لا بدّ لنا في مقدمة البحث في الفن التشكيلي و العمارة بحلب من العودة إلى جذور هذه الفنون في مدينة مأهولة منذ فجر التاريخ و استعراض أبرز الملامح الفنية التي أنجزتها هذه المدينة في أحقاب متوالية تمتد لأكثر من خمسة آلاف عام ، كان الإنسان فيها يؤسس لحضارته في كافة جوانبها الاجتماعية و الاقتصادية و الفكرية و الفنية .

الفن التشكيلي و العمارة في حلب

طاهر البني

أ ـ في العصور القديمة و الوسطى
لا بدّ لنا في مقدمة البحث في الفن التشكيلي و العمارة بحلب من العودة إلى جذور هذه الفنون في مدينة مأهولة منذ فجر التاريخ و استعراض أبرز الملامح الفنية
التي أنجزتها هذه المدينة في أحقاب متوالية تمتد لأكثر من خمسة آلاف عام ، كان الإنسان فيها يؤسس لحضارته في كافة جوانبها الاجتماعية و الاقتصادية
و الفكرية و الفنية .
لقد ارتبط الفن بحياة الإنسان القديم ارتباطاً وثيقاً ، و شمل معظم جوانب حياته المتصلة بالصيد و الري و الزراعة و التجارة و العبادة و الحروب ، و تدّل معظم الإنجازات التصويرية و النحتية لأكثر الممالك السورية القديمة على تلك العلاقة التي تربط الفن بحياة الإنسان لا سيما في الجانبين الديني و الأسطوري ،
نتيجة إنشاء المعابد و القصور الملكية .
و مدينة حلب خلافاً لغيرها من الحواضر القديمة التي عاصرتها ( إيبلا ـ ماري ـ أوغاريت … ) ظلّت مأهولة عبر التاريخ مما غيّر كثيراً من معالمها ،
و أزال العديد من أوابدها ، و لعل قلعتها الشهيرة التي تشكل الأثر المحوري فيها ، تشهد على التحولات المتوالية التي خضعت لها المدينة ، فقد أقيمت فوق هذا التل
( القلعة ) مجموعة من الأبنية التي نشأت فوق ركام ما سبقها من الصروح و المعابد منذ العهود الأكادية و الأمورية و الحثية ، و حتى العصور الإسلامية المتأخرة .
و لعل انتشار العقائد التوحيدية في عصور متعاقبة ترك أثره في اندثار عدد من المنحوتات الوثنية ، التي لا تتفق مع هذه العقائد ، يضاف إلى ذلك أن الكنائس
و المساجد التي أقيمت على أنقاض هذه المعابد فيما بعد استخدمت حجارتها في إعادة البناء ، و ما قطعة الحجر البركانية التي عثر عليها في أحد جدران مسجد
( القيقان ) في تلة العقبة بحلب إلا شاهد يشير إلى هذه الحالة ، فقطعة الحجر هذه نُقش عليها سطران بالكتابة الهيروغليفية الحديثة التي تعود إلى عهد
( تلمي شروما بن تلسينو ) ملك حلب في القرن الرابع عشر قبل الميلاد .
و إذا بحثنا عن ملامح الفن في أوابد حلب المتبقية من العصور السابقة للفتح الإسلامي ، فإننا نعثر على العديد من اللوحات الحجرية و الأنصاب النحتية
التي يحفل بها المتحف الوطني بحلب ، و التي مازاال الكثير منها في المعابد الحثية المكتشفة في قلعة حلب ، بالإضافة إلى اللوحات الفسيفسائية ذات الطابع البيزنطي .
ففي عام 1929 عثرت إدارة متحف حلب على لوحات حجرية بازلتية منحوتة ، تعود إلى العصر الآرامي مطلع الألف الأول قبل الميلاد ، و ذلك في
الأماكن الخالية بين المباني الإسلامية في قلعة حلب ، كما عثر على قطعتين من الحجر البركاني الأسود ، على شكل نحت جداري بارز يمثل جنيين مجنحين
حول قرص ( 1.30 x 0.95 ) الشمس و هلال القمر ، بالإضافة إلى أسدين منحوتين من الحجر البركاني الأسود ، كانا ينصبان عادة في
مداخل الأبواب كرمز للآلهة عشتار .
كما كُشف عن معبد مملكة يمحاض الحلبية في القلعة ، حيث ظهر المصلى أو قدس الأقداس ، و قد كُسيت جدرانه بلوحات من الحجر الكلسي بارتفاع 1.2 م
و هي منحوتة بشكل جيد تماثل تلك اللوحات المكتشفة فـي معابد ( اللالخ و كركميش و عين دارا ) المحيطة بحلب .
و في عين التل ، و هو حي من أحياء حلب المتطرفة ، عُثر على تمثال بازلتي لرجل جالس على مقعد ذي مسند ، يضع رجليه على قاعدة مستطيلة ، يزينها مذبح
ذو أربعة مربعات داخلها أشكال هندسية ، و تقوم القاعدة على أعمدة مستديرة ، ترتفع في الجوانب و تشكل في الأغلب قروناً لهذا المذبح ، و هذا التمثال يعود
بوجه تقريبي إلى القرن التاسع عشر قبل الميلاد .
و في تل النيرب بالقرب من حلب ، عُثر على نُصبين ، يمثل أحدهما كاهناً للإله ( سين ) رب الوقت و الزمن عند الحلبيين القدماء ، و أمامه مائدة مليئة
بالمأكولات ، و أمامه خادم يحمل مَذُبّة يكش بها الذباب ، أما النصب الثاني فيمثل كاهناً آخر يتضرع إلى ربّه ، و هذان النصبان مليئان بالكتابة الآرامية المنقوشة .
و عُثر أيضاً في حلب على نصب صغير من العهد الآرامي يمثل الشطر السفلي لرجل واقف على الثور ، يرتدي ثوباً عريضاً ، و هو دون شك الإله (حدد )
الواقف على حيوانه الخاص ( الثور ) و أمامه يظهر ما يمثل الشمس و تحتها هلال القمر .
و قد وجدت في حي العزيزية بحلب قطع فسيفسائية قرب كنيسة مار ميخائيل تعود إلى القرن الخامس الميلادي ، و تتكون من مستطيل طوله ( 11) متر
و عرضه ( 8.50 ) متر ، و تتألف من المستطيل ستة مربعات ، ثلاثة منها بحالة كاملة تقريباً و يمثل أحدها أشكالاً هندسية بخطوط ثلاثية متداخلة
ببعضها مكونة دائرة نصفية ، في داخلها بعض الزخارف النباتية ، و حول الدائرة أربع دوائر متداخلة ببعضها ، يتخللها مربع جميل ، و الكل يتوّج بدائرة كبيرة .
و الغريب أننا لا نعثر في حلب على أية إنجازات فنية في العصرين الهيلينستي و الروماني ، و يبدو أن هذه الإنجازات اندثرت في العصر البيزنطي حين حلّت
الكنائس مكان المعابد الوثنية و أخذت بتحريم التصوير ، و تحطيم التماثيل ، مكتفية بالتصوير الرمزي تجنباً لعبادة الأوثان و الصور ، و الابتعاد عن تصوير
السيد المسيح لعدم قدرة الفنان على تجسيد القيم الروحية و الصفات القدسية التي تتجلى فيه .
و حين خضعت حلب للفتح الإسلامي منذ عام 633 ميلادية ، انعطف اهتمام المسلمين إلى التصوير التزييني الذي يعتمد على الزخرفة النباتية ، و الهندسية ،
و فنون الخط العربي التي نراها ماثلة في عمارة المنشآت الإسلامية كالجامع الأموي الكبير بحلب و القلعة و غيرها من العمائر الإسلامية ، في حين تألقت
في الفنون التطبيقية كالنقش على الأواني الزجاجية و النحاسية ، و زخرفة الكتب ، و تطورت فنون الخط العربي فشملت المباني الهامة كالجوامع و المدارس
و المكتبات و أسوار المدينة و أبوابها .
و لم يُعثر في حلب عما يشير إلى وجود تصوير أو نحت عبر العصور الإسلامية في حين أورد المؤرخ الحلبي ( الشيخ كامل الغزي ) في كتابه
( نهر الذهب في تاريخ حلب ) أنّ (( … الوزير البازوي كان مولعاً بالتصوير ، و كان يشتري الصور التي هي من صنع المصورين الشرقيين
، بأثمان باهظة و ذكر أن من جملة من كان براعاً في هذا الفن : ابن العزيز ، و القصير ، و أبا بكر ، و أحمد بن يوسف المصور ، و محمد بن محمد المصور
و غيرهم .
و يبدو أن الأتابكة الذين حكموا حلب أبدوا اهتماماً بالغاً في فنون التصوير التي ورثها عنهم الأيوبيون الذين شجعوا التصوير ، و قد ذكر أحمد تيمور باشا في كتابه
( التصوير عند العرب ) اسم مصورين حلبيين هما ( أحمد بن يوسف بن هلال الحلبي ) المتوفى سنة 1337 للميلاد و
( أبو بكر بن محمد الجلومي الحلبي ) المتوفى سنة 970 للهجرة .
و حين جدد مسيحيو سورية علاقتهم مع روما و بعض الكنائس الشرقية في القرن السابع عشر الميلادي ، ازدهر الفن اليقوني بحلب ، و ظهر عدد من مصوري
هذا الفـن الذي يستمد مادته من ( الإنجيل ) في تصوير السـيد المسيـح ، و مريم العذراء ، و بعض القديسين و المشاهد الدينية .
و كان الأب يوسف المصور الحلبي المؤسس الأول لمدرسة الفن الأيقوني في حلب و قد مارس مهنة تصوير الأيقونات ، و النسخ و تصوير المنمنمات و فنون
لخط العربي ، و توفي بين عامي ( 1660 ـ 1667 ) فخلفة ابنه الأب ( نعمة ) و حفيده الشماس ( حنانيا ) و حفيد ابنه الشماس ( جرجس ) الذي تألق اسمه في النصف الثاني من القرن الثامن عشر .
و تعتبر أيقونة ( الدينونة ) التي صورها نعمة مـن أشهـر الأعمال التصويرية في حلب ، و هي محفوظة في كنيسة الأربعين شهيد بحلب .
و قد كان للرسوم المنمنمة الوافدة من تركيا و إيران أثر في دفع بعض الرسامين الشعبيين بحلب إلى تقليدها أو نسخها ، خاصة تلك التي تجسد بعض السير الشعبية
أو المواقع و المواقف البطولية أو الشخصيات العربية و الإسلامية ، و كانت تتصدر بعض البيوت الحلبية ، و هي رسوم نفذت بأسلوب شعبي بسيط ، يعتمد على الذاكرة
و الموقف الديني أكثر من اعتمادها على قواعد الرسـم المألوفة فـي التصوير الغربي ، و يظهر من هذه الرسوم الشعبية عدم اكتراث الرسامين و الناس الذين يعلقونها
في بيوتهم بالمواقف المتشددة في تحريم الرسم و التصوير ، فقد كان بعضها يعلق فوق أضرحة الأولياء أو القادة المسلمين . و في منتصف القرن العشرين طبعت آلاف الصور لهذه الرسوم الشعبية التي راجت في المدينة و القرى المحيطة بها ، و هي من رسم ( كمال جراب ) و توزيع مطبعة الريحاوي بحلب .
و حفلت حلب بالعديد من الطرز المعمارية التي ظهرت فيها منذ العهود الآرامية القديمة حين كانت عاصمة لمملكة يمحاض ، و تشمل فنون العمارة فيها الوظائف الدينية
و المدنية و الدفاعية ، و تمثل العمارة الدينية بالمعابد و الكنائس و المساجد و الأضرحة و المقامات ، بينما تتبدى العمارة المدنية بالقصور و الدور السكنية و الأسواق
و الخانات و الحمامات و البيمارستانات و القيساريات و الخانقاهات و المدارس ، في حين تتجلى العمارة الدفاعية في قلعة حلب الشهيرة و أسوار المدينة و أبوابها
القدديمة ، و قد بنيت كلها من الحجارة الكلسية الشهباء بأحجام كبيرة و متوسطة .
و تعتبر ( قلعة حلب ) من أقدم القلاع السورية ، بل هي أكبر القلاع في العالم الإسلامي ، تنتصب فوق تل كبير يرتفع عن سطح المدينة 38 متراً ،
و تبلغ مساحتها ( 550 x 350 ) م2 ، و يحيط بها خندق عميق ، يبلغ عرضه 30 متراً و عمقه 20 متراً ، و كان يملأ بالماء كوسيلة دفاعية .
و قد اكتشف في القلعة معبد حثي من القرن التاسع عشر ق . م إضافة إلى نواويس رومانية و بيزنطية ، و أسوار القلعة و أبراجها الضخمة عربية الطراز
ذات سمات أيوبية ، و يعود بناؤها إلى الفترة الواقعة بين القرنين 13 – 16 ميلادي . و تضم القلعة قصراً ملكياً و حماماً و مسجدين و عدداً من
الأبراج الدفاعية ، و ترتبط بالمدينة بأنفاق و سردايب .
و لعل ( كاتدرائية حلب العظمى ) من أقدم العمائر الدينية في حلب بعد قلعتها إذ يعود بناؤها إلى القرن الخامس الميلادي ، و قد تحولت إلى مدرسة فقهية
و مسجد عام 1124 م ، و تُعرف اليوم باسم المدرسة الحلوية ، و تضم داخلها ثمانية أعمدة ذات تيجان كورنثية تشبه تيجان كنيسة القديس سمعان العمودي ، و يشاهد عند مدخلها جرن معمودية بازلتي عليه كتابة سريانية تعود إلى القرن السادس الميلادي .
أما ( جامع الشُعيبية ) فهو أول مسجد بناه المسلمون في حلب في عهد الخليفة عمر بن الخطاب ، و يقال أن بني مكان قوس روماني خلف باب إنطاكية ،
و فيه بقايا إفريز حجري يحتوي كتابة كوفية مورّقة تعود للقرن 12 الميلادي .
و قد بُني الجامع الأموي الكبير في عهد سليمان بن عبد الملك ، و جُددّ مرات عديدة ، و يعادل بمساحته الجامع الأموي بدمشق ، و يضم رفاة النبي زكريا و يمتاز
بمئذنته الشاهقة التي يبلغ ارتفاعها 46 متراً و طول ضلع مقطعها قرابة خمسة أمتار و قد جُدد بناؤها عام 1089 م . كما بني محراب الجامع و مقصورته عام 1285 ، و يعود المنبر الحالي بزخرفته الخشبية البديعة إلى القرن 14 م و هو من الخشب الأبنوس المطعم بالعاج ، و قد اكتسى صحن الجامع ببلاط حجري
أبيض و أسود بأشكال هندسية تعود إلى العهد المملوكي .
و يقع ( البيمارستان النوري ) في محلة الجلوم ، و هو مشفى بناه نور الدين زنكي في منتصف القرن 12 م ، و يتألف من عدة غرف على طابقين
و إيوان و باحة ، و يمتاز بابه بمقرنصاته الرائعة ، و فيه كتابة على النجفة و الجدارين المجاورين للمدخل .
أما ( مدرسة الفردوس ) فقد بنتها ضيفة خاتون زوجة الملك الظاهر غازي الأيوبي عام 633 – 634 هجري ، و تعتبر من أكبر مدارس حلب القديمة ،
و أبعادها 44 x 55 متراً ، و قد زينت باحتها بأشكال هندسية ، و أحاطتها الأعمدة من ثلاث جهات ، مزدانة بتيجان مزخرفة بأشكال نباتية ناعمة ،
و تقوم وسط الباحة بركة ماء مثمنة أيوبية الطراز قام إلى شمالها الإيوان بأبعاد 8.72 x 9.55 م ، و يتميز جامع المدرسة بمدخله الذي يتنهي أعلاه
بنصف كرة و ثلاثة صفوف من المقرنصات ، أما محرابه ، فيعتبر آية في الجمال ، حيث يمتاز بصياغة زخرفية رائعة من الخطوط الهندسية المتداخلة على نحو بديع
، و هو من الرخام المجزع ذي الألوان اللطيفة ، و قد حفل بكتابات إسلامية بخط الثلث .
و يُعدّ ( حمام يلبغا الناصري ) من أجمل حمامات حلب ، و يقع أمام البرج الجنوبي للقلعة ، و يعود بناؤه إلى أوائل العصر المملوكي ، و قد كان له ثلاثة
سراديب توصله بالقلعة و المدينة ، و تحفل واجهته الجميلة بصفوف متناوبة من الحجر الأصفر و الأسود و هي تشبه طراز المدارس الأيوبية و المملوكية ،
و للحمام مدخل مرتفع تعلوه الصنج الجميلة ، و تعلو قبة البراني زخارف جدارية رائعة .
أما ( خان الوزير ) فقد بناه أحد ولاة حلب في العهد العثماني ، و هو من أضخم خانات حلب ، و يمتاز بزخرفة واجهته الجميلة من الداخل و الخارج
بزخارف هندسية و نباتية ، و يضم العديد من الغرف في طابقين ، و بالقرب منه ( مطبخ العجمي ) الذي يمتاز بواجهته الغنية بالزخرفة و المقرنصات
و قد أضيف له باب بزخرفة من القرن الثامن عشر .
و في ساحة فرحات تربض كنيسة ( مار الياس للموارنة ) التي يعود بناؤها إلى القرن التاسع عشر ، و هي واسعة الأرجاء ، تزدهي بقبتها العالية ،
و رحابتها و بساطة إنشائها ، و قد تصدر هيكلها الرخامي ذو الأعمدة الصفراء شرقي الكنيسة ، أسفل القبة .
و عند بوابة الياسمين في الصليبة تقع ( دار أجقباش ) التي يعود بناؤها إلى منتصف القرن الثامن عشر ، و تمتاز بزخرفة جدرانها الداخلية المطلّة
على صحنها ، و قد صنعت بأشكال هندسية نافرة ، كما يحفل إيوانها و نوافذها بزخارف بديعة و قمريات غنية بالزخرفة النباتية ، و تتوسط باحتها الواسعة
بركة ماء ، كما يوجد بركة أخرى في القبو الغربي ، و مغارة محفورة في الصخر مخصصة للمؤونة ، و قد تحولت هذه الدار إلى متحف للتقاليد و الفنون الشعبية .