضا معين )) في طليعة الفنانين الرواد الذين أنتجوا لوحات تصويرية في هذا الاتجاه ، و قد مضى في أثرهم عدد من الفنانين الذين توفرت لهم دراسة أكاديمية خارج البلاد و داخلها أمثال : (( فتحي محمد ـ محمد قباوة ـ جبران هدايا ـ حيدر يازجي ـ عصام حطيطو ـ رولان خوري ـ برهان عيسى )) .
و تتجلى الواقعية التصويرية بأبهى ملامحها الأكاديمية في لوحات فتحي محمد التي أنجزها في روما خلال دراسته للجسد الأنثوي العاري التي حرص فيها على النسب التشريحية السليمة ، و ألوان الجسد الإنساني بمهارة واضحة ، و حساسية عالية ، دون تحريف أو اجتهادات تعبيرية تُخرج الشكل عن ملامحه الطبيعية في مناخ المحترَف الفني و إضاءته .
بينما تبدو واقعية رولان خوري في أعماله التصويرية التي أنجزها في روما و سورية و بيروت و سواها ، عبر مسيرة حافلة امتدت لأكثر من أربعة عقود صور فيها بعض مشاهد الطبيعة و البيئة السورية و الأحياء و الأسواق و الحافلات و الصورة الشخصية التي برع في تجسيد ملامحها بلمسات رشيقة ، و ألوان محودة و دافئة ، تقترب من المناخات الشاعرية و الرومانسية .
و تظهر لوحات حيدر يازجي تأثره بالواقعية الروسية أثناء دراسته في موسكو ، و هي واقعية تميل إلى الألوان الداكنة ، و النبرات الضوئية التي تبوح بوجودها في حنايا الشكل ، و تقوم على الإيحاء في بواطن العتمة ، و التفصيل في مواطن الضوء ،و تشمل تصوير الملامح الإنسانية ، و معالم البيئة السورية تصويراً موضوعياً ، تبرز مهارة الفنان و براعة أدواته .
كما تبدو ملامح الواقعية في أعمال عدد من الفنانين الذين درسوا في موسكو أمثال : عصام حطيطو ـ محمد قباوة ، و غيرهم .
أما الواقعية التسجيلية فتبدو جلية في لوحات برهان عيسى الذي درس الرسم في محترف والده جاك عيسى بحلب ، و هو يحرص في لوحاته على صياغة الأشكال بدقة متناهية ، و انشغاله بالتفاصيل ، لا سيما حين يرسم بعض معالم البيئة الحلبية و العمارة القديمة و الأسواق الشعبية التي تقتصر على بعض الألوان ، لتظهر عنايته الفائقة بالرسم ، و يشاركه في هذا الاتجاه عدد من الهواة و الفنانين أمثال نزار حطاب و جميل كنهوش . و بعض لوحات صلاح خالدي ذلت الطابع التسجيلي .
و مع ذلك فقد ظهرت بعض المحاولات لعدد من الفنانين الواقعيين في الخروج عن قيود ذلك الاتجاه ، لا سيما عند فتحي محمد ، حيث ظهر في بعض أعمالهم ملامح انطباعية و رومانسية ، و رمزية ، و هذا ما نراه في محفورات فتحي محمد المحفوظة في متحف حلب .
و مع تطوّر الوعي الثقافي في البلاد عقب الاستقلال ، أخذت ملامح الرومانسية تتسرب إلى لوحات الفنانين في حلب ، ذلك أن الرومانسية تُعنى بالانفعالات المتوهجة التي تنعكس في صورة الإنسان و ملامحه النفسية التي تعكسها الألوان المعبرة عن العواطف الجياشة ، و الأحاسيس الشاعرية . و هكذا غدت لوحات (( الفرد بخاش ـ حزقيال طوروس ـ جبران هدايا ـ بشير بدوي ـ وليد كموش )) تزخر بالأشكال الإنسانية ، و ملامح الطبيعة المشبعة بالألوان الدافئة ، و الأجواء الشاعرية الحالمة .
فالأعمال التصويرية التي أنجزها الفرد بخاش في حلب و بيروت بعد دراسته في محترف والده نديم بخاش ، تتجلى فيها النزعة الرومانسية من خلال تصويره الملامح الإنسانية و لا سيما المرأة ، و ذلك عبر تشكيل شاعري للوضعيات التي يرسمها ، و العناية بالخطوط الحانية التي تجسد التشكيل ، و تمنحه بعداً عاطفياً ، تساهم فيه الألوان الدافئة .
أما لوحات حزقيال طوروس ، فإنها تكتسب ملامحها الرومانسية من خلال الألوان المتوهجة التي كان يستخدمها في تصوير الملامح البيئية في أحياء حلب و أسواقها و ريفها ، و المشاهد الطبيعية المحيطة بها مستخدماً في ذلك الألوان الكثيفة التي تُظهر انفعالاته في توضعاتها العفوية ، مما يمنح لوحته حيوية ، حظيت باهتمام المقتنين .
و تمتاز لوحات جبران هدايا بصياغاتها اللونية الحالمة ، و الإضاءة الشاعرية التي تستمد شعاعها من ضوء الشموع الخافت ، و هي تثير مناخات روحية دافئة ، تظهر في وجوه النساء الحالمات و أيديهن البضّة ، و في ملامح البيت الحلبي الحافل بالأبواب و النوافذ و القمريات و الشجيرات و نافورة الماء و السلالم الحجرية و مساندها المعدنية المزخرفة .
و في حين تنصرف لوحات بشير بدوي إلى تصوير المواقف الإنسانية و الوضعيات العاطفية ، و الجسد الأنثوي ضمن صياغات شاعرية مشبوبة بالعواطف عبر لمسات لونية ناعمة ، و إضاءات خافتة ، تلتمع في زوايا الجسد الإنساني و هو ما نراه أيضاً في لوحاته التي صوّر فيها الحارة الشعبية و البيت الحلبي بمفرداته التي أتينا على ذكرها لدى جبران .
و تستمد لوحات وليد كموش مادتها التصويرية من البيئة الحلبية الشعبية و بعض الطقوس الدينية المتمثلة بالطرق الصوفية كالمولوية التي تظهر بصياغة مبتكرة تنتقل من العتمة إلى الضوء المتوهج عبر لمسات لونية ناعمة ، تعكس إحساسه بالمواجد الروحية و المشاعر الدينية المتوحدة مع صورة الطقس الذي يجسده بحركات متقنة التكوين .
و في مطلع النصف الثاني من القرن العشرين شرعت ملامح الانطباعية تظهر في نتاج عدد من الفنانين الذين انصرفوا إلى تصوير الطبيعة الريفية و الأحياء الشعبية في حلب و ريفها ، مبرزين اهتمامهم بتسجيل المظاهر المتغيرة في الطبيعة ، و مؤكدين على فكرة تحليل الضوء إلى عناصره الجوهرية ، باستخدام اللمسات السريعة و الضربات المركّزة بالفرشاة من أجل الحصول على تأثيرات قوية و سطوح زاخرة بالأضواء و الألوان ذات الملامس المثيرة . و هذا ما نلمسه في لوحات : ( إسماعيل حسني ـ غسان صباغ ـ نوبار صباغ ـ محمد صفوت ـ غسان سعيد ـ يوسف صابوني ـ غياث الناصر ـ ظافر سرميني ) و غيرهم .
و بالرغم من تنوع الاتجاهات التي سلكها إسماعيل حسني في لوحاته التصويرية إلا أن معظم نتاجه جاء في سياق الانطباعية التي صوّر من خلالها العديد من مشاهد الطبيعة الفراتية ، و البيئة السورية عبر لمسات لونية واضحة ، ترتصف متقاربة لتشكل نسيجاً غنياً ، يبرز الأشكال بحيوية متوسطة .
و تتجلى الانطباعية في لوحات غسان صباغ الذي درس التصوير في أكاديمية ( ريبن ) الروسية ، من خلال رصده للأحياء الشعبية ، و المشاهد الريفية و الصورة الشخصية بأشكال واقعية ، تكسوها عجينة لونية غنية بالمؤثرات التي تضفي على اللوحة حيوية و نضارة ، حيث تتوزع نبرات الضوء في حنايا الأشكال لتكسبها نبضاً حيوياً .
أما نوبار صباغ فقد انعكست ملامح الانطباعية لديه من خلال لوحاته المائية بينما نجده يبتعد عن ذلك في لوحاته الزيتية و أعماله التصويرية الأخرى .
ب ـ الاتجاهات الحديثة :
تشمل هذه الاتجاهات ( التعبيرية ـ التكعيبية ـ السريالية ـ التجريدية ) و كلها ظهرت في أوربا أواخر القرن التاسع عشر و أوائل القرن العشرين . و إذا كانت ملامح التعبيرية أخذت تتجلى في الفن الأوربي ، فهي تسعى للتعبير عن المشاعر الإنسانية بكل السبل المتاحة للفنان بما في ذلك المبالغة في تحريف الأشكال في سبيل إيصال الحالة الشعورية للمتلقي .
و التعبيريون يرفضون مبدأ المحاكاة بكافة أشكالها مستخدمين الخطوط البسيطة و الألوان المثيرة في التعبير عن حالات النفس و دفقات الشعور .
و قد حظي الاتجاه التعبيري في التصوير باهتمام واضح لدى الكثير من فناني حلب لما يتمتع به من خصائص تُبعد الفنان عن قيود التقليدية ، و تًُشرع أمامه مساحات رحبة لصياغة لوحة تعبيرية بأدوات مستحدثة ، و تقانا مختلفة ، حققت حضوراً جديداً ، و صياغة معاصرة .
و لعل من أبرز الفنانين الذين مضوا في هذا الاتجاه : (( طالب يازجي ـ لؤي كيالي ـ وحيد مغاربة ـ سعد يكن ـ علي السرميني ـ عناية عطار ـ زهير دباغ ـ طاهر البني ـ ألبير كندورة ـ خيرو حجازي ـ عبد الرحمن مهنا ـ شريف محرم ـ إبراهيم حسون ت نهاد الترك ـ حسكو حسكو ـ وحيد قصاص )) .
و قد كانت لوحات طالب يازجي التي أنجزها في مطلع الستينيات مـن القرن العشرين ، تعكس رؤياه التعبيرية الواضحة في رصد بعض القضايا الاجتماعية من خلال أشكال إنسانية و حيوانية ، أخضعها لصياغة خاصة ، تُظهر رغبته في تحوير الأشكال ، و إعادة بنائها عبر خطوط قاسية تحيط بالشكل المرتدي حلة لونية باهتة .
أما لوحات لؤي كيالي التي أنجزها عن القضية الفلسطينية ، و خصّ معظمها في معرضه الشهير ( في سبيل القضية ) عام 1967 ، فتعتبر ذروة التعبيرية في التصوير السوري المعاصر ، فقد حطّم الفنان في لوحته فـي كل القيم التشكيلية السلفية ، و قدّم صياغة مبتكرة للشكل الإنساني ، تجلت في حركة الجسد الانفعالية ، حيث بدت شخوصه مثقلة بالألم و الغضب ، و هي تتتلوى في حركات مفزعة و ملتحمة في فضاء اللوحة ، و أضحت عيونها نوافذ تطل على عوالمها الداخلية المثخنة بجراح القهر و البؤس في حين بدت الأيدي مسترخية ، و منقبضة ، تعبر عن مواقف انفعالية شتى . و قد عالج الفنان لوحاته هذه بالأبيض و الأسود في مناخ درامي مفعم بالأحاسيس القومية و المشاعر الإنسانية المتأججة .
لكن لؤي عُرف باسلوبه التعبيري الذي يقترب من ضفاف الواقعية المتحررة حين تناول في لوحاته صور الفقراء و الباعة المتجولين ، و المشردين ، معتمداً على خطوطه المرهفة و الرصينة فـي تحديد ملامح أشكاله و إكسائها بألـوان بسيطة هادئة ، تأتي ضمن إيقاعات متباينة ، تظهر براعة الفنان في اختيارها و توضعها بشفافية ، تظهر تاثيرات قاع اللوحة التي يعالجها بتقنية أنيقة ، تكسب اللوحة خصوصية ، و تضعها في مناخات تعبيرية حيناً و رومانسية حيناً آخر ، لا سيما في معالجة الموضوعات الإنسانية ، و في تصوير قرية معلولا ، و تقترب من مناخات التجريد في معالجة موضوعات الطبيعة الصامتة و الزهور بينما تجنح نحو السريالية في تصوير المراكب البحرية الراسية على الشواطئ المقفرة .
و تبدو لوحات وحيد مغاربة بعوالمها التعبيرية المتميزة ، تستمد مفرداتها من التراث الشعبي و البيئة العربية و الإسلامية ، و من الملامح الإنسانية النبيلة ، تحمل طابعاً درامياً ، يمتزج فيه الخيال مع الواقع عبر لغة تشكيلية مبتكرة ، تسهم الألوان الدافئة في إغنائها ، و تتحاور الأشكال بحيوية في محيطها ، حيث تطل المفردات و الشخوص بصورة إيحـائية من خـلال الظلال لتعلن حضورها علـى نحو غير مباشر ، و تروي الحكايات ، و توقظ المشاعر الإنسانية ، و تصور البيئة التي اختزنتها ذاكرة الفنان في قراءته للحياة و التاريخ و الأساطير ، و عوالمها الملحمية الممتدة في أعماق التاريخ لبلاد الشام .
و تأتي تجربة سعد يكن في صيغة تصويرية تعبيرية متفردة و مثيرة ، فقد داب الفنان طيلة أربعة عقود على تصوير حالات الاستلاب الاجتماعي و التأزم الإنساني في ظل الطغيان المادي و القهر الاجتماعي ، معتمداً في ذلك على صياغات غرافيكية مبتكرة ، تنهض على تحوير الأشكال الإنسانية ، و صياغتها في تكوينات متلاحمة ، تظهر شغفه في الكشف عن الملامح الدفينة فـي النفس الإنسـانية ، و سبر انفعالاتها المختلفة ، مستخدماً في ذلك جملاً لونية ذات إيقاعات عصرية و توضعات صريحة .
و قد كان للفنان سعيد الطه تجربة موازية في إطار التعبيرية ، لكنه سرعان ما تجاوزها إلى مسار آخر سناتي على ذكره .
و عالج علي السرميني أعماله التصويرية بإحساس تعبيري ، يبدو فيه تأثره بالتعبيرية الألمانية ، حيث يميل إلى صياغة الأشكال الإنسانية ، و المعالم المحيطة بها بشيء من العفوية التي تعكسها لمساته اللونية الجريئة و المتوضعة كبقع و نقاط يتجاو فيها الحار و البارد في محاولة لخلق نسيج لوني فسيفسائي ، يسهم في التعبير عن المواقف الإنسانية و القضايا القومية .
و تعكس أعمال عناية عطار إحساسه التعبيري المتدفق من خلال تكوينه للأشكال الإنسانية و الملامح البيئية في شمال الريف السوري ، مؤكداً على الملامح المحلية عبر الألوان الحارة التي تعكس دفء الشمس ، و حيوية الإنسان حيث تتلاحم الألوان ببعضها من خـلال لمسات مرتعشة لتبني الشكل بعفوية نزقة ، تصـدح بأغنيات جبلية ، تفوح منها رائحة الأرض الندية و عبق الأزهار البرية .
و تبدو معالم التعبيرية المستحدثة في لوحات طاهر البني التي تستمد مادتها من الحياة الاجتماعية ، و المواقف الإنسانية ، حيث تطلّ شخوصه بملامح مختزلة مستوحاة من الفنون السورية الآرامية القديمة لتثير الفضول في معرفة مكنوناتها ، و البحث في همومها ، عبر لغة لونية حديثة ، و تقنيات مبتدعة ، تساهم فيها الإيقاعات اللونية العفوية و الأداء المتدفق من مخازن الذاكرة ، و فيض النفس .
و تقدّم لوحات زهير دباغ مبدعها كواحد من المصورين التعبيريين المجددين بالإضافة إلى تجربته النحتية المتميزة ، و هو إذ يصور ملامح الحياة الاجتماعية في البيئة المدنية و الفلاحية فإنه يؤكد مهارته في صياغة الأشكال على نحو مبتكر تكشف خبرته التصويرية العالية الغنية بالمؤثرات البصرية المفعمة بشحنات عاطفية ، تطل ملامحها في تكويناته الحيوية و لمسات فرشاته النزقة .
و استطاع ألبير كندورة ان يوظف طاقته التصويرية التعبيرية في عرض موضوعات إنسانية مختلفة ، عكست براعته في تقانات التصوير ، و معالجة الهموم الإنسانية من خلال لمسات لونية جريئة و مؤثرات بصرية متنوعة ، مما يجعل لوحته تزخر بمجموعة من الانفعالات التي تؤكد ثقافته البصرية ، و رهافة أدواته الفنية .
أما خيرو حجازي فقد وزّع نتاجه التصويري بين التعبيرة من جهة و الواقعية المبسطة من جهة أخرى ، و تبدو مقدرته التعبيرية في تصوير الوجوه الإنسانية ، و الوضعيات التي يجسد فيها شخوصه ن حيث تظهر حساسيته العالية في عكس الأبعاد النفسية ، و الهموم الفردية و الجماعية من خلال ألوان تميل إلى البساطة و الهدوء .
و قد مرت تجربة عبد الرحمن مهنا في مراحل تعبيرية مختلفة ، ظهرت بداياتها في معرضه الأول الذي عكس فيه تاثره بالقضايا القومية ، بأسلوب يستمد تشكيلاته السكونية من الفنون السورية / الحثية ، و قد عالجها بالأبيض و الأسود ، لكن التعبيرية لدى مهنا تتخذ لها أشكالاً أخرى أكثر حيوية ، لا سيما في معارضه التي أنجزها خلال إقامته بدمشق ، حيث عكست لوحاته قضية الإنسان العربي و همومه في التحرر من الأخطار المحدقة به ، من خلال الألوان الشمعية التي برع في معالجتها عبر موضوعات شتى صوّر فيها دمشق القديمة و معلولا و بعض مشاهد الريف السوري و الطبيعة الصامتة .
و بالرغم من التطورات التي خضعت لها تجربة شريف محرم التصويرية إلا اننا نلمح في أعماله عناصر تعبيرية و تجريدية ، تتمثل في الموضوعات المستمدة من البيئة الريفية في شمال البلاد ، حيث يضفي على المرأة الريفية إحساساً تعبيرياً مفعماً بالمشاعر الإنسانية من خلال خطوط واهنة ، مسترسلة في صياغة الشكل بعفوية ، و ألوان متدفقة ، تتوضع على شكل ضربات كثيفة او سائلة ، تحدث نبضاً حاراً يسري في خلايا اللوحة .
و تنفرد لوحات إبراهيم حسون بتكويناتها التي تجمع الملامح الرييفية الشرقية بمفرداتها الإنسانية و البيئية بإحساس تعبيري عفوي تغشاه طبقات لونية شفافة ، تتقارب في دراجتها الضوئية التي تشف عن مفردات صغيرة ، تسهم في إغناء الشكل و إكسابه بعداً غرافيكياً رخيماً ، يجسد صورة القرية و رائحة تربتها .
أما نهاد الترك فقد تحول الإنسان في لوحته إلى كائن غريب ، ارتعدت أطرافه ، و سحقت معالمه ، فبات شبحاً لإنسانٍ أحاطت به خيوط العذاب و القهر ، و سلبته كل ملامحه الإنسانية ، و هو مع ذلك يقف في ثبات و عناد لمواجهة ما ينتظره ، من خلال صياغة لونية مفعمة بالمؤثرات البصرية التي يجتهد الفنان في تأكيدها .
كما تعتمد لوحة حسكو حسكو على مادة تعبيرية ، تستمد مفرداتها من البيئة الريفيية بما فيها من مشاهد " أشجار ـ طيور ـ دواجن ـ حيوانات " تتوزع في أرجاء اللوحة في خضم الألوان الطازجة ، حيث تطل من خلال عجينة لونية شديدة الحيوية ، تشف عن طبقات لونية مستترة ، تغني سطوح اللوحة بملامسها المتنوعة ، و تضيف نبرة جديدة إلى التشكيل المحلي .
و تأتي لوحة وحيد قصاص في سياق الاتجاه التعبير الذي يستمد مادته من ملامح الحياة الشعبية و المرأة الريفية ن و الطبيعة الصامتة ، في تشكيلات يشغل التجريد حيزاً طموحاً من مساحة اللوحة التي تتمحور الأشكال في وسطها ، متداخلة مع محيطها الذي يحظى باهتمام واضح من الفنان لا توازيه ملامح الوجوه و الأيدي ، و هو يعالج لوحته بألوان تجمع بين الكثافة و السيولة عبر توضعات غرافيكية حيوية .
و إذا كانت التكعيببية تمثل ضرباً من التأليف بين عناصر مستمدة من أشكال الطبيعة بعد تحليلها و الكشف عما وراء مظاهرها الخارجية من قوانين تتحكم في تكوينها ، فإن هذا الاتجاه لم يظهر بكالمل عناصره الغربية في لوحات فناني حلب ، بل كان يمدّ بأطيافه إلى بعض لوحات فنانيهم التي نسجت بمساحات لونية ، و خطوط متكسرة ذات زوايا حادة .
و قد تجلت أطياف التكعيبية في لوحات ( زاره كابلان ) الذي درس في فرنسا ، كما ظهرت في اللوحات المبكرة لسامي برهان الذي درس في بعض المعاهد الفرنسية قبل سفره إلى روما و دراسته فيها ، فقد استخدم كابلان الخطوط المستقيمة ذات الزوايا الحادة في تكوينات بسيطة في بعض ملامح الحي الشعبي ، بينما أتخم برهان لوحاته المبكرة بالخطوط المتكسرة و اللوحات المثلثية الصغيرة ، كما في لوحته ( قطاف القطن ) .
أما أسعد المدرس فقد تحولت لديه المشاهد الطبيعية إلى مساحات لونية تختزن في تناسقها صورة الأرض و الجبال والأشجار و السماء ، و تشكل منظومة لونية ، ذات خصوصية شاعرية ، و إحساس رهيف في مفاتن الطبيعة و ألوانها .
و قد تجلت هذه السمات في لوحات علي الحسين الذي نسج موضوعات عاطفية و مشاهد طبيعية مستمدة من الريف السوري و أظهر من خلالها نزعته التكعيبية التي تجلت في المساحات اللونية ذات الحود المتكسرة ، و الطبقات اللونية الكثيفة ، الموشاة بطبقات لونية شفافة ، مما أكسب لوحته بعداً شاعرياً مؤنساً .
و تبدو تأثيرات التكعيبية في بعض لوحات وحيد مغاربة التي عمد فيها إلى إيقاعات تشكيلية عبر مساحات لونية ، تتوزع فيها الأشكال بين العتمة و الضياء ، لتثير أثراً درامياً متحركاً ، و يفسح المجال للأشكال في أن تظهر و تتوارى في آنٍ معاً . و هذه سمات أفاد منها عدد من الفنانين أمثال سعد يكن الذي تتوزع الأشكال في لوحته في سطوح متباينة و متداخلة بين العتمة و الضوء .
و لما كانت السريالية تسعى إلى التخلي عن الواقع الخارجي ، و تؤكد على استلهام ما يكمن في عالم اللاشعور من موضوعات مكبوتة في النفس البشرية فإنها ترمي إلى الابتعاد عن السبل التقنية في التصوير ، و تعفي ذاتها من أسلوب معين في التعبير .
و قد أطلت السريالية في حلب بشكل رسوم تخطيطية أنجزها عدنان ميسر و عرض بعضها في ديوان الشاعر علي الناصر ( اثنان في واحد ) و هي تصور الكائنات الإنسانية بوحي من تخيلاته التي لا ترتبط بالأشكال الواقعية بصورة مباشرة .
و مع ذلك فإن السريالية لم تأخذ أبعادها الحقيقية في لوحات أحدٍ من فناني حلب ، بل كانت تطلّ بمناخاتها و أجوائها الغربية في بعض لوحات : ( فاتح المدرس ـ لؤي كيالي ـ إحسان عنتابي ـ يوسف عقيل ـ نعمت بدوي ـ زاوين بردقجيان ) .
لقد اتجه فاتح المدرس في انطلاقته الأولى نحو عوالم السريالية ، و حاول الإفادة من مناخاتها المتحررة في خلق الأشكال و ابتداعها ، و لعل لوحته المشهورة ( كفر جنة ) تعكس اتجاهه هذا الذي تغلغل إلى الكثير من إنتـاجه الذي لا يقف عند حدود التصنيف ، كما تجلت السريالية بمناخاتها في بعض لوحات لؤي كيالي التي صور فيها المراكب البحرية الراسية على شواطئ مقفرة ، كما أسلفنا .
أما أعمال إحسان عنتابي فهي أقرب إلى السريالية الغربية ، حيث تستمد مادتها من مخيلة الفنان التي تمزج بين المرئي و المتخيل بعناصر لا تخضع أبعادها إلى المقاييس الواقعية رغم استعارته لهذه الأشكال دون تحريف في تكوينها و خصائصها العامة ، و هي تجمع بين ما يعلوها من سماء و ما يرسو بها في أعماق البحار في صياغات غرافيكية و لونية لا تخلو من الدقة و البراعة .
كما تتبدى بعض مـلامح السـريالية في أعمـال يوسف عقيل التصويرية ، و ذلك من خلال استخدامه الحاذق للظلال و الإضاءة التي تثير في لوحته مناخات سحرية حالمة ، و قد شرع الفنان عقيل في تضمين بعض لوحاته ملامح ميتافيزقية تحرك في الذهن أسئلة شتى حول الإنسان و الزمن و الحياة التي تتمثل بالشجرة في أغلب أعماله .
و بالرغم من انتماء أغلب لوحات نعمت بدوي إلى التعبيرية المحدثة إلا انها تتضمن في بعضها خصائص السريالية التي تبدو في صياغة الأشكال الإنسانية على نحو مبتكر ، يتصل بالمعنى الميتافيزيقي للموضوعات التي يعالجها بمنظومات لونية شاعرية ، يتحدد فيها الشكل من خلال انسياب الضوء على محيط الجسد الغارق في العتمة .
و قد تسربت مناخات السريالية إلى لوحات عدد من الفنانين أمثال : ( عبد القادر بساطة ـ زاوين بردقجيان ـ جبران هدايا ـ وليد كموش ) .
و تسعى التجريدية في الفن إلى الابتعاد عن الأشكال الطبيعية في اللوحة لتفسح مجالاً للتعبير بالألوان عن جماليات مطلقة فحسب ، و هي تستوحي من الموسيقى مادة تعبر بها عن المجردات من ألوان و خطوط و مساحات ، كما تستلهم من القوانين الهندسية بعض العناصر التي يستخلصها الفنان من الواقع لتأليف عمله الإبداعي . و لعل من أبرز الفنانين الذين توجهوا نحو اللوحة التجريدية في حلب ( جورج قصابيان ـ أحمد برهو ـ ناصر نعسان آغا ـ ضياء حموي ـ غسان قصير ـ حازم عقيل ـ آردو همبارسوميان ـ نهاد كوليه ) .
و يأتي أحمد برهو في طليعة الفنانين الذين اقتصروا في تجاربهم الإبداعية على اللوحة التجريدية ، عبر لغة شاعرية ، تمتاز بشفافيتها ، و حيويتها التي تختزل رهافة الفنان و إحساسه بالحالات الإنسانية والمشاعر الفياضة ، و هو يلجأ في معالجته إلى جمل لونية غنية في تركيبها ، و يحيطها بآفاق شاسعة ، تاركاً لها فرصة التنفس و الحركة من خلال فرش الألوان بكثافة متوسطة تكاد تشفّ في بعض مواطنها ، لتؤلف بمجموعها إيقاعات بصرية متباينة ، تثير مشاعر شتى في النفس .
أما ناصر نعسان آغا فقد مضت لوحته نحو التجريد مبتعدة عن المناخات الرومانسية ، في محاولة ناجحة لخلق لوحة تجريدية متوهجة ، تستمد بعض مفرداتها الغائمة من عوالم البحار تارةً و من البيت الحلبي تارةً أخرى ، و من طيور الحمام النتصبة بوداعة ، تطلّ من خلف سحب اللون عبر ضربات لونية جامحة ، تولّد إيقاعات بصرية متنوعة ، تتسارع في محور اللوحة ثم ما تلبث تهدأ في جوانبها ، لتبعث في العين مشاعر الغبطة الهادئة .
و في الوقت ذاته شرعت ملامح التجريد تبدو في لوحة ضياء الحموي التي باتت تستمد مادتها من مفردات الطبيعة بأزهارها و فراشاتها التي تموج في لجّة الألوان الغنية و الموحية ، و قد أفضت بعض تجاربه إلى ابتكار لوحات متحركة ، مبنية على افتراضات تشكيلية متنوعة من خلال رسمها على سطوح مكعبات متحررة في حركتها ، يسهم المتلقي في تكوين اللوحة ، و نقلها من مشهد لآخر في سلسلة من الاحتمالات التي تتوالد .
أما غسان قصير فالبرغم من قلة إنتاجه إلا أنه يملك مخزوناً بصرياً جيداً في صياغة اللوحة التجريدية التي تستمد مادتها من مفردات الطبيعة دون تصويرها بصورة مباشرة ، حيث تتحول الكائنات و الأشجار في لوحته إلى بقع لونية و أشكال عفوية ، تصدر إيقاعاً بصرياً ، يمتاز بعذوبته و شاعريته المتدفقة ، القريبة من مذاق المتلقي الذي يمتلك ثقافة بصرية جيدة .
و تمضي لوحات حازم عقيل نحو التجريد بعد مروره بتجارب متنوعة متعددة الاتجاهات لكنه يستقر عند تلك اللوحة التي تختفي منها الأشكال المشخصة ، و تحل مكانها بعض الرموز التي تتجسد في صورة جدار قديم غني بالمؤثرات اللونية و الضوئية ، التي يترجمها الفنان بأدوات مبتكرة ، يؤسسها في معالجة السطوح ، و الإفادة من تأثيراتها في عكس الحالات الشعورية المرتبطة بالزمان و المكان .
و تجمع لوحة نهاد كوليه بين المناخات التجريدية التي تعتمد المساحات اللونية و المفردات المستمدة من الفنون السورية القديمة برموزها و ملامحها الغرافيكية للشخوص الذين يتحركون في مساحات اللون الداكنة من خلال خطوط رهيفة ، تلخص الأشكال برشاقة ، و قد أظهرت تجاربه الأخيرة قدرته على الجمع بين التجريد و التشخيص على نحو جيد .
و تبدو لوحة آردو همبارسوميان في صياغتها التجريدية ، تلحّ على المؤثرات اللونية القاتمة التي تغفو الأشكال المبهمة في داخلها دون أن تفصح عن مكنوناتها ، تاركةً للمتلقي فسحة البحث و التساؤل من خلال نبرات لونية صادحة في حنايا العتمة ، و هي بذلك تتجنب كل الأشكال التشخيصية في محاولة لإيجاد لغة بصرية صرفة .
أما لوحات زاوين بردقجيان فهي تجمع بين التجريد والسريالية من خلال احتوائها على عدد من المفردات الطبيعية المستمدة من عوالم البحار و الصحارى .
ج ـ الاتجاهات المحلية المستحدثة :
و هي اتجاهات تستمد مادتها الغرافيكية من الموروث الفني المحلي ( الآرامي و العربي ) الذي يتجلى في فنون الخط العربي ، و التصوير البدائي ، و الفن الآرامي ، و التصوير الشعبي ، في محاولة لصياغة موضوعات عصرية بلغة محلية جديدة ومبتكرة ، تبتعد عن الصياغات الأوربية التقليدية و الحديثة ، و تشمل هذه الاتجاهات : ( الحروفية ـ البدائية ـ الآرامية ـ الشعبية ) .
تستند اللوحة الحروفية في تشكيلها إلى بنية الحرف العربي بصيغه الجمالية المتعددة : ( النسخي ـ الكوفي ـ الثلث ـ القيرواني … ) و غيرها من الخطوط التي ازدهرت في العصور الإسلامية ، و قد عمد بعض الفنانين التشكيليين في حلب للإفادة من حيوية الخط العربي و جمالياته في صياغة لوحة تتجاوز الصيغ التقليدية ، و تظهر فيها القيم اللونية المبتكرة و اللغة التشكيلية الحديثة ، و من أبرز الحروفيين في حلب : ( سامي برهان ـ سعيد الطه ـ حسين محمد ـ غسان السياف ـ أحمد دبا ـ لطفي جعفر ـ عبد اللطيف طاووس ـ محمد ناشد ) .
و يعتبر سامي برهان أحد رواد الحروفية في سورية و العالم الإسلامي ، فقد دأب منذ النصف الثاني للقرن العشرين على اتخاذ الحرف العربي مطيةً لتشكيلاته التي بنى عليها لوحته و هو يتكئ على تبسيط الخط الكوفي و خطي النسخ و الثلث في إيجاد منظومات مركبة لعبارات إسلامية قصيرة يغنيها بجمل لونية متوسطة الكثافة ، تتوسط اللوحة ، و يحيطها بارضية من الألوان التي تؤكد حضور التشكيل الحروفي ، و تبرز القيم الجمالية و المعنوية فيه ، و هو يصرّ على ربطه بالمفاهيم الروحية الإسلامية و العربية .
أما سعيد الطه فإن الحرف العربي يشكل أحد مفردات لوحته التجريدية التي تشمل مجموعة من الرموز و الدلالات المرتبطة بالبيئة العربية و الفكر الإسلامي ، و الملامح الكونية ، عبر لغة تصويرية متطورة تعكس رؤيا الفنان المستندة إلى ثقافته البصرية الغنية ، و خبرته في فن الغرافيك ، بالإضافة إلى وعيه الفكري و مشاعره الإنسانية المختلفة ، و يعتمد الفنان على الصياغة اللونية كأداة فاعلة في خلق الأجواء التي يود كشفها ، فاللون لديه لا يرمز إلى دلالات و مفاهيم وضعية ، بل هو نتاج حالة داخلية و تفاعل روحي و شعوري ، و الحرف العربي في لوحته ليس مرهوناً بدلالة واضحة سوى التأكيد على هوية اللوحة و انتمائها بما يحمله من قيمة معنوية و جمالية ذات طابع عربي .
و تتجسد الحروفية في لوحات حسين محمد ضمن صياغة تجريدية حيوية ، تحتضن فيها الألوان الدافئة بعض العبارات العربية و الإسلامية بتوضعات مبتكرة ، تتداخل مع نسيج اللون برشاقة بادية ، ضمن تكوينات تجريدية متحررة أو مساحات متداخلة ، تتدرج فيها الألوان من العتمة إلى النور ، منطلقة من إحدى الزوايا المحيطة باللوحة لتتوزع في أرجائها ، و هو لا يقف في لوحاته عند حدود خط بعينه بل يستخدم معظم الخطوط العربية القديمة و المحدثة بكثافات لونية متباينة .
و تطلّ ملامح الحرف العربي في لوحات أحمد دبا بصورة غير مباشرة ، فهو يستمد تشكيلاته التجريدية من المعالم الغرافيكية للحرف ، و يكسوها بعجينة لونية طازجة ، تتوضع في مساحة اللوحة بعلاقات عفوية ، تنمّ عن وعي تشكيلي جيد و إحساس تصويري لا تعوذه الخبرة و الرهافة ، مبتعداً عن الصيغة المباشرة للحرف ، و مستعيضاً عنها بروحه و قيمه الجمالية التي تتبدى في تكويناته المبتكرة .
و يستلهم غسان السياف في لوحاته بعض أشكال الحرف العربي ليسهم في تكوين اللوحة ، أو ليكون العنصر الأهم في مفرداتها ، مما يضفي عليها بعداً روحياً و قيماً جماليةً عربيةً ، و هو لا يقتصر على ذلك ، بل يستمد بعض مفرداته من الرقش العربي ضمن صياغة تجريدية ذات طابع شاعري ، يتخذ فيه التشكيل مساراً عفوياً عبر تكوينات لولبية ، تنسجها الخطوط الرشيقة ، و اللمسات اللونية المتحررة التي تولد مناخات شرقية تسودها الألوان الزاهية .
و تأتي لوحات محمد ناشد و مراد ويس لطفي جعفر و عبد اللطيف طاووس في سياق الاتجاه الحروفي الذي حظي بمساهمة فاعلة و معارض متعددة لهؤلاء الفنانين .
درج عدد من الفنانين الذين درسوا التصوير في أوربا أو مارسوه بشكل حر على التخلص من القواعد المدرسية للفن التصويري ، و تركوا لأدواتهم فرصة التعبير عن منكوناتهم الفكرية و الشعورية دون قيود، معتبرين أن انسياق الفنان وراء الاتجاهات التقليدية سيجعلهم في منأى عن رؤية الأشياء على حقيقتها ، و رأوا أن الفن يكمن في تلك الينابيع الصافية التي تتدفق من عالم الفطرة الإنسانية التي تنظر إلى الأشياء بعيون نقية ، لا تشوبها الأفكار المدجنة التي أغلقت أمام الإنسان حقيقة الأمور ، و ألبستها أثواباً مشوّهة ، تبعدها عن جوهرها .
و لذلك رأى بعضهم في لوحات الفنان فاتح المدرس الكثير من ملامح التعبير الفطري المتجسد في رسومه رغم ما يملكه الفنان من خبرات معرفية و تقنية متطورة ، فلوحاته تعكس رؤية فطرية صافية للكائنات ، تتجسد في تكويناته العفوية التي تقترب من رسوم الأطفال ، و تتجلى في ألوانه النزقة التي تتدفق إلى سطح لوحته بتلقائية مدهشة .
لقد استعار فاتح المدرس بعض الأدوات التعبيرية البدائية ، و أخضعها لمشيئته ليعكس رؤيته للعالم من حوله ، و يفتح نوافذ ذاكرة طفولته عبر أشكال تتصل بالموروث البدائي و الآرامي لبلاد الشام ، فجاءت لوحاته أشبه بأحلام طفولية ، لتعرض موضوعات اجتماعية ، و قضايا إنسانية من خلال ألوانه الدسمة ، و وجوهه المضغوطة ، و سطوحه المشبعة بالضوء و التراب ، و لذلك كانت لوحاته تحقق إنجازاً مدهشاً رغم ما فيها من غموض يستعصي على العامة .
و مع أن قسطاً من لوحات محمد عساني انصرفت نحو التصوير الواقعي ، إلا أن أغلب نتاجه التصويري ، يتوجه نحو التعبيرية البدائية التي عرض فيها موضوعات اجتماعية مستمدة من الملامح الشعبية و الريفية السورية و اليمنية ، ضمن معالجة تلقائية تستند إلى تقنية مبتكرة في الألوان المتوضعة بشفافية ، و تدرجات على أرضية خشنة ، تذكر بالرسوم الطفولية و الفلاحية المصورة على الجدران الطينية المطلية بالكلس في بعض قرى حلب .
و بالرغم من تنوع التجربة التصويرية عند علي علو إلا أنه أظهر اهتماماً لافتاً بالصيغة التعبيرية المستمدة من التصوير الطفولي الذي ينهض على عفوية الرسم ، و بساطة التكوين و إكسائه بعجينة لونية رطبة ، تعكس إحساسه المرهف في التصوير ، و قدرته على ترجمة المشاعر الإنسانية .
و تندرج في هذا السياق التعبيري لوحات سعود غنايمي الذي أخذ يمارس التصوير في العقد الرابع من عمره ، حيث شرع يصور المرأة الريفية و البيوت الطينية بإحساس فطري ، معتمداً على خطوط بسيطة يصوغها بتلقائية في تكوين ، تغني سطوحه التوشيحات اللونية القاتمة ، لتعكس إحساساً غامراٍ بالمعاني المأسوية .
و التفت عدد من الفنانين إلى الفنون الآرامية / السورية القديمة ، يستظهرونها و يدرسون السمات الخاصة بها ، و يفيدون من خصائصها الغرافيكية في أعمالهم التصويرية ، محاولين عكسها في لوحاتهم على نحو معاصر و مبتكر ، مؤكدين على ما تتضمنه هذه الفنون من قدرة تعبيرية ، ذات سمات جمالية أصيلة تنبع من الأرض التي نمت فيها ، و هذا ما نراه ماثلاً في لوحات ( يعقوب إبراهيم ـ جورج بيلوني ـ طلال أبو دان ـ صلاح خالدي ) .
و تأتي تجربة يعقوب إبراهيم لتعكس تأثره بالجوانب الروحية و الميثولوجية للجزيرة الفراتية ، من خلال المشاهد التصويرية التي تظهرها المناخات اللونية الهادئة ذات الدرجات المتقاربة ، حيث تذوب الخطوط اللينة في أتون اللون ن و هي تؤلف تلك المشاهد بخصوصية ، تنم عن ارتباط وثيق بالمفاهيم الروحية و المواقف الإنسانية التي تنتمي إلى إنسان هذه الأرض . و هو إذ يبدي تأثره بالرسوم الجدارية و اللوحات الحجرية ، فإنه يستخدم لغة تصويرية تستند إلى تقانات فنية معاصرة .
أما جورج بيلوني فإنه ينصرف إلى اللوحات الجدارية القديمة ذات الملامح المبهمة التي غمرت في رحمها الأشكال الإنسانية و الرموز المحلية ، و يتخذ منها مادة لصبواته التصويرية التي تحوّل اللوحة لديه إلى جدار عتيق ، تغمره الألوان البنية و القاتمة ، و تطلّ من خلاله أشكال بسيطة ، و رموز مختلفة ، مستمدة من المخزون الميثولوجي للأرض السورية ، لتضع لوحته في سياق اللوحة الجدارية المفعمة بتأثيرات الزمن .
بينما نجد طلال أبو دان يبتكر لوحة جدارية بملامس حجرية خشنة ، تكونت من ملاط رملي خاص ، حاول من خلاله أن يجسد بعض القضايا الإنسانية بتكوينات عفوية ، تستمد مادتها من الفنون السورية القديمة حيناً ، و من البنى التشكيلية التعبيرية المعاصرة التي تلجأ إلى التبسيط و الاختزال في تصوير الشخوص و العناصر الأخرى ، بإحساس فطري ، يعرض خلالها بعض المواقف الإنسانية و الملامح المحلية بألوان محدودة و هادئة ، تبرز تأثيرات الزمن عليها .
في حين نجد صلاح خالدي يحاول الابتعاد عن التصوير التسجيلي ، لينتج لوحة مستحدثة ، تستمد مفرداتها من الفنون الآرامية المجسّدة لمواقف إنسانية في وضعيات نمطية ، تسهم الألوان المتحررة في إنجازها ، و إكسابها بعداً جمالياً ، يحرص الفنان على حضوره ضمن مجموعة من الرموز الميثولوجية المحلية التي تضع لوحته في مسارات الفن المحلي الذي يتصل بالبعد التاريخي .
و قد لجأ بعض الفنانين إلى صور المنمنمات العربية ، و فنون الرسم الشعبي و خيال الظل ، و حاولوا أن يستمدوا منها بعض القيم الفنية و الملامح الغرافيكية ، فانعكست في نتاجهم التصويري على نحو جديد و مبتكر ، و هذا ما نجده في لوحات ( نبيه قطاية ـ محمد إعزازي ) و بعض لوحات وحيد مغاربة المبكرة .
فلوحات نبيه قطاية تبدو ، و كأنها صور لعروض خيال الظل أو ترجمة عصرية للرسم الشعبي ، لكنها تمتاز ، بتكويناتها المستحدثة و المتحررة ، البعيدة عن السكونية و النمطية و هي تكتسب حيويتها من التوضعات اللونية المتحركة ، المستفيدة من الطاقة الإبداعية للفنون الحديثة ، المتمثلة في التقنية التي تولي اهتماماً واضحاً للمسات العفوية التي تنجزها الألوان على نحو مبتكر ، لتعرض مجموعة من المواقف الاجتماعية و الفكرية .
أما لوحات محمد إعزازي ، فإنها ترتبط بالمؤثرات الغرافيكية للمنمنمات العربية وهي إلى جانب عفويتها في الصياغة ، تستند إلى تكوينات خاصة لدى الفنان وهذا ما نراه ماثلاً في لوحاته النحاسية التي عرضت موضوعات اجتماعية و قومية مستمدة من البيئة العربية ، و هي لوحات مفعمة بالمؤثرات الشرقية و الرموز المحلية و الإسلامية.
ثانياً ـ النحت
تجلت تأثيرات الواقعية الغربية في أعمال عدد من رواد النحت في حلب ممن سعوا إلى مطابقة منحوتاتهم مع الواقع الذي أخذوا عنه ، مراعين في ذلك الأبعاد الحقيقية للشكل الإنساني ، و النسب التشريحية السليمة دون اللجوء إلى المبالغة أو التحريف التي نجدها في المنحوتات المتأخرة التي تأثرت بالاتجاهات الحديثة لفنون النحت .
فقد دأب النحاتون الأوائل في حلب منذ منتصف الأربعينيات من القرن العشرين على صياغة أعمالهم بوعي تقليدي ، محافظين على كل القيم التشكيلية المدرسية بما في ذلك التفاصيل الدقيقة التي تشابه الأصل الواقعي ، و كان في طليعة هؤلاء الرواد : ( فتحي محمد ـ الفرد بخاش ـ جاك وردة ) .
و يأتي فتحي محمد في طليعة المثالين الذين سلكوا دروب الواقعية التقليدية في النحت ، فقد عكف منذ بداياته على محاكاة الواقع و مطابقته دون تحريف و لعل تمثال ( المعري ) الذي أنجزه قبل دراسته في مصر و روما يعد نموذجاً صريحاً لهذا الاتجاه ، فهو يحاكي المنحوتات الإغريقية في ملامحه و معالجته . و هذا ما ينطبق على معظم منحوتاته التي أنجزها في الخمسينيات من القرن العشرين : ( سعد الله الجابري ـ إبراهيم هنانو ـ عدنان المالكي ) بينما نراه في منحوتاته الأكاديمية التي أنجزها في روما ، يميل بعض الشيء نحو الواقعية التعبيرية من خلال إكساب هذه الأعمال بعداً نفسياً يتجاوز الملامح الكلاسيكية الحيادية . و بالرغم من التزامه الواقعي ، نراه يجنح في بعض تجاربه المتأخرة إلى الحداثة التي تقترب من التعبيرية و الرمزية كما في تمثال ( الموجة ) .
و كذلك توجه ألفريد بخاش نحو الواقعية في معظم منحوتاته التي تميل إلى إغناء الشكل بالعناصر الجمالية و الملامس الشاعرية التي تقربها من الرومانسية ، خالصة في معالجته للجسد الأنثوي ، حيث يعتمد على ليونة الخط ، و رشاقة الحركة كما في تمثال ( الأمومة ) .
و هذا ما نراه أيضاً في منحوتات جاك وردة التي ظهرت فيها ملامح الانطباعية من خلال اللمسة الواضحة في معاللجة سطح المنحوتة ، مما يضفي عليها بعض الحيوية التي لا نراها في منحوتاته الأخرى التي التزم فيها ملامح الواقعية دون تحريف كما في تمثال ( أبو فراس الحمداني ) الذي ينتصب في المدخل الرئيسي للحديقة العامة بحلب .
أما النحات وحيد استنابولي ، فإن إنتاجه يتوزع في محورين ، الأول واقعي يتمثل في النصب التي أنجزها في ساحات حلب و حدائقها ، و الثاني تعبيري ن يتمثل في المنحوتات التي شارك بها في المعارض العامة و الخاصة . و يتجلى الاتجاه الواقعي في منحوتاته ( الخصب ـ سيف الدولة ـ المتنبي ـ البحتري ـ البتاني ـ إبراهيم هنانو ـ قسطاكي حمصي ـ ابن الرومي .. ) .
و يتجلى الاتجاه التعبيري في منحوتات وحيد في تلخيص الأشكال الإنسانية عبر كتل متراصة ، تسعى إلى ابتكار صيغ جديدة في تحوير الأشكال و بنائها في علاقات تجريدية ، تهدف على إقامة توازن بين المفردات النحتية التي كان يؤلفها على نحو متميز ، تتلقي مع خصائص النحت الجداري الآرامي .
و يتأرجح نتاج النحات عبد الرحمن مؤقت بين التعبيرية و التجريدية ، ففي تناوله للموضوعات الإنسانية و القومية ، يستند إلى المعالجة التعبيرية التي تعكس شغفه في تحوير الشكل الإنساني و تطويعه لصالح القيم التعبيرية التي يرغب في الإفصاح عنها ، و هو ما نراه جلياً في منحوتاته : ( القضية ـ الشهداء ـ المحبة ) .
أما ملامح التجريدية فإنها تتجلى في معالجته للموضوعات الجمالية التي تستمد عناصرها من الجسد الأنثوي و أشكال الطيور ، و غيرها من الكائنات التي يحرص الفنان على تلخيصها بكتل متماسكة في اتجاهات شاقولية أو أفقية ، يقيم فيها توازناً مع الفراغ المحيط بها .
أما في أعماله النصبية ، فإنه يلتزم الصيغة الواقعية مع شيء من التعبير الإنساني الذي يؤكد مقدرته في تطويع هذا الفن الغني من خلال استخدامه لخامات شتى كالحجر و الرخام و البرونز ، و هذا ما يتجلى في نصب الباسل في مدخل حلب الجديدة .
و يتوجه زهير دباغ في أعماله النحتية نحو التعبيريين ، و ذلك من خلال تأكيده على القيم التشكيلية التي تعكس رؤياه للأشكال ، و إحساسه بالجسد الإنساني في الأوضاع الأكثر حميمية ، و هو يلجأ في معالجته إلى السطوح المتباينة ذات التأثيرات الغنية التي تظهر بصماته بوضوح ، و قد يكون السطح الخشن لديه مرحلة آنية ، لكنه في حقيقة الأمر يتوجه إلى المشاهد الذي يريده مشاركاً في عمله الإبداعي ، و هو يميل في تشكيلاته إلى الكتلة المتماسكة دون التخلي عن عنصر الفراغ الذي يشكل حيزاً متوازناً في منحوتاته . و لذلك فإن معظم شخوصه يميلون نحو النحافة و التطاول .
و لا تخرج تجارب النحاتين شكيب بشقان ـ وارتكس بارصوميان عن المنحى التعبيري الذي يعطي أهمية كبيرة لصياغة الملامح الإنسانية بوعي تشكيلي متميز ، يشف عن ملامح الجمال التعبيري بمنحوتات تظهر براعة مبدعها في التبسيط و الاختزال ، و معالجة السطوح الناعمة الملساء .
و هذا ما نراه في تجارب سيدو رشو و منحوتاته ذات الحجوم الصغيرة و المتوسطة التي تنم عن إحساس تشكيلي غني بالتعابير الإنسانية المختلفة .
بينما نجد منحوتات محمد قباوة تتأرجح بين الواقعية و الانطباعية ، حيث تحافظ على الملامح الواقعية ، مع ميل نحو صياغتها بلمسات واضحة تكسب سطوحها تنوعاً غنياً ، كما تقترب من التعبيرية في منحوتاته المتأخرة التي يلجأ فيها إلى التبسيط و الاختزال و عكس القيم التعبيرية في الجسد الإنساني .
و تتدرج في هذا الإطار منحوتات : ( رضوان شيخ تراب ـ مراد ويس ـ جوزيف كبابة ـ محمود كريم ـ بكري بساطة ـ مظفر دعدوع ـ عبد القادر منافيخي ـ سعود غنايمي ـ برهان نعساني ) و عدد من المثّالين الجدد .
و تشكل الأعمال النحتية التي أنجزها طلال أبو دان إضافة هامة في محترف الفن في حلب بوصفها إحدى التجارب التي لم تستسلم للتقاليد الفنية الوافدة من الغرب ، بل عمدت إلى البحث عن تقاليد فنية محلية ، تمتد إلى جذور الإرث الفني الذي ذخرت به الحضارات القديمة التي نهضت في سورية .. و قد عرض مجموعة من الدمى التي تجسد كائنات بشرية و أسماك و طيور ، و رموز طقسية ، ترتبط بالثقافة السورية القديمة ، كانت المرأة أبرز حضوراً متمثلةً في شكلها العابق بالأنوثة و الخصوبة المستوحاة من الدمى الطينية و الحجرية للآلهة السورية عشتار .
ثالثاً ـ العمارة
تشكل العمارة التقليدية البسيطة حيزاً كبيراً من أحياء حلب القديمة ، و هي عمارة تعتمد الحجارة الكلسية في إنشاء مساكن يتألف أغلبها من طابق واحد ، يضم مجموعة من الغرف المتباينة الأحجام ، بالإضافة إلى باحة واسعة ، تكسوها بلاطات كبيرة من الحجر المحلي ، و غالباً ما تتوسطها بركة ماء تحيط بها شجيرات دائمة الخضرة ، و قد تتضمن قبواً للمؤونة ، و بعض الحجرات الإضافية التي تعلو الطابق الأول ، يُصعد إليها بسلم حجري أو خشبي عريض ، و لا تخلو نوافذ هذه المساكن من زخارف نباتية حجرية أو قمريات جصية .
و مع إطلالة القرن العشرين أخذت تنتشر في الأحياء الأرستقراطية الحديثة ( الجميلية ـ العزيزية ) عمارات حجرية حديثة و واسعة ذات طابقين أو ثلاثة ، تزدان بواجهات حجرية فخمة ، تعتمد الطرز المعمارية الأوربية الكلاسيكية ( الإيطالية ـ الفرنسية ) و تطلّ منها شرفات كبيرة و نوافذ واسعة تزينها الأقواس و الأعمدة و الزخارف الحجرية المتنوعة ( نباتية ـ هندسية ) بعضها مستمد من الزخرفة الأوربية ، و بعضها الآخر من الزخرفة الشرقية و العربية .
و يتألف الطابق الواحد غالباً من صالة واسعة ، تحيط بها غرف كبيرة ذات أسقف خشبية عالية ، يزدان بعضها بالرسوم و الزخارف النباتية و الكتابات العربية ، بالإضافة إلى المطبخ و الحمام المزودان بمواقد حجرية و من أشهر العمارات في هذا السياق ( دار الحموي ، ومقر جمعية العاديات ) في حي الجميلية ، و ( دار الحمصي ، و دار الأنطاكي ) في حي العزيزية .
أما العمارات التي ارتصفت في شارع النيال ، فكان اغلبها يتألف من طابقين ، و هي ذات واجهات حجرية بسيطة ، تتقدمها شرفات و مشربيات خشبية ، تشغل مساحة واسعة من الواجهة ، أما جادة الخندق ، و ساحة باب الفرج التي تشكل محور المدينة ، فإنها تتضمن عدداً من العمارات الحجرية الحديثة ذات الطابع الأوربي الكلاسيكي ، بالإضافة إلى بعض العمارات ذات الشرفات و المشربيات الخشبية .
و منذ عهد الاستقلال أخذت العمارة تمتد في الأحياء الجديدة من حلب لا سيما في الجهة الغربية منها ( حي السبيل و المحافظة ـ حي الشهباء ) و قد اتخذت العمارة فيها طرازاً أوربياً حديثاً ، يعتمد على نهوض عدد من الطوابق ( من 2 إلى 4 ) محاطة بحدائق ذات أسوار واطئة ، مسيجة بأشجار السرو و الصنوبر ، و هي ذات شرفات واسعة ، تكاد تخلو من الزخرفة الحجرية ، و تميل إلى البساطة و الحداثة النمطية ، و تتضمن عدداً من الغرف ذات النوافذ الزجاجية الواسعة التي تحجبها الستائر و الأبجورات الخشبية المعدنية الرقيقة .
و مع التوسع العمراني لمدينة حلب في العقود الأخيرة من القرن العشرين ، شرعت العمارة تتخذ مسارات مختلفة تجمع الوظائف المعمارية المعاصرة إلى جانب الطرز المختلفة و المتنوعة ، يمتزج فيها الشرقي و الغربي . و نستطيع أن نتبين فيما يلي أبرز الطرز المعمارية التي شهدتها حلب منذ عهد الاستقلال .
1 ـ الطراز الأوربي الكلاسيكي :
و يتمثل هذا الطراز في مجموعة العمارات التي انتشرت في حي العزيزية ، و كانت تستند في إنشائها و واجهاتها الحجرية إلى الطراز الأوربي الكلاسيكي و منها ( بناية الحمراء ) نموذجاً .
تربض بناية الحمراء في آخر شارع مجد الدين الجابري في حي العزيزية ، و تطلّ من الجهة الغربية على الحديقة العامة ، و سميت بالحمراء لأنها بنيت من حجارة كلسية يميل لونها إلى الأحمر الزهري ، و تتألف من ثلاثة طوابق بنيت على رقعة من الأرض بمساحة تقريبية ( 1000 ) متر مربع ، و تحيط بها حديقة ذات أسوار حجرية و معدنية ، و تطلّ على شارعين متوازيين و آخر فرعي بنوافذ متطاولة مستطيلة الشكل يزيد ارتفاعها عن 2.25 متر محاطة بحواجب مضلعة تعلوها أفاريز مزخرفة في الطابق الثالث ، بينما تنهي النوافذ المستطيلة في الطابق الثاني بأقواس حجرية نصف دائرية تستند إلى تيجان مزخرفة .
و لعل أبرز ما يميز هذه البناية برجها الدائري الذي يربض في جهتها الشمالية ، و يمتد في أربعة طوابق ، محاطة بالنوافذ الشاقولية ، و ينتهي بقبة ذات طراز أوربي و يرتبط بطوابق البناية بممرات ، تفضي إلى صالات واسعة محاطة بغرف متعددة و يلحق بهذا الطراز عدد من الأبنية منها ( المشفى الوطني بحلب ـ ثانوية المأمون ) .
2 ـ الطراز العربي الحديث :
و يتمثل في عدد من الأبنية التي نههضت منذ عهد الاستقلال ، كدار الحكومة المقابل للقلعة ( السراي ) و بناء الأوقاف الذي يضم مسرح نقابة الفنانين ، و جامع التوحيد و العديد من الجوامع و الأبنية التي صممها المهندس مصطفى حكمت يازجي ، و المكتبة الوطنية بحلب .
و هي أبنية حجرية ، ترتفع عمارتها في أكثر من طابق و تمتاز واجهاتها ببوابات رحبة ذات أقواس إسلامية و نوافذ شاقولية تنتهي بأقواس ، و تتضمن أفاريز مزخرفة بأشكال نباتية و هندسية مستمدة من الفنون الإسلامية الشرقية أو المغربية .
كما أن الجوامع و المساجد المذكورة ، تعلوها قباب كبيرة تستند على أعناق مطوقة بنوافذ صغيرة للإضاءة و التهوية ، و ترتفع فيها المآذن على قواعد مضلعة ، ما تلبث تصبح دائرية في العقود المرتفعة المتتالية ، التي تحتوي شرفات مستديرة ذات أسيجة مخرمة ، تستند على مجموعة من المقرنصات و المتدليات الحجرية التي برع الحجارون في حلب بإنجازها على نحو معجز ، و تتزيّن بعض هذه الجوامع بافاريز زخرفية محفورة ، و عبارات دينية بارزة كتبت بالخط الكوفي أو الثلث ، و يمتاز جامع التوحيد بمآذنه الأربعة المتطاولة برشاقة ، و هي تتشابه مع مآذن الحرم النبوي في المدينة المنورة .
3 ـ الطراز الحديث المتحرر :
و يتمثل هذا الطراز في الأبنية و الصروح المعمارية الحديثة التي تحررت من مفاهيم العمارة التقليدية العربية و الغربية ، و سعت إلى إيجاد صيغ معمارية مبتكرة لا تحفل بالأقواس و الأعمدة و الزخارف ، بل إن بعضها يحمل ملامح محلية من خلال رؤية معاصرة و تكوينات حديثة . و من ذلك مثلاً : (( القصر البلدي ـ فندق شهباء الشام ـ كلية الحقوق ـ جامع الرحمن )) .
فالقصر البلدي ينهض وسط المدينة كتلة عمودية سامقة يكسوها الزجاج في جوانبها الأربعة ، التي تخفي عشرات الطوابق الرابضة فوق كتلة حجرية أفقية ، تتوزع فيها المكاتب الخدمية ، و تحيط بها الحدائق و البوابات ، و تتوج الكتلة الشاقولية بمقصف ذي نوافذ واسعة .
و يمتاز جامع الرحمن بصيغة مبتكرة ، فهو يتألف من كتلة أفقية مضلعة ، تتوسطها قبة نصف كروية ، يكسوها السيراميك المذهب على شكل حلقات أفقية ، تحيط بها سلسلة من الأقواس المغربية المثلثية التي تستند إلى أعمدة مكسوة بالسيراميك المذهب ، و تحتضن القبة من الشمال كتلتين متوازيتين من الأبنية الطابقية ، تتوزع في ثلاث واجهات تنتهي من الأعلى بأقواس مغربية مثلثية ، و ترتصف خلفها ست مآذن مربعة بأطوال متدرجة تنتهي بمظلات مخروطية .
لقد فتحت الحياة العصرية أبواب العمارة و فنونها على كافة الجهات ، و أضحت حلب ، تحفل بكل طرز العمارة التقليدية و العصرية بما توفر لها من طاقات إبداعية و تقنية جديدة .