يسعدنا أن نقدم القاص طار سلمان في قصتين قصيرتين: “زمزمة” و “ملامح ظل” بدأت تجربتي في الكتابة منذ حوالي تسع سنوات ، أبان دراستي الجامعية الأولى ، وقد حملت كتاباتي في البداية بذور قلق اجتماعي ، ومحاولة لرصد التغيرات الشخصية في البنية الاجتماعية التي عِشتُها وعَايشتُها

طارق يوسف سلمان


1981 ـ اللاذقية – سوريا

حاصل على إجازة في الآداب من جامعة تشرين

قاص ، مشارك في عدد من المهرجانات الأدبية للشباب

لديه ، بعض القصص المنشورة في الصحف المحلية

الهواية : قنص التفاصيل الصغيرة الغير مرئية في حياة الناس ، وتحويلها لقصة قصيرة تدهش القارئ أو تثير استنكاره ..

تفاصيل عامة :

بدأت تجربتي في الكتابة منذ حوالي تسع سنوات ، أبان دراستي الجامعية الأولى ، وقد حملت كتاباتي في البداية بذور قلق اجتماعي ، ومحاولة لرصد التغيرات الشخصية في البنية الاجتماعية التي عِشتُها وعَايشتُها ، وفي السنوات الأخيرة عنيت باللغة والأسلوب ، فهما المتن الأساسي لتقديم الفكرة ، متجهاً نحو السرد النثري ، و أظنني وفقت – في بعض القصص – في اقتناص انتباه القارئ إلى ما أرغب بتقديمه .
وتجربتي مستمرة ، لأن القصة القصيرة كما أراها ، متطورة باستمرار ، وتحتاج دائما ، إلى من يحيك شباكها حول متلقٍ متشوق للغرق فيها…

 

 

زمزمة

 

باغتته رائحة عفنة. وضع كشاشة الذباب وراح يستطلع بأنفه الضخم إحالات المكان و نوابضه. أرخى رقبته قليلاً ليتأكد أن الرائحة صادرة عن جسده الخشبي المتعرّق، مسح بأصابعه سطح القميص بحثاً عن بلل ما، إلا أن يده خذلته فارتعشت عروقه وهوت كفه بشلل مفاجئ ..

لعن العمر والحرّ، وكادت تصدر عنه لعنات أخرى، قبل أن تسقط عيناه على الكلمات المذهبة التي رسمت فوق الباب طالبة بركة ما.

سوّى عمامته، وبحث بيده عن سبّحته القديمة، وهو يرمق الساعة بنفاذ صبر.

لأول مرة شعر بالدكان يضيق على أنفاسه، نظر نحو الصناديق المتوضّعة بجانب الباب بحنق.

أين ذلك الصهر المدعي، لقد وعدني بمساعدتي منذ أسبوع، وهو كل يوم مشغول .. مشغول .

لا أحد اليوم يريد أن يأكل .. ما هذا يا ناس .

سمع كركرة وجلبة عند الباب..

أخيراً جاء الرزق ..

ماذا تريدون يا أولاد .. صرخ بصوته الأجش، انتفض الصبية وتفرقوا مذعورين، هش بيده وحرك ساقه البليد، يريد الخروج إلا أن الرِّجل المطوية تحت فخذه لم تستجب له، وبقيت متحجرة ثقيلة، هب يدلكها، وهو يشعر بآلاف الدبابيس تخط رسومها عليه، تذكر نظرة "وديعة" الساخرة منذ أيامٍ عندما لم يستطع الحصول عليها رغم كل غَلَمَته. لأول مرة يشعر بالخوف، أتخبر أحدا تلك الأفعى ..لا ..لا ..

أخيراً سرت الدماء في ساقه فعرج عليها نحو الباب وهو يستند على الجدار.

هيه يا أولاد ماذا تفعلون هنا .. ابتعدوا.

تعجب من هذه التجمعات على باب دكانه، أغلق الباب محاولاً الحصول على بعض الهدوء، وسحب سجادة الصلاة ..

سكب المياه الباردة على ذراعيه، بينما كانت شفتاه تزمزمان بكلمات اعتاد ترديدها، رمى السجادة وانكفئ عليها، ليراها جاثمة في الزاوية ترمقه بعينين واسعتين بلون السماء، و وبر خرنوبي كلون آخر شجرة شمّها في لحظة ما، بوغت بأصابعه تدعوها، ولبت الشفاه الندية النداء، واندفعت تختلط بالجسد المتخشب، تضرب بيديها الصغيرتين، جوانبه وتعانق بقايا روح تعلقت به. أزّ نبض قلب ما، بين الجسدين المتلاحمين، لم يدرِ كيف يمكن لهذه القطة أن تفجر كل هذه الضربات، لكن الصوت استمر أقوى، وانتفخ شأنا رأسه، وتحركت ملايين الأفكار تحت ثقل ما كانت يداه المبسوطتان تقبض عليه وهي تنتفض، أفاق على نفسه بنظرتها الحيرى وهي تراقب بطرف عينيها المحمرتين نخراته، رماها أرضا، وارتد لدواخله يستغفرها، يخبئ عريه، ويداري عرقا باردا عشش في زواياه الفارغة. لملم سجادته، أخذ نفساً عميقا، صفق الباب خلفه، سمع الكركرات نفسها، والضحكات وأيد وعيوناً، تشير لمشيته العرجاء ويده المخبئة بين الظنون. 

طارق سلمان

ملامح ظلّ

تصلب وجهها عندما لامس بأصابعه خدها الأيمن، ومالت مع تلك الأصابع نحو رأسه المنحني على جيدها، وتمتما الكلمات سويا. رسمتُ خطاً منحنياً على الورقة البيضاء، حددت فيه زوايا عينيها، كانتا لوزيتين نديتين، لكنهما ذابلتان بعض الشيء، فرحت أخفف حدة السواد عند الأطراف، لتخرج أولى ملامح وجهها على الدفتر الصغير، الذي أخط عليه وجهها الجميل. وكأنما فاتني تفصيل ما، لأفاجأ بعني الرجل الحادتين قد كشفتا سبل عيني المتلصصتين. أزحت ملامح الارتباك، وابتسمت له وعدت أدقق في الوجه الذي أرسمه، إلا أن حدساً ما أوحى إلي لأعيد النظر إلى عينيه فلم أرى سوى ساقيها الرفيعتين، وثوبها الرمادي، ونظراته الرانية إلي بتوجس، تشكلت قطرة باردة منم العرق على رقبتي، وراحت تتدحرج سريعا عند خط الوريد، قبل أن تسقط يد ثقيلة على كتفي، توفقها وترميها عن حدود الجسد.
– مرحباً … أأستطيع الجلوس معك قليلاً؟
وقبل أن أجيب، تربع جسده المترع إلى جانبي، أخفيت أوراقي بحركة غريزية، وابتسمت لوجهه الجامد بترقب. وصلت إلى أذني كلمات سريعة مقتضبة، وقبل أن يستريح وجهه سألني : لم نتعرف بعد ؟
– طالب! . قالها بسرور وانزاحت معظم خيوط العداء نحوي قبل أن تعود لتتشكل من جديد.
– أتعرف ؟ . لا يهم من تكون أو من تريد أن تكون.
– أريك بطاقتي إن أردت.
– وأنا أملك بطاقة مماثلة، إنه عملنا، لكن ما كتبته هنا على الورقة ..، تعرف ..لا يهم ما كتبته، أنا أفعل الشيء ذاته، لكن دعنا نتفق .. هزّ رأسه بارتباك، وكأنه يخشى أن يخسر صفقة ما.
– تريدني أن أتلف الورقة .
– أجل . نعم هذا ما أريده .
– لكنها مجرد لوحة بسيطة .
– سبق أن قلت لك مهما تكن الشِيفرة التي تستخدمها، تذكر نحن نعمل في المجال نفسه، ويجب أن لا نؤذي بعضنا. كانت ملامح الرعب والترقب تتوزع على مساحات وجهه، كلما زاد عنادي عن تمزيق أولى معالم لوحتي، فتحت الورقة من جديد محاولاً الكشف عن هويتي الأصلية، إلا أن هاجسا ما دفعني لأنتزع الورقة من الدفتر، وأعطيه إياها. جعد الورقة، ووضعها في جيبه بعجالة، قبل أن يتمتم ببضع كلمات شكر كان قد نسها منذ زمن.
رجعت بعيني إلى وجهها، فنلت ابتسامة لطيفة، قبل أن تغادر المكان معه بعجالة وارتباك. بحثت في الدفتر عن ورقة أخرى، ورحت أحاول استعادة ملامح وجهيهما، دون فائدة، ففحمة القلم لم تعط غير ظلال وجهه القلق والخائف، وهو يودعني بابتسامة مواربة.

طارق سلمان

اللاذقية