القصة القصيرة في أعمال رابطة الكتاب السوريين جـ2 للمؤلف محمد شويحنة : إن محاولة وضع القصة القصيرة عند كتاب الرابطة في إطارها الفني والفكري ، توجب علينا في البداية أن نتحدث عن الجو العام

 القصة القصيرة في أعمال رابطة الكتاب السوريين جـ2 للكاتب محمد شويحنة

الباب الثاني
الدراسة التحليلية

مقدمة :


إن محاولة وضع القصة القصيرة عند كتاب الرابطة في إطارها الفني والفكري ، توجب علينا في البداية أن نتحدث عن الجو العام للمهاد المحلي الذي نبتت ونشأت فيه التجربة الأدبية الجديدة في الخمسينات ، في جانب ثر الإنتاج كالقصة القصيرة ، بغية إبراز الفارق النوعي الذي يدفعنا إلى الحديث عن تطور ما قد حصل ، كما يدفعنا إلى التمييز بين تجربتين ، وذلك من خلال تمهيد يتوجه إلى استقراء التجربة الأولى ، ويعطي لمحة عن مستوى القصة التي ركزت على البعد الاجتماعي ، وأبرز أعلامها في هذا الطور . لذا فليست هذه المقدمة دراسة للقصة في تلك الفترة ، ولا نقداً يوجه إلى المستوى الفني الذي بلغته ، بقدر ما هي نظرة متفحصة لتجربة الرصد الاجتماعي فيها ، ولمستوى فهمها للواقع وعلاقتها الفنية به .
ولكن قبل البدء لا بأس من التساؤل عن حدود تلك المرحلة التي سبقت جيل الرابطة ، والنظر في قضية العلاقة بين الجيلين الأدبيين السابق واللاحق .
الحقيقة أن ظهور الرابطة يشكل بحد ذاته عهداً جديداً في تاريخ الحركة الأدبية في سورية ، ولا سيما في تاريخ القصة القصيرة . ولقد أجمع الكتاب المحدودون عدداً الذين تطرقوا إلى الحديث عن مرحلة الخمسينات ، على اعتبار الحرب العالمية الثانية حداً فاصلاً بين عهدين من عهود الأدب في سورية ، وعدوا عهد ما بعد الحرب العالمية الثانية مختلفاً أشد الاختلاف في خصائصه الأدبية عن مرحلة ما قبل الحرب . لكن الدكتور حسام الخطيب1 يفضل أن يعتبر مطلع الخمسينات الحد الفاصل بين عهد النهضة الأدبية القائمة على احتذاء البنى التقليدية ، وعهد النهضة المتطلعة إلى التغيير الجذري . وقد ذهب إلى أن التغيرات الثقافية والأدبية تكون عادة أبطأ من التغيرات الاقتصادية والسياسية ، ولذلك كان على سورية أن تنتظر بضع سنوات بعد انتهاء الحرب وممارسة الاستقلال الفعلي حتى تدخل في تجربة التغيير الثقافي والأدبي . وقد شهدت مطالع الخمسينات جملة من التغيرات في الأفكار الأدبية وفي التقنيات وفي القابليات ، وكذلك في الأنواع الأدبية ، تسوغ للباحث أن يعتبرها مرحلة مستقلة ، ولاسيما إذا كان الأمر يتعلق بفن حديث النشأة كالقصة ، ويخص الدكتور الخطيب السنوات الثماني الأولى من الخمسينات باسم ( المرحلة الثانية ) ، وقد برزت فيها القصة القصيرة بجلاء ، وجاءت بعد مرحلة النشأة ما بين عامي 1937 و 1949 .


أما أهم الملامح الأدبية التي يحددها لشخصية المرحلة الثانية فهي على النحو التالي :


1- نشاط الإنتاج الأدبي بمختلف ألوانه نشاطاً قوياً ، وكثرة الصحف الأدبية والصفحات الأدبية في الصحف والمجلات غير الأدبية .
2- ظهور اتجاهات أدبية وتجمعات عديدة وصراعها مع التيار القديم ، وكذلك دخولها في صراعات عنيفة فيما بينها ، وقد نجم عن ذلك بالطبع ظهور موضوعات جديدة ، وقيم أدبية جديدة ، وتقنيات متطورة ، وأنواع أدبية غير معروفة من قبل ، وطرق في التعبير تتناسب وتطلعات الجيل الجديد وتأثيره المتزايد . وقد كان أقوى هذه التجمعات قاطبة التيار الواقعي بتنويعاته المختلفة ، يليه في ذلك النزعة الحداثية ، التي بدأت بواكيرها في الخمسينات ، ووجدت تعبيرها الأقوى والأشد وثوقاً من نفسه في الستينات وما بعدها .
3- بدء الخروج في هذه المرحلة على التقليد الأدبي العريق في سورية ، الذي يعتبر الشعر فناً أسمى يمتاز من سائر فنون القول ويفوقها بالطبيعة . فأخذت تمارس فنون جديدة ، وينظر إليها نظرة احترام نسبية ، وكانت القصة القصيرة درة الأنواع المستجدة ، وأكثرها حظوة ، وعلى الرغم من أن أنواعاً أدبية أخرى مورست مثل المسرحية والرواية ، فإن الخمسينات يمكن أن تسمى بحق ( مرحلة القصة القصيرة )1 .

وإذا كان لنا أن ندقق في تلك الملامح التي أوردها الدكتور حسام الخطيب ، فننظر في مدى مطابقتها لحالة رابطة الكتاب السوريين ، فإن ما يمكن ملاحظته هو ما يلي :

1- إن اعتبار مطلع الخمسينات بداية مرحلة جديدة يبدو سديداً ، بل ينحو للدقة أيضاً ، إذا لاحظ المرء ظروف نشوء رابطة الكتاب السوريين ، وطبيعة الأفكار الجديدة التي طلعت بها في الساحة الأدبية ، ثم اهتمامها بجنس أدبي جديد نسبياً ، والتركيز عليه ، وهو القصة القصيرة ، بل القصة القصيرة الواقعية تحديداً . إذ حاول العدد الأكبر من كتاب الرابطة ممارسة نشاطهم أو جزء منه على الأقل من خلال شكل القصة القصيرة الحي المعبر والملائم لتطلعات المرحلة .. ولا أدل على ذلك من أنه في الوقت الذي أنتج فيه كتاب الرابطة ما يقارب عشرين مجموعة قصصية ، كان إنتاجهم في الشعر ديواناً واحداً 2وفي الرواية عملين اثنين 3فقط .
2- أما دور الصحافة فتبرز أهميته من حيث أثره العميق في بزوغ نجم القصة القصيرة ، إذ كانت الخمسينات الفترة الذهبية للصحافة السورية ، وقد تعاظم ظهورها وعني أكثرها بالقصة القصيرة ، ووجدنا عدداً من الملاحق الأدبية لبعض الصحف اليومية ، وكذلك بعض المجلات التي لم تكن السياسة همها الوحيد ، تنظر بجدية إلى الفن الجديد المتنامي ، مثل ( عصا الجنة ) و ( الطليعة ) و ( الجندي ) و ( الصباح ) و ( الحديث ) ، وغيرها . وكانت المجلات اللبنانية الشهرية مثل ( الأديب ) و ( الطريق ) و ( الثقافة الوطنية ) و ( الآداب ) شديدة الترحيب بأقلام الكتاب السوريين ذوي المستوى الجيد ، لاسيما في مجال القصة القصيرة . وقد استطاعت صحيفة ( النقاد ) الدمشقية أن تكون سجلاً حافلاً للتجارب الأدبية للجيل الجديد من كتاب الخمسينات بصورة عامة ، ومن كتاب الرابطة بصورة خاصة . وقد أظهرت عناية خاصة بالقصة القصيرة ، وافتتحت عهد مسابقات أدبية فيها ، وكان جل المشاركين من كتاب القصة أعضاء في رابطة الكتاب السوريين .1
3- إن تحديد الدكتور حسام الخطيب لأسباب صعود نجم القصة القصيرة في الخمسينات يضعنا وجهاً لوجه أمام المناخ الاجتماعي والسياسي والثقافي الذي شهدته المرحلة ، والذي جعل الطريق معبدة أمام نشأة هذا الفن الدينامي الثوري القادر على التعبير عن توتر المرحلة وتوثبها وتطلعاتها العريضة . فلقد كانت الخمسينات السورية فترة صراع سياسي حاد ، تطاحنت فيها الأحزاب السياسية وتتابعت الانقلابات العسكرية ، وتصارعت العقائد والاتجاهات ضمن إطار الصراع الأكبر الذي كان دائراً في المنطقة العربية آنذاك . ويمكن الذهاب إلى أن القصة في الخمسينات كانت حاجة اجتماعية قبل أن تكون حاجة فنية ، بمعنى أن اضطلاعها بوظيفتها كان أبرز الدوافع لكتابتها ، ولعل هذا ما يفسر التباين والتمايز بين كتاب الرابطة أنفسهم في ممارستهم الفنية في كتابة القصة القصيرة ، إذ إن الاهتمام الزائد بوظيفة القصة ، أو بمزاياها التعبوية ، قد أثر على نضوجها الفني والفكري ، كما سنلاحظ لاحقاً .

الفصل الأول


الجو القصصي لمرحلة ما قبل الرابطة


( دراسة تمهيدية )

1- مدخل واستفتاء :


لعل أبرز أعلام الجيل السابق للرابطة في القصة القصيرة السورية ، ممن يمكن اعتبارهم بذوراً أولية لاتجاه الرابطة هم علي خلقي ومحمد النجار وفؤاد الشايب وليان ديراني ، فقد مثلت هذه الأسماء في رأينا القصة الاجتماعية والفنية منذ الثلاثينات وحتى الاستقلال . فكيف تبدو الصلة بين عهد مطلع الخمسينات والجيل السابق ؟ .
إن محاولة تبيان هذه الصلة ، وإيجاد وجه من وجوه التجاوز أو التطور والتنامي ما بين التجربة السابقة واللاحقة قد لا تخرج بطائل ، سوى في جانب من جوانبها ، وهو انتماؤها الحاسم إلى القضايا الاجتماعية كما سنوضح بعد قليل ، وقد أجريت استفتاءً لبعض قصاصي الرابطة حول ما إذا كان لجيل النجار وخلقي والشايب أي تأثير يذكر في تجربة الرابطة ، وما هو ذلك التأثير ، فكانت الإجابات على الشكل التالي :

1- حسيب الكيالي : لم يكن لجيل النجار وخلقي والشايب أي تأثير في تجربة الرابطة. وما أثر في هذه التجربة هو الأدب الروسي الذي كان في بدايات نقله إلى العربية . ويجب أن نذكر مجلتي الطريق والثقافة الوطنية البيروتيتين والأدب اليساري في مصر ، مع الإشارة إلى أن عدداً من أعضاء الرابطة كانوا يتقنون – كثيراً أو قليلاً – لغات أجنبية .

2- إحسان سركيس : لقد كان المذكورون جزءاً من التيارات التي كانت موجودة في القطر ، ولا بد لهم من أثر ، ولكنني أعتقد أن تأثيرهم كان في الذين عاصروهم أو أدركوهم أكثر من الجيل الأصغر سناً الذي عرف فؤاد الشايب لاسيما في مقالاته ، ويبدو لي أن التحرك الكبير في فترة الخمسينات كان يتكئ على تيارات الفكر والأدب العالمية التقدمية أكثر من سواها ، فهي التي كانت أكثر تأثيراً وأرجح في الميزان .


3- ليان ديراني : لقد كتبت منذ عام 1929 قبل معرفة علي خلقي ، ترجمة وتأليفاً ، محاولاً أن أجعل من القصة العربية السورية قصة محلية لها لونها الخاص ، لتضاهي الآداب الأخرى ، ولقد حاول الكثيرون أن يجعلوا من علي خلقي رائداً ومنشئاً لهذا الجيل ، وهذا خطأ يحمل في طياته محاولة لصرف الأنظار عن الكتاب التقدميين . وإن علي خلقي ومحمد النجار وحتى الشايب الذي أحترمه ، لم يكن لهم أي تأثير على جيلنا ، وفي محاولة جعلهم رواداً ، محاولة من الجانب الآخر لطمس تجاربنا ، وهذا لم يعد يخفى على كل متبصر .


4- مراد السباعي : لم يكن للشايب أو لغيره أي تأثير في تجربة الرابطة .

 
5- عبد الرزاق جعفر :
كان أعضاء الرابطة يعرفون النجار وخلقي والشايب والجابري وغيرهم ، وكانوا في اجتماعاتهم ينتقدون كتاباتهم ، ويبينون ما فيها من واقعية وإبداعية ، ويرون أن هؤلاء الكتاب انتبهوا إلى بعض قضايا المجتمع ، لكن الحلول التي وصلوا إليها هي حلول غيبية أو تشاؤمية ، وأن كتاباتهم لا تحرك المجتمع ، أو أنها تنظر إلى الوراء ولا تنظر إلى الأمام . ومنهم من كان يرى أن هؤلاء الكتاب رومانتيكيون ( إبداعيون ) أو تقليديون ، لذا كان من الواجب تجاوزهم .


6- فاتح المدرس : بالإمكان اعتبارهم مقدمة طبيعية لنشوء رابطة كهذه ، أما التأثير فلا ، إذ لكل كاتب جيد شخصيته ذات العمق والثقل والتلوين الاجتماعي .


7- عادل أبو شنب : لا يمكن تصور ثقافة تولد دون أن تكون لها جذور ، فكر الرابطة في بعض الأحيان كان امتداداً لما سلف . النجار وخلقي والشايب سبقوا وأعطوا نتاجاً فيه ملامح مما أعطاه كتاب الرابطة فيما بعد . هل تسمي هذا تأثيراً ؟ !.

8- صميم الشريف : تأثير الكتاب الرواد ( النجار ، خلقي ، الشايب ، عفلق ) لم يكن وقفاً على فئة معينة أو رابطة معينة ، لأن هؤلاء أثروا في جميع كتاب القصة في الخمسينات ، وكتاب الرابطة تأثروا كغيرهم من الكتاب بنتاج الرواد ، بمن فيهم الرومانسيون مثل شكيب الجابري .


9- شوقي بغدادي : إذا نظرنا إلى هؤلاء كجيل متجانس مؤثر فلا بد من القول إن هذا الجيل نفسه كان ممثلاً في الرابطة بأشخاص ليان ديراني وشحادة الخوري ومواهب الكيالي الذين كانوا من الجيل نفسه تقريباً . وبهذا المعنى فإنهم مارسوا تأثيرهم من خلال وجودهم في الرابطة بشكل من الأشكال . أما إذا قصرنا الحديث على تلك الأسماء بالذات فأنا لا أذكر أنها كانت موضوع اهتمام جدي بيننا باستثناء فؤاد الشايب الذي كنا نعترف له بمنزلة خاصة متقدمة بسبب إعجابنا بمجموعته ( تاريخ جرح ) كأقاصيص ذات تقنية ناضجة وأقرب إلى الحداثة وقتها . أما بالنسبة للنجار وخلقي فلم تكن لهما تلك المنزلة . وأنا شخصيا لم أقرأ لعلي خلقي شيئاً إلا بعد مرور سنوات على تأسيس الرابطة . أما النجار فقد طالعت مجموعته بالصدفة قبل ذلك ، وتركت في نفسي انطباعاً بأنه خفيف الروح لا أكثر ، وإن كانت اهتمامه بعادات وتقاليد البيئة الدمشقية قد لفت نظري في ذلك الوقت ، ولكن دون أن يتعدى ذلك التأثير حدوده التي ذكرت . أنا شخصياً كنت معجباً بعبد السلام العجيلي أكثر من غيره من كتاب القصة السوريين السابقين لجيلي . أما المؤثرات العميقة التي تركت أثرها فينا حقاً فقد كانت من مصادر أخرى أبعد .

نتائج عامة :

1- نفي التأثير وعدم تعليق أهمية على جهود هذا الجيل ، سواء في الشكل الأدبي أو الفكري ، والميل إلى اعتبار المؤثرات الأجنبية وتيارات الفكر العالمية التقدمية ذات عمق واضح في بلورة اتجاه الرابطة أدبياً وفكرياً ( سركيس ، الكيالي ، ديراني ، بغدادي ، مراد السباعي ) ولا بد من ملاحظة ما تحمله إجابة ليان ديراني – باعتباره من الجيل نفسه – من نفور ورفض لفكرة جعل الأسماء المذكورة من الرواد ، علماً أنه مارس كتابة القصة مبكراً ، ولم يكن على معرفة بهم أصلاً ، بل لم يكن لهم ذلك الصدى الذي يلقونه في هذه الأيام في رأيه .
2- التقليل من أهمية هذا التأثير ، والحديث عن وجه شبه بين تجربة الرابطة والتجربة التي سبقتها ، من حيث التركيز على الجانب الاجتماعي في القصة ( جعفر ، المدرس ) أو وجود ملامح مشتركة في كلا التجربتين ( أبو شنب ) .
3- تداخل الجيلين ممثلاً بأشخاص ليان ديراني وشحادة الخوري ومواهب الكيالي ، وضعف تأثير الأسماء المذكورة حصراً .
4- إن تمييز الشايب وعفلق ( بغدادي ، الشريف ، ديراني ) وعبد السلام العجيلي ( بغدادي ) ينم عن تعلق كتاب الرابطة وإعجابهم بنموذج القصة الفنية المتطورة وشكلها . وهو إعجاب ذو جانب وحيد إذ إن هذه النماذج ربما تكشف عن قصور في علاقتها بالمجتمع والبيئة .
5- لا تركز أية إجابة على أهمية هذا الجيل من حيث فكرة التأثير بل التمثل والهضم.

وفيما يخص الملاحظة الأخيرة يمكن أن نورد استنتاج الدكتور حسام الخطيب المشابه لما وصلنا إليه في قضية العلاقة ما بين قصاصي الرابطة والجيل الذي سبقهم . فقد تعرض بالنقد والتحليل لسلسلة مقالات نشرتها صحيفة النقاد في نهاية عام 1951 وبداية عام 1952 ، تحت عنوان ( أضواء على الحياة الأدبية في سورية ) شارك في تحريرها عدد من الكتاب الشباب حينذاك ، ومنهم سعيد حورانية ومواهب الكيالي وسهيل أيوب ونبيه العاقل وممدوح فاخوري وشوقي بغدادي وحسيب كيالي وشحادة الخوري وجلال فاروق الشريف ورئيف خوري . وجلهم كما نلاحظ من المساهمين في إنشاء رابطة الكتاب السوريين ، ولفت النظر إلى أن الكتاب السوريين في فترة الخمسينات كانوا منقطعي الصلة تقريباً بالماضي القريب ، وكلهم كان مشغولاً إما بالمستقبل أو بالماضي البعيد . باعتبار هذين القطبين مصدري غنى وإلهام . ونادراً ما كلف أحدهم نفسه مشقة المقارنة مع الأربعينات أو الثلاثينات أو أوائل القرن . ويمكن للمرء أن يستنتج من هذا الموقف أن هؤلاء الأدباء كانوا يحسون – على اختلاف أجيالهم – أنهم أبناء مرحلة جديدة ، تختلف عن كل ما شهدته سورية قبل الحرب والاستقلال . ويصعب على المرء ( والكلام للدكتور الخطيب ) أن يلومهم بالطبع لأن الماضي القريب كان غامضاً ومضطرباً وقلقاً ، ولم يخلف لهم أية قيم أدبية تذكر ، أو أي نوع من أنواع النبوغ الأدبي الذي يمكن التعلق به ، إلا أن الباحث إذ يتجاوز هذه النواحي ، لا يستطيع إلا أن يؤكد أن ازدهار الأدب العربي في سورية إبان الخمسينات كان أشبه بقفزة إذا ما قيس بما كان عليه الإنتاج الأدبي في النصف الأول من القرن العشرين .

2- البعد الاجتماعي في القصة القصيرة في سورية عند جيل ما قبل الرابطة :

تبين لنا من خلال تعرضنا لإجابات بعض أعضاء الرابطة حول قضية العلاقة بين جيل الثلاثينات وجيل الأربعينات ، وبين كتاب الرابطة المنتمين إلى جيل الخمسينات ، أنها علاقة تكاد تكون شبه منعدمة ، سوى ما يمكن أن يؤخذ في الحسبان ، وهو أن هؤلاء الكتاب قد انتبهوا إلى بعض قضايا المجتمع ، وكان في عطائهم ملامح مما أعطاه أو عني به كتاب الرابطة ، وقد توزعوا ما بين رومانتيكي وتقليدي ، لذا يمكننا اعتبارهم من هذه الزاوية مقدمة طبيعية لنشوء رابطة الكتاب السوريين لعلمنا أنه لا يمكن للعهود الأدبية أن تكون منفصلة منقطعة الصلة عن بعضها البعض ، وفي الوقت ذاته لا وجه هنا كما يبدو لحديث ينحو لعقد مقارنات ضمن مفهوم التأثير والتأثر ، إذ إن مثل هذا الحديث – إذا كان مسوغاً – يجب أن يعنى أيضاً بالقصة العربية بوجه عام ، فهناك أسماء بارزة في تلك المرحلة كانت متفوقة من حيث العطاء الفني والامتياز الفكري على جيل قصاصي الثلاثينات والأربعينات في سورية ، ولا سيما النتاج القصصي الذي كان يظهر في ذلك الحين في مصر ولبنان والمهجر ، وقد كان اطلاع أدباء الرابطة على هذه التجارب متواصلاً وحميماً ، وربما عنوا به أكثر من عنايتهم بالزاد الإقليمي الضحل . وهكذا فإن إعطاء لمحة عن معالم المرحلة السابقة ليس أكثر من محاولة للنظر في حدود التجربة القصصية الاجتماعية التي كانت سائدة في سورية خلال فترة الثلاثينات والأربعينات .
وفي ذلك لا بد أن نلاحظ بدايةً أن القصة القصيرة قد مشت في تطورها الطريق الموازي لتطور الوعي الاجتماعي والفكري والسياسي في سورية ، حتى لنستطيع أن نراقب في القصة كيفية تشكل هذا الوعي في الذات العربية السورية . وإن نشوء الواقعية كمنهج فني في الكتابة القصصية كان نتيجة لتغيرات كبيرة وحاسمة في الساحة الاجتماعية بدأت تتكون منذ منتصف الثلاثينات ، وغدت لها السيادة منذ أواخر الأربعينات ولعل أبرز الأسماء التي تواجهنا من قصاصي تلك الفترة : علي خلقي ومحمد النجار وفؤاد الشايب وليان ديراني .

أ- علي خلقي وبوادر ظهور القصة الاجتماعية :

بدأت القصة الاجتماعية بالظهور على يد علي خلقي ، إذ نشر مجموعته القصصية الأولى بعنوان ( ربيع وخريف ) عام 1931 ، وكان السائد في القصة العربية حتى ذلك الحين الخواطر والأقاصيص ذات المنحى الرومانسي الفاقع ، والتي يحاول كتابها تقليد المنفلوطي والرافعي وأضرابهما . وكانت هذه التجارب تأخذ أشكالاً باهتة لصور متخيلة للحياة ، بعيدة عن جوهر حياة الناس اليومية وآلامهم . وقد شكل علي خلقي انعطافاً هاماً في الكتابة القصصية ، إذ عني بهذا اللون من الصور التي تضع حياة الناس في مرآة عاكسة ، وتكشف المشاكل والعثرات التي تعيق التطور الاجتماعي ، متجاوزاً في ذلك مرحلة البعد الرومانسي الباكي والمتفجع ، والذي كان سائداً حتى ذلك الحين . ويمكن القول إن ولادة الواقعية قد جاءت على يديه في ظل الحاجة إليها ، " فالبلاد مستعمرة والجوع والعري يفتكان بالناس ، والطبقة البورجوازية تتحكم أكثر وأكثر ، وتتكئ في تحكمها على أحكام ومفاهيم يعتبر مجرد المساس بها جحوداً بالقيم المقدسة ، إن لم يكن كفراً . "
بعض قصص علي خلقي كان صوراً منتقاة بعناية لحياة عصره ، وبعضها يروي ما قاساه في حياته الخاصة من مآس ، وعني بعضها الآخر بمشكلات الناس الذين تصيبهم الغيرة والشك والحب ، بينما توجه بعضها إلى تصوير النزاع بين مثل الحياة الجديدة التي تتفتح على الحرية ، وبين بقايا تماثيل الطبقة السائدة من المنافقين ومدعي الزهد والورع والعفاف والانصراف عن ملذات الحياة ، رغـم غرقهم حتى الآذان فيها .
وفي مستوى آخر عمد خلقي في صوره القصصية إلى تقديم لقطات تبرز الأزمات النفسية لأبطاله ، عن طريق تجسيد المشاعر الداخلية والأحاسيس المبهمة . وهذا التطوير في القصة السورية يستمد قيمته من كونه قد ترافق مع تطور آخر يتصل بطبيعة الموضوعات المعالجة عنده ، " فقد غمس قلمه في مداد الحياة الاجتماعية والمآسي اليومية التي يراها ، وبراعته لا تنطلق من تناوله هذا الجانب من الحياة فحسب ، وإنما تنطلق بالتحديد من طرحه بفنية لم تعهد في قصاصي تلك الفترة . إنه يعرف بالضبط كيف يعالج موضوعه ، ويعرف كيف يصعد الأزمة من الحضيض إلى الذروة لينهيها ، بعد ذلك ، النهاية الإيجابية أو السلبية التي توضح وجهة نظره كقاص ملتزم بشيء ما " .
ولعل ريادة خلقي كقاص إنما تأتي من كونه قد حاول كتابة القصة الاجتماعية الفنية ، وابتعد بها عن أسلوب الحكاية ، ولم تخل قصصه من البناء التركيبي المتخيل ، لكنه حرص على تجسيد الشخصيات كنماذج موجودة في الواقع ، مستخدماً في ذلك لغة سهلة قريبة من الكلام المحكي الذي ربما تشوبه ركاكة في بعض الأحيان . وقد صدر في قصصه عن مفاهيم فكرية واضحة ، فهو ضد الرياء الاجتماعي ، وتحكم طبقة على حساب طبقة. وبهذه الصورة يمكن القول إنه كان ملتزماً بنوع من الكتابة يصب في الحاجات الاجتماعية التربوية خاصةً ، وأن قصصه بوجه عام تشكل بداية قوية للاتجاه الاجتماعي ، سيتلوها الميل إلى التعمق فيما بعد أكثر فأكثر .

ب- محمد النجار وصور التعرية الاجتماعية :


في أواخر الثلاثينات التمع نجم محمد النجار فجأة ، وما لبث أن انطفأ بعد فترة وجيزة ، مخلفاً وراءه مجموعتين قصصيتين كانتا محاولة مركزة للتعرية الاجتماعية .
تقدم قصص النجار بمجملها صوراً من حارات دمشق القديمة الضيقة وبيوتها الطينية ، وتعرض نماذج من البشر فيها . والقصة عنده حادثة أو صورة اجتماعية ، أو لنقل لقطة مختارة بعناية تخدم جانب الرؤية عنده ، لا مكان فيها لما سوى ذلك من دراسة أو عاطفة ، ليس ثمة لحظة مأزومة توضع تحت المجهر ، ولا عاطفة تتطور وتسلط عليها أضواء التحليل ، ولا عقدة تدرس ردود الفعل الإنسانية معها ، بل إنه يوجز في أسطر تاريخ حياة كاملة ، فتختفي في ذلك جميع دقائق العمل القصصي من صراع وتداعيات وتطور في الحدث ، ويتوارى مد الحياة وجذرها في نفوس الأبطال ، فهم صور حلوة على الورق ، لكنها في الوقت ذاته جامدة ، لم تقدم في حركيتها وتواصلها مع الحياة ، وبالتالي فإن مهمة الخلق الفني عنده لم تكن ذات أهمية تذكر .
وقد أراد النجار لقصصه أن تأخذ شكل اللقطة المعبرة الصارخة ، فهو يقول في مقدمة مجموعته ( في قصور دمشق ) : " .. هذه القصص المقتطفة من جسم الحياة هي قصص التقطت صور أصحابها من أناس بعضهم ما برح يختال في ساحة الوجود ، والبعض الآخر غدا في جوف الأرض .. وهي قصص أستطيع التأكيد بأنها بريئة من التصنع والخيال .. وهي قصص يبدو بعضها صريحاً وجريئاً لطائفة من الناس .. وهي قصص إذا كان لي من ذنب في إخراجها فذنبي أنني وضعت بين الأيدي صوراً أمينة صادقة إلى أبعد حدود الأمانة والصدق . "
ويذكر الكاتب مرة أخرى هذه الأمانة في النقل المباشر عن الواقع في مقدمة قصة (الضيف الثقيل) في المجموعة ذاتها ، حين يتحرج من ذكر اسم بطل القصة : " فأنت ترى أن الموقف من الدقة حتى لا سبيل إلى ذكر اسمه أو ما ينم عن شخصيته ، وما أراني قادراً على الإفلات من وعد لأقنع الناس باني فيما أحدث لا أعدو الواقع ولا أتجاوز الحق " . وأخيراً : " قد يكون من الخير أن أعترف بأنني آثرت اقتناص هذه المخلوقات الشاذة والنماذج الطريفة من هواء هذه المدينة ، وإذن فليس من الحق والعدل أن يزعم أحد أن الطيور المحلقة في سماء دمشق كلها أو معظمها على هذه الشاكلة .. " .
ولا بد أن نلاحظ هنا بداية ظهور هذه الأسس الضيقة لمفهوم الكتابة الواقعية ، تلك الأسس التي استمر تأثيرها المؤدي إلى طي الحدود ما بين الواقع في الحقيقة والواقع في الفن ، إذ لم يكن ثمة أي تمايز بين المفهومين ، لا بل أن الواقع الحقيقي بزخمه الاجتماعي هو المادة الخام المغرية والمطلوبة للكتابة الواقعية في ذلك الحين وبعيده بسنوات .
وتبدو الدلالة الاجتماعية واضحة في قصص النجار وشديدة البروز تبعاً لمفهومه السابق حول الكتابة الواقعية . " فهو يختار معظم أبطاله من الطبقة الوسطى ، فهم بين تاجر وموظف ومحام وفتاة متعلمة وغني ذي قصر . والعقدة التي يفضلها في هؤلاء هي (الحب الحرام ) . إنه يسلط النور على تلك العلاقات الجنسية التي تحرص هذه الطبقة أشد الحرص على إبقائها في الظلام والستر ، ومجموعة أبطاله قافلة من رجال ونساء مربوطين كعبيد الرق إلى شهواتهم الكبيتة التي ينكرون . والصراع الرئيسي عنده هو صراع الرياء الاجتماعي بين الواقع الفاضح والظاهر المحترم . "
لقد كانت البورجوازية الصغيرة بين الحربين قد نمت وقويت ، وتسلم العديد من أبنائها قيادة المجتمع في سورية ، وكان التناقض يزداد يوماً بعد يوم بين الواقع الاجتماعي التقليدي وبين الأفكار التي تسير تلك الطبقة ، ولهذا لم يكن بد من أن تكسر الأقنعة المتحجرة تدريجياً ، وأن يتجه المجتمع إلى أخلاق أكثر صراحة وصدقاً ، وإلى قيم أكثر انسجاماً مع الجديد . " وقصص النجار ضربة معول توجهه إلى خوف البورجوازية من الجنس ، وإلى الرياء الحقير حوله . وما الضجة التي ثارت حولها إلا أصوات تكسر الأقنعة وشهقات العراة من الخجل الراعب . "
وأسلوب النجار في الكتابة متبسط وأشبه بالريبورتاج الصحفي : جمل قصيرة متدافعة ، تحتل الأسطر سطراً بعد سطر ، وإيماءات وغمز ولمز ، وتشويق ولهجة الحديث العادي بين صديقين يسر أحدهما بالخبر في أذن الآخر . على أنه يسرف في اللهجة حتى يقترب من الركاكة في بعض الأحايين ، أو تغلب على القلم الكلمات والتراكيب العامية ، أو ما يمكن أن نسميه بحديث الشارع في لهجة دمشقية عليها سمة الغوطة وعذوبة بردى ، ولكنها أيضاً تحمل من الركاكة والسوقية ما تحمل ، وهو في كل ذلك تطغى على قصصه نكهة ساخرة هازئة تحمل شماتة قاسية ، وتضيق بالقيم والعرف ، ولعل هذا السخر الإنساني هو أبرز مواهب النجار وأكثرها قيمة .

ج- فؤاد الشايب بين الشكل الفني والبعد الاجتماعي :

يأتي تناول هذا القاص هنا ذا أهمية خاصة ، فهو من ناحية اكتسب مكانة متميزة عند كتاب الرابطة لبراعة أسلوبه وطريقته الفنية ، ومن ناحية ثانية استطاع العثور على شطر المعادلة الناقص للوجه الآخر من قصة الثلاثينات والأربعينات ( النجار وخلقي وديراني ) إذ استطاع هؤلاء التركيز على البعد الاجتماعي في قصصهم ، وبدا قصورهم واضحاً على اختلاف درجاته من الناحية الفنية ، بينما حقق الشايب في قصصه مستوى لائقاً متقدماً للقصة الفنية ، في الوقت الذي أفلتت من يده الملامح البيئية الاجتماعية المحددة ، ومن هذه الزاوية تتمثل أزمة الشكل الفني عنده كما سنلاحظ بعد قليل . وهذا بحد ذاته يقودنا إلى التأكيد على أن هذه الفترة لم تقدم لقصاصي الرابطة نماذج تحتذى فنياً أو يُتأثر بها ، فإن هي إلا تجارب متنوعة فيها الغث وفيها الثمين ، تحمل ما تحمله كل بداية من سمات وعلائم .
وإذا كان فؤاد الشايب قد أهمل الوظيفة الاجتماعية تلك التي توضحت في التجارب القصصية لأبناء جيله ، فقد كان من أبرز من أدخل القصة السورية في زمنها الفني . كان الشايب قد تمثل بعمق روح التجربة القصصية ، فاستطاع بتمكنه من عناصر الخلق الفني أن يفرغ تلك التجربة في القالب الفني ، فجاءت القصة لديه متحررة من كل ماضيها القديم ، ونوعاً أدبياً جديداً اسمه بحق القصة القصيرة .
تأخذ قصص فؤاد الشايب في معظمها شكل صور ولوحات ، أو ما يمكن تسميته بقصة الجو ، وهو في ذلك منسجم مع مفهومه الخاص عن القصة ، إذ يراها ( صورة ) في حل من أن تكون ذات موضوع ، أي ذات فكرة وعقدة وغاية .
" وصوره هذه ليست صوراً اجتماعية مما يحكي بعض الأحداث المحلية وبعض التقاليد ، وليست صوراً نفسية مما يعكس الكهوف والأغوار اللاشعورية ويلقيها في النور ، وليست صوراً من الخيال الجامح على بساط الريح ، إنها لقطات حية ولحظات متحركة من الحياة ، قطاع مستعرض للحظة من لحظات الواقع الهارب."
في مجموعته القصصية الوحيدة ( تاريخ جرح ) ، التي كتبت على مدى ثلاثة عشر عاماً ، ما بين 1930 – 1943 ، تنويع واستلهام من شتى البيئات الأجنبية والمدنية والقروية. وغالباً ما نفتقد الوجه المحلي لهذه البيئات . وقد رفدت موهبة الشايب مطالعات واسعة في عوالم القصة الغربية وبخاصة الأدب الروائي الفرنسي والروسي الذي كان يعب منه عباً . ومن هنا كانت معالجته ترتكز إلى هذا الرصيد الكبير المتنوع الذي دخل لا شعوره وأنضج قريحته . " وقد عكست قصصه عموماً ذلك القلق الفني الذي انتشى منه المثقفون بين سنتي 1920 و 1940 . لم يقدم الشايب في قصصه فلسفة معينة ، ولا تشربت سطوره من ذلك الحنين الإنساني الذي يصبي ويوجه ، ما من دعوة أو نداء يجر إلى المجهول أو إلى غاية .. ولكنه عبر عن تلك النظرة الفنية القلقة التي كانت الطبقة الجديدة من المثقفين بثقافة الغرب تهرب إليها من الواقع النضالي إذ ذاك . لم تكن الأهداف قد اتضحت لديه ، ولا لدى غيره ، ولذلك أحب الناس هذا الإنتاج الذي يمتع ولا يرهق . وإن قائمة الأسماء التي ذكر أنه تأثر بها قد تكشف ذلك . إنها تبين قراءاته ولكنها لا تدل على أساتذته ، وفيها يتجاور كل من غوركي وفرانس وديستويفسكي ومورياك .. إن تباينها يدل على أن ما كان يروقه فيها إنما هو الجانب الفني فقط . وهو بالضبط ما كان يروق الناس فيه . وقد قال عن قصصه في آخر أيامه : " كم هي اليوم في نظري أصغر وأضيق من أن تتضمن شيئاً ، كأنني الطفل يقضي ليلته مع الدمى حتى إذا أصبح ملها واجتواها ." ، ويعلق شاكر مصطفى على الجملة بقوله : " وما ضمه الجو الأدبي إلا وانفجرت نفسه ، وكانت كلمته نوعاً من الرثاء لذاته . " . ويمضي الشايب في تصفية الحساب مع تجربته الفنية فيقول في مكان آخر : " إنني كلوحة تفتش عن إطارها .. أو لست كذلك ؟ بلى . ولكنني خرجت من تلك الأطر التي صنعتها ذات يوم لأحيط بها صورتي ، ورحت أفتش عن أكبر وأجمل ، ويخيل إلي أني سأظل دائباً أفتش حتى أظفر بالإطار الأخير أو يظفر بي إطاري الأخير . "
ربما كشفت هذه الكلمات عن سر الأزمة التي عاناها الشايب في ملاءمة الموضوع القصصي مع طموحه الفني الرفيع ، أو في تطويع القصة – بحسب مفهومها عنده – للموضوعات العامة البارزة على الساحة الاجتماعية وقتئذ . وهذا ما يعلل ضآلة النتاج الذي طلع به ، وكثيراً ما كان يواجه بما يشبه الرجاء من قبل أصدقائه ومحبي الأدب في سورية للمتابعة والمضي على الدرب ، ولكنه توقف لعلة لامس هو نفسه بعض أسبابها .

د- ليان ديراني والقصة الاجتماعية الوقائعية :

" تمثل حياة ليان ديراني الأدبية في امتدادها التطور الذي أصاب القصة السورية في الشكل والمضمون ، فقد رافقها وهي تخرج من ضلع المقامة ، ومشى معها وهي تعبر شكل الصورة ، إلى أن أصبحت تعي قيمتها الفنية . إنه يمثل نهاية فترة وبداية أخرى ، يمثل نهاية الفترة الرومانسية في الأدب والقصة السورية ، ويمثل في الوقت نفسه أدب الطليعة الجديد ، أدب الواقعية والبناء . " وقد كان من الأدباء المؤسسين في رابطة الكتاب السوريين ، حيث وجد في الرابطة إطاراً مناسباً لفكره وأدبه . وإذ يتم إدراجه هنا مع جيل قصاصي الثلاثينات والأربعينات فلأنه بدأ نشاطه الأدبي مبكراً ، وكانت قصصه في تلك الفترة تحمل من سمات البدايات الشيء الكثير . وقد نشر الديراني على امتداد حياته الطويلة عدداً كبيراً من القصص في مجلات وصحف عديدة ، جمع بعضاً منها في منتصف السبعينات في مجموعة بعنوان ( السهم الأخضر ) . وما يهمنا في قصصه ليست تلك التي تمثل البدايات الرومانسية في الثلاثينات ، وقد نشر معظمها في مجلة ( الإنسانية ) بل قصصه الأخرى التي كتبها في الأربعينات ، ونشرت وقتئذ في مجلتي ( الطليعة ) و ( الطريق ) ، على أننا سنعود إلى دراسة قصصه التي كتبها في الخمسينات في مكانها لاحقاً . فقصص الأربعينات الواقعية الملتزمة التي كتبها الديراني قبل تأسيس الرابطة ، تمثل في رأينا بذرة طبيعية لجانب كبير من الاتجاه الفني والفكري الذي التزمته مجموعة من كتاب الرابطة فيما بعد ، ولعل قصصه في هذه الفترة تشكل الجسر الواصل ما بين جيل وجيل ، ففيها شكل البداية ، وفيها جوهر الفكرة والهدف ، وفي الحماسة لانطلاقة جديدة للمجتمع من رحم أوجاعه ، وهي تحمل ما تحمله من محاولة تجاوز فترة البدايات ذات المنحى الرومانسي ، وذلك على ضوء ما آمن به ليان ديراني ودعا إليه . وسوف يكون من المفيد خلال دراسة قصصه أن نتعرض للمفهوم الواقعي عنده ، لنرى ما انعكس من ذلك في أدبه ، بل في أدب قسم من زملائه الآخرين في الرابطة فيما بعد .
إذا كانت قصص كل من النجار وخلقي قد عنيت مباشرة بالتركيز على الجانب الاجتماعي واللون المحلي ، فإنها كما لاحظنا لم تكن أكثر من لوحات وصور لا تأخذ بأية حال شكل القصة الفنية . وقد يتحقق هذا الشكل على نحو وآخر فيخبو الجانب الاجتماعي ويتضاءل حضوره في القصة ، فتغدو تشكيلاً مؤطراً في صورة أو لوحة نفسية ، كما وجدنا عند فؤاد الشايب . لكن مع ليان ديراني بدأ يتوضح مفهوم جديد للكتابة القصصية ، فالقصة عنده " يجب أن تمثل نماذج حية من المجتمع يتحركون وينطقون بلغتهم ، ويتجهون نحو إصلاح المجتمع للسير به في طريق الحرية وإنقاذ الإنسان من العبودية . إنها قصة من يبنون المجتمع ومن يتلاشون من الحياة بحكم تطور الظروف المحيطة بمجتمعهم . " أما فكرة القصة فتتكون لديه من حادثة تأثر بها ، أو حديث سمعه .. أي من الحياة نفسها . وضمن هذا المفهوم فقد غدا الأدب عند الديراني رسالة ، أو أنه التزام برسالة . يقول : " .. نعم أرمي إلى تحرير البلاد العربية وإطلاق الإنسان من عقال الاستعباد الفكري والمالي . إني أومن بالاشتراكية العلمية والواقعية الاشتراكية ، وبالفن لخدمة الإنسان والمجتمع والحياة . " ولا تخرج هذه الآراء عن جواب له مماثل نشر في مجلة ( الصباح ) ، يقول فيه : " القصة قطعة صادقة حية من الحياة نفسها ، تؤخذ من حياة الشعب نفسه ، من هؤلاء الذين يكدحون .. ويجب أن تعود إليهم ببساطة وسهولة ، فهي مــن هذه الناحية توجيهية . "
والموضوعات الاجتماعية التي عني الكاتب بإبرازها تكاد تنحصر في جو الفقر والحرمان والجوع إلى الحياة ولقمة العيش ، وكل موضوعاته تدور في فلك الاستغلال الطبقي ، كما في قصص ( السارقة ، هموم ، شرود ، أنا عامل .. ) ففي جميعها هموم تصور شطراً من الحياة الاجتماعية اليومية لإنسان الأربعينات في قطرنا ، تلك الفترة المحكومة بعسف الأجنبي ، ثم الطبقة البورجوازية المدنية المتسلطة والمتحالفة مع الإقطاع ، والتي رافقت بداية عهد التشكل الاجتماعي والسياسي قبيل الاستقلال وبعده . وقد تميزت معظم قصص الديراني في تلك الفترة بالعناية بالموضوع أكثر من العناية بالأسلوب أو الناحية الفنية ، وهذا بدوره انعكس على شكل القصة عنده ، فجاءت تقريرية مباشرة ، توصل مؤاداها الموضوعي إلى القارئ من أقصر السبل ، وحتى تلك الملامح التي أراد لها الديراني أن تكون في جانب التحليل النفسي أو الاستبطان ، كانت مثقلة بالمباشرة ، تجري في ذهن المؤلف وتسقط على شخصياته بافتعال ظاهر .
أما الحدث القصصي عنده فغالباً ما يلتقطه في اللحظة المأزومة ، وزاوية البدء دائماً حادة ، ونقطة الصراع فيها مضيئة ، إذ تنفجر الأزمة فجأة في الكلمات الأولى من القصة ، ثم تمتد في إشعاعات متتالية ، فتجمع في النور كل ما يحتاجه الحدث القصصي من أرض وسماء وأشخاص . لكن الشخصيات لا تبدو ذات ملامح ، إذ يتم التركيز على الحدث والأزمة ، وبالتالي تصبح الشخصيات عناصر محركة ، والكاتب يوجهها كيف شاء ، وقد تفتقر في كثير من الأحيان إلى الإقناع أو الصدق الفني .
وكثيراً ما يلجأ الديراني إلى استخدام اللقطات الجانبية يوظفها لتزيد طاقة القصة في التأثير ، وهي عبارة عن صور أو لوحات – وغالباً ما تكون من الطبيعة ، أو المحيط الخارجي – تلتقي مع تطورات القصة ، لتقوم بدورها في الإيحاء ، وعموماً لا ينجح الكاتب في إخفاء هذه ( اللعبة الفنية ) إذ تأتي هذه اللقطات مباشرة تقطع تسلسل الحدث ، أو تكون مقدمة لحدث جدَّ في ساحة القصة ، أو ترهص لتطور أو أزمة ما في وضع التحول . على أن هذه السمة تبدو جديدة في قصة الأربعينات عموماً ، والديراني قد يكون أول من حاول توظيف اللقطات الجانبية وإعطائها دوراً رئيسياً في القصة ، فهي تدخل مرة بعد مرة في جو القصة لتعطي الانطباعات المختلفة ، فنراها تتكرر مثلاً في سبعة مواضع من قصة ( شرود ) ، وفي ستة من قصة ( السارقة ) .
والديراني إذ يشعر أنه مسؤول عن كل شيء في القصة ، لا يترك للقارئ مجالاً ليعمل ذهنه ، فنراه يقحم نفسه بالشرح والتعليل ، كأن يجري منولوجاً مثقفاً على لسان أم قروية في قصة ( السارقة ) لتبرر تقصير أولادها في الدراسة : " – فالمديرة لا تدرك سبب جمود ذهنهم ، وأنى لها أن تدرك ذلك .. فالأولاد لا يأكلون إلا الرخيص من الطعام ، والرديء من الخبز .. وهذا الرخيص والرديء يملأ البطن حقًّا ولكنه لا يؤدي الأغذية الضرورية للجسم ولا ينشط العقل . " أو يقول الكاتب في حبها لأولادها ورعايتها لهم مفسراً : " أجل لقد نصبت نفسها حارساً لهم ، ولا عجب في ذلك إنها الأم ، وإنه قلب الأم . " أو يحاول أحياناً وصف شعور البطل كما يراه هو دون تحليله ، كهذا المقطع من قصة ( ذكرى ) : " أصيب نزار بفقد أبيه وهو في السادسة من عمره ، فسهرت أمه على تربيته ، وآلت على نفسها – رغم فقرها – إلا أن تعلمه ، لقد أدركت بفطرتها أن العلم ضروري . فتدرج الصبي على مقاعد الدراسة كالكرة بين أقدام لاعبين اثنين ، فأمه تقذف به إلى المدرسة ، والمدرسة تتطلب مالاً ، ثمن الكتب والألبسة والقسط المدرسي و .. ويتخلف نزار عن تأدية هذه الأمور ، فتقذف به المدرسة إلى البيت .. القسط .. آه من هذا القسط !.. كم لوّع أولاداً وآباء .. "
وقد نجد في قصص الديراني لتلك الفترة الكثير من تلك العيوب الفنية من مقاطع مقحمة معترضة ضعيفة الانسجام والجو العام ، أو تعليقات وشروح مفسرة وإطلالات رأس .. وليس المهم إيراد المزيد منها بل المهم أن نتوصل إلى تصور نوعي عن المفهوم العام للكتابة القصصية الواقعية عند الديراني في الأربعينات . فهل كانت تعني الوقائع ، أو الصدق المطلق ، أو لنقل الانعكاس الآلي المرآتي للواقع ؟

هـ – مفهوم الواقعية عند ليان ديراني :

الحقيقة أن مفهوم الديراني للواقعية وقتها كان محاطاً بكثير من الحماسة والاندفاع ، ولنقل حسن النية ، جراء شدة الارتباط ما بين الأدب ووظيفته النفعية المباشرة . وهذا المفهوم يعتريه الكثير من نقاط الضعف والتخلف وسوء الفهم سواء من الناحية النظرية أو في التطبيق . ففي مقال نشرته مجلة الطريق بعنوان ( الأدب الواقعي ) للديراني نفسه نواجه مفهوماً يمكن اعتباره إلى حد ما نموذجاً للتصور العام للواقعية في الأربعينات السورية على الأقل من خلال صورة الأعمال الأدبية " الواقعية " لتلك الفترة. هذا المفهوم كما سنعرض له ، استمر تأثيره عند بعض من كتاب الواقعية في الخمسينات ، وجلهم إن لم يكن كلهم أعضاء في رابطة الكتاب السوريين ، بينما حاول بعضهم الآخر تجاوزه وإغناء الواقعية وجمالياتها ، من خلال نماذج قصصية استطاعت الملاءمة بين شطري المعادلة ، بين الواقع والفن .
في المقطع التالي المأخوذ من مقال الديراني نلاحظ كيف يجعل من بلزالك نموذجاً يحتذى في الواقعية ، ربما دون إدراك لسر طريقته الفنية . يقول ليان ديراني : " في كل مكان على وجه التقريب ، ومن أكثر الأدباء نسمع اليوم هذا النغم المحبب إلى كل القلوب ، هذا النغم الذي أدركه أشد الأدباء وعياً ألا وهو ( الواقع ) . إنها لغضبات عنيفة صادقة ، بل إنها لدفعة شديدة تعكس ما حدث في الأشياء المادية من تطور محسوس ، بل إنها الإشارة ناطقة تنم عما وقع في الحياة نفسها من دفعة إلى الأمام . إن أهم وظيفة للأدب كما يقول الأدباء الواعون التقدميون : أن يصف الواقع كما هو تماماً ، دون تجميل ولا تقبيح . ذلك هو أصدق فهم لتعريف وظيفة الأدب ، غير أن كلمة ( الواقع ) ظلت مع ذلك غامضة مبهمة ، وحلماً يرود في مخيلة المتحمسين له ، فما هو هذا الواقع إذاً ؟!!
( يجيب الديراني ) : إنه الحياة نفسها التي نحياها ، بمن فيها من أشخاص ، وما يكتنفها من طبيعة وجمادات ، وما يحركها من أمور مادية اقتصادية وأدبية ودينية ، وما يقوم بين الأحياء والطبيعة من علاقات راهنة محسوسة من جهة ، وبين الإنسان والإنسان من علاقات صحيحة واضحة من جهة أخرى . إن الواقع هو كتلة الحياة النموذجية نفسها ، دون التفريق بين أجزائها ، ودون الحكم لها أو عليها ، وإن الواقع حينما يعرض كما هو بكل أمانة ، ينطق من نفسه ، ولا يحتاج إلى لسان الكاتب نفسه . دع الواقع يتكلم من نفسه ، فإن استطعت القيام بذلك ، قمت بأحسن خدمة للمجتمع وللحياة نفسها .
كان بلزاك من أكبر المتحمسين للملكية وما يحيط بها من أرستقراطية ، وكان يغار عليها غيرة شديدة ، ويخاف عليها ، ولذلك راح يكتب عنها ويصفها في رواياته وصفاً دقيقاً علمياً ، فأدى بعمله هذا خدمة جلى لبلاده ولشعبه وللتاريخ البشري نفسه ، كان بلزاك من أكبر أنصار الأدب الواقعي ، فما هي عناصر الأدب الواقعي ؟

إن أهم عناصر الأدب الواقعي هي :

1- عرض العلاقات الحقيقية القائمة بين البشر في ظروف معيشية واضحة ملموسة .
2- أخذ الأشخاص ودراستهم دراسة دقيقة علمية ، مع عرض واقعي لظروف معيشتهم .
3- ليس الكاتب مضطراً أن يتحيز – في الظاهر على الأقل – لطبقة من الطبقات ، وليس عليه أن يبدي رأيه الخاص بلسانه الخاص ، لأن ذلك يخرج بالمؤلف الفني عن حدود الفن .
4- يجب على الكاتب أن يدع الأشخاص يتكلمون بلغتهم الحقيقية التي تدفعهم إليها ظروف حياتهم ، وأن يفكروا تفكيرهم الطبيعي ، كما هو في الحياة تماماً .
5- يجب على الكاتب أن يتجنب فرض اللغة والتفكير الذي يراه هو مناسباً فيفرضه على أشخاص روايته فرضاً ، وبذلك يعزلهم عن ظروف حياتهم الاجتماعية ، فيجيء التفكير أو اللغة مناقضاً كل المناقضة لظروف الحياة الواقعية .
6- يجب على الكاتب أن يتقيد بالحياة الواقعية كما هي ، أي أن يستلهمها في كتاباته ويصورها ، ويصور معها العوامل الرئيسية التي تدفعها . "

تكشف هذه السطور عن فهم غامض مضطرب مشوب بالتناقض ، يزاوج ما بين الواقعية والالتزام بقضية الشعب أو بالقضية الاجتماعية ، فالواقع " هو الحياة التي نحياها بمن فيها من أشخاص ، وما يكتنفها من طبيعة وجمادات .. إلخ . " ووظيفة الأدب عندما تكون وصف الواقع كما هو يتوارى مبدأ الخلق الفني ، وتحل مكانه صور من نسخ الواقع لا تحمل أي أفق ، أو أنها فاقدة للبعد الآخر الذي يدخلها باب الفن ، نقصد بعد التأليف الجديد لعناصر الواقع بما يخدم فكرة الأديب ورؤيته . وتبدو الدعوة صارخة لعرض الواقع بأمانة ، إذ إنه – أي الواقع – قادر على النطق بنفسه دون الحاجة إلى لسان الغير ولا حتى إلى لسان الكاتب نفسه . وعلى الرغم من اعتقادنا أن هذه الفكرة لم تعد ذات قيمة في المفهوم المتجدد للواقعية ، عندما بات لسان الكاتب يأخذ عدة أشكال في العمل الفني ، وليس الشكل المباشر واحداً منها حتماً ؛ فإن الديراني لم يتوصل في قصصه لتلك الفترة إلى تورية ذاته ككاتب أثناء المواقف التي تتيح أي تدخل أو شرح أو تعليق ، أو تلك التي تضيق بذلك ، رغم أنه رأى في استعراضه لعناصر الواقعية أن الكاتب ليس مضطراً أن يتحيز – في الظاهر على الأقل – لطبقة من الطبقات ، وليس عليه أن يبدي رأيه الخاص بلسانه الخاص ، لأن ذلك يخرج بالمؤلف الفني عن حدود الفن .
ويقترب الديراني في مفهومه للواقعية من حدود النزعة الطبيعية في الأدب ، وذلك من خلال تأكيده على وجوب العرض الوقائعي لحياة الأشخاص ، ومطالبته بأن يدع الكاتب هؤلاء الأشخاص يتكلمون بلغتهم الحقيقية التي تدفعهم إليها ظروف حياتهم ، وأن يفكروا تفكيرهم الطبيعي كما هو في الحياة تماماً .
وفيما يخص هذه النقطة فإن بلزاك نفسه الذي يبدي الديراني إعجابه به ، ويورد عناصر الأدب الواقعي موحياً بأنه إنما استمدها منه ، حتى بلزاك لا يلتزم بمستوى اللغة (الحقيقية ) للأشخاص . فقد يجري على لسان فلاح عبارات يعجز عن استخدامها بطبيعته ، ومع ذلك فإن الشخصية الفلاحية تلك ، بكل ما وضعه بلزاك على لسانها ، صادقة صدقاً مطلقاً مع الحياة ، لأن التعبير عن ذلك يحتاج إلى تجاوز حدود النسج المعبر عن الواقع . وكل ما فعله بلزاك أنه عبر عن الإحساسات الغامضة لدى فلاح ما كان يستطيع التعبير عنها بوضوح ، وأظهر إمكانات اللغة الفنية . إن بلزاك يعبر عن تلك الشخصيات البكماء التي تخوض معركة حياتها في صمت ، إنه ينجز رسالة الشاعر بالمعنى الذي قصده ( غوته ) من تلك الرسالة : " إذا كان العذاب يخرس الناس ، فقد منحني الله قدرة التعبير عن عذابي . " بهذه الطريقة استطاع بلزاك تطويع اللغة اليومية للارتقاء بالجوهري في الإنسان إلى ذراه العاطفية والفكرية ، والكشف عن نواة الترابط بين أعماق الإنسان والمعضلات الاجتماعية .
إن مبدأ الأمانة في عرض الواقع الذي نستشفه في كل عنصر من عناصر الواقعية حسب عرض الديراني لها ، هذا المبدأ هو المسؤول عن الصورة الصارخة عالية النبرة التي سادت أعمال الفترة بشكل عام ، وأعمال الديراني بشكل خاص ، فهو يكشف عن رغبة صادقة في عرض حياة الناس وآلامهم وظروف معيشتهم ، ويربط بقوة بين وظيفة الأدب الاجتماعية المباشرة ومبرر وجود هذا الأدب ، لكنه لا يتوصل إلى فهم طبيعة العمل الأدبي وشروط نجاحه .
إن ما توضح ولاحظناه في بداية الحديث عن الديراني ومفهومه للقصة ورسالة الأدب ، ينسجم إلى حد بعيد مع نظرته وفهمه للأدب الواقعي . إنه على حد ما ذهب إليه الدكتور شاكر مصطفى " يصدر في ما يكتب عن تجاربه الشخصية ، وعن الصور والأحداث التي يراها . والخيال ( الخلق الفني ) لا يلعب عنده إلا الدور المحدود " .

الفصل الثاني
الواقعية والتيار الاجتماعي في قصص الرابطة

ارتبط ظهور التيار الاجتماعي في قصص الرابطة بالانطلاقة الوطنية التي شهدتها الساحة العربية عموماً ، والسورية خاصة ، مع مطلع الخمسينات ، ويأتي نمو هذا التيار وتعاظمه ورفعه لواء الواقعية تعبيراً عن مصالح الفئات الشعبية الناهضة وتطلعاتها المستقبلية . وهذا بدوره يشير إلى وجود وعي متنام عند الأدباء بأهمية الأدب ودوره البناء في إعادة التشكيل الاجتماعي وبناء الإنسان الجديد . وإذا كانت الظروف الاجتماعية والسياسية قد أملت على أدباء الرابطة فكرة جعل الأدب أداة من أدوات الانتشار السياسي والرعاية الأيديولوجية ، فإنهم قد نظروا إلى الواقعية ضمن هذا المستوى على أنها من حاصل البحث عن أنجع الطرائق الممكنة لذلك ، وأنه يمكنها أن ترسم علاقة الأدب بالواقع الاجتماعي في حركته وتناقضاته . بيد أن هذا الأدب قد طبع بما طبعت به الحركة الوطنية الاجتماعية بقيادة البورجوازية المتوسطة في انقسامها وتناقضها ، وقد كان لذلك أثره البارز في تحديد خصائص الواقعية ومفهومها عند كتاب الرابطة . ولعل في رأس المهام التي أنيطت بالواقعية ، أن تكون الجواب التقدمي على سيادة الثقافة الرجعية والتيار الرومانسي في الأدب العربي عموماً . والحقيقة أن هذه الخطوة كانت قد بدأت في فترة الثلاثينات ، وتوضحت بعض معالمها على أيدي جيل الأربعينات ممن تناولنا بعض أعلامهم وإنتاجهم القصصي في الفصل السابق . أما كتاب الرابطة فقد كانت الواقعية بالنسبة إليهم – على اختلاف نظرتهم إليها – صفة تميز نتاجهم وتحدد طبيعته ، والواقعية التي كانت في فترة الأربعينات قد اكتسبت أهميتها عندما وقفت لتواجه التأثير الثقافي الغربي الاستعماري ، استمرت وازدادت وضوحاً مع مطلع الخمسينات ، إذ اكتسبت شرعية جديدة في مواجهة النتائج المترتبة على المرحلة السابقة في جميع الميادين ، فضلاً عن مهمتها الحاضرة في بناء المجتمع الجديد .
وقد انقسمت الموضوعات القصصية تبعاً لذلك إلى موضوعات أساسية توجه بعضها إلى تناول مشكلات الريف والفلاح وعلاقته ببقايا الإقطاع وحليفته حكومة الحزب الوطني ، وتوجه بعضها الآخر إلى البحث في شؤون الحياة اليومية وجزئياتها في الريف والمدينة ، من خلال تناول قضية الإنسان الصغير ، وصراع القيم ، وأزمة المثقف ، وإخفاق التجربة الاجتماعية والسياسية ، وما إلى ذلك من قضايا . وظهرت في هذه التجربة القصصية الشخصية الشعبية المحلية بتفاصيل محددة ودقيقة كما سنرى . ولنا أن ندرك هنا مدى ارتباط القصة بوظيفتها المباشرة الملحة ، واندماجها بالمشكلات الاجتماعية .
وقد تنوعت طرائق التناول الواقعي في قصص الرابطة وتباينت في مستواها الفني ، الأمر الذي أوجد اختلاطاً كبيراً في المفهوم بين الواقعية وما أسميناه بالوقائعية . وقد جسد قسم من كتاب الرابطة تجاربهم من خلال الصوت الذاتي الانفعالي ، والتصورات الشخصية البسيطة حول الواقعية . والحقيقة أن المفاهيم النظرية ، الفكرية والفنية ، التي ظهرت في البيان التأسيسي لرابطة الكتاب السوريين ، لم تتعمق الواقعية كمفهوم فني ، ولم تمض في تقعيدها على نحو علمي منهجي ، وإن كانت قد رفعت لواءها ، بل نراها اكتفت من الناحية الأدبية بتأكيد مبدأ الالتزام ، وإظهار العداء لمبدأ الفن للفن ، ورفع شعار مقابل هو ( الفن في سبيل الحياة ) ، وفي ذلك لم تمض إلى أكثر من طلب البساطة والوضوح في العمل الفني ، بينما ظهر تطور ملموس في مفهوم الواقعية وقضايا الأدب الجديد من خلال مقررات مؤتمر رابطة الكتاب العرب . ومن هنا ، وعلى أساس من ذاتية الكاتب وقدراته في الإبداع الفني ، يمكن القول إن الواقع قد انقسم في قصص كتاب الرابطة إلى واقعيات عديدة ، ارتفع بعضها إلى مرتبة فنية مقبولة ، بينما سقط بعضها الآخر – وربما كان القسم الأكبر – في إغراء تصوير الوقائعي والهامشي والمبتذل ، وفي التناول الطاغي لكل ما هو شعبي محلي ، من دون اعتبارات فنية ذات صلة بالجنس الأدبي ، علماً بأن الواقعية كانت منذ ذلك الحين قد تجسدت على المستويين النظري والفني على أنها ليست سوى البحث عن الجوهري في الواقع من خلال قانون الفن الأوحد ، الانتقاء ، أو الحذف والاصطفاء ، ومن ثم التأليف الجديد لعناصر الواقع ، إذ من المفترض أن يخلق الكاتب من الحدث الواقعي حدثاً فنياً هو شيء آخر غير الواقع ، وإن كان الواقع منبعه ومصدر إلهامه .
إذن يمكن القول إن القصة الاجتماعية في أدب الرابطة كانت قد ارتهنت بالمفهوم الواقعي الخاص بكل كاتب ، وعلى هذا الأساس يمكن دراسة القصص القصيرة التي قدمها كتاب الرابطة على ضوء مفهومهم عن الواقع وتعاملهم إجرائياً مع هذا المفهوم ، ولكن ذلك لا يمنع من تحديد مستويين للبحث ، يتمثل الأول بطور البداية ( قصص الوقائع ) والثاني بطور الانطلاقة ( القصة الفنية ) ، وقد تمازج هذان الطوران زمنياً ، وتنوعت الأشكال داخل كل مستوى بحسب خصوصية التناول وتنوعه من كاتب إلى آخر .

أولاً – الوقائعية وأشكال ظهورها في قصص الرابطة :
كان فهم الواقعية عند بعض كتاب الرابطة ، في مستوى من مستوياته ، أن تنقل القصة الواقع كما هو ( بأمانة ) ، أو تمتلئ بفضلاته ودقائقه الصغيرة ، أو تحتشد بأوصاف الطبيعة والبيئة المحيطة ، مع إيثار واضح لإبراز الوظيفة الاجتماعية للأدب ، وإعلاء شأن المضمون الفكري وتقديمه على الطريقة الفنية ، وفق أسلوب عماده السرد التقليدي والإنشاء الإخباري ، واستخدام ضمير الغائب .. وبتعبير آخر ، كان يراد للواقع في القصة أن يكون بمثابة نظير لواقع آخر موجود في الحياة .
إن انعكاس مظاهر الحياة الواقعية في الكتابة القصصية دون الإيغال في عمقها ، والبحث عن الجوهر المتخفي وراءها ، قد حدد طبيعة القصة ضمن هذا المستوى ، إذ غدت وقائع يرصفها القاص ، وقد يبذل عناية فائقة في نقلها من الواقع ، لكنه لا يبدو قادراً على الإقناع الفني ، لأنه لم يصدر عن فهم ناضج لجوهر الطريقة الواقعية من ناحية ، وابتعد عن طبيعة القصة القصيرة وإمكاناتها الموضوعية من ناحية ثانية . هذا البعد نجده قد أدخل القصة في شكل المقالة الاجتماعية الناقدة طوراً ، وفي شكل الصورة التسجيلية طوراً آخر ، فبدت حديثاً عن واقعة جور أو امتهان كرامة أو استبداد أو فقر ، وصورة ترسم مشاهد البؤس والحرمان والصراع الطبقي ، والأجواء الاجتماعية المترفة الرافلة في النعيم ، وعند أقدامها سواد الشعب يعيش مرارة الواقع ويجيش بالنقمة … وقد جر ذلك بعض الكتاب إلى الصدور عن واقعية سوداء ركزت على نوازع الشر في نفس الإنسان البسيط المسحوق ، مع ميل مباشر إلى تشريح للهواجس العدوانية الشريرة فيه ، واقتربت تلك القصص في ذلك كله من حدود المدرسة الطبيعية في الأدب الأوربي .. بينما ظهرت في بعضها الفكرة الدعاوية التحريضية المباشرة ، أو الشعارية السياسية المذهبية سافرة معزولة عن الحدث ونموه وطبيعة الشخصيات القصصية ، التي يغلب عليها الافتعال والانفعال ، وتنتقل إلى التفاؤل الثوري جرياً وراء رغبة الكاتب ، ودون أي تمهيد موضوعي مقنع ، أو لنقل إنها تقفز من السلب إلى الإيجاب على نحو فجائي لا يقدم له الكاتب تسويغاً ، سوى ما قد يسوقه مباشرة من أفكار الثورة والإيمان بالمستقبل الإنساني الذي يسوده العدل ، ويرتفع فيه الظلم عن رقاب المستضعفين .. ويجب أن نلاحظ هنا أن النقل الوقائعي نفسه قد يتشوه في كثير من الأحيان في ظل الهيمنة الفكرية والذاتية الانفعالية للكاتب ، إذ تغدو الأحداث ملفقة ، فاقدة عنصر السببية ، متجاهلة نمو الشخصيات وتطورها ، لتنجلي أخيراً على نحو من التسطح والنمطية أو النمذجة الآلية .
ومن خلال التصورات الفكرية البحتة عن بناء المجتمع الجديد وشكله ، ستبرز في بعض القصص ملاحظات توجيهية في التربية الاجتماعية وأصولها ، وفي نقد العادات السيئة وبعض المظاهر السلبية في الحياة الأسرية ، مع محاولة تقديم تصور نموذجي مقترح للبديل المنسجم مع فكرة التطور وأحلام المجتمع الجديد . أو ستعمد القصة الوقائعية إلى توظيف بعض الوسائل الفنية المعروفة في أسلوب القص ، كالصور المرافقة ، والإيحاء ، والمنولوج ، لكنها وسائل ستبقى كما سنرى في مستوى التعامل المباشر ، أو الاستخدام المكشوف ، فتظهر أبداً من خلال الموجه الفكري والأيديولوجي للكاتب .
وإن فهم الواقعية على أنها نسخ أمين لحياة الشخصيات في حركتها اليومية العفوية البسيطة ، دفع ببعض الأدباء إلى اعتماد شكل الحوار العامي ، حرصاً منهم على مسألة الأمانة في نقل الواقع ( كما هو) ، ولا شك في أن الحوار القصصي جزء من بناء العمل الفني ، ينطبق عليه ما ينطبق على أجزاء هذا العمل من قوانين الإبداع والخلق ، وإن تبني كتابة الحوار في شكله الدارج على ألسنة الناس ، بل العامة منهم ، يهدم في نظرنا الأساس الجمالي والفني للعمل الأدبي عندما لا يقدم من الواقع سوى صورته الظاهرة .
وإننا لا نستطيع أن نرى قي الوقائعية شكلاً من أشكال التسجيلية ، إذ إن هذه الأخيرة تنطلق من الظواهر أساساً لتشكيل الرؤية الفنية ، لكنها تمتلك زاوية محددة للنظر ، وبعداً اصطفائياً واضحاً ، يجعلها أمينة لأسس التصوير الفني الواقعي .
إن التصوير الوقائعي لمظاهر الحياة الاجتماعية يبتعد بالعمل الأدبي عن جوهر الطريقة الواقعية في التصوير الفني ، بكل إمكاناتها وغناها ، بل يكاد يخرج هذا العمل من مسألة انتسابه إلى الفن أصلاً . وقد يكون من المفيد تبيان طبيعة هذا الجوهر الذي عنيناه ، والذي يفصل موضوعياً ما بين الفن الواقعي الأصيل ومختلف أشكال الكتابة الوقائعية .

الواقع الحقيقي شبكة معقدة من علاقات الإنسان بالعالم ، متداخلة ومتفاعلة ، وإن معرفة هذا الواقع تاريخية موقوتة ، ترتبط بمدى علمنا به وفهمنا له . ولهذا فإن الواقع يبرز في كل مراحل التطور جوانب جديدة ، ومظاهر وظواهر لا تقف عند غاية ولا تحدها نهاية ، ونحن قادرون على معرفته ، ولكن هذه المعرفة محددة بما وصلنا إليه من تطور اجتماعي وتطور علمي . وإن تغير الواقع دائم ، لذلك فصورته لدينا متغيرة أيضاً ، وهو غير محدود بما أنجز ، بل ينطوي على تشوف إلى ما ينبغي إنجازه .
وللواقع حقيقته الموضوعية ، ولهذه الحقيقة وقع في نفوسنا ، وصدى في ذواتنا الإنسانية ، ومفهوم في أذهاننا . وتنعكس صورة الواقع الموضوعي على الذات ، ولكن لهذه الذات رؤاها وأحلامها ومواقفها ، فتتغير الصورة لديها ، وتكتسب شكلاً خاصاً ، وهذا هو الواقع في الفن ، الذي يعد في أدق معانيه انعكاساً ، لكنه ليس انعكاساً سلبياً ، بل هو إسهام في التعرف إلى الواقع ، وأداة للم شعثه ، وتجسيد الهام فيه ، من وجهة نظر المبدع ، وبطريقته في الاصطفاء والعرض ، وبالتالي فهو أداة تنوير وتغيير ، ينجح مؤداه بقدر نجاح الفنان في السيطرة على فوضى الواقع وتعقيداته ، ومن هنا يمكن القول : إذا غامت رؤية الفنان للحقيقة الموضوعية فقد عمله فنيته .
إن الواقع يبدو في الفن أكثر غنى من حقيقته الواقعة ، لأن الفن لا يقف عند الواقع في معطياته الخارجية المباشرة ، إنما يتخطى هذه المعطيات في إدراك جديد لها ، فيبدو الواقع في صورة جديدة له : صورته الفنية ، كمنظومة من علاقات الواقع بصورة مقنعة ، تمتلك صفة الجمالية ، أي الانسجام تحديداً . وهذه الصورة الفنية للواقع أكثر كمالاً من ( أصلها ) ، لأنها تلم ما بدا مبعثراً من عناصر الواقع ، وتوضح ما بدا غامضاً من مغزاه . إن الفن وإن كان مصدره الواقع ، إلا أنه يتجاوز الماثل في هذا الواقع إلى إكمال ما يشوبه من نقص ، وإلى ما يرهص به من جديد ، وبهذا يتحرر مفهوم الواقع من (المثول ) ومن المباشرة الواقفة عند حد المرئي والملموس ( الوقائعي ) فينتظم الشوق إلى الاكتمال ، والحلم بما لم يقع ، واستشراف مستقبل آت ، وبذلك يتحرر مفهوم الفن من الانعكاس السلبي ، فينتظم الذاتية الغنائية في وعيها بالحقيقة العيانية ، ويكشف عن مغزى الماثل في الواقع ، ويتجاوزه إلى أن يمنح الإنسان صورة لغد يسعى إلى صنعه .
إن هذا التصوير ينفي ( الميكانيكية ) و ( الفوتوغرافية ) في علاقة الفن بالواقع ، فالفن هنا لا يحاكي الواقع في شتاته وجزئياته محاكاة بعيدة عن جوهر حركته وثرائها ، كما أن هذا التصور يصوغ العلاقة بين الذات والموضوع صياغة علمية ، فيعتد – في الفن – بالذات المبدعة : وعيها ، حرارتها الوجدانية ، خيالها الذي يكتشف بين الجزئيات جوامع لا تتبدى لكل عين ، وبين المعطيات شوائب نقص ، ومن الماثل صورة المثال.
إن الملامح التي وسمت القصة الوقائعية بميسمها تكاد توجد مجتمعة في أي نموذج من نماذجها ، وقد يغلب أحدها على الآخر تبعاً للتوجه الفكري والفني للكاتب . وسنحاول أن نتلمس هذه الحقائق من خلال خصوصية التناول والمعالجة عند كل كاتب ممن تم اختيارهم من كتاب الرابطة السوريين ، وعبر تنوع أشكال القصة الوقائعية أيضاً .

( 1 )


وقائع من حياة الريف والمدينة

( مواهب الكيالي )


امتاز مواهب الكيالي بمكانة مرموقة بين أقرانه من كتاب الرابطة ، نظراً لانتمائه إلى جيل متقدم ، ومساهمته الفعالة في نشاط رابطة الكتاب السوريين ، فقد كان رئيساً للرابطة في الفترة الأولى لتأسيسها ، ولعب دوراً ريادياً هاماً في تربية كتاب الرابطة الشباب ، كما شد الاهتمام في قصصه عندما عكف على تناول المواضيع الملحة والحساسة من حياة الشعب العربي السوري ، وقد اختار مواهب هذه المواضيع من وقائع النضال الشعبي ضد الاحتلال الفرنسي ، منتقداً سلبياته ، ثم عرض لشرائح اجتماعية ريفية تأثرت بقسط كبير من الظلم والجور في ظل الحكومة الوطنية المتحالفة مع الإقطاع بعيد الاستقلال . ولعل أكثر قصصه تمت بصلة إلى تجربته الذاتية وحياته الخاصة فــي جــو البيئة الاجتماعية ، وهـــذا ما يدخلها قوياً فــي باب ( الوقائعي ) . وهو إذ يعرض لوقائع من هذه التجربة ، يشير إلى آلام المجتمع الحقيقية من جراء صراعه مع بقايا عهود الظلام والتخلف ، مستثمراً في ذلك الطاقات التعبوية التي يتيحها له عرض الصور السوداوية والوقائع المظلمة ، فثمة في مرحلته الكثير من الرواسب الاجتماعية ، ومظاهر الركود التي تعرقل مسيرة التقدم ، وتضع العثرات في طريق الفئات الوطنية الصاعدة .
في قصته ( المناديل البيض ) يرصد الكاتب جانباً من الحياة الريفية أيام الانتداب الفرنسي ، فيقدم لوحة قاتمة ، مغلقة الأفق ، بائسة ، تحكم الريف السوري الرازح تحت القهر . فأهالي القرية يعيشون حياة قاسية مرة ، لكن الأدهى من ذلك أنهم قد انطووا على أحزانهم ومهانتهم وشرفهم المثلوم ، عقب صدامهم الأول بالجنود الفرنسيين .. لقد خلف هذا الصدام في النفوس صدمة ، فأصبح درساً في الخضوع والخنوع ، وأشاع الركود في حياتهم الاجتماعية ، فكل شيء ساكن لا يتبدل ولا يتجدد ، فمن رتوب في مجرى الحياة اليومية ، إلى رتوب في وجوه الطبيعة ، إلى رتوب في إحساس النفوس ومشاغل الأذهان ، كل شيء كامد باهت مقفر ، لا زهو ولا خصب ولا نضرة ولا خضرة . . الذكرى الأليمة وحدها تهيج أبداً في ذلك العيش القفر ، فتلذع حنايا النفوس البريئة البسيطة ، وتقف عند حدود اللذع ، ولا تتعداه إلى الفعل ، إذ سرعان ما تعود حياة القوم بعيد جلسات التذكر واجترار الأحزان في مضافة المختار ، إلى رتوبها العتيد . ولكن كيف عالج الكاتب قصته ؟
في البدء يقرر الكاتب زمان الحكاية ومكانها ، بما يشبه التوثيق ( الضروري ) في مستوى القص الوقائعي : " زمان الحكاية .. ذات يوم من العام 1942 . ومكانها .. منزلنا : أمي وأخوتي وأنا .. " ، ثم يفصل في الوضع السياسي الذي يحكم الفترة ، التي يصفها بالبحران .. إنها فترة الحرب العالمية الثانية ، أيام الاحتلال الفرنسي لسورية ، أيام العسف واشتداد المقاومة الوطنية . ويمضي الكاتب في تقرير الحالة السياسية وانعكاساتها الاجتماعية ، عبر حديث لا تظهر فيه روح القص وأسلوبه ، بل سرد المؤلف المباشر ، الذي لا يجد اسما لهذه الحالة – الموصوفة لا المجسدة – غير كلمة القطران ، عطفاً على كلمة البحران السابقة . ثم يخبرنا الراوي ( مواهب نفسه ) أنه قد حصل على وظيفة بالميرة عند الحكومة الفرنسية ، فيذهب إلى إحدى القرى ليباشر عمله في إحصاء المحصول وجباية الضرائب .. ينطلق على حصان شموس يذكرنا بحصان المازني بتقليدية مفضوحة ، فيصل إلى القرية ، وقبل أن يمضي في سرد أحداث قصته المنتظرة ، يتوقف ليفضي إلى القارئ بحديث أراد له أن يكون بين قوسين ، فيقرر (ضمن سياق القصة) : " أولاً .. ليست هذه الصفحات التي أتلوها شيئاً من القصة ، إذا كان علينا أن نأخذ بالقواعد والأساليب المتبعة في فنون القصص .. إنما هي صور مرسلة عرضت لها بأسلوب مرسل . ثانياً .. ليس للعام 1942 ولا لمنزلنا علاقة بالمناديل البيض .. وإنما هو خيط قصير يتبقى في المكوك بعد الفراغ من نسيج ليربط خيطاً جديداً من نسيج جديد " . ثم يشرح ما أراد من الملاحظة المقحمة ، من خلال مقارنات في مصائر الشعوب والأحوال العامة التي تمر بها البلدان المستعمرة ، والتوحد الإنساني أمام الظلم والامتهان . ثم يقرر : " ولكنني ما يئست ولن أيأس ، فأنا على ثقة من أنني سأبلغ ذات يوم ما تبلغه الشعوب المعذبة من الانتصار على العذاب ، لأنني أنا السيد ، أنا الإنسان . "
هذه الملاحظات الشخصية ، المعترضة والمقحمة على بناء القصة تبدو منقطعة الصلة ، معطلة لسير الحدث ، بحيث تنعطف القصة عن وجهتها لتذهب باتجاه الإثارة الدعاوية والنظرات الناقدة المحللة والمفسرة ، الأمر الذي يثقل القصة مرة بالمقاطعات ، وأخرى بفكرة المصداقية الواقعية ، التي تؤكد كل مقاطع القصة إلحاح الكاتب عليها وتقديمها ، حتى إن بدا ذلك على حساب أسلوب القص وأصوله كما يحب أن يشير ، فالفكرة المباشرة التي يريد إيصالها هي الشيء المهم ، وهي ما يعنيه ، وليس القصة بحد ذاتها ، أو دواعي وجودها الشرعية . فالقصة والحالة تلك إذا بدت لنا شكلاً قاصراً من الناحية الفنية ، فهي في وضعها نموذج للمفهوم الأمثل الذي ارتسم في أذهان مجموعة من كتاب القصة الواقعية في الخمسينات ، حتى لكأن وسم القصة بالواقعية أو الحقيقية ( ما حدث فعلاً ، أو ما جرى للكاتب نفسه ، أو ما كان شاهد عيان عليه ) يعطي القصة صفة التميز كماركة أصيلة ، كما يعطي الكاتب جواز مرور للوصول بأدبه إلى صرح التقدمية ، وإلى أدب الشعب ، ولا يهم بعدئذ إذا غدت القصة واقعاً تاريخياً ( حرفياً ) ، أو في أحسن الأحول حكاية لا يد للفن فيها .
ينطلق المؤلف / الراوي لدى وصوله القرية على حصانه الشرس ( ولا ندري لماذا كان حصانه شرساً ، بل كاد يطيح به ) ، ليصف وضعها البائس المحزون ، فتلاحق عيناه مشاهدها المتعددة ، وأناسيها البسطاء الذين يرى فيهم لمحات من الماعز ، فهم صغار الأجسام معروقو العظام ، سمر ، تتوهج أعينهم بشيء كالعبث أو الطفولة أو الذكاء الشديد . ويرد الكاتب ذلك إلى موقع القرية المنيع !.. ثم يستطرد في شرح مهمته الوظيفية ، وينعطف إلى الحديث عن مصير هذا الشعب البائس وعلاقته بالأجنبي المتسلط . وفي المساء يجلس عند المختار ، فيما يتحلق رجال القرية حول شاعر الربابة ، ويدور حديث في السياسة والصراع الاستعماري بين الإنكليز والألمان ، يفضل فيه الراوي أن يكون إلى جانب الألمان خشية أن يتهم بالعمالة للإنكليز ، ويلقى ذلك استحساناً عند القوم . ويسترسل شاعر الربابة في بث أشعاره ، في الوقت الذي يصرح فيه الكاتب بأفكاره عن ركود الحياة في هذه القرية ورتابتها : " لا جديد .. لا شيء .. لا حياة " . ويصمت شاعر الربابة ، وتريم على الجميع لحظات صمت ، يقطعها أحدهم بقوله : " – باطل أبو إبراهيم .. وين مناديلك البيض ؟ " .. وتسود ضجة وهمهمة ، وينتشر التحفز والحماسة في الجميع ، ويعود شاعر الربابة ليبث أشعاره ، فيقرر الكاتب أنه يأسف لأنه لا يذكر بيتاً واحداً من ذلك الشعر ، فقد ترك الشعر منذ زمن طويل .. منذ اضطر إلى وضع القلم في سباق مع المطبعة . بعد أن يرسل الشاعر أشعاره ، يلخص بها قصة المناديل وسرها .. يبكي القوم تأثراً ، ومن خلال الدموع يتكلم رجل كهل ، موجهاً خطابه إلى الراوي ، فيحكي قصة المناديل . تبدأ القصة بدخول الفرنسيين سورية ، يحاصر الجنود القرية ويهاجمونها فيهلك منها رجال كثيرون ، ولا تجدي المحاولات في صد الهجوم ، رغم مكان القرية المنيع ، فيمضي جمع من شبان القرية يرفعون الرايات البيضاء ويطلبون الأمان ، لكنهم لا يعودون ، ويدوم حصار القرية .. فتظهر فتياتها بالمناديل البيضاء معقودة على الرؤوس ناصعة كالثلج دلالة على العذرية والطهر .. ثم ما تلبث الفتيات أن يعدن والمناديل على رؤوسهن مصطبغة بلون الدم . تلك قصة القرية ، يستعيدها الرجال كل مساء ويبكون ، وإذ يطلب الراوي صباحاً إلى المــــــخفر ( بعد أن أمضى ليلة مليئة بالكوابيس والبق ) يمضي ليتسلم مهامه ، لكنه يعدل عن الذهاب فجأة لدى خروجه : " وأطللت من باب الكوخ على دنياي الجديدة ، فشعرت أن الحياة في حركة دائبة صاعدة ، ولن تتسمر عند حادث في التاريخ ، ولكن الأحياء بحاجة إلى الدموع مثلما هم بحاجة إلى البسمات ، لكي يستلهموا من الأولى القوة والصمود ، ويعيشوا في الثانية " فيعلن للمختار أن المقام بينهم يحتاج إلى أعصاب ، ولما سئل عن الميرة أجاب على عجل وهو يمرق كالسهم : " طظ ميرة " . وبهذا الشكل من العرض لوقائع القصة / الحكاية ، يحاول الكاتب أن يدين أسلوب الحياة الرتيبة الراكدة في القرى السورية ، بل هذا الاسترجاع السلبي للماضي المكلل بالنكسات والأحزان . لكن الإدانة تبدو ضعيفة من خلال رسم شخصية الراوي المهزومة أيضاً . والقصة بمجملها لم تمض إلى أكثر من تقرير فكرة الإدانة ، بل إن الكاتب حاول الوصول إليها في الغالب عن طريق السرد الإخباري والتعليق والشرح ، دون أن يحاول تنحية ذاته ( كمؤلف ) عن الموضوع في القصة ، وقد برز هنا العنصر ( الأوتوبيوغرافي ) أحد أهم أركان القصة ، ودواعي كتابتها ، وهذا ما سيكون مدار بحث في مقام آخر .
في قصة ( درب إلى القمة ) يتناول مواهب الكيالي علاقة الريف بالحكومة الوطنية والإقطاع بعيد الاستقلال ، فيقدم للقصة بحديث مطول عن نقل الأستاذ بركات من مدرسته إلى قرية ( البارة ) معلماً ، ورحيله إلى هناك على حمار قميء ، فيصف استقبال الصبية له ومعابثتهم إياه ، ثم لقاءه في بيت المختار بالفتاة وطفا ، التي تستضيفه وتعتني بحماره وتقدم له الطعام ..
وتبدو اللوحة هنا مرسومة بعناية وقائعية ، الهدف منها نقل صورة للبيئة المحلية القروية البسيطة الفقيرة ، وفي الوقت ذاته الإشارة إلى سوء الحال التي تردى إليها الأستاذ بركات .. الأمر الذي يجعلنا ننظر إلى الحالة الاجتماعية البائسة باعتبارها سبباً يمكن له أن يحدد الانتماء الوطني ، ودواعي المشاركة بين المعلم والفلاح كفئة مستغلة مستضعفة ، تجد نفسها مدعوة لمواجهة السلطة الإقطاعية الغاشمة .
يداهم العسكر القرية يطالبون بالفار مخزوم ، المتهم بقتل وكيل البيك ، صاحب الضيعة ، المختبئ في شعاب أحد الجبال ، ثم يهددون المختار ويتوعدون رجاله وينصرفون بزوبعة من الغضب والنقمة .. وينتقل المشهد إلى غرفة المختار ، وقد اجتمع وجهاء القرية يتداولون الرأي في أمر الشاب مخزوم ، وتختلف في ذلك وجهات النظر بين تسليمه وحمايته ، ويفاجئنا المعلم في اليوم الثاني على الدرب الموصل إلى الجبل ، وقد ضرب موعداً للفتاة وطفا خطيبة مخزوم ، فيتسلم منها صرة الطعام ، ويترشح من وقتها ليلعب دوراً في قضية مخزوم ، فيرتبط هذا عند الكاتب بمفهوم عام وشامل لقضية الصراع مع البورجوازية والإقطاع . فالمعلم البورجوازي الصغير ينتصر للفلاح المعذب الملاحق الممتهن ، في الوقت الذي كاد الرجال فيه أن يخذلوه . " قالت وطفا ببساطة :


– ما صدقت أنك تأتي على الموعد .
– لماذا يا ستي ؟
– لأن أصحاب الناقة والجمل ولوا من الوجه فكيف بالغريب ؟!
– اعذريهم يا وطفا ، يلزمهم وقت ليتعلموا أن العين المفتحة تقصف عين المخرز "


لكن القصة تعجز عن رصد الخيط الواصل بين الشريحتين سوى الإشارة الهزيلة إلى وضع المعلم البائس ومجيئه إلى القرية على الحمار ، وانصياعه لأمر نقله من دون اعتراض أو تبرم . وبالمقابل لا تكشف القصة عن أي منحى فكري يحدد شخصية المعلم بركات ، ولا يظهر ذلك في تنامي الحدث وتطوره ليكون مبرراً بعدها سير المعلم على الدرب نحو القمة .
هذا الضعف في المعالجة الفنية يفقد القصة بناءها ، ويجعل منها معرضاً لأفكار الكاتب في مقولات الصراع الطبقي وتحالف فئتي البورجوازية الصغيرة ، المعلم والفلاح ، للوقوف في وجه طغيان الإقطاع وحليفته الحكومة الوطنية . والكاتب في سعيه الحثيث وراء الفكرة والمبدأ ، كثيراً ما يقطع تسلسل الحدث لينزل بالقصة إلى مستوى الدعاية المحضة والشعارية السافرة . فالمعلم بركات ، وهو في طريقه إلى الجبل ينفعل بمشاهد الطبيعة ، ويصف جمالها الأخاذ ، ثم يقرر بانجذاب صوفي عميق : " يا للأرض التي تُعبد ، سلام على كل ذرة من ترابها العزيز . " ويسمع صوت الشادوف من بعيد فينقاد نحو النبع .. " وخيل إلى الأستاذ بركات أنه عثر في الشادوف على حكاية القرية : دولاب لا يكف عن الحركة ، وبغل هزيل يظلع من جرح في ساقه ، يعمل معصوب العينين ، كيلا يرى ما حوله من حرية وخصب ، ويدور مشدود الرأس إلى عصا مثبتة في أعلى الدولاب ، تدور معه حيثما دار ، لتوهمه أن الرقابة لا تغفل عنه . وكان يتلمظ جوعاً ويلهث عطشاً بينما ينبسط الخصب حواليه ، ويتدفق الماء من بين حوافره ومن خلفه .. وهكذا فرض عليه قانون الدولاب أن يدور ضمن حلبة ضيقة يبدأ حيث انتهى ، ولا ينتهي حتى ينفق . "
إن هذا المشهد المماثل لحالة أهل القرية – كما يراها الكاتب – جاء إسقاطاً عبر المقارنة المباشرة لأفكار الكاتب نفسه ، وقد رأى في مشاهد الطبيعة مدعاة لإثارة نظر القارئ إلى الخصب الضائع والجمال المدفون في بؤس الحالة الاجتماعية .
إن السمة الوقائعية التي غلبت على قصص مواهب الكيالي ارتبطت بطبيعة المواضيع التي اختارها ، وبمفهومه عن وظيفة الأدب أيضاً . فهو من ناحية عاش تجارب الحياة وحاول نقلها إلى لقارئ دونما عناية بمسألة التأليف الفني أو إعادة الصياغة التي ترمي بالدرجة الأولى إلى لم شعث الأجزاء في كل يختلف في شكله وعلاقاته عن هذه الوقائع المقدمة ، ومن ناحية ثانية بين مفهومه عن الواقعية في الكتابة عندما عد نقل التجربة المعاشة ، وحياة الناس ومشكلاتهم وعلاقاتهم المتفقة والمتناقضة ، موضوعاً لإثارة الإحساس بالبؤس الاجتماعي وقهر الإنسان ، لكنه فيما كتب من قصص ظل في دائرة الملاحظة التي يمكن أن تكون مجرد بداية لإثارة التفكير أو الانفعال ، ولم يخرج من ذلك إلى دائرة الانطباع الفني العام المتكامل في عناصره ، والقادر على التأثير . وكان يمكن لهذه الوقائع أن تكتسب قيمتها الفنية لو أن موضوع الملاحظة قد بني أساساً على مبدأ التناسب والتقابل بين الأجزاء المكونة ، لكن الملاحظ أن الصوت الذاتي ( أفكار الكاتب المباشرة ، انفعاله الخاص ، مبادئه ) يطغى على الحدث والشخصيات معاً ، هذا الصوت يكمن خلف القصة ، ويتحين الفرص للمثول أمام القارئ في أي مناسبة تعرض ، بل هو مبرر وجود القصة ومفسر تحولاتها . وقد تظهر بعض الصور الاجتماعية المؤثرة هنا وهناك ، ولكنها غالباً ما تخلو من الحدث وتحوله ، وتبدو على شكل إدانة صارخة لواقع الاستغلال الطبقي الذي يقود الفتى العامل علي في قصة ( الموكب الأسود ) إلى حبل المشنقة ، وقد وجد نفسه متورطاً في قتل شرطيين من خفر الحدود ، بعد أن أصبح مهرباً محترفاً ، أو يدفع بالفلاح أحمد في قصة ( البطل ) بعد احتراق كروم الزيتون في منطقة إدلب ، لأن يصبح حاوياً يعرض على الناس ألعابه ، وينهي المشاهد بإدخال مسلة في خده الأيمن لتخرج من خده الأيسر ، وتسيل الدماء فيدهش بعض المتفرجين ويفزع آخرون .. ويجعل الكاتب من أحمد مأساة وبطولة ، بطولة الشعب المسحوق في صراعه مع الواقع اليومي القاسي : " وكان في السكون الذي أطبق حولنا على الرغم من ضجيج الشارع شيء كالهدير المتصل ، لعله جلبة الألوف الذين يطويهم الليل في هذه الساعة من ليل الملايين التي تلوي الحديد وتفك السلاسل وتبتلع النار وتصبر على جراح المسلات لتنتزع من العذاب لقمة العيش . "
وقد بدأ الكاتب هذه القصة بحديث عن القصاص الشعبي الجالس في المقهى يمتع الناس بحكاياته ، " ويعتقد أن لكل منا نحن الأحياء قصة ، إذا أتيح له أن يكتبها بحذافيرها وملابساتها ودقائقها فقد كتب قصة الإنسانية جمعاء . " ليؤكد مفهومه للواقعية ومادتها وطريقة تناولها في الأدب ، بل إنه يمضي في تأكيد هذا المفهوم إلى نهايته عندما ينتقل من القصاص الشعبي ، أي من عالم الحكايات والعبر ، إلى وقائع حية من حياة الناس ، عبر مشهد الحاوي أحمد وملابسات قصته .
وقد ترصد القصة عند مواهب الكيالي صورة من صور الحياة اليومية في سيرها الرتيب الممض ، الذي لا يحمل فرحة ولا يبشر بجديد ، وفيها تبدو الشخصيات كأنما تعيش على هامش الحياة العامة .. تغرق في شؤونها الخاصة ، كما تصورها قصة ( جارتنا وحارتنا) مثلاً ، دون أن يوفر الكاتب لهذه الصور دلالات ذات قيمة تتصل بطبيعة هذه الشخصيات ودواخلها ، فكل ما تذهب إليه القصة أن الشاب ( الراوي / الكاتب نفسه ) يسكن غرفة إلى جانب أم وثلاث من بناتها ، ويبحث طوال النهار عن الهدوء فلا يجده ، فثمة صوت المذياع العالي ، والأصوات الناشزة الأخرى ، والشجار ، وكلمات التوبيخ القاسية ، والنقر على التنكة والهاون .. ويشارك الشاب نفوره جاره الشيخ العازب ، ويطلب إليه أن يصبر على البلاء ، وبعد محاولات يائسة من الشاب يزمع على ترك البيت ، ويجد وسط دهشته وتساؤله أن الضوضاء قد خفت ، ثم يعلم أن الشيخ قد تزوج الأم .. وقد بادره ضاحكاً يوم رآه :
" – خلصناك يا سيدي من النقر على التنكة .. حلو ؟ كان لا بد للمسكينة من تنكة فارغة تلهو بها ، وقد وجدتها .
قال ذلك وكشف عن صلعته وأخذ ينقر عليها طروباً . "
وقد تبدو قصص من مثل ( اليتيم ، النافذة ، جارتنا وحارتنا ) قريبة من قصص الأربعينات خارجة عن المنحى العام لقصص الكاتب ذي التوجه الأيديولوجي الصميم ، الناهل من المشكلات الاجتماعية المباشرة ، من الهموم ومكاره العيش في الوطن ، ونكبة الفكر والحرية .. وهذا باعثه في رأينا المسار الذي ألزم الكاتب به نفسه عندما قرر على لسان القصاص الشعبي في قصة ( البطل ) أن حياة الناس قصة وأية قصة !
فهل الحياة هي الفن حقاً ، وإن كانت كذلك فهل ثمة مبرر لوجود الفن ؟! إنه والحالة تلك يبدو إضافة عديمة النفع ، وعبثاً لا طائل من ورائه ، إذ ليس من مهمة الفنان أن يقدم لنا نسخة مطابقة للواقع الخارجي الظاهري ، نسخة تحاكي الكائن وتعيد تجسيده على صورته وراهنيته . وواقع الأمر أن كل شيء في سيرورة ، وكل شيء هو المستقبل ، بل إن مهمات الكشف عن واقع جديد مختف وراء الحجب ، واختيار التفصيلات التي تزيد في تعميق الرؤية ، وتغني الموقف ، وتعين على سبر غوره وكشف تحولاته والوصول إلى مداه ، أشياء من أدق مهمات الفنان ، وهنا تكمن – في طريقة استخدام الدقائق والجزئيات ، والتأليف بينها – موهبة الكاتب الحقيقية .

( 2 )

الصورة الانتقادية الوقائعية


في " أقاصيص وشخصيات " وصفي البني
تتوجه الأقاصيص التي نشرها وصفي البني في مجموعته الوحيدة ( في قلب الغوطة ) ، إلى تعميق مفهوم الوقائعي بصورة شديدة البروز ، ضمن تيار عام ساد القصة السورية في عقد الخمسينات من القرن العشرين ، وعبر التركيز على نقل صور وشخصيات من الواقع كما هو ، بكل فضلاته ودقائقه ، وبكل هذه الأمانة في النقل ، مع تمثل واضح ومباشر لوظيفة الأدب الاجتماعية ودوره التحريضي ، مما دفع بالطبع إلى إيلاء المضمون الفكري الأهمية الأولى ، أو جعله في مرتبة الصدارة ، والنتيجة ظهور الواقع في القصة بمثابة نظير لواقع آخر موجود في الحياة ، وقد ابتعدت القصة وفق هذا التوجه عن سماتها أو شكل تحققها الفني في مستوى إمكاناتها الموضوعية ، فأدخلها ذلك في شكل المقالة الاجتماعية الناقدة طوراً ، وفي شكل الصورة التسجيلية طوراً آخر ، وبات التسجيل هو العنصر البارز فيها ، والبديل المفروض غير الملائم ولا المنسجم مع دوره ، البديل عن التخييل وإعادة الخلق ، عن مبدأ الحذف والاصطفاء ، فضلاً عما يحمله النقل الوقائعي من تشويه للواقع ذاته في ظل السطوة الفكرية الأيديولوجية للكاتب ، إذ تغدو الأحداث ملفقة فاقدة عنصر السببية ، متجاهلة نمو الشخصيات وتطورها لتدخل في التسطح والنمطية أو النمذجة الآلية ، وليظهر الراوي مندمجاً بالكاتب نفسه فاقداً لبعده الموضوعي ككائن يتسلم عملية القص وهو منفصل موضوعياً عن الكاتب .
ووصفي البني يصرح على غلاف مجموعته بطبيعة هذا اللون من الكتابة القصصية ، من خلال عبارة " أقاصيص وشخصيات " ، أو بعبارة أخرى كما يتوضح من خلال قراءة المجموعة ، أحداث تحكى لإثارة المفارقات الحادة وبعث التحريض في النفوس ، وصور شخصية لنماذج اجتماعية متعددة ، تمثل دور البطولة الإيجابية أو السلبية . وكأن الكاتب أراد أن يتخلص من أمر الالتزام بخصوصية الجنس الأدبي ، ويترك لنفسه حرية التنقل بين أطراف الشكل المقالي أو السرد الحكائي البسيط أو القصة الصورة ، وهذا ما أبعد القصص عن التأثير والتحقق الفني ، لأنها افتقرت إلى الحدث الحي المتنامي ، أو تجاوزت دقائقه لتقفز عبر أزمان متباعدة ، أو غدت صورة جامدة رسمت من خلال ضروب المبالغة في تجسيد الصفات والسخرية والإثارة الأيديولوجية . ووراء هذه الأشكال التي خرج إليها الكاتب تكمن النزعة في التعرية الاجتماعية ، وتقديم ( أمثلة ) من الواقع عن الظلم الاجتماعي وعسف الإقطاع وحليفه الاستعمار ، وأجواء الطبقة العليا في المجتمع ، وفي مقابل ذلك تظهر صورة من حياة الطبقة الفقيرة المستعبدة الممتهنة ، تتجرع مرارة القسوة وتعيش جو الصراع اللاهب ، وتغوص في حمأته ، وتمضي في الشوط حتى نهايته .
في قصة ( في قلب الغوطة ) نطالع جانباً من هذا الصراع ، إذ يحكي الكاتب عن فترة أواخر أيام السلطنة العثمانية وبداية عهد الاستعمار الفرنسي ، من خلال سيرة الثائر ( أبو دياب ) أحد الأبطال الشعبيين الذين لوعوا الإقطاع وصارعوا الفرنسيين ، وتمثلت صورهم وبطولاتهم في أذهان بسطاء الفلاحين ، تبعث فيهم العزم والقوة والثبات . أبو دياب يثور بسيده عبد الحليم بك ، بعد أن أنكر هذا حقه في أجر سنوات أربع عملها في أرضه ، يدهمه ليلاً ويحوز مسدسه ، ويهيم في البراري ثائراً ، ينزل الضربات المتلاحقة بعسكر السلطان الذين يؤيدون الإقطاعي ويحمونه ، ويصبح أباً للثوار ، يناقش قضاياهم ويوجههم ويدعوهم لعصيان زين العابدين بن عبد الحليم بك .. في هذه القصة يقدم الكاتب صورة شخصية للثائر ( أبو دياب ) ، فيظهره نموذجاً للقائد الثوري والرجل الشهم الحكيم الواعي بشؤون الفلاحين وقضاياهم ، والمزمع على نسف جذور الطبقة المستغِلة ، فتبدو الصورة مضطربة مثقلة بآراء الكاتب ، تفتقر إلى الإقناع والصدق الفني ، وهي في أبعادها ( النموذجية ) المختلفة ، تظهر أقرب إلى النمط الثوري الجاهز المصطنع منها إلى الشخصية الإنسانية الحية المتحركة .
وعلى الصعيد الأيديولوجي تبرز في القصة ملامح الفكرة الأممية عبر حوار لا يحمل ضرورة ما ، من خلال تأكيد الكاتب أن قضية الانتماء السياسي والفكري يجب أن تتحدد عبر المشاركة في الإحساس بالظلم والرغبة في دفعه .. فأبو دياب في القصة يظهر تحببه لشعلان الشاب الثائر ، الذي أنزل العقاب بزين الدين ردًّا على حادثة جلد الفلاحين التي صعقت ( أبو دياب ) ، ويسأله بـعد أن يسمع منه " قصة العقاب " كاملة :


– من أين أنت يا ولد ؟ فابتسم شعلان ابتسامة خفيفة ، وأجاب بهدوء :
– من بلاد الله الواسعة .
– طيب .. أهلاً وسهلاً فيك .


وهذه الفكرة ذاتها حاضرة في ذهن الكاتب تساهم في طريقة التناول والمعالجة ، ففي قصة ( سارق البرتقال ) يقدم الكاتب لقصته بحديث مطول عن بطلها وراويها شهير أيوب . فهو ليس بشيوعي .. ولكن لك أن تعلم أيها القارئ .. إن كانت الأحداث التي يرويها تجعل منه شيوعياً أم لا .. وما هذه الأحداث ؟! يمني الكاتب القارئ بحدث خطير وقع لبطله ، أو لنقل إنه شاهده بأم عينه ، أيام كان معلماً بقرية مجاورة لمدينته . إنها ناحية قرب حلب ، يملكها إقطاعي كبير ، ظالم غاشم .. ويروي الكاتب على لسان بطله إحدى القصص التي عرضت له في الظلم وامتهان الكرامة الإنسانية .. أطفال القرية يلعبون .. تمر شاحنة تحمل برتقالاً ، فيعتلي أحد الصبية السيارة ويخطف برتقالتين ، ينتبه إليه البيك ورئيس المخفر الذي يصرخ به ، فيقذف الصبي البرتقالتين خلفه ويهرب ، ويتعرف البيك إلى والد الصبي فيأتي به ، ويُحضر الصبي ويعلق من رجليه طويلاً حتى يتقرح جلده .. ثم يتقدم راوي القصة المعلم شهير أيوب إلى البيك بشفاعة يقبلها ويطلق سراح الفتى .
من خلال هذه الحادثة يحاول الكاتب أن يؤكد ثانية الفكرة الأممية بطريقة تقريرية مباشرة ، مفادها أن الصراع الطبقي هو الذي يجب أن يحدد الانتماء ، وليس ثمة انتماء قومي أو رابط قومي .. هناك رابط مصيري يجمع المظلوم بالمظلوم ضد المتسلط والإقطاعي والدركي .. إلخ " ولم يستطع معلم مدرسة القرية في تلك الليلة أن ينام في الوقت المحدد لنومه ، فقد كان أنين الطفل المشبوح كالمطرقة تضرب على رأسه ، وعلى ضميره وعلى أعصابه ، وفي تلك الليلة تساءل عن الرابط القومي بين البيك والطفل المعلق في الإصطبل ، وبينه وبين كل من هذين المواطنين السوريين ، فاستطاع أن يهتدي إلى رباط معقول بينه وبين الطفل ، وهو رباط الرغبة في إنهاء الظلم .. ولعله حاول أن يجد رباطاً " قومياً " يجمعه إلى البيك ، فلم يجد هذا الرباط ، خصوصاً في تلك الليلة "
وكأن كل ما يرمي إليه الكاتب من قصته أن يثبت للقوميين خطأ مزاعمهم ووهم انتمائهم ، والحدث برمته يبدو تعلة لعرض أفكار الكاتب ، من خلال الطروحات المبدئية والمقارنات المباشرة ، خارج نطاق القصة وإمكاناتها الموضوعية المتاحة .
وضمن هذا المنحى كثيراً ما كانت القصة عند البني تأخذ شكل المقال الفكري الدعاوي ، أو شكل الحكاية المثارة لغرض العبرة والتبصرة ، عندما تطوي الأحداث من الزمن عشرات السنين في عدد قليل من الصفحات ، كما في قصة ( في قلب الغوطة ) أو (الكتاب المضرج ) أو ( يوميات من سفر برلك ) ، إذ نشهد في الأخيرة خاصة وقائع محكية من فم أحد شهود الأحداث ( بحسب مفهوم الواقعية ) من دون عقدة أو حدث له أبعاد معينة ، يسير وفق خطة ونظام . فهذه الوقائع تظهر باهتة تفتقر إلى الانسجام والتآلف الفني فيما بينها ، ليس فيها ما يثير على الرغم مما تحمله من طابع التهويل ، لا سيما أن القارئ يمتلك من جانبه المعرفة التاريخية بهذه الوقائع .
إن الكاتب لا يدع لقصته فرصة التأثير في القارئ من خلال عرضها وتناميها ، فيظهر مطلاً بصوته الشخصي المباشر في سياق الحدث أو في ثنايا الحكاية ، ويتسلم مهمة بعث الدلالات والإثارة ولفت النظر ، وصولاً إلى النتيجة أو الهدف المرسسوم للقصة . ففي قصة ( آزنيف وأخواتها ) يبدأ الكاتب بحديث تقريري مفصل يقترب فيه من شكل المقال الاجتماعي الناقد ، عن حياة الخادمة ( آزنيف ) الأرمنية وأخواتها ممن يشاركنها حياتها الممتهنة : " إن آزنيف وأخواتها ألوف وعشرات الألوف من المواطنات ، يقمن بخدمة " الناس " وينلن لقاء ذلك ، من بنات " الناس " ومن أبناء " الناس " أقل ما يمكن من الأجر ، وأكثر ما يمكن من التعنيف والتعذيب والتشكي والتذمر . إن حياة آزنيف وحياة أخواتها مجموعة كبيرة من القصص تجري في صميم حياتنا ، ولكن مكانها في " المجتمع " يظل أبداً على الهامش ، كمكانهن في البيت ، يشتغلن في المطبخ ، ويأكلن الفضلات ، وينمن كيفما اتفق ، في أبعد زاوية عن عيون الستات والخواجات ، فكأن وجودهن في الحياة " مخالفة " لقانون الحياة " . بعدئذ يقرر الكاتب أن آزنيف تنسى أشياء كثيرة أثناء خدمتها في البيوت .. وتلك عادتها .. وكثيراً ما تلقى الزجر والتعنيف ، لكن شيئاً واحداً لا تنساه ، يوم في حياتها وجرح في يدها من آثار مذبحة الأرمن . فقد ذبح أبوها وأمها ، ووجدت نفسها مع البدو ، وعاشت بينهم ، ثم نزلت إلى بيروت لتعمل خادمة .. " ولعل هذا التذكر الدائم سبب أساسي لذلك النسيان الدائم . " هذا ما يشير إليه الكاتب في سياق العرض ، ثم يمضي في سرد وقائع المذبحة وقصة آزنيف الدامية ، وينعطف إلى البداية نفسها .. " إن قصة آزنيف وأخواتها فصل من حكاية قديمة ، هي مأساة الجنس البشري ، ووصمة سوداء فاحمة من وصمات تاريخه الطويل .. " ويمضي أكثر في التقرير المباشر : " ومن فقرات هذه الحكاية قصة الخادمة المتجولة أم عادل ، التي توزع نشاطها على عشرة بيوت في اليوم ، ثم تعود إلى بيتها في المساء ، ليرحب بها زوجها العربيد بالصفع وشد الشعر والعض إذا لم تدفع له سكرة اليوم التالي . ومن فقرات هذه الحكاية أيضاً ، قصة الخادمة الطفلة فطمة ، التي اشتراها " سيدها " بمائة ليرة ، وسلمها " للست " في الثامنة من عمرها لـ " تدربها " على الكنس وغسل الصحون والطناجر وحمل الأطفال والأثقال :
– يا حمارة يا جحشة ! متى تتعلمين ؟!..
ويدخل الكاتب طرفاً في الحكاية : " لن أنسى ما حييت وجه تلك الطفلة ، وهي تنظر إلى " الست " الغاضبة ، مشدوهة ، حائرة ، لا تكاد تفهم سر غضبها .. لقد رأيت في عيني الطفلة الكبيرتين البريئتين ، وجه أبيها المكدود ، وهو يدفع لموظفي الشركة الفرنسية موسمه ، وللحكومة قرشه ، وللدركي دجاجته ، وللإقطاعي ابنته . . "
إن قصة بؤس الخادمات تلك مجموعة أحداث محكية بالسرد والإخبار المباشر ، والكاتب طرف حاضر الوجود في كل ما يحكيه ، يقوم بمهمة التعليل والتعليق ويبرز انفعاله وتأثره الحاد ، ويسعى إلى تعميم مشاعره ، فيحمل القارئ على ضرورة التأثر والمشاركة الوجدانية وتحديد الانتماء . ويخلص من حكاياته إلى الخاتمة الجوهرية المتفائلة : " إن قصة آزنيف وأخواتها فصل في رواية متسلسلة ، عاصرت التاريخ ولا تاريخ لأبطالها ، بل لقد عاشت قبل التاريخ ، وعبرت من تحته ، وعلى هامشه ، كبضاعة مهربة ، أو حاجة مبتذلة ، هي قصة لا بداية لها ، ولكنها ستنتهي . "
وعلى نحو آخر تظهر قصة ( الكتاب المضرج ) أشبه ما تكون بالخبر الصحفي ، فأبو سعيد العامل الكادح يسر لصديقه بكلمات عن افتقاد الحرية والعدالة في ظل الحراب الفرنسية ، ويحكي له عن طرد العاملات في شركة الريجي الفرنسية ، وعن صراع الإنسان مع القوى الشريرة الغاشمة .. ويأتي الحديث عن العمال ومعاناتهم ، وعن الظلم والعدالة المستلبة تمهيداً للنقلة الأخرى عندما يسقط أبو سعيد مضرجاً بدمائه عام 1947 م بحراب الصهاينة .. " قد مضت سنوات اكتسب فيها أبو سعيد الكثير من المعارف ، وعانى الكثير من المتاعب ، واشترك مع الألوف من إخوانه في تحقيق الكثير من النجاحات والانتصارات .. وفيما كان أبو سعيد عائداً إلى بيته عند الظهيرة ، حاملاً لابنه كتاباً مدرسياً عتيقاً ، إذ بوجوه كالحة ، وأياد راجفة تشهر الخناجر والمسدسات والعصي ، تحيط به من كل جانب ، كأنها كتلة سوداء من الحقد والبله الأعمى . " ، وعبر هذا السرد التقريري الإخباري يتابع الكاتب توضيح قضية الصراع اللامتكافئ على شكل صور تقليدية إنشائية فاقعة الدلالة أحادية البعد ، فيقرر : " وكما يطبق قطيع الذئاب الجائعة على راع منفرد ، هكذا أطبق الأشقياء على أبي سعيد يوسعونه طعناً وضرباً بخناجرهم ومسدساتهم وعصيهم ، . وكان " انتصار " قطيع الأشرار عل العامل أبي سعيد انتصار جدار عتيق انهار فوق عابر سبيل . " ، وتمضي القصة نحو نهايتها الجاهزة فيسير الفتى سعيد في موكب الجنازة يحمل كتاباً مدرسياً مضرجاً بالدم ، دلالة من الكاتب عل استمرار النضال والصراع في الجيل الجديد .
وإذا كان إيمان الكاتب بانتصار الخير ووجوب تحقيق العدالة حقًّا مشروعاً يسعى إلى ممارسته في كتاباته ، فيجب ألا يكون ذلك على حساب البعد الفني للقصة وما تحمله من إمكانات موضوعية ، فالقصة ليس بمقدورها أن تنهض بالأعباء الفكرية فيما يخص القضايا الاجتماعية ، على النحو الذي سبق ، فضلاً عن المهمات التربوية المبثوثة هنا وهناك حول صورة المجتمع البديل ، والسلوك التربوي الأمثل الذي يميز الإنسان الجديد الكادح المتفائل . وقد توجهت أكثر أقاصيص المجموعة إلى نقد عيوب اجتماعية تربوية عن طريق تصوير مجموعة من الشخصيات السلبية ، رسمها الكاتب " صناعياً " وبالغ في تضخيم صفاتها الشريرة ، الشريرة وحسب ، وسلط أضواء النقد اللاذع على تلك النماذج ، وحاول من خلال الوصف الخارجي الإنشائي إعطاء صورة ساخرة متهكمة يراد لها أن تمضي إلى مهمة واحدة محددة ، وهي حمل القارئ على النفور والكراهية والرفض . وهذا الشكل الخارجي يقرر آلياً طبيعة الداخل ، طبيعة البنية الأيديولوجية للصف الآخر المقابل ، صف علية القوم من الأغنياء والمتنفذين ورجال الحكم .. ففي قصة ( عائلة .. في سجن ) يبدأ الكاتب برسم صورة شخصية للدكتور سليم محمود الطبيب في مشافي الآستانة سابقاً على هذا النحو الممسرح : " الساعة التاسعة صباحاً ، العيادة فارغة ، إلا من صور على الجدارن ، بينها هيكل عظمي ، وإعلانات عن بعض المستحضرات الطبية ، وشهادة الطب ، وطاولة عجوز على طرفيها مجلدات وبضع زجاجات مختلفة الحجوم ، وفوق الطاولة من الداخل شيء كروي بيضوي ، كالبطيخة ، على أطرافه شعر ، أو ما يشبه الشعر ، ويسمع وقع أقدام قريباً من باب العيادة ، فترتفع " البطيخة " عن الطاولة ، إلى وراء ، منتصبة بين كتفي إنسان ضخم الجثة . "
هذه الصورة تبدو مقدمة لا بد منها ، إذ سرعان ما يلحقها الكاتب بالصفات الأخلاقية الأخرى – عدا الصفات الشكلية – تلك التي تجعل من الدكتور سليم محمود الطبيب المخفق شخصاً أنانياً رجعياً ، يسجن امرأته وأولاده خلف جدران صماء ، يحرمهم من النور ومن الابتسامة الحلوة ، حتى إنه كان يسد ثقب الباب بقطعة قطن خشية أن " تبص " امرأته فترى رجلاً جميلاً .
وقد تفتقر الأقصوصة عند البني إلى الحدث تماماً فتغدو صورة شخصية لنماذج اجتماعية متعالية فوق بؤس الناس وقضاياهم ، تتقن صنوف الرياء الاجتماعي ، من زيف وتملق ، إنها الصورة المضادة لكل ما هو شعبي وخير وبسيط وطيب ، يرسمها الكاتب في لوحة ( علية القوم ) إذ تظهر شخصية جمال بك الخزامي ، أحد أعيان البلد الكبار ، الرجل الحريري الناعم ، الأملس كالمخمل ، حتى لتحس العين وهي تنظر إليه أنها توشك أن تنزلق فوقه ، هذه الصورة الشخصية تبدو مثالاً للرفق واللين والتأنق .. تحيط بها نماذج اجتماعية عديدة ، كهالة من التزلف والمداهنة ، يصورها الكاتب بدقة متناهية ، في حركاتها وحديثها ونزعاتها الخسيسة . أما في قصة ( صباح في السراي ) فيظهر المحافظ أحد أركان الحكومة على علاقة وثيقة بالفرنسيين أيام الانتداب ، يتواطأ ضد المواطن البسيط الفقير ، ليشير الكاتب من وراء ذلك إلى خواء تلك الطبقة العليا ، وعريها الأخلاقي ، وغرورها الأجوف ، وإتجارها بالألقاب وهالات الفخامة والعطوفة .. والأستاذ صبحي نموذج آخر لهذا الزيف ، نراه في قصة ( أديب مستقل ) في صورته التي يجسدها الكاتب على تلك الهيئة : أنف هابط من مكانه كأنه قطعة لحم أو طين ، وأركيلة ونظارتان ، وغرور كبير وترفع عن السياسة ، ثم هبوط سريع إليها عندما يداعب أذنه رنين المال .
وقد تتكاثر هذه النماذج الاجتماعية وتتجمع في لوحة واحدة ( في الشارع ) فتغدو مجرد " لقطات " متنوعة تحمل ما تحمل من موضوعات ودلالات اجتماعية ، فمن صورة سكير غني يعود آخر الليل إلى بيته ليقلب الدنيا رأساً على عقب ، يصيح ويزمجر ويقلق الناس ويقسم على ذبح ابنه ، إلى صورة طفلين يعملان في دكان لحام ، الكبير جاهل يدق اللحم بمهارة ، والصغير الذي يكنس الدكان يلم بالقراءة ، لكنه سائر في درب الآخر ، إلى الجهل .. إلى صورة فتى يعمل خادماً في مكتب سيارات ، لكنه يقرأ بنهم ، ويجعله ذلك يقدم قهوة سيئة إلى معلمه ، إلى صورة متسولة وابنها العاجز الضعيف ، تدور به وتستدر عطف الناس .. صور كثيرة تقوم على إبراز تلك العلاقة الآلية بين الخارجي والداخلي ، فتضخم على طريقتها الإحساس بالظلم الاجتماعي وقضية الصراع غير المتكافئ ، من خلال التعابير الساخرة والمفارقات المؤلمة ، التي تبرز إلى حد بعيد إحساس الكاتب بثقل المشكلات الاجتماعية ، وبالجور والظلم ، وحدة الصراع والمواجهة بين الطرفين المتناقضين ، فكل طرف يمثل أقصى الصفات في موضوعه ، لتظهر المقابلة في شكلها الصارخ ، إذ ليس ثمة توازن في عرض الشخصيات والصور ، بل إنه الانقسام الحاد بين ثنائيات الخير والشر ، بين النور والظلام .

( 3 )


قصص الوقائع الوطنية


( ليان ديراني )

انصرفت قصص ليان ديراني في فترة الخمسينات إلى معالجة الهموم الوطنية والقومية أولاً ، بعد أن كانت قد تركزت في الفترة السابقة على المشكلات الاجتماعية في أزمتها الطبقية ، كما مر في سابق هذه الدراسة ، ومثلت نمط القصة الوقائعية بحسب مفهوم الديراني للواقع وقتئذ ، والذي اعتمد على مبدأ الأمانة في نقل الواقع كما هو .
لقد طرأ بعض التحول على هذا المفهوم في قصص الخمسينات الوطنية ، لكن ذلك لم يكن في صالح القصة الفنية ، بل ارتبط بمفهوم الديراني المدعم حديثاً بفكرة الالتزام والتفاؤل الثوري . وقد جر عليه ذلك في معظم الأحيان اصطناع التجربة القصصية ، وإحاطتها بجو من التوجه المثالي والتربوي ، وظهر ذلك في طبيعة رسم الشخصيات وفي الأحداث المصورة . إن مراعاة الفكرة أو الهدف أو المغزى ( باسم الواقعية ) قد رمى الواقعية نفسها بالزيف والتصنع ، وإن حسن النية لم يكن أكثر من استطالات تفاؤلية معلقة في الفراغ ، وخارجة عن طبيعة القصة وإمكاناتها .
وإذا كانت الظروف السياسية قد أملت على الكاتب هذا التوجه ، وصرفته زمناً عن تناول المشكلات الاجتماعية ، فإن ذلك يدعو إلى القول إن الكاتب قد حاول عبر الشكل القصصي أن يعبر عما يجول في فكره من قضايا ومشكلات ومواقف ، جاعلاً من هذا الشكل عموماً معرضاً يراه مناسباً لبث أفكاره ونظراته في القضايا الوطنية المستجدة . وقد اختفت قصص النضال ضد المستعمر الفرنسي ، وقصص الصراع الاجتماعي الطبقي ، وقصص عهد الإقطاع والفلاحين ، وأخذت القصص الجديدة على عاتقها مهمة ( نقل ) الصراع الوطني الناشئ بين القوى والفئات الاجتماعية الصاعدة وشبح الإمبريالية العالمية . وهكذا احتلت مكان الصدارة عند الديراني مواضيع من مثل حرب عام 1956 ، والموقف الوطني منها ( قبل التعتيم ، السهم الأخضر ) ، الإطاحة بالحكم الملكي في العراق ( بهجة الحرية ) ، عهد الوحدة والاعتقالات ومن ثم الانفصال (ومات الطفل ببساطة ، وأخيراً بزغ الفجر ) ، التكاتف الوطني والوقوف في وجه الإمبريالية العالمية عن طريق المنظمات الوطنية النقابية ، ولجان المقاومة الشعبية ( الضيف الكبير ، فجر جديد ) ، وكما نلاحظ هنا فإن عناوين القصص تكشف بجلاء عن هذا التوجه .
وإذا كانت هذه الموضوعات تفترض في المواطن وجود نسبة من الشعور الوطني والوعي السياسي ، فقد حاول الكاتب أن يرسم صورة الإنسان الجديد في الخمسينات ، كما يريد لها أن تكون ، ليس من خلال شخصية قصصية محددة واضحة المعالم ، بل من خلال الشخصية الجماعية ، التي امحت فيها المعالم الخاصة المميزة ، وبرزت في مقابلها القسمات العريضة لإنسان وطني ثائر ناقم متفائل بالمستقبل وانتصار القوى الشعبية . وبات من المألوف أن تظهر في كل قصة جموع حاشدة من الجماهير ، تلتف حول فكرة واحدة ، وتقف صفاً متراصاً أمام الحكومة الوطنية من جهة والإمبريالية والاستعمار من جهة ثانية . وهذا الانقسام بين الصفين يحدد طبيعة الانتماء الذي التزمه الكاتب ، وخلال ذلك تتحدد نظرته إلى وظيفة الأدب أيضاً . فهو عنده رسالة ، أو إنه التزام برسالة " .. نعم أرمي إلى تحرير البلاد العربية ، وإطلاق الإنسان من عقال الاستعباد الفكري والمالي ، إني أومن بالاشتراكية العلمية والواقعية الاشتراكية ، وبالفن لخدمة الإنسان والمجتمع والحياة . " وقد أراد الديراني للقصة القصيرة أن تؤدي هذا اللون من الالتزام ، فكيف وفق بين إرادته وتبعات الجنس الأدبي ؟
إن أول ما يلفت النظر في تجربة القصة الوطنية السياسية عند الديراني ، محاولته عكس صورة الموقف الجماعي الوطني تجاه الأحداث والاضطرابات والتبدلات السياسية والفكرية العاصفة ، التي مرت في حياة القطر العربي السوري خاصة والأقطار العربية الأخرى بوجه عام . وقد شغلت هذه المحاولة بتتبع مظاهر الحماسة العارمة في الساحة الوطنية ، وعند جماعة الطلبة ، ومجموعات العمال .. من دون تركيز يذكر على خصوصيات تلك الشخصيات ومواقفها ، سوى ما قد يتصل من ذلك بالمظهر العام الخارجي للشخص ، مثل بشير قائد المظاهرة في قصة ( الضيف الكبير ) الذي كان بقامته المعتدلة وعينيه البراقتين وحاجبيه الكثيفين وشعره الفاحم ووجهه الأسمر ، يبدو كبيراً كبيراً كأنه يملأ الأنظار كلها . "
وقد أفرزت طبيعة الموضوعات الآنفة سمة أسلوبية غلب عليها الإنشاء الذي أرهق مقاطع كثيرة من القصص ، فضلاً عن علو النبرة الخطابية والشعارية ، التي يراد لها أن تجسد جوهر المشكلات الوطنية ، وأن تكون أسلوب حل لهذه المشكلات أيضاً . هكذا يثور بشير وهو يهيب بالجموع الحاشدة أن ترفض استقبال ( الضيف الكبير ) مبعوث تركيا غاصبة اللواء ، وصاحبة مجزرة أيار .. " من منكم يرضى بالذل ويسكت عن الضيم ؟ من منكم يرضى بعودة الاستعمار إلى بلادنا ، وإعادة نير العبودية إلى أعناقنا ، واستغلال ثروتنا ومرافقنا ، وقتل صناعتنا ، وانتهاك أعراضنا ، وتسخير مواردنا لخدمة مآرب تجار الدمار من جلادي الشعوب ؟
– لا أحد .. لا أحد ..
فاستطرد بشير وقد غطى العرق الحار وجهه وأخذ يسيل على رقبته :
– أنا أعلن أن ليس بينكم من يقبل أن يسجل على نفسه العار والمذلة . أنا أعلم كم في قلوبكم من وطنية . لقد حققنا الجلاء بوطنيتنا ، ونظفنا أرضنا من آخر جندي أجنبي بوطنيتنا ، وقطعنا في هذه السنوات في مضمار الرقي الفكري والصناعي أشواطاً بعيدة بوطنيتنا ، وإننا سائرون دوماً إلى الأمام . فهل بينكم من يرضى بالعودة إلى حماة الاستعباد ؟
وجأرت أصوات قوية متفرقة من الكتل البشرية صائحة :
– كلا .. كلا .. "
وتمض القصة في بث الشعارات والعبر الوطنية ، ويطبق أفراد الشرطة على جماعة المتظاهرين ، ويقتادون بشيراً ومجموعة من الطلبة والعمال إلى السيارات الحمراء تحت الصفع والضرب ، وبشير في قبضة عدد من الرجال ، والضربات تنهال على جسمه ، إلا أن صوته أخذ يعلو واضحاً في نبراته : " تسقط الأحلاف الحربية ، يسقط الاستعمار ، عاشت سورية جمهورية .. حرة .. مستقلة .. "
وضمن محاولات الكاتب في نقل وقائع الحماسة الوطنية ، نرى كيف يسبغ على شخصياته من الجماعة الثورية صفات الإيمان بالقضية ، وبالواجب الوطني ، وسرعة الاستجابة لمهمات النضال " ففي داخل المدرسة كانت قد تشكلت بأسرع من لمح البصر فرقة للإسعاف ، راحت تضمد جراح المصابين بسرعة فائقة في غرفة المدير . وكان خليل يشد على جرح في خده بيده اليسرى ، غير مبال بما ينزف منه من الدماء ، وبيده اليمنى يتابع بحنكة القروي البارع قذف الحجر ، تحت ظل الجدار ، وأنطون بقربه يعرج متوجعاً دون أن يتخلى عن النضال . "
هذه الصور النضالية التربوية كثيراً ما يوليها الديراني عناية خاصة ، لكن دون تعمق وسعي وراء تحليل الشخصيات ودوافعها ، بل إنها صور ( منقولة من الواقع ) على نحو تقريري مباشر ، أو وصف للبطل يضمنه السمات الثورية النموذجية المثالية .. كأن يشير إلى أن الجندي في قطعته العسكرية يقوم بواجبه ، وكأن يلبي محمود نداء رئيسه ، وقد ألقى اللفافة بعد أن أطفأها بعناية على حجر ، وقفز إلى مقر القيادة :

– سيدي الرئيس .
وأدى التحية العسكرية .
– محمود ، عندك مهمة في الأرض المحتلة . كيف ؟ هل أنت لها ؟
فرد محمود بصوت قوي :
– سيدي الرئيس ، أنت تعرف ( محمود الجاد ) .. مستعد لأداء الواجب . "


وفي قصة ( قبل التعتيم ) يتحدث سائق السيارة إلى الراوي عن غضبته العارمة وهو يرى مصر تقع في براثن الإمبريالية عام 1956 .. فنجد في هذا السائق نموذجاً فريداً للمواطن الواعي الثائر .. وينسج منه الكاتب صورة للشخصية الشعبية العفوية المنفعلة بالأحداث ، حتى إنه لينبه الراوي لدى المرور العابر لكلمة " القوات " أثناء الحديث بقوله :
" – إياك أن تتفوه بشيء عن قواتنا ، إن الجواسيس والخونة يلتقطون مثل هذه الأقوال وقد يستفيدون منها . "
ويتابع موثقاً كلامه :
" – لي أخ في الجيش ، وهو أول من تصله الأخبار . جاءنا البارحة في زيارة قصيرة ، ليرى أمه ويأخذ بعض حوائجه . سألته عن الأخبار ، فأجاب : " الأخبار كثيرة ، كثيرة جداً ، لكن لا أقول لك شيئاً منها ، لا أقول شيئاً فلا تؤاخذني ، الأسرار هي الأسرار ، ويجب أن تظل أسراراً . " أي والله ، لم يخبرني بشيء ، هو أخي ، هو أصغر مني .. أي والله ، ما رضي أن يقول شيئاً .. وأنا ما ضايقته ، وما أردت أن أضايقه . "
وهكذا نجد السائق في نهاية هذه القصة يقف وقفة عسكرية في ساحة معسكرات التدريب ، وقريباً منه الرجل ذو البطن المترهل والوجه الكبير الأسمر .. ويعلق الكاتب على مشهد الحماسة الوطنية المتمثل هنا في الإقبال على المشاركة في المقاومة الشعبية بغية مؤازرة الشقيقة مصر ، بقوله : إن فظاظة المستعمرين وإجرامهم وتشنيعهم في مصر دفعت حتى من كانوا يظنون أنهم جبناء إلى الجرأة ، إلى الحقد ، لقد دفعتهم إلى النضال ، إلى النضال المسلح . " ويعلن رجل مسلح رداً على دهشة الراوي ( الكاتب ) :
– أيتطوع أولادي في المقاومة الشعبية ، وتتطوع ابنتي في الدفاع المدني ولا أتطوع أنا ؟ .. لا والله ، فأنا وإياهم في المعركة .. ( وكان في الستين من عمره تقريباً )
أما في قصة ( السهم الأخضر ) فالفتاة سعاد تتصدى لمهمة وطنية أكبر من سنها ، وتمضي في تصميم وحذر لكشف الجواسيس أثناء الغارات الجوية عام 1956 ، وكانت تحدق في السماء تتفحص كل نجمة ، تود لو ترى ذلك السهم المضيء الخائن .. ويجد الكاتب هنا فرصة لتدخل تربوي لائق بالفتاة الثورية سعاد الصغيرة .. " تدير رأسها ، فإذا بأحد الجيران وبيده سيجارة ، فاغتاظت الفتاة ولم تخجل من القول له :
– السيجارة من فضلك ..
فقال بشيء من الاستخفاف :
– مخبئها يا حضرة العقيدة الصغيرة .. "
وحين زعقت صفارة الإنذار وتراكض الناس وعم الظلام ، نزلت سعاد إلى الزقاق فرحة . كانت تنتظر هذه اللحظة لتقوم ببطولة ، كانت ترى في أوقات الغارات أسهماً خضراء تنطلق ، وعرفت أنها أسهم يطلقها الجواسيس ، وقد رأت واحداً منها ينطلق قريباً من بيتها ذات مرة فلا بد أن ثمة جاسوساً .. إن جميع من حولها يقولون عنها صغيرة مع أنها تبلغ الثالثة عشرة من العمر . ولذلك فإنها ستكشف الجاسوس لوحدها ، وتثبت أنها كبيرة ! وتسللت في الشارع المظلم وهي ترقب السماء . لم تأبه لاستخفاف الناس بها أو لرهبة الظلام .. كانت تقصد بيتاً تعرفه في المنعطف القريب ، تسكنه (أسرة ريشار ) ولا بد أن السهم الأخضر ينطلق من هناك ، ووصلت البيت وخفق قلبها وهي تصعد الدرجات الأولى للسلم . وفجأة دوى في أذنيها صوت بغيض قاس ، إنه صفارة الإنذار تعلن انتهاء الغارة . حنقت سعاد لكنها تمتمت من خلال دموعها: " الأيام بيننا " .
وهنا تبدو الفتاة نموذجاً بطولياً تربوياً ، أكثر منها شخصية قصصية حية ، تتكشف للقارئ من خلال النمو الموضوعي المترافق والحدث ، بل لا نستطيع أن نتلمس أية جذور لهذا الحس الوطني الواعي لديها .
إن هذه المبالغة في إسناد الأدوار الوطنية التربوية الثورية تجعل من سلمى في قصة (بهجة الحرية ) نموذجاً آخر للوعي الوطني والذوب في القضية . إنها وقد أخذت بفرحة الإطاحة بحكم نوري السعيد وعبد الإله في العراق ، تهرع إلى الشارع تحيي الناس ، تصافح وجوههم وتعانق نظراتهم المتهللة .. " والأيدي ترتفع ملوحة في الشرفات ، والأكف تصفق ، والبسمات العريضة ترتسم على الشفاه ، وهي في هذا الخضم البشري مأخوذة تهتف وتهتف أكثر مما هتفت في حياتها كلها ، والعرق يتصبب على وجهها المستدير المتورد ، وقد نسيت موعد عملها المرتقب منذ أسابيع ، ونسيت كل شيء ، ونسيت أمها ، عدا البهجة الكبرى : بهجة الحرية . "
ولنا أن نلاحظ في جميع المقاطع التي أوردناها أن الكاتب قد بقي ضمن دائرة نقل الوقائع ( ما يجري بصدق ) وصياغتها بشكل حكاية ، والقيام بسردها متسلسلة على نحو ما جرت ( حقيقة ) ، وبهذه الطريقة يقبض جيداً على زمام الحدث ، لكن ما يفلت منه حقاً شيء كثير ، فهذا الحدث الموجود حقيقة لم يكن ليوجد موضوعياً / فنياً ، إذ إن علاقاته ونموه وبؤرة الصراع فيه ، بل وشخصياته ، كل ذلك مرتبط إلى حد بعيد بمحاولات الكاتب في إثارة الحماسة والإعلان المذهبي ، حتى إن أدى ذلك أحياناً إلى اختلاط القصة بالمقالة وشكلها ، كما في قصة ( قبل التعتيم ) مثلاً ، حيث نقرأ المقطع التالي : " فالبلاد تعيش اليوم مرحلة حرجة من تاريخها : فالاستعمار البريطاني الفرنسي الصهيوني جن جنونه لتلك النهضة العارمة التي أخذت تجتاح البلاد العربية من أقصاها إلى أقصاها وتعجل بموته ، فقذف أساطيله البحرية والجوية في نوبة وحشية همجية ، وبسط أيديه الملطخة بدماء الشعوب في مشارق الأرض ومغاربها ، يقصف بها مدن مصر وقراها ، ويحرق ويهدم ويقتل ببشاعته المثيرة . "
إلى جانب ذلك يبث الكاتب محاولاته في التحليل النفسي الخارجي ، فيسقط أفكاره إسقاطاً على شخصياته ، حتى إن أسلوب الاسترجاع الذهني ، الذي يكون عادة لصيقاً بتجربة الشخص الذاتية ، يتداعى ليصبح صدى لما يجول في ذهن الكاتب فحسب ، وإن وسيلة فنية رهيفة وشفافة مثل اللقطات الجانبية ، كثيراً ما تغدو باهتة مفتعلة ، وتفقد دواعي وجودها الفني عندما يجعلها الكاتب تترافق والحدث ، بغية زيادة الطاقة في التعبير ، فتحتشد على شكل صور تلتقي مع مفاصل الحدث وتطورات القصة ، ويراد لها أن تقوم بدورها في الإيحاء ، وهي غالباً ما تكون إنشائية من الطبيعة ، على الطريقة الرومانسية ، وبالتالي فهي تظهر نافرة لا تنسجم مع اللوحة التي ينقلها الكاتب للوقائع الوطنية ، لا سيما عندما تكون مثقلة بخيال الكاتب وانفعاله الكبير البالغ . فبشير الثائر الناقم في قصة ( الضيف الكبير ) ينظر إلى السماء " فيرى نجوماً مترجرجة مشوشة ، تحاكي ما يرتسم في مخيلته من الصور المثيرة . " ، وموكب الضيف الكبير " كانت تسير به سيارات سوداء كأجنحة الغربان تتطاير على أرض الشارع خفيفة ، تسرع إسراع اللصوص الهاربين من وجه العدالة .. " ، والمدرسة التي جرى بها الإضراب " بناء يكاد يكون شبيهاً بطائر ضخم ، بني اللون ، جاثم على الأرض ، يتكئ بجناحيه الهائلين على التراب ، ورأسه شامخ إلى العلاء ، شاخص ببصره إلى الأمام ، إلى الشارع المزفت ."
وفي قصة ( السهم الأخضر ) تغرق الدنيا في الظلام عند زعيق صفارة الإنذار ، وتظهر الرهبة ودقة موقف سعاد في عدد من المناظر : حوار خائف في العتمة .. بكاء طفل .. كلمة " أنت صغيرة " التي سمعتها من المعلمة حين طلبت أن تتطوع .. هزء أحد الجيران بها وقوله : " العقيدة الصغيرة مكلفة بمراقبة الطائرات " .. إقفار الشارع .. ونوم السيارات في جانبه .. شبح الحارس وصفاراته . إنها لقطات جانبية متتالية تريد أن تؤدي مهمة واحدة هي شحن الموقف بالخيبة في اللحظة الأخيرة حين تزعق صفارة الإنذار تعلن انتهاء الغارة ، وسعاد ما تزال على السلم في طريقها إلى كشف الجاسوس .
أما سلمى في قصة ( بهجة الحرية ) فتبدو قلقة هذا الصباح ، وقد تلقت وعداً بالعمل بعد أسابيع طويلة من البطالة .. فهل يتحقق الوعد ؟ تنهض من نومها وقد " تعالت أغرودة قصيرة خاطفة ، بعثتها بعض الطيور الدورية المبكرة ، وعلا زعيق سيارة فسمع له صوت عكر ذلك الهدوء .. اليوم سأذهب إلى العمل . قالت ذلك وفركت عينيها السوداوين . "
ولقد يسف الديراني في بعض هذه اللقطات ، وفقاً لمفهومه الخاص لطريقة تناول الواقع في القصة ، كأن يقدم للمظاهرة التي جرت في ثانوية أمية بوصف تسجيلي دقيق للمدرسة ، فهي " تقع في الطرف الشرقي من شارع بغداد ، محاطة بباحة لا تزال ترابية ، وملأى بالحجارة ، يفصلها درابزون قليل الارتفاع عن أرض جرداء ، لا عشب فيها ولا شجر ، تمتد إلى مسافة بعيدة ، لتنتهي برصيف الشارع المغروس بأشجار جردها الشتاء من أوراقها ، أما المدرسة نفسها فهي حديثة البناء ، تطل من جدرانها نوافذ الصفوف البراقة الزجاج .. " وكأن يشير مفصلاً للقارئ إلى أن سلمى نهضت من نومها وقد " ألقت عنها الغطاء الأبيض الرقيق الذي لا تلتحف به عادة في ليالي الحر ، إلا في أواخر الليل .. حين تشيع البرودة . "
وبعد ، فإن التركيب الذهني للأحداث يرى فيها مجرد وقائع يمكن استغلالها أو توظيفها في الإثارة أو التعبئة الوطنية ، على نحو يمضي بهذه الوقائع لأن تكون ملفقة ضعيفة الفاعلية ، جافة غير حارة ، وفقاً للعلاقات المجهزة ذهنياً بهذا الشكل أو ذاك ، يضاف إلى ذلك مراعاة جعل الأحداث تبدو منطقية أو معقولة ، بطريقة مكشوفة لا تعدو في حقيقتها أكثر من محاولة يائسة لإضفاء عنصر الإقناع ، إذ تتحول إلى مجرد تفسير بارد ميت للمقدمات والنتائج .
إن أي دور تلعبه الشخصيات في القصة عادة ، لا تقرره الأحداث فحسب ، بل عناصر أخرى تتصل بالبيئة والجو ، وطبيعة هذه الشخصيات ذاتياً وموضوعياً ، إضافة إلى عناصر أخرى من مثل الهدف والمغزى واللغة والزمان والمكان .. وهذا ما يشكل في نهاية الأمر متضافراً ومنسجماً عناصر الصورة الفنية الناجحة . وإن مراعاة جعل ( الأدور ) تبدو متمشية مع الأحداث ووقائعها ، لا يعدو أن يكون عملية زائفة للتشخيص .
في معظم القصص التي قدمه الديراني في الخمسينات ظل يدور في حلقة الوقائع الوطنية ، فهو ما يني يؤكد من خلال أسلوب القص الذي اعتمده على الوجود ( الموضوعي ) لتلك الأحداث الوطنية ، ولتلك الحماسة الشعبية البالغة التي تقف خلف هذه الأحداث ، لكن حتى إذا افترضنا الصحة في ذلك ، فهل يتعامل الأدب مع الصحيح الصادق من الأحداث أم أن للحقيقة الفنية وجوه أخرى تظل مسألة الكشف عنها من أدق مهمات الكاتب المبدع ؟ كذلك الأمر فنحن لا ندري ما الذي أضافه الكاتب ، مادامت الأحداث منقولة وقد عرفها الناس وعايشوها ، ومادامت مهمته قد توقفت عند مجرد النقل والتزام الصدق في العرض والتجسيد . ثم إن اعتماد الديراني على تناول القضايا الوطنية والسياسية ، وإغفال ما عداها طوال فترة الخمسينات ، يأتي وجهاً آخر من وجوه التشبث بالوقائع ، لا يريد النظر إلى ما وراءها ، أو أنه لا يرى منها إلا ما قد يعوم على السطح.

( 4 )

وقائع التجربة الذاتية


( مراد السباعي )
اتخذت الوقائع الاجتماعية في قصص مراد السباعي شكلاً متميزاً عن مثيلاتها من قصص الواقعية في الخمسينات ، فقد بدت وثيقة الصلة بتجربته الذاتية وذكرياته الشخصية . وقد نلحظ في هذا النهج في الكتابة القصصية جانباً من الاختيار الفني ، لكنه بمجمله اختيار يتوجه إلى الموضوع أي الواقعة ، أكثر مما يتوجه إلى علاقات هذا الموضوع وجزئيــاته ، بمعنى أن السباعي كان ينتقي من ذكرياته الشخصية وتجاربه تلك الأحداث التي لها رصيد لا بأس به من البؤس والفقر والحرمان ، بأنواعه .. لكنه لا يمضي إلى أبعد من ذلك فيكشف عن خصوصيات تلك المواضيع وينسق بين جزئياتها ، محولاً إياها إلى عمل فني متكامل ، له صفة الاستقلال عن الواقع والاندماج به في آن معاً .
ويؤكد مراد السباعي في حديثه عن تجاربه في القصة القصيرة على قيمة التجربة الذاتية في العمل الفني ، بل يشترط أن يكون الكاتب قد خبر وعاش ما يتحدث عنه حتى يستطيع أن يبدع أثراً فنياً صادقاً : " إن التجربة الذاتية الخاصة تعطينا الحقيقة خالية من الشك الذي قد يخامر نفوسنا من صدق الآخرين عندما يتحدثون عن تجاربهم . " وهنا يشير السباعي إلى المصدر الذي يعتمده في قصصه ، كما يحدد مفهوماً ضيقاً للعلاقة بين الفن والتجربة الذاتية ، إذ يبالغ في الاعتقاد بأن التجربة الذاتية صادقة كل الصدق وحقيقية . فهل يكفي نقل التجارب الذاتية للكاتب مهما كان صدقها الوقائعي حتى تتسم بسمة الفن ؟ وفي وقت ترددت فيه كثيراً أطروحات الأدب الواقعي والصورة التي يجب أن يتخذها الواقع في الفن ، لقد كان واضحاً منذ ذلك الحين الحدود التي يتاخم بها الواقع الفن ، لكن ذلك ربما كان يلزمه فترة أكبر ليصير إلى النضج والتمثل الفني الحقيقي .
" إن تجربة خاصة وقعت للكاتب لا تعني أدباً واقعياً ، لأن التجارب تزخر بالتناقض والعواطف المتباينة . وتجربة كاتب من الكتاب نقيض تجربة كاتب آخر ، فأيهما يكون واقعياً وأيهما لا يكون ؟ هذا هو الموضوع . يجب أن نفرق بين الواقع العام والواقع الشخصي . إن في كل مجتمع واقعاً أكبر يستمد وجوده من التطور العام للمجتمع في سياسته واقتصاده وفكره وفنه ، وهناك التجربة الشخصية للكاتب ، وهي جزء صغير من الواقع ، وقد تكون نقيضه . " لذلك كان على الكاتب – أي كاتب – أن يفهم تجربته الشخصية في ضوء الواقع العام ، فيوفر لعمله البعد الموضوعي ممتزجاً بتجربته الذاتية.
إن أكثر قصص مراد السباعي توحي أو تشير مباشرة أثناء السرد القصصي إلى أن كاتبها هو بطل القصة ذاته ، أو أنه شارك فيها أو شهد أحداثها .. وربما تغدو القصة في بعض الأحيان عرضاً لسيرة المؤلف الذاتية كما في قصص ( هروب من المدينة ، العودة ، إصابة بالملاريا ) ، وقد ظهر قسم لا بأس به من الأحداث التي رواها السباعي في قصصه في فترة متأخرة ، ضمَّنها كتابه ( شيء من حياتي ) دونما تغيير يذكر . في قصصه الذاتية المباشرة لا نعثر على بناء قصصي مقنع ، وإنما نجد تاريخاً ذاتياً لتجربة مر بها الكاتب ، وآثر أن يكتبها على نحو يقترب فيه من الشكل القصصي ، وبما أن الكاتب عرضها كما جرت في الواقع فقد كان من الصعب بناؤها بناءً فنياً مع المحافظة على صدقها كواقعة ، كما جاءت مفتقرة إلى الحدث بمعناه القصصي . وهكذا فإن التزام الكاتب برواية شطر من حياته في الطفولة كما في قصة ( هروب من المدينة ) مثلاً ، قد ضيع عليه فرصة تقديم الأسباب الفنية الموضوعية التي قادته إلى التشرد والهروب من المدرسة طيلة هذه الفترة التي قضاها في دمشق ، إنما ورد ذلك على شكل خبر عابر بثه الكاتب في ثنايا العرض : " لقد أمضيت ستة أشهر متتابعة هارباً من المدرسة ، أسلك في حياتي سلوكاً شبيهاً بسلوك المشردين . " وفي منحى آخر قد يضمن الكاتب سرده بعض اللمحات الذاتية الوجدانية فيشيد بعلاقته الحميمة بعامل الحداد الصغير أحمد ، وقد انقادا معاً في تشرد مماثل : " ليس في العالم كله لذة يمكنها أن تعادل لذة هذه الصداقة الحلوة البريئة ، وما زلت حتى الآن أذكر الألم الشديد الذي اعتصر قلبي حين قال لي ذات يوم أنه جائع ، وأنه لم يأكل في أمسه سوى نصف رغيف يابس بلا إدام . أواه لو كان بالإمكان أن يطعم الإنسان قلبه للجائعين لأطعمت هذا الصديق قلبي وأنا غير آسف . "
وقد يلامس الكاتب بعض الجوانب الموضوعية واللمحات الفنية في أمثال هذه القصص ، لكنه يظل مشدوداً إلى عواطفه الخاصة ( الشخصية ) ، لا يستطيع الإفلات من أسر الانفعال ، بل إنه يعيد القارئ في كل فرصة إلى الإحساس ذاته : إن ما يقرأه ليــــس إلا ( قطعة من حياة ) الكاتب نفسه ، كأن يعبر عن تعلقه الكبير بجدته التي رعته أثناء مرضه وبعد موت أبيه ، بقوله : " لو كانت جدتي الآن على قيد الحياة لاستحقت مني أعظم الشكر ، أما وأنها ماتت فلا أقل من أن أضع على قبرها غصناً من الآس . "
وهذه الظاهرة تثير بحد ذاتها مسألة أخرى تتصل بطبيعة هذه ( المذكرات القصصية ) ، التي رويت من خلال عين الكاتب في مرحلة متأخرة ، وقد أصبح عهد الطفولة منطوياً في الزمن البعيد ، مما جعلها تحمل جزءاً كبيراً من أفكاره وتصوراته الحاضرة ، جاءت على شكل بؤر عاطفية أثيرة ومحببة لشخص الكاتب ، وأفقدها ذلك في بعض الأحيان طبيعتها العفوية الحارة المتدفقة .
وقد يحاول السباعي في قصص أخرى ، خارج نطاق مذكراته المباشرة ، توثيق ما يرويه ، فيشير من خلال عبارات معترضة إلى صلة أحداثه المروية بحياته الشخصية ومشاهداته ، هكذا يصف المظاهرة الصاخبة ضد الفرنسيين في قصته ( الشرارة الأولى ) ، ثم ما يلبث أن يقول مفاجئاً القارئ بهذه المداخلة : " وأذكر أنه قد راقني أن أجد الساحة مغطاة بآلاف الرؤوس البشرية .. " ، أو يقول وهو يرى ( فتنة ) تهاجم المصفحة الفرنسية بحجر في يدها : " وفجأة صك سمعي صوتها من بعيد .. فالتفت نحو مصدر الصوت ، فألفيتها في ذلك الموقف الرهيب الذي لا أذكره رغم تقادم الزمن ، إلا وأحس كأن شيئاً بارداً ينصب على جسدي .. " . أو ربما رأينا الكاتب يعلن عن نفسه ووجوده منذ أولى سطور القصة : " أكره ما أكره أن أجلس في المقهى .. وما أذكر أنني في كل حياتي استطعت أن أمكث بين ضجيج الناس وقرقرة النراجيل وطقطقة النرد ساعة واحدة .. "
هذه الظاهرة في المثول الشخصي للكاتب في ثنايا السرد القصصي تكاد تشمل جميع قصص مجموعته ( الشرارة الأولى ) ، بل إنها تمتد إلى أجمل قصص المجموعة ( إنه أبو غازي ) تلك التي تظهر الراوي شخصية قصصية حقيقية تمتلك استقلالها عبر سمات فنية دقيقة ، ثم ما تلبث أن تمحي لتظهر بدلاً منها شخصية الكاتب نفسه ، ومن خلال إشارة لا تقدم شيئاً يذكر إلى القصة ، بل تبدو زائدة لا معنى لها : " .. ودخلت البيت فأمضيت نهاري أعمل في الحديقة ، ولم يكن لمتعني في الحياة شيء كالعمل الزراعي ، هذا العمل الجميل الذي يمتزج مع طبيعة نفسي المشغوفة بحب الطبيعة ، والذي ينسيني في غمرته الهادئة اللذيذة متاعب الحياة وآلامها ، ويمنحني من الرضاء والسعادة الشيء الكثير .. "
أما قصته القصيرة جداً ، السباقة إلى هذا اللون ( دجاجة أم سليمان ) ، فإن أكثر ما يؤسف فيها اقتحام الكاتب إطارها الشفاف المتماسك ، يأسف لرعونته أيام الطفولة ، وقد قذف دجاجة أم سليمان بنيافة في يده : " شد ما تؤلمني ذكراها .. لو بقيت حية إلى الآن ، لوهبت لها سرباً من الدجاج الأبيض ، ألف دجاجة إذا شاءت حتى تقر عينها .. "
وإنه من بين عشرات القصص التي كتبها مراد السباعي في فترة الخمسينات ، قلَّ أن نجد قصة تحافظ على استقلال البطل ، أو تتحاشى التدخل الشخصي للكاتب ، لكنها بمجملها تظل لصيقة بحياة الكاتب الشخصية ، قريبة منه كل القرب . وإلى هذه الظاهرة تحديداً ، نقصد بروز العنصر الذاتي ( الأوتوبيوغرافي ) بأشكاله المتعددة ، يرجع كثير من الصدوع التي تعاني منها القصة عند السباعي . والحقيقة إنها ظاهرة عامة رافقت القصة السورية في مراحلها المبكرة ، أو يمكن القول إنها علامة من علائم بدايات هذا الفن عموماً .
وتبعاً لذلك فقد ظهرت قصص السباعي من حيث التوجه المذهبي ، وثيقة الصلة بالرومانسية وأبعادها المختلفة ، بحيث بات من الصعب على الكاتب الانفلات من سطوة نفسه والتجرد من ميوله في أثناء العمل الفني ، فمالت بهذه القصص إلى نوع من الحس التأملي الإنساني ، فالكاتب ينهل من عواطفه ليتغلغل في مشكلة الوجود ، ويعتنق الحب بكل أبعاده : " نعم .. إنه لمن المستحيل علي ، مهما حاولت التناسي ، أن أتجرد من تلك النفحة الحارة التي خالطت روحي ردحاً من الزمن فتركت فيها أعمق الأثر ، وجعلت حياتي كلها كصورة تمثل حالة زمنية جامدة لا تقبل التبدل . لتذهب الأيام في إثر الأيام ، لتأكل السنون السنين ، ليلتهم الفناء كل شيء .. فما دمت أعيش وأفكر وأذكر فسيظل لصديقتي الغالية ( ش ) مكانها في قلبي .. " في هذه القصة يعود الكاتب من غمار الأيام إلى إحياء حب مضى مدفوعاً بذكرى " اللقاء الأول " في الفندق الذي جمعه بمحبوبته أول مرة . وهاهو يصل البلدة فيجد ما حوله مؤلماً محزناً يجعل الحياة بنظره سخيفة ، إنه يعجب بفعل الزمن وقدرته على تغيير معالم الأشياء ، وقد بدا صاحب الفندق عجوزاً مسكيناُ خربته السنون ، الأمر الذي يدفع إلى التأمل الإنساني : " لقد تهدم ، إن شبح الموت يلقي على وجهه المتعفن ظله الأصفر الكئيب .. لا أدري .. أية قوة جبارة استطاعت أن تسلبه كل الرشاقة الوضاءة في مثل تلك المدة القصيرة من الزمن !. يالها من حياة حقارة ، خير منها شجرة في غاب تمتد مئات السنين دون غاية . " وتستلبه الذات إلى درجة الذوب العاطفي ، فيسقط أفكاره الخاصة على العالم والأشياء من حوله في نزعة تأملية مغرقة في السوداوية والانطواء على هذا النحو : " مررت بمنازل أحبها .. إنها ما برحت راسخة القدم أمام معاول الزمن الهدام .. ولكن أين ناسها ؟ ذهبوا إلى حيث لا عود ، ضاعوا في متاهات العدم . أصبحوا للحشرات والدود .. تضحكني المثل العليا ، الأهداف ، الغايات ، السعادات المنتظرة .. ويضحكني أكثر وأكثر أولئك الذين يسيرون إلى الهاوية وهم يهتفون ، في سبيل العظمة والمجد نحيا ونموت .. يا للحمقى .. لماذا لا يقولون في سبيل تلك الدورة السرمدية الفارغة التي لا تنطوي على شيء نرهق حياتنا بالواجب .. " ، وإذ يقف أخيراً أمام قبر محبوبته يدرك أن ليس تحت هذا الكوم من الحجارة سوى بضع عظام نخرات ، وحفنة من تراب أسود .. وأما الباقي ، الباقي المضيء المشتعل المتحرك فأين يكون ؟ ويجد البطل/الكاتب نفسه وقد بات قبراً آخر يحمل أطياف الذكرى البائسة لحب لن يعود : " يالها من أعجوبة ! قبور تتزاور . " وإزاء ذلك لا ينثني بل يستمر في مسيرة العواطف المتوثبة الملتهبة ، فيعود في نهاية القصة إلى جبل قاسيون حيث الصخرة الملساء ، التي شهدت الحب الأول ( على طريقة الرومانسيين ) فهي أحق بالزيارة وأجدر : " وانطلقت في صعود ، يتقدمني موكبي الفخم ، طيوف الماضي ، بوارق الذكريات ، تنهدات الزمن البعيد . "
إن الحب عند السباعي يظهر في جميع القصص معادلاً موضوعياً للحياة ، وافتقاده يشكل أزمة نفسية وفنية تظهر على شكل منازع فردية يائسة ، منعزلة ، بعيدة الصلة بواقع الناس . وهذا الطغيان العاطفي ينسحب بدوره على شخصيات الكاتب ، فنراه يشملها بتعاطف شديد ، يعطيها من أحاسيسه ووجدانه ، ويلبسها أفكاره وآراءه ، بصورة قد تبدو معها مثيرة للشفقة ، تنتهي إلى الطيبة والتصالح ، ويتغلب فيها عنصر الخير ، فتتصف تبعاً لذلك بالنمو والتحول ، على الرغم من أن أكثر هذه الشخصيات من أصول شعبية بائسة ، مقموعة ومقهورة ، وقد تكون شريرة وضالة . وهكذا أتت خواتيم قصصه تمجد الأبطال في إطار من التسامي والتصعيد المثلي . فالفتاة المتشردة ( فتنة ) تقتل برصاص المستعمر الفرنسي مؤدية واجبها كأحسن ما يؤديه بطل وطني ، وهي التي ترعرعت في أكناف الرذيلة والعار ، والتي أطلق الناس عليها لقب ( حسن صبي ) ، والتي تسكن في حانوت خرب ذي جو كئيب معتم ، مشبع برائحة العفن والرطوبة ، مليء بالحشرات ..
كذلك كانت نهاية المحتال الطفيلي الذي دأب على الاحتيال بأسلوب مبتكر محبب ، نهاية أثبت فيها حرصه على قواعد الشرف وأنفة النفس ، عندما يعود ليرد ما اقترضه من الراوي ( الكاتب نفسه ) ، معلناً أنه استطاع أن يجد طريقه بعد التعثر الطويل ، لكنه يأسف لعدم استطاعته استرداد اسمه الحقيقي ، فالناس ما زالوا ينادونه : ( أقرضني عشر ليرات ) .
وأبو غازي الرجل البغيض ، ذو الوجه الصارم التقاطيع ، الوحشي الملامح ، واللحية السوداء الخشنة كلحية معزاة ، وذو العين الوحيدة التي يحدج بها الناس بنظرات ممتلئة بالحقد والكراهية ، فتبدو في التماعها الشرس كقبس من جهنم .. أبو غازي هذا الذي لقي منه الناس أفانين الأذى والبلاء ، يواجه دورية فرنسية بفرده بشجاعة نادرة ، بعد أن هُزم المتظاهرون من الساحة العامة .
أما في قصة ( بغلة العم عثمان ) فنواجه رجلاً عجوزاً مهدماً يضيق ببغلته الوحيدة في سنة قحط ، ويقصر في إطعامها ، فلا علف ولا حشائش .. يحاول بيعها لكنه لا يفلح ، ويقرر أخيراً أن يسرحها ، فتموت في العراء كالحيوانات الضالة ، ويفعل ، لكنه يقضي ليلة سقيمة ، وسرعان ما يعود في الصباح الباكر ليأتي بالبغلة ، لاعناً الحياة والظروف والمرض .. لكن من خلال نفس رضية عاد إليها الصفاء ، ومن خلال احتجاج صامت عبر عنه ببصقة نزقة وكلام غير مفهوم . إن العم عثمان ، بعد لحظة ضعف ، يعود ليرتد إلى جوهره الإنساني الطيب ، تحزنه البغلة بمصيرها البائس ، فيقرر أن يتابع معها مسلسل الشقاء حتى الرمق الأخير .
وفي وجه مقابل تقف شخصيات ثابتة ذات بعد واحد ، تتسم بالشر المطلق ، وهي تفتقر إلى عنصر الإقناع الفني ، كوالد صفية في قصة ( بنت البستان ) ، إذ جاء ظلمه قاسياً خالياً من كل رحمة ، غير مبرر ولا يقف على أرض من الواقع ، إنه ينزل بابنته الوحيدة العقاب عند كل هفوة وكلمة ، والكاتب يصوره نموذجاً للتسلط الأبوي ، وتعنت الجيل القديم وانغلاقه .
هكذا أيضاً تبدو صورة الأب في قصة ( القارب ) مثالاً آخر لجمود الرأي وصلف التعامل مع الابن الوحيد ( النسناس ) ، ويصعب على المرء أن يتصور وجود أب يرى ابنه وقد بترت يده بشحنة متفجرات ، فيحمله وقد شغلت باله فكرة وحيدة ، وهي أن ابنه لم يعد صالحاً لتجديف القارب .
وبعد ، فهل هناك علاقة بين تجربة مراد السباعي القصصية وبين مفهومه الخاص حول كتابة القصة القصيرة ؟
القصة عند السباعي " قطعة من حياة " مصورة بشكل مكثف ، لا ترتكز على قاعدة ، ولا تتقيد بشرط ، ولا تحد بأسلوب . أي أنها طليقة من كل ما اصطلح عليه النقاد من أسماء وتصانيف أو مقولات لها علاقة بتوصيف هذا الجنس الأدبي . ففي متاهات القصة كما يرى ثمة متسع غير محدود لكل كاتب ، يضمنها ما شاء من عواطفه وأفكاره وميوله ، شريطة أن يصاغ ذلك بأسلوب فني جذاب ، وأن يظل في حدود الإمكان والجمال ، " ومن الممكن أيضاً أن تكون القصة لوحة لرجل ، أي رسم شخصية فقط ، أو صورة لامرأة ، أو حصان أو قطة .. وشأنها في ذلك شأن المنظر الطبيعي ، ولا أحد ينكر ما للمناظر الطبيعية من تأثير جميل في نفوسنا ، إنها لا تخلو من الفائدة وإن كانت لا تحمل وراءها أي فكرة . "
والحقيقة إن الشطر الأول من هذا المفهوم الذي قدمه السباعي ، يبدو أميناً لتجربته القصصية بصورة عامة ، أما الشطر الثاني فيما يخص القصة اللوحة ، فقلما يظهر في قصصه ، بل ينطبق على أسلوبه ولغته أكثر مما يبدو في موضوعه المختار . فكثيراً ما يقدم في ثنايا قصصه صوراً ولوحات تزينية ، إضافة إلى لقطات جانبية موحية ، تحمل قسطاً من الجمال الفني والانسجام ، وهذا ما يجعل منه في حقيقة الأمر علماً من أعلام الأسلوب التقليدي في كتابة القصة القصيرة ، من حيث اهتمامه بتوفير العناصر الأساسية للقصة من حدث وشخصيات وحبكة وطريقة عرض .. والسباعي إذ يجعل القصة في حل من أية قاعدة أو اصطلاح نقدي أو تصنيف ، يحاول في أغلب الظن إطلاق أقاصيصه من عنت الامتثال الفني والنقدي ، كما يحاول التغطية على مسالة اعتماد التجربة الذاتية وملابساتها . فهو ما يلبث بعد ذلك أن يشير إلى أهم عناصر القصة وأجدرها بالذكر في رأيه : " العقدة ، الغموض ، السرد والحوار ، الموضوع والتوجيه ، الشخصية الروائية " ، ثم يمضي في شرحها وتقعيدها من خلال النظر إليها كمنطلقات أساسية وثابتة في عملية كتابة القصة القصيرة .
وتظهر دعائم الأسلوب التقليدي في قصص السباعي من خلال بناء القصة على ركائز ثلاث : المقدمة والعقدة والخاتمة . أما طريقة العرض فهي عموماً السرد والحكاية والحوار . والقصة تتطور غالباً عبر الحادثة وليس عبر الشخصيات ، وإن تطور الشخصيات الذي تناولناه قبل قليل لا يأتي وفق تصميم فني داخلي نلحظ من خلاله صراعاً ما ، يقود الشخص في وجهة ، بل هو في معظمه تطور آلي تقود إليه الأحداث نفسها ، وتبعاً لرؤية الكاتب الفكرية .
ويظهر طابع الحكاية عند السباعي في اختيار السرد المباشر ( الإخبار ) ، على حساب التقديم الدرامي للحدث ، كما يبدو من خلال انتقاء أبطال قصصه من البيئات الشعبية ، من البسطاء والمساكين والمغمورين ، كما يظهر ثالثاً بشكل أوضح عبر أسلوب تقديمهم والاحتفاء بهم إلى حد يشابه طابع الأسطورة الجذاب ، يذكرنا بقصص الجدات ، كهذه البداية مثلاً من قصة ( بنت البستان ) : " كانت في الرابعة عشرة من عمرها ، وكنت في مثل هذا السن أو أقل قليلاً .. اسمها ( صفية ) وهي فتاة حنطية اللون ، ناحلة الجسم ، ذات عيون سود متألقة ، ووجه بيضوي الشكل ، يزينه أنف دقيق ، وفم رائع التكوين ." أو هذا المقطع من قصة ( دجاجة أم سليمان ) : " مسكينة أم سليمان ، لقد ظلت تبحث عن دجاجتها الضائعة وتبكي .. حتى ماتت . لم تترك أحداً ما سألته عنها .. سألته بدموعها قبل لسانها : أرأيت دجاجتي ؟ خرجت ولم تعد . هي بيضاء كالشاش ، ذات عرف أحمر طويل كعرف الدين .. إنها تعرف البيت جيداً ، ولا أعرف كيف ضاعت . أتقول إنها ستعود ؟ " . وقد تسيطر على الكاتب نكهة السرد الحكائي ، فتغدو القصة بين يديه حكاية شفهية كما تسمعها من الناس تماماً مع ما يتخلل ذلك السرد عادة من تحليل مباشر وتعليق على الأحداث والمواقف .
إن انتماء شخصيات الكاتب إلى البيئة الشعبية جاء ضمن إطارات محلية ولوحات تزينية بديعة لصيقة الصلة بالفلكلور . فقصة ( القارب ) تجري " في مرج شاسع الأرجاء ، سندسي الخضرة ، توشيه الحشائش بالأصفر والأحمر والأبيض ، وفي كوخ مصنوع من أغصان الأشجار ، تظلله مجموعة كثيفة من الصفصاف " . ونحن في المقهى الشعبي نسمع ضجيج الناس وقرقرة النراجيل وطقطقة النرد ، وفي المظاهرات الشعبية ضد المحتل الفرنسي ، نجد الساحات " مغطاة بآلاف الرؤوس البشرية ، رؤوس مشكلة ، عمائم وطرابيش وقبعات وشعور مسرحة ومنبوشة ، وكوفيات وعقل وطاقيات مختلفة الألوان والأشكال .. "
كما حفلت القصص التي قدمها الكاتب عن طفولته وتشرده بعديد من اللقطات الجانبية الدقيقة ، استطاع الكاتب تقديمها ناقلاً إلينا انطباعاته وأحاسيسه الطاغية عن جمال الأشياء من حوله وألفتها المحببة . هذا إلى جانب عرضه لصور إنشائية معبرة ، ففي مدخل حمص تبدو عيدان أبي صبي الفقيرة العارية منتصبة على طول الطريق كصف من الشحاذين يطلب صدقة . ، ونرجيلة الجدة ذات قرقرة عنيفة ورأسها المشتعل يبدو كأنه كوخ من القش تأكله النيران في يوم عاصف .
وتبرز الطبيعة في قصص السباعي جزءاً أساسياً من المدى الذي ترسم عبره الأحداث ، هذا الفضاء المكاني يغدو جزءاً من بناء القصة ومن رؤية الكاتب معاً . والطبيعة هنا ليست ذلك المكان الحيادي المعزول ، بل تحس أنها ذات حياة ، ولها علاقة حميمة بكل ما يجري . ففي قصة ( القارب ) حين يفكر ( النسناس ) بتدمير قارب أبيه بالديناميت ، بعد أن ضاق بصلفه وقسوته ، يقدم الكاتب هذه اللوحة : " كان الوقت قبيل الغروب ، وكانت أشعة الشمس الصفراء تكسو رؤوس أشجار الحور والصفصاف المنتشرة على ضفتي النهر بحلة ذهبية رائعة ، وكان الهدوء يشمل الطبيعة ويضفي عليها شيئاً من المهابة يوحي بالخشوع ، فلا نأمة ولا حركة غير صوت مجدافي القارب يصفعان صفحة الماء برتابة وإيقاع . وثمة سمكات تقفز على سطح النهر ، وضفادع تنق ، وشحرور يغرد ، وسلاحف تقبع على الضفة وتمد أعناقها بجمود كأنما يدهشها هذا العالم . وكان أبو فهد يقف في مقدمة القارب منتصباً كعملاق من عمالقة القرون الأولى ، في حين كان النسناس يجدف بإعياء مقوس الظهر ، تبدو على وجهه مسحة الكآبة . "
في هذا المقطع التعبيري الجميل ، نلاحظ أشعة الشمس الصفراء كاصفرار وجه النسناس ، وخيبة آماله بخطبة من يحب ، كما نرى الهدوء الذي يشمل الطبيعة كالهدوء الذي آلت إليه نفس الابن بعد أن وصل إلى قرار . والمهابة التي يضفيها الكاتب على سيماء الطبيعة ، تعادل إحساس النسناس بمهابة أبيه ، كما أن خشوعها يعادل خضوع ذلك المسكين .
والعم عثمان حين يفكر بالتخلص من بغلته في لحظة ضعف ، يمضي بها إلى منحدر صخري تنهض في قعره شجرة يابسة من البلوط ، ذات أغصان عارية كالأذرع المرفوعة إلى السماء في ابتهال وتضرع ، وفي هذا الموقع الخشن المليء بهياكل لحيوانات أهلكها الجوع والعطش يعتزم العم عثمان أن يسرح بغلته . فشجرة البلوط اليابسة في قعر المنحدر ، والابتهال والتضرع ، أشياء تعادل الحالة النفسية التي اجتاحت العم عثمان ، بل هي صور موازية لتلك التي رسمتها القصة موضوعياً .
أما أبو غازي فينهض من مرضه الطويل الذي وجد فيه الناس نوعاً من الإجازة ، ابتهلوا إلى الله أن يطيلها ، وأن لا ينهيها إلا بما يفرحهم .. ويعود إلى الشارع وهو أشد شراسة مما كان قبل مرضه ، ونراه يدشن صحته بقطع شجرة الأكاسيا التي تقع على الرصيف مقابل بيته ، ولما سئل لماذا فعلت ذلك ؟ أجاب ، وهو يلوح بعصاه الغليظة بين إصبعيه : لقد قطعتها لأتخلص من الناس الذين يجلسون تحتها . فهو يقطع الشجرة تعبيراً عن استعداده لقطع علاقاته مع كل الناس . و( بنت البستان ) صفية ، تلقي بنفسها في النهر هرباً من قسوة الأب العجوز ، فيقدم الكاتب هذه اللوحة : " وفجأة تأتى إلى سمعي صوت خبطة قوية في الماء ، أعقبتها صرخة هائلة انطلقت من فم الشيخ ، ولما بلغت الشط لم أجد صفية .. ولكني وجدت الشيخ يجثو على ركبتيه ، ويلطم وجهه بكفيه ، ويحدق في عرض النهر المعتم كالمجانين .. نفخت الريح وتناوح الشجر ، واضطرب كل شيء في الوجود ، ولكن أعماق النهر ظلت في سكونها المخيف وكأن شيئاً لم يحدث "
وللطبيعة بعد جمالي له أثر بارز في نفسية الكاتب ، فهي ترتسم لوحات نضرة توشي القصص من خلال نزعة رومانسية حالمة ، إن كل شيء في طريق العودة ما بين دمشق وحمص ، على عربة في أوائل هذا القرن ، يبدو كأجمل ما يكون ، " كل ما في الطبيعة رائع ممتع : أدراج الزيتون اللفيفة ذات الظلال العميقة ، أمواه الأنهار المتدفقة كذوب الفضة ، موسيقى العصفور والصرصور والضفدع ، أزهار البقول في أشكالها البديعة ، أشجار المشمش المثقلة بالثمر المضيء كالذهب .. " ، والطفل العائد من رحلة التشرد في دمشق ينظر الآن بفرح إلى حوض الأزهار في صحن الدار بحمص ، فيراه بعينيه أخاذاً يضج بالحياة " فلا شيء أجمل من النتش وهو يشق برؤوسه الفتية الطرية التربة الحمراء الرطبة ، ويتطاول نحو الضياء والشمس .. وليس ما يعدل في لذته أن يتعهد المرء النبات الذي يزرع بيده ، وأن يراقب نموه وتطوره ، فوراء كل ورقة وبرعم وزهرة حلم ذهبي يغشي القلب ، وأمل براق يحمل ألف لون ولون من ألوان السعادة. "
هذه النظرة الإحيائية الاحتفائية تكاد تكون طقساً نفسياً يقدم بين يدي الطبيعة ، ووراء هذه النظرة ، يكمن الأساس الذاتي الإنساني المنفتح لتجربة مراد السباعي القصصية .

*****************

( 5 )


تفاصيل وقائع الحياة الشعبية

( صميم الشريف )


تبدي قصص صميم الشريف طموحاً زائداً إلى تسجيل الواقع الاجتماعي ، بكل دقائقه المنظورة وتفصيلاته حتى الهامشية منها ، وقد انصرفت هذه القصص إلى استكناه التجربة الحياتية السورية في مرحلة الخمسينات ، من منظور المعايشة اليومية ، ومن خلال مفهوم بارز في الكتابة الواقعية حينها ، مفهوم ( ميكانيكي ) إعكاسي / حرفي ، يتصيد مظاهر الواقع من الزاوية الانتقادية ، ويسعى في ذلك إلى تدعيم مهام تعبوية تحريضية ، يراد للقصة القصيرة أن تنهض بها .
وقد بدا الولع الشديد بتفاصيل شواهد البؤس عبر العديد من النماذج الشعبية ، أهمها : فلاحون ثائرون وباعة متجولون على الأرصفة وعتالون ومتسولون وعمال أجراء وموظفون بائسون وندل وعمال مقاه وماسحو أحذية .. وهذه الشريحة الاجتماعية العريضة ، ذات التشكل الجديد نسبياً ( أثناء الانتداب الفرنسي ، وإبان الاستقلال ) تظهر في قصص صميم الشريف عارية ببؤسها ، تنوء بثقل الظلم وقسوة المجتمع والصراع اللاهب بين أطرافه .. وقد تختلف في ردود أفعالها ، لكنها تميل عموماً إلى نوع من التصادم القاسي والمأساوي بالمجتمع ، وهي عزلاء مجهدة ، من خلال ترجيع نفسي يظهر نوازع الشر فيها ، ضمن منطق الاحتجاج الصارخ والدفاع المستلب .
إن تركيز الكاتب على عنصر الصراع يشمل كل قصصه ، فالصراع ينتظمها في أشكال غير متكافئة ، مما يكشف طبيعة جو الحياة الاجتماعية في فترة التشكل الاجتماعي المغاير ، كما يحدد طبيعة هذا الصراع وتوجهه ، باعتباره أساساً للحياة اليومية للإنسان في الريف والمدينة . وقد نوافق الكاتب على الوجود الموضوعي لهذا التمايز الحاد بين الفئات الاجتماعية في الفترات التي يتحدث عنها ، وضمن المواضيع المختارة التي يعرضها ، لكننا نعتقد أن الصراع المجسد في القصص ، بما هو فعل يبدو شيئاً مشوباً بضرب من المبالغة والتزيد ، بالقياس إلى الواقع الحقيقي لحياة تلك الفئات الاجتماعية في فترة الخمسينات ، سوى ما يمكن أن نجده من استثناءات نشأت أمثلتها نتيجة الإحساس بالقهر والضغط وليس بسبب الوعي أو المشاركة الجماعية الموجهة للصراع .
والذي يثير الانتباه في قصص الكاتب أن اجتهاداته في تتبع تلك الصراعات ، ومحاولاته تغليب موضوعها على ما عداه من موضوعات ، قد جرت القصص إلى سقطات فنية كبيرة ، نجد فيها فكرة الكاتب تطفو على السطح ، ولا تملك أساساً من الواقع المقنع . هكذا يظهر وكيل الآغا مثلاً في قصة ( أنين الأرض ) ، فهو يندفع في ثورته على الآغا من دون أدنى مبرر نستطيع تلمسه من داخل القصة ، يقدمه الكاتب ليشير على الأقل إلى أسباب هذا التحول الكبير من صف الآغا وموقع الفئة الإقطاعية المتحكمة إلى صفوف الفلاحين البسطاء ، أصحاب " الأرض والعرق والدماء " ، بل إن وكيل الآغا يظهر في القصة بصورة مغايرة لصورة الوكيل التقليدية في الواقع ، ليعلن انتماءه من السطور الأولى من خلال التحول النفسي والفكري ، بوساطة التقرير لا التصوير . فيقرر على المستوى الأول : " شعرت بالقيء يكاد يثب من فمي حين رأيته منتصباً أمامي بقامته القصيرة التي لا تذكرني إلا بقرد أفلت من صاحبه ، ولقد أحسست بيده الناعمة حين صافحني كأنها لسعات أفعى سامة ، ومع هذا لم تزايل بسمتي الساخرة شفتي حين اتخذ مجلسه قريباً مني ، وهو ينظر إليَّ بطرف عينيه ، ويغرقني بابتسامته الصفراء ، التي لا تحمل لي في طياتها إلا الحقد الذي يجعل القيء يكاد يثب من الفم . " أما على المستوى الثاني فتنثال على لسان الراوي بنبرة إنسانية رحيمة منفتحة قصة الفلاحين ، وقضية معاناتهم من جراء الصراع بينهم وبين الآغا الإقطاعي الكبير ، وكيف حاول أن يستغني عن كثير منهم ، ويرحلهم إلى أرض محمود آغا ، ويجلب التراكتورات لتحل مكانهم , وإذ يطلب إلى الوكيل مساعدته في تنفيذ ما عزم عليه ، يعلن هذا عصيانه وتضامنه مع الفلاحين ، فينتصر لقضيتهم ، ويجد متنفساً في سلوكه هذا للحقد الكبير الذي يعتمل في نفسه طيلة الفترة التي قضاها في خدمة الآغا . وهذا التحول لا يستند إلى أسس تشيعها القصة في ثناياها على نحو ما ، بل ينهض على دواع فكرية بحتة ، تقف خلفها مقولة الإنسان ذي الفطرة الصالحة والأصل الطيب يعلنها الراوي صراحة : " وأنا في أصالتي كإنسان ، مهما جريت وراء عواطفي الرخيصة ، فإني في قرارتي أحس بأن في داخلي ينبوعاً من الطيبة لا ينضب ، وهذا الينبوع وحده كان يقتل فيَّ العواطف الدنيئة التي كنت أحسها تجاه ( الآغا ) الذي كنت أعمل عنده ، فتتجمد كلها في الشعور بالقرف.."
وهنا كما يبدو واضحاً لا نجد تصويراً لحركة الصراع ، من حيث المرتسمات والوجهة والمآل ، بل مجرد فكرة يحاول الكاتب إبرازها على لسان الراوي الوكيل ، باعتبارها بؤرة للأزمة المعنية والمفترضة ، وكأن شعور المقت بحد ذاته يمكن له أن يحدد مفترق الطرق أخيراً ، فالآغا يمضي بمساعدة من رجال الدرك الذين قبضوا الثمن في تنفيذ خططه ، فيطرد الفلاحين .. " أجل ! لقد استطاع تشريدهم أخيراً .. لم يبق على واحد منهم ، كان يضحك شامتاً من منظرهم ، وكانت الكارثة أقوى من أن تحتملها أية أعصاب ، ومع هذا كانت الابتسامات تعلو شفاههم وكأنها تقول : سنعود يوماً إلى أرضنـا .. " ، أما الوكيل فنراه يحزم حقائبه استعداداً للرحيل حين يفاجأ بالآغا وابتسامته الصفراء تزحف إلى وجهه فتملؤه ، وتحمل معها الشعور بالقرف " وتنحنح طويلاً بعد أن تردد قليلاً في مصافحتي وهو يقول ويده الباردة تحمل إلى أوصالي الارتعاش : يمكنك البقاء .. أنا لن أطردك .. وإن كنت عاتباً عليك ، وضحك ضحكته البليدة ، وأحسست بتقزز يجتاحني ، وانتابتني رعدة هزت جسمي كله ، ودفعت عبارته إلى نفسي مزيداً من الاحتقار .. لن أكون عبداً له .. لن أكون عبداً له ولو دفع مال الدنيا .. وتمنيت في تلك اللحظة لو أن الفلاحين المساكين قضوا عليه " وهكذا نجد الراوي أخيراً وقد سار في طريقه خلف الرتل الطويل الذي سبقه ليقرر ما يلي : " وبدا لي الهواء نقياً صافياً ، يحمل الحياة في أعطافه ، الحياة التي أعلم جيداً أنها أقوى من الفناء ، وتعالى من بعيد دوي ( التراكتورات ) وهي تضرب سكتها في الحقول البعيدة ، وضج في أذني أنين الأرض ، وطغت بسمة باهتة على شفتي ، أخذت تتسع وتتسع لتحل محل الدموع التي امتلأت بها مآقيَّ ، ولاحت لعيني الوجوه السمر ، والجباه العالية ، والتراب الناعم ، والجموع الحانية ، وخفت الأنين البعيد شيئاً فشيئاً وتراب الأرض مازال يسيل كريماً سمحاً من الأصابع الخشنة . "
إن ثورة الوكيل في القصة لا تقدم من خلال صراع فني له إرهاصاته وتطوراته ، بل من خلال البعد العاطفي المبدئي ليس إلا ، وهذا الوكيل بوصفه أو تقديمه كنموذج للطليعة ، لا يبدو منسجماً مع الدور الذي اختير له ، على الأقل من حيث الدواعي الفنية ، فنحن نراه يتضامن مع هجوم الفلاحين الصاعق على ( التراكتورات ) وتحطيمها ، ويعلن تشفيه : " إن الآغا لن يسمع هدير الآلات بعد الآن ، ولن يرى السكك الحديدية وهي تمزق باطن الأرض ، لن يرى إلا الجموع الإنسانية التي يعمر في قلوبها الإيمان ، ولن تقع نظراته إلا على الأيدي وهي تحنو على التراب الكريم ، ولن يلمح إلا الجباه العالية ، ولن يمتص التراب إلا العرق المكدود ، وسيرى بعينيه الصغيرتين الفلاحين وهم يأخذون حقهم من الحياة .. الحياة الكريمة التي عنها يفتشون .. سيؤمن بأن الأرض جزء من الفلاح الذي يرعاها .. سيؤمن بأن الأرض لا تحبه بل وتكرهه أيضاً .. "
وإن كانت القصة توحي بأكثر من دلالة أن الآلة أداة استغلال وشقاء ما دام يملكها فرد ولا تملكها جماعة ، فإن تضامن الكاتب ( الوكيل الراوي ، لأن التماهي شديد هنا ، والحدود زائلة ) مع الفلاحين يظهر في القصة من خلال نزعة مستحكمة تشيع منها فكرة كره الآلة الحديثة ( عقدة الآلة ) ، وفي وقت لم تكن فيه الآلة قد غزت حياتنا الاجتماعية بعد كما في العالم المتقدم ، بالشكل الذي تغدو معه وبالاً على الإنسان ، كما يحب أن يشير صراحة في قصة أخرى بعنوان ( الأرقام الجامدة ) ، إذ يحكي الراوي عن استيائه من عمله كمحاسب يعيش ( على حد زعمه ) بين أرقام " تقتل الإنسان وتحيله آلة ، وتعطل قواه الفكرية " فلا ندري الدافع حقاً وراء تفكيره على هذا النحو ، إلا أن يكون تمثلاً وتأثراً بفكرة المناهضة لكل أشكال الحضارة الغربية باعتبارها سحقاً للإنسان ، ومزيداً من القهر والبؤس ، تلك الموجة الرافضة التي سادت أوربة بعض الوقت . يقول البطل على عادته بالتعبير عن رفضه بالقرف : " لا أدري لمَ يتملكني شعور قوي بالقرف ، كلما جمعت بعض الأرقام التي تنوء بها دفاتري .. القرف من كل شيء فأنا أعمل بعقل آلي ، لا دخل لإرادتي وتفكيري فيه ، اللهم إلا في ضغطي على أزرار الآلة الحاسبة بحركات آلية اعتدتها مع الزمن . ويتفاقم شعوري ، ويتولد فيَّ إحساس قوي ، أود فيه لو أستطيع أن أخنق مخترعها ، لأنه أراد أن يسخر من قوانا الفكرية ، وبالتالي كي نسخر هذه القوى العظيمة لآلته الحاسبة ، ليصبح عقلنا متبلداً ، وتفكيرنا جامداً ، لا يعمل إلا إذا ضغط على أزرار فيه ، حتى بت أشعر في الآونة الأخيرة ، بأني أصبحت عبداً لهذه الآلة القابعة في الزاوية القريبة من يدي .. عبداً مسخراً كأي عبد آخر في أي مصنع يقوم بعمله وفق ما تمليه عليه آلته الرهيبة التي يهيمن على نشاطها السادة الذين يستنزفون دم العبيد الكادحين . "
إن تحليل عناصر الخطاب في هذا النص يقود إلى تلمس ضروب من المبالغة في تصوير حس الانسحاق والضياع ، جراء حدة الصراع القائم بين الآلة والإنسان في مجتمعنا ، الأمر الذي يكشف مدى تسلل أفكار الأدب الوجودي ، وأدب العبث واللامعقول ، أفكار الاغتراب ( المصطنع ) وعبثية الوجود ومأساويته ، تلك التي بدأت تلقى الرواج في أدب أواخر الخمسينات ، وكادت تستغرق أدب الستينات بأكمله في سورية ، على الأقل في المجال القصصي ، عبر مسيرة لاهثة ملحقة بالتيارات الأجنبية المغتربة الممزقة . والكاتب إذ يربط في هذا المقطع ومقاطع أخرى بين دخول الآلة وشقاء الإنسان ، لا ينجح أيضاً في تقريب الفكرة من حدود الإقناع الفني ، لطغيان التقرير والجاهزية المسبقة على خطابه ، فضلاً عن استعارة هذا الخطاب أساساً وتابعيته المفلسة : " إن قواي العقلية ، وقوى الكثيرين غيري آخذة في التدهور لأن الآلات اللعينة تلتهم كل شيء حتى الحياة ، وتزدرد ببطء قاتل وتبتلع مئات عمال المصانع وهم قعود ، فتستولي على حواسهم برهبتها وقسوتها ، وتخدرهم بسحرها حتى تجعلهم يتهالكون مستسلمين منقبين في الآلات الصماء عن خبزهم اليومي .. أجل في الآلات التي أرادها مخترعوها مرفهة للإنسان والتي اتخذتها حفنة من الناس طريقاً لاستغلال الملايين واستعبادهم "
وإذا كانت الأرقام شيئاً يرهق الروح والجسد فالكاتب بعد يحاول الانعطاف إلى اهتمام بالأرقام من نوع آخر ، اهتمام يتوجه إلى الجموع الإنسانية وقضاياها ، لأنها الجديرة بالاهتمام ، فيبدو الالتزام هنا شعاراً ومقولة باهظة التكاليف فنياً باعتبارها تنفلت من سياق القص وحدود الجنس الموضوعية ، وتخرج إلى شكل مقالي يختفي منه الحدث ، وتظهر مكانه خواطر الكاتب المؤدلجة سافرة على لسان بطله الراوي : " هناك أرقام أخرى غير التي أعالجها في مكتبي .. هناك أرقام تملأ الشوارع والأزقة ، وتجوب منذ الصباح الآفاق ، باحثة منقبة .. وما استقرت عيني على عدد أو رقم تجاوز الألف ، إلا وبدت لي تلك الإرهاصات الشعبية من الأرقام الإنسانية التي فتك بها الرصاص . وتضج في أذني صرخاتهم الضائعة في أتون ثورتهم العارمة ، ثم تهدأ لتبدأ بعد حين تجمعاً طويلاً آخر ، ولتستأنف صراخها من جديد . . صراخ المئات من الجموع البشرية المتلاطمة الذين هم مثلي ، والتي تحسبهم القوة الحقيرة المهيمنة التي باعت نفسها ، أنهم مجرد حشرات يجب سحقها . " وعلى هذا النحو يضج مقطع آخر بالصراخ والاحتجاج " الحقيقة أننا جياع ، وأننا نموت من الجوع ، الجوع إلى كل شيء ، والظمأ إلى كل شيء ، وليس جوعنا هو جوع بطوننا فقط ! لا .. لا .. إننا جياع إلى الشمس ، جياع إلى النسيم نستنشقه نقياً ، جياع إلى السماء الصافية ، وليس المعكرة بغيوم غريبة منذ أمد طويل .. " ثم يمضي الراوي إلى عقد مقارنات تأملية مستمدة من وقائع حياة الناس " العاديين " تظهر من خلالها مفارقات الجوع ، والظلم والاستعباد ، ويكاد يشير صراحة إلى فترة زعامة الدكتاتور أديب الشيشكلي وما حملته من عسف وكبت وملاحقة . وعبر تصعيد الصراع الموجه ، تأخذ الأرقام في النهاية شكل هاجس ذهني يستحوذ على الراوي ، فينعطف إلى الخمارة ويجد في الشراب ملاذاً : " آه لو أن الناس يسكرون جميعاً مرة واحدة ، لفتش أكثرهم عن شيء يؤمن به ، وعند ذلك تغير الأرقام الهزيلة من تحركها البطيء وتأخذ في التضخم." وتكفي دلالة هذا المقطع هنا للإشارة إلى سطوة فكر الاغتراب وإغرائه لجيل أدبي كبير ، وقد تكون قصة صميم الشريف ( الأرقام الجامدة ) من أولى التجارب الأدبية التي بدأ الحس الوجودي المغترب يزحف إليها .. ذلك التيار الذي توطدت دعائمه بعد ذلك عبر كتابات أعلام الفكر القومي في الستينات .
إن حياة الشارع والناس العاديين البسطاء ، وحركة الصراع من أجل الخبز اليومي ، أشياء بلغت ذروة تجسدها في قصص صميم الشريف ، حتى كادت تكون الموضوع الأساسي الناظم لمجمل خطابه القصصي . وإن كان مثل هذا التوجه يكشف لنا فقراً في موضوعات الكاتب ، فإنه يشير من ناحية ثانية ( على نحو جديد في الأدب العربي ) إلى توثق العلاقة عند كتاب الخمسينات عامة وفي أدب صميم الشريف على وجه الخصوص ما بين الأدب وحياة الكادحين ، وإلى سيادة بل طغيان التناول الشعبي المباشر للواقع في القصة ، بل لكل ما هو مزر وهامشي ومبتذل في الواقع ، الأمر الذي لم يكن ليساعد على تطوير مفهوم أدبي وفني جمالي للواقعية كبحث عن الحقيقة والجوهر المتخفي خلف الظواهر الوقائعية التي أولع الكتاب بالتقاطها ، حتى ليمكن القول إن الواقعية في قصص صميم الشريف قد جاءت سوداء جافة مفرطة في تفصيلاتها ، ربما كوجه من وجوه الرد على رومانسية مفرطة متاخمة لهذا التيار . إن الإلحاح المضني من جانب الكاتب على رصد معالم الواقع البائس ، وتشريحها ، مع محاولة الأمانة لواقع الرؤية المباشرة ، أساليب كانت بمثابة الطريق المسدود ، أو نهاية المطاف بالنسبة لقصص الكاتب والاتجاه الوقائعي عموماً . وتجدر الإشارة هنا كما يرى بتروف إلى أن " نقل تفاصيل عالم الأشياء وحركة المشاعر والشكل الخارجي للإنسان ( التفاصيل المصورة بأمانة ) يتفق من حيث المبدأ ومتطلبات التصوير الواقعي ، بل إنه ليضع حداً فاصلاً وإن كان شكلياً بين الواقعية ومختلف أشكال أساليب الحداثة التي تشوه المادة المصورة وتمسخها لدرجة تفقدها أية مقاربة مع الواقع الفعلي ، كما هو الحال في التجريدية .. لكن التفاصيل المصورة بأمانة في ذاتها ، والتصوير الصادق من حيث الشكل الخارجي لوحده لا يقرران مسألة واقعية العمل الفني . " ، إن تفاصيل الواقع في قصص صميم الشريف وهي تحاول استقصاء الحدث ، وإحاطته بجو من المبالغات وحشد من الصور المعنية بذاتها ، تمسخ من ناحية أخرى البطل في القصة ، وتحيله إلى موضوع نموذجي للشقاء ، إنها رؤية تقدم البؤس الاجتماعي بكامله مختزلاً وممثلاً بنموذج لإنسان بسيط كادح ، من دون محاولة إظهار أية أبعاد ذاتية خصوصية للشخصية القصصية ، تعطيها رواءها وحيويتها ، فالهاجس المسيطر باستمرار هو العثور على مزيد من التفاصيل التي تحيل بجدارة إلى عناوين الفقر والجوع والمرض والإعالة والعجز والشيخوخة .. وقد ينقاد الكاتب تبعاً لولعه الخاص بنقل الوقائع ، إلى رصد جانبي ( يبدو مغرياً ) لحركة ما خارج إطار القصة ، فيبدو هذا النقل باهتاً ضعيف الصلة بالحدث ، أساسه الرغبة المهيمنة عند الكاتب في نقل كل شيء ، إذ إن كل شيء له قيمته مادام يدخل في إطار الحركة العامة للناس والشارع والبيع والشراء ومختلف الموجودات والمنظورات الأخرى في الحياة اليومية . في أحد هذه النماذج التفصيلية يداهم رجال الشرطة أبا محمود بائع الكتب على رصيف أحد الشوارع العامة ، وينذرونه بإخلاء الدرب للمارة .. لكن في تلك اللحظات الحرجة ، أثناء غياب الشرطة في السوق لفترة أعطيت مهلة لأبي محمود حتى يلم بضاعته ويخلي المكان .. يرسم الكاتب جواً للمكان والحركة حتى يتهيأ للقارئ أن يعجب لهذا الرجل ولحاله الراهنة وقد استغرق في تفكير طويل ، لم يقطعه عليه صرير المخازن وهي تفتح ، ولا بائع الكعك بصوته الحاد ، ولا الحركة التي دبت في السوق ، فقد كان يفكر بماذا يجيب الشرطي إذا جاءه بعد قليل ورآه مازال محتلاً نصف الرصيف الذي يطالبونه به ، لكن العجب يزداد حقاً عندما نرى كيف أمكنه بعد قليل أن يتنهد وهو يتابع شاباً أسمر أنيقاً كادت تدهسه ( كراجة ) يدفعها صاحبها برعونة ، وأن يستمع لشتائم يتبادلها صبيان يمران بالقرب منه ، ثم يعود ليفكر في مشكلته من جديد ، وما نلبث أن نراه ثانية يضيق في استغراقه ويطرف ببصره ، ويرتعش إذ تهدر الحافلة باندفاع مباغت ، ويرى بعض الصبية يتسابقون على بيع ما معهم من الصحف والمجلات ، ويرفع بصره نحو الفندق المجاور له ، ويرى امرأة جميلة تكاد تكون عارية تتطلع إلى الناس وعيون المارة تلتهمها وهي تبتسم في إغراء ، ومن ثم نراه وقد ضرب فخذه بيده وعبر الطريق بنظرة غاضبة حانقة ، فرأى عربة على مقربة من مكتب سفريات بيروت ، وحمالين قد تجمعوا حول حقائب المسافرين يريدون اقتسامها ، أو الظفر بها في جنون ، ووقف بائع الحلويات أمام دكانه يضحك وهو يربت على كرشه الكبير ، وانتبه لصوت صبي القهوة وهو يصيح بنغم ممطوط : واحد حلوة . واحد سادة . فيرن صداه فيما حوله ، ويطلق الحلاق ضحكة ماجنة وهو يشير بإصبعه نحو الفندق المجاور ليدل زميله على المرأة شبه العارية التي ما زالت واقفة ، ثم ينتقل إلى داخل دكانه مبتلعاً ضحكته خجلاً أمام زبون محترم دهمه فجأة ، ولا لا ينسى في الوقت ذاته أن يختلس نظرات سريعة كلما سنحت له الفرصة بذلك . وتعالت الأصوات من كل جانب ، وزعقت أبواق السيارات ووجدها لأول مرة غريبة عليه ، وضاق ذرعاً بصوت سمسار السيارات وهو ينادي برتابة ممجوجة : واحد بيروت .. مين بيروت .. راكب واحد .. بيروت .. بيروت . بل إن عيني أبي محمود وقد شردتا في سهوم ، أخذتا تتابعان الناس الذين يختلفون على المطاعم ، والآخرين الذين يحملقون في واجهات المخازن في بله ، وشابين ولجا الصيدلية قبل حين واستغرقا في مغازلة الموظفة الشابة ، وقد أخذا يضحكان بين الحين والآخر ، وتتركز عينا أبي محمود على آخر الطريق فيسمع جرساً قوياًَ يرن ويرن باستمرار تعالى على أثره صوت ينادي : رخصة عظيمة .. أعظم ( أوكازيون ) عالمي .. خصم بالمائة عشرين .. قمصان .. بدلات .. جرابات .. نايلون .. الرخصة العظيمة يا عالم … وإذ يقترب موعد عودة رجال الشرطة يدق قلب أبي محمود مضطرباً باستمرار ، وقد استحوذ عليه القلق .. وتفحص وجوه المارة من جديد ، وعاد باب الصيدلية يهتز باستمرار والموظفة الحسناء ما زالت تخص ابتسامتها واحداً من الشابين الواقفين عندها ، وإذ يظهر الشرطيان بعد انقضاء المهلة ، يضطرب أبو محمود لكنه يصر أمامهم على البقاء ببسطته على الرصيف ، مدفوعاً بعجزه وعاهته وجوعه ( كما يقرر الكاتب ) ويبدي مقاومة ضعيفة ، ثم ما يلبث أن يرد على سباب رجال الشرطة الذين نعتوه بالحمار ، وقد عصفت به روح المقاومة ، ويصيح بإصرار : " الله ما يحركني من عند رزقي ، الله من فوق .. " وفجأة انحنى الشرطي بسرعة ، ورفع اللوح الخشبي الذي يحمل الكتب ، وألقى به إلى الطريق ، ثم انقض على أبي محمود ، وجذبه من ثيابه بعنف وانهال عليه بصفعتين سريعتين أذهلتاه فلم يجد نفسه إلا ممرغاً على الأرض ، والشرطيان مازالا مستمرين في ضربه وصفعه ورفسه ، وهو يحاول جاهداً أن يجد لنفسه مهرباً دون جدوى . ومن خلال هذه اللحظات في الموقف القصصي يقدم الكتب هذا السرد الإضافي على اللوحة السابقة من خلال جمل متتابعة تبدأ بأفعال دالة على الحركة والاضطراب : " وتجمع أهل السوق واندفعوا يريدون تخليص جارهم الطيب من أيدي الشرطيين ، وأخذ ركاب حافلة انقطع تيارها الكهربائي يتفرجون على نوافذها ، وخرج رواد المقهى الصغير يستفسرون مستغربين ، وامتدت الرؤوس من الفنادق المجاورة تتفرج باهتمام ، وأخذ الناس يتساءلون عن السبب ، وازدحمت السيارات في خط طويل خلف بعضها ، وعلا نفيرها يحث سائق السيارة الأمامية دون أن يعبأ بها ، حتى إذا ألم بما يجري اندفع بسيارته تتبعه السيارات الأخرى ونفيرها يصم الآذان ، واستطاع جيران أبى محمود تخليصه من الشرطيين وهو يرغي ويزبد وقد سال الدم من وجهه الذي امتلأ بالكدمات ، كما أخذ جماعة منهم الشرطيين جانباً يهدؤون من غلواء ثورتهما وانفعالهما ، وفرقوا الناس إلا فئة متسكعة بقيت ملازمة الحادث عن بعد ، وعاد بائع الحلو يسبقه كرشه إلى دكانه وهو يهز رأسه أسفاً ، وعلا صوت رضيع على صدر أمه التي كانت واقفة ترقب باهتمام ، وطغى صوت المنادي عن الرخصة على كل شيء : أعظم رخصة اليوم يا عالم .. يا ناس أعظم هبوط في الأسعار .. " . والواضح أن كل ما في هذا التصوير يشير إلى جهود الكاتب في النقل الترسمي للواقع المنظور ، كما يحدث عادة في أي شارع عندما يداهم رجال الشرطة بسطة مخالفة ، أو عندما يقع حادث مروري مثلاً ، لكن لا شك أن الفارق بين الواقع الحقيقي والواقع الفني هو الفرق بين الالتقاط المباشر وإعادة الصياغة للوقائع ، وربما لا نعدم الدلالات على المستوى الأول بطبيعة الحال ، وهي كثيرة ، لكنها دلالات قائمة في أي واقع لا يد للمؤلف فيها إلا فضل النقل أو التسجيل ، من ذلك أن يختتم الكاتب المقطع بإشارة على لسان المنادي على " بضاعته " إلى الرخص الذي يعامل به الإنسان الكادح في الوطن . وربما كان على رأس الدلالات ما يفيد التأكيد على واقع انعزال شخصية البطل وانشغال الناس أو سير حركة الحياة اليومية من دون اكتراث ، وعدم تكافؤ المواجهة .. لكنها لقطات تبدو صارخة كثيرة مغرقة في التسجيلية ، تفتقر في أكثر الأحيان إلى حس انتقاء له دلالته المقبولة ، وحتى إذا أمكننا أن نأخذ هذه اللقطات بمعنى من معاني الدلالات السابقة ، فإن الكاتب نفسه يشير إلى ما يناقض ذلك فيتحدث عن المشاركة العامة من الناس في مأساة أبي محمود ، إذ ما لبث الشرطيان في النهاية أن رضخا تحت إلحاف وإلحاح الجيرة إلى العفو عنه ، وانصرفا ترافقهما الأدعية التي انقلبت بانصرافهما إلى شتائم بذيئة .
وهكذا فإن المسألة تنحصر بمجرد التركيز على اللقطات الجانبية في محاولة لتكريس شعبية القصة وزخـم ( اجتماعيتها ) من دون عناية بالتوظيف الفني ومبدأ الاصطفاء ، فيبدو جهد التصوير والحشد عبثاً لا طائل من ورائه ، أو إسفافاً تسجيلياً مجافياً لمتطلبات التصوير الفني .
في قصة ( بائع العرقسوس ) نرى إلى أبي دياب سارق نقود الأطفال يفر من وجه رجال الشرطة الذين يلاحقونه ، ولا ندري كيف أمكن له أن يهتم بزخم الأشياء من حوله في زحمة المطاردة وهولها ، فيسرد الكاتب عبر ضمير المتكلم ، الذي لم يكن مناسباً أصلاً لتقديم الحدث على لسان البطل نفسه ، ومن خلال المفهوم الوقائعي الذي يلتزم به الكاتب ويجهد قصصه في تتبعه ؛ قول أبي دياب : " ونهضت محترساً ، وسرت مسرعاً على الرغم من أني لم أعد أرى الأولاد والشرطيين معتزماً الهرب بأي ثمن ، إن القربة تضايقني ، وثقلها يشل حركتي ، وتنبهت إلى أحد ( العربجية ) يصيح بي منتهراً ، وارتفع من جانب الطريق ضحك عال ، وأرغى أحد المارة ، وكال آخر شتائم مقذعة له ، وتعرضت فتاة صغيرة السن مليحة الوجه تسحب طفلاً من يده إلى مغازلة وقحة ، وضج الفضاء بقهقهات ماجنة ، وأنا ما زلت أسير بجنون دون وعي ، إني أسمع خلفي خطوات مسرعة ، هناك من يتبعني .. لا ريب في ذلك . "
أما في قصة ( المتسولة تنام ) فالكاتب يقدم تشريحاً مفصلاً لوقائع ليلة تسول قضتها بطلته الصغيرة مريم في ليلة من ليالي رمضان ، فقد خرجت من " باب ضيق في حارة المزابل " امتدت يد من الباب ودفعتها إلى قارعة الطريق مرغمة إياها على التسول .. " كانت تبلغ من العمر أعواماً سبعة ، وترتدي ثوباً قصيراً مرقعاً في أكثر أجزائه ، يكشف عن ذراعيها النحيلتين وركبتيها الضامرتين ، وقد حشرت قدميها في حذاء كان يرغمها على أن تعرج في مشيتها قليلاً .. " ، وهاهي تجر قدميها نحو الشارع الرئيسي الذي تغمره الأنوار ، ولما وصلت إلى نقطة تقاطع الطرق عند ( بوابة العمارة ) رأت الأنوار تتلألأ هنا وهناك ، وسمعت أصوات ( الراديويات ) منبعثة من الحوانيت المختلفة تختلط فيما بينها ، مشكلة مزيجاً عجيباً من الأنغام .. ويستمر العرض الوصفي بعين الكاتب الذي يقدم ملحوظاته في الواقع على أنها ملحوظات الطفلة المتسولة ، فهذه صورة بائع الفول الذي كان إلى ساعة يهتز طربوشه وكرشه تبعاً لضربات مدقة الحمص الرتيبة التي كان يتركها في بعض الأحيان ليهيئ صحناً من التسقية ، أو ليملأ خياشيم الزبائن وصحونهم بالفول ورائحته المنبعثة من القدر ، وهذا جاره أبو حمدي بائع المرطبات والجليد ينهمك في تناول طعامه بشهية ، وفي المقهى الصغير جلس الخادم الأعور ينكش سنه ويمسح شفتيه مستسيغاً بقايا الطعام الذي ابتلعه قبل قليل ، بينما أخذ معلمه يقرقر في ( أركيلته ) ويهز رأسه منسجماً مع النغم الذي يرسله ( الراديو ) الهرم القابع على أحد الرفوف بين عدد ضخم من أراكيل الزينة .. " وفـوق هذا وذاك " ( على حد تعبير الكاتب ) كان يجلس على قارعة الطريق بعض العمال الذين لم يستطيعوا اللحاق بمنازلهم فاقتعدوا الرصيف وأخرجوا من صدورهم عشاءهم وأخذوا يلتهمونه بشهيــة. هذا المعرض التسجيلى للحظات الإفطار يسوقه الكاتب من خلال عيني الطفلة ، فيضمنه واقع الرؤية لا واقع النظرة الخاصة بطفلة في تلك اللحظات بل إن التسجيل هنا ينشغل بالسرد خارج مهام العملية البنائية للحدث والشخصية معاً ، وربما ظننا أن الإغراء هنا يكمن في شعبية هذه الصور ومدى ما تملكه من قيمة من المنظور الواقعي وفي ظل الحماسة إليه ، لكننا نجد أن هذه اللقطات التفصيلية التسجيلية كثيراً ما تظهر في قصص الكاتب حتى وإن كان الموضوع بعيداً عن الأطر الشعبية ، مما يعني الأهمية الكبرى التي يعلقها الكاتب على هذا النهج في التأليف القصصي باعتباره الشكل الأمثل للواقعية ، وباعتباره بالنسبة إلينا حدود المفهوم النموذجي للطريقة الوقائعية في القص ، على نحو ينسجم مع المفاهيم النظرية والتصريحات وما تكشفه من ميول نحو هذا النمط في الكتابة القصصية ، ربما دون فهم لجوهر العملية التي يتم من خلالها التعامل مع الواقع والوقائع معاً .
في قصة ( الرجل الغريب ) تسير الفتاة الشابة إلى موعدها وجلة خائفة ، تتمنى أن يكون الشاب الجديد إنساناً آخر غير الذين عرفتهم ، وخلال مسيرتها نعرف شطراً من حياتها الضائعة بين شبان لا تربطها بهم سوى علاقة قصيرة عابرة ، وهي تفكر الآن فيما إذا كان هذا الشاب هو الآخر لا يهمه منها سوى هذه الزيارة .. إنها تحبه ويبدو لها لطيفاً قريباً من القلب ، لكن الشك ينتابها في نياته ، وتراودها المخاوف فتمضي إليه مدفوعة بتوق عميق إلى علاقة حميمة تقودها إلى الزواج .
هذا الموضوع يكاد يكون جديداً في قصص الخمسينات ، وذلك من خلال تركيزه على النزعات النفسية المتصارعة في وجدان الفتاة ، وسبر ه الدقيق لقلقها الداخلي . لكن الكاتب يحاول ضمن هذا المستوى أن يقتحم خصوصية التناول ، فيقدم عرضاً لجانب من الحياة المحلية للحي الذي يقيم فيه الشاب ، بواسطة لقطات منقطعة الصلة بجو القصة العام ، بحيث يظهر فيها صوت السارد ، ويراد لها أن تلحق بالظرف النفسي الذي وجدت الفتاة نفسها فيه . لقد " مسحت الفتاة بنظرات تائهة الزقاق الضيق الذي ينتهي عنده البيت .. كان هناك جامع قمامة عجوز يدب خلف عربته ، وهو يطن بالجرس الذي يحمله بين الحين والآخر برتابة ملول ، وغير بعيد عنه وقف بائع للشمندر وراء حلته التي كان يتصاعد منها البخار ، بينما أحاط بالحلة رجلان يأكلان ويثرثران وقد رسم نور ( اللوكس ) الذي يتوج العربة شبح البائع وزبونيه على أرضية الشارع ، فبدا كأنه مارد من الجن ، أما بائع الحي الوحيد فقد جلس أمام دكانه يثرثر مع رجل مسن على شاكلته ، وعدا ذلك فقد كان كل شيء في الزقاق يوحي بالثقة والاطمئنان . " وربما استطاعت هذه الصور الموحشة ، التي نسجها الكاتب على شكل لقطات جانبية ، وأراد لها أن تكون سبباً في نكوص الفتاة ، أن تكشف لنا من ناحية أخرى عن رؤية الكاتب فيما يخص الموضوع الشعبي إذ ظهر في القصة باعثاً على الخوف والرهبة ، يخفي في صوره الشر المتربص ، وذلك من زاوية الإحساس الذي هيَّأ له السرد لا إحساس الفتاة ذاتها .
وقد تخلو بعض القصص من البناء القصصي ، فتصبح مجرد لقطات متناثرة ، موضوعها حياة البسطاء ، يقدمها الكاتب عارية خلواً من الصياغة الفنية ، كثيرة الأصباغ ، بلغة سردية مباشرة ، يرتفع فيها الصوت الدعاوي التحريضي ، ولا تخلو من إطلالات فكرية تحمل رأي الكاتب أو تفسر أو تشير صراحة إلى دلالة ما . هكذا يظهر المقهى بحياته اليومية الصاخبة مثلاً يقع عليه الكاتب لالتقاط صوره وشرائحه البائسة الأثيرة ، فيصف دقائق الحركة العامة فيه ، ثم ينعطف إلى التحدث عن بسطائه ، كما لو أنه يكتب الريبورتاج الصحفي ، فيقدم لنا نماذج عديدة نجد فيها البؤس مجسداً .. فمن النادل سليم المتذمر من مهنته الملعونة ، إلى أبي أحمد الكرسون المتقاعد بائع الكعك ، إلى الساقي عدنان الذي فقد ابنه قبل أيام فهو حزين ساهم ، إلى أسعد ماسح الأحذية ببسمته الراضية وهمسه المتواصل ( بويا .. بويا ) .. " شواهد كثيرة تضج المدينة بأمثالهم .. وكلهم يجاهدون من أجل اللقمة التي تقودهم إلى الكفر بكل القيم . " أما أبو علي صاحب المقهى فيقف في صف مقابل لتلك الشرائح " وينظر بسرور إلى الحركة والحياة والخمول في مقهاه الكبير " ، هكذا يتم تقاسم الأدوار في ( قصص ) صميم الشريف ، دون لمحات فنية تفيد نمو الحدث والشخصيات ، وقد لا نعثر في تلك النماذج سوى على الرغبة من جانب الكاتب في مجرد عرض حياة الناس الطيبين البسطاء ، والموافقة الأساسية من قبله على أهداف هذه الفئات ودعم مدها الصاعد .. وما عدا ذلك لم تستطع الرغبة والنية الصادقة ( الالتزام ) أن تتحول إلى عمل يمتلك الطاقة التعبيرية اللازمة ، وبقي ( الإيمان ) ذاتياً انفعالياً تحمله نظرة تأثر ليس إلا فالراوي في قصة ( البسطاء ) يخرج من المقهى آخر الليل ، وقلبه يضطرب فرحاً ، حين رأى ندل المقهى يجمعون ما يحملون من طعام ويشتركون في عشاء واحد : " وحين أصبحت بعيداً ، كانت ضحكاتهم المتدفقة النابضة بالحياة تحمل إلى نفسي الإيمان أنا الآخر بالناس .. والناس البسطاء . "
إن انعكاس الواقع المؤلم على شخصيات الكاتب يولد النزعات الشريرة في نفوسهم ، ويعرض الكاتب هذه النزعات على نحو يقترب من المذهب الطبيعي في التصوير الواقعي ، فتظهر ردود الفعل الحادة من خلال التعمق في رصد الجانب الأكثر صرامة وعدوانية في هذه الشخصيات . وتظل هذه النزعة مشروطة بجناية المجتمع وظروف الحياة العصيبة أولاً وآخراً ، والكاتب يحاول في سبيل إثبات مسؤولية المجتمع حشد الكثير من الدلالات الدامغة عبر الصوت المباشر ، ومن دون اصطفائية تذكر . ومن بين أشد هذه النماذج صرامة ( أبو دياب ) بائع العرقسوس ، والغسالة ( أم إبراهيم ) السارقة ، و( أبو صالح ) الفلسطيني المتشرد ، والد الطفلة هموم ، وقد حاول دفع ابنته إلى عجلات الشاحنة طمعاً في تعويض مالي ، تماماً مثلما فعل أبو محمد .
في قصة ( بائع العرقسوس ) يعود سارق الأطفال أبو دياب مساءً إلى بيته يترنح في مشيته كالثمل ساهم النظرات ، يستعيد أحداث يومه التعس ، ويشرق بدموعه المنحدرة على خديه ، وقد بدا وجهه مفزعاً كأنه معتوه أنهكته مطاردة الصبية .. فيثير الشفقة والرثاء ، عبر عدد من التفاصيل من مثل : " فقربته النحاسية التي يحملها على ظهره محطمة ، وسرواله الرث مبتل ، وقميصه الرخيص البالي ممزق عند صدره ، والحزام الذي يتمنطق به مقطوع ، وقد استقرت في فجواته بعض الكؤوس المهشمة ، وأما الإبريق المعدني الصغير المتدلي من جرابه الجلدي الذي يغسل به الكؤوس ، فقد كان ملتوياً ، والطاسان اللذان يجلبان له انتباه المارة برنينهما خرسا في راحته ، بينما انهمرت قطرات شراب السوس متسربة من فجوات القربة المحطمة قطرة قطرة وفق خطواته المضطربة .. " . لقد أفاق لتوه من نوبة صرع دهمته بعد مطاردة ملعونة من الصبية الذين كان يسلبهم نقودهم ، وقد وجد نفسه وجهاً لوجه أمام رجال الشرطة ، ويعاوده الآن الاطمئنان الحذر ، لقد غاب رجال الشرطة واختفى الصبية .. " وتلفت حولي من جديد والأمل يغزو قلبي ، والخوف يلوح لي من بعيد .. مرة ثانية ، لم يكن هناك أحد . ودغدغتني راحة عجيبة ، انبثقت من أعماقي ، وأذكت رغبتي في المقاومة حتى النهاية .. وكانت رائحتي كريهة بعد ما بلت في ثيابي ، وطفرت الدموع من عيني حين تفقدت ( الفرنكات ) والقروش في الكأس التي أضعها فيه ، فلم أجد إلا بقاياه المهشمة . لقد سرقوني .. سرقوني .. " وفي الطريق إلى البيت يسترسل بائع العرقسوس مع تداعياته المجنونة ، فيغرق الكاتب في تتبع النزعات الشريرة في نفسه : " لقد تساءلت أمي القعيدة التي لا أدري متى سيريحني الله منها : – لعل هذا الإدام ليس مال حرام أو سرقة ؟! الله لا يحب ذلك .. يا لها من عجوز حمقاء ، معتوهة ، ومن أين تعتقد أني أجلب المال ؟ أتحسب أن كنزاً قد انفتح لوجهي الأصفر ، وعيني الحـولاء؟ " ويقرر بعدئذ بصرامة متشفية يشعر معها بالراحة : " إن أحداً لم يرني حتى الآن وأنا أسرق ، أجل لقد سرقت قروشاً تافهة كي أعيش ، سرقت مرات عديدة ، وما زلت أسرق ، سلبت الأطفال ( عيدياتهم ) الأطفال الذين لا يميزون بين أنواع النقد الذي يحملونه .. سرقتهم وهربت بعيداً بغنمي التافه . . إني مجرد لص قذر ، يخاف الفضيحة ، كلما رأى شرطياً انتابه الهلع ، وكلما سمع صفيراً في الشارع اعتقد أن أمره قد كشف . " ويمضي أبو دياب في ( منولوجه ) المفصل ، فيقدم الأسباب الموضحة .. لقد سرق طفلاً في أول أيام العيد " كان يلبس حلة بيضاء مزدانة بأشرطة زرقاء ، ويعتمر طاقية حمراء زاهية ، وقد مد يده إلى جيبه باحثاً عن ( فرنك ) ليدفعه لي ثمن ما شربه ، فلم يعثر على غايته ، وكأنه أصر على إيجاده فأخرج من جيبه ليرة سورية ثم ليرة ثانية ، ثم بضع قطع فضية وهو مازال يجد في البحث . وكنت قد بت ليلتي ساهراً أرقب أخوتي وهم يبكون بصمت بعد أوبتهم ، ويتهامسون فيما بينهم عن مذاق ( المعمول ) وهل هو محشو أم مطبوخ بالسمن فقط ، ويتناقشون عن عدد طلقات المدفع التي أطلقت إيذاناً بالعيد ، وقد قرر كبيرهم أن يهجر البيت مع الفجر ضجراً من الرغيف الذي ما أكله مرة إلا مرفوقاً بالشتم والتهديد بالطرد مني . فلما رأيت هذا المبلغ الضخم بيد هذا الطفل لم أستطع مقاومة الإغراء الذي تملكني ، فاختطفته من يده دون وعي ثم أدرت له ظهري وانصرفت مبتعداً ، ولكنه لحق بي وتعلق بقميصي ، وأخذ يبكي ويصيح بصوت منتحب عال : – أعطني مالي .. أعطني مالي .. وخشيت الفضيحة والشارع مكتظ بالناس ، فلطمته بقسوة على فمه .. أجل لطمته بعنف لطمة ألقته على الأرض ، فدفن رأسه بين راحتيه وابتلع صوته برهة تمكنت خلالها من الفرار ." وإلى جانب هذا الصراع القاسي الذي يخوضه أبو دياب ، يدور في نفسه صراع آخر ، فيجد أمه مخلوقة كريهة لا تكف عن الهذيان : " – مال حرام .. ورزق حلال .. ماذا يهمها من الأمر ؟ ألا تأكل ، ألا تتسمم ؟ إنها لا تنتهي من ( العلاك ) ياللعينة ! إني أسرق كي أنفخ بطنها وبطون الأولاد ، أسرق كي لا نموت جوعاً ، إنها لا تكف عن الثرثرة ، سأضربها هذا المساء إذا حاولت أن تسمعني من سخافاتها شيئاً . "
بعد حادثة المطاردة يعود أبو دياب ليصطدم بواقعه الأليم ، فتعاوده نزعة الشر المستحكمة .. " أخيراً سرت في طريقي ، هناك نظرات غريبة يرمقني بها المارة ، والزحام يتقاذفني ، وطرقات غريبة تلفني ، وقد بدأت عتمة الليل تلتهمني ببطء ، الطريق إلى البيت تبدو بعيدة ، وأخوتي ينتظرون والأم تثرثر كعادتها ، وأبو سعيد الخباز سيرفض كالمعتاد أن يقرضني ( كيلو ) خبز .. لعنة الله عليه . " ونراه يقف أمام متسول ضرير في العتمة ، يلقي نظرة نحو الطبق الرابض بين ركبتيه ، فيبهره بريق الفرنكات المنعكس من مصباح الشارع .. " وبدت لي من بعيد بوادر فكرة غامضة ، وهزني الانفعال والاضطراب حين وضحت أمام عيني ، وتطلعت حولي والخوف يأكل قلبي ، والخواطر تزحمني زحماً ، وكنست عيناي الطريق الممتد أمامي ، وحدقت ملياً في الفضاء الأسود ، وسمعت من بعيد صدى ضربات الحارس وهي ترن على أرض الشارع ، وخرج ثملان من خمارة قريبة يتعثران بمشيتهما ، ويترنمان بأغنيـــــة ( عاللوما اللوما اللوما ) ثم انصب إحساسي واستقرت هواجسي وركنت عند الطبق النحاسي الرخيص المليء بالإغراء . وفي لحظة كنت قرب المتسول الذي أحس بشعوره الغامض المكتسب بالخطر ، فارتسمت على وجهه أمارات الهلع ومد يديه يحمي طبقه بجنون ويصيح بصوت متحشرج : ( دخيلك . دخيلك ) لا تقتلني .. لا تقتلني .. اترك لي مالي . ولكني صفعته على وجهه بشدة ، فصرخ من الألم وتخلى عن الطبق وهو يستغيث ، فحملته من أمامه بسرعة وجمعت ما فيه في راحتي ، ثم رميت الطبق على الأرض ، وركضت بكل قوتي مبتعداً بكنزي الثمين تتبعني شتائم الضرير وصياحه ، وولولة صفارة الحارس ، وأغنية الثملين السعيدين . "
وعلى هذا النحو ينقب صميم الشريف في داخل النفس ليكشف خباياها المستترة ، فيعرضها عبر الانكسارات التي سببتها جنايات المجتمع ، وعلى هذا النحو أيضاً تتم المواجهة في أكثر قصصه ، إنها نماذج عديدة لأناس ينحدرون إلى أسفل السلم الاجتماعي محكومين بالبؤس والعجز في ظل فترة عصيبة من فترات التحول والتشكل الاجتماعي الجديد ، هذه الفئة الواسعة كاتساع همومها ، تتخذ وضع الفريسة المحاصرة ، ترد بقسوة وشراسة ، ويكاد أبسط تعبير لها أن يكون النقمة ، ولا سيما في صورها الساذجة عندما ترتبط بالمسببات المباشرة ( الأب – الأم – الزوجة ) ، فبائع العرقسوس ينقم على أمه " العجوز ، الحمقاء ، المعتوهة " ولا يدري متى سيريحه الله منها . والطفلة الصغيرة تدفع إلى التسول في ليالي رمضان فتنقم على والدها الأعرج وتتمنى موته . وعثمان ينقم على زوجه ( خدوج ) المرأة الريفية ربة العائلة الكبيرة ، ويذهل وقد مات طفله في ولادة عسيرة ، فيسيطر عليه ألم دفين ، ويفكر : " ما ضر لو أن امرأته ماتت ، وعاش هذا الطفل .. الطفل الذي كان ينتظر ولادته منذ تزوج .. لعنها الله من امرأة لا تجيد إلا الثرثرة وإنجاب البنات . "
يقف البطل القصصي عند صميم الشريف أعزل من كل سلاح ، يحاول الرفض والاحتجاج ، ويتمرد فردياً على الواقع ، لكن محاولاته لا تتعدى حدود السخط الرومانسي ، إنه يواجه جنايات المجتمع ، ممثلة بسلسلة معقدة من الأسباب ، محاطة بنماذج تمثل آلة الظلم والعسف بأبشع صورها عندما تتحول إلى تشوه يطال أعماق الفرد ويهز القيم ، فمن تعنت الحكوكة وعدوانيتها إلى تسلط رجال الشرطة على مقدرات البسطاء ، إلى تحكم أرباب العمل والسادة الإقطاعيين ، إلى جشع الأطباء والصيادلة ، وصولاً إلى جنايات الأهل في صور متعددة .. وتمضي المنظومة لتكتمل أخيراً بتجاهل إنسان الشارع وانصرافه عن كل ما يجري حوله ، وانشغاله بدوامة الحياة اليومية وهموم العيش .
وهذه القسمة التعسفية لشخصيات الكاتب إلى خيرة وشريرة ، مستغَلة ومستغِلة ، سوداء وبيضاء .. تظهرها كائنات مصطنعة لا تملك حرارة التجربة وعفويتها ، بل لا تتقن التحول من داخلها ، وما يحصل فيها من تحول غالباً ما يأتي مفتعلاً فجًّا ، من تصميم الكاتب ، لذا فهو يحمل صراحة نياته ورغباته وتفاؤله وانتصاره الوجداني لهذه الفئات المغلوبة . هكذا يتحول البطل على نحو مفاجئ من اليأس إلى الأمل والإيمان العميق ، من الكراهية والمقت إلى الحب والعطاء ، عبر ( رغبة ) الكاتب في انتصار الجانب الأكثر خيراً في نفس الإنسان ، لذا تأتي هذه التحولات خارج أطرها الفنية ، تعمل على توفير البعد المستقبلي والأخلاقي والتربوي للقصة ، ومن خلال مفهوم نظري مثالي لا علاقة له بطبيعة الحدث وسيره وتطوره . إن عثمان زوج ( خدوج ) يبكي حسرة على الزوجة المريضة وهو الذي تمنى موتها وعاملها بقسوة وكراهية فيما مضى باعتبارها امرأة لا تجيد سوى الثرثرة وإنجاب البنات ، وإذ تقضي الزوجة نحبها على أثر جناية الطبيب ، يتحول عثمان إلى إنسان آخر ، فينطوي على أحزانه ويشعر بحقد يأكل قلبه ، ثم ما يلبث أن يندفع إلى الطبيب يريد الانتقام ، لكنه يعدل ( هكذا ) في اللحظات الأخيرة ، يرخي أصابعه المتشنجة حول رقبة الطبيب ويخرج من العيادة ، ويسرع بخطوات مضطربة إلى منزله : " وتوقف ينظر نحو الحقول المترامية الأطراف ، ولاح له من بعيد رجال القرية منتشرين هنا وهناك ، وكل يعمل في حقله ، والجميع يغني جذلاً ، وتساءل لمَ لا يذهب إلى الحقل ؟ ما الذي يمنعه ؟ وأنصت برهة لأهازيج الفلاحين التي كانت تصله من بعيد .. إن غناءهم ممتع رائع ، وأحس برغبة في الغناء ، وتردد برهة ، لماذا يبغي اعتزالهم ؟ إنه لا يدري ، ماذا ينقصه ليكون واحداً منهم ؟ وأحس بنشوة تملأ حياته وتهز أعماقه ، ستمطر السماء بعد أيام قليلة ، فلمَ لا يفلح أرضه ويزرعها ؟ عليه أن يسرع بذلك ، عليه أن يسرع قبل أن يدخل الظلام ، فربما وجد المرأة التي تليق أن تقوم مقام ( خدوج ) .. وأرتج عليه ، ودمعت عيناه .. يجب أن أدعو البنات .. سنتجه إلى الحقل جميعاً في الحال ، إن أهازيجهم رائعة .. يجب .. يجب .. ومازال يغذ السير حتى ابتلعه الغروب ، وقلبه مفعم بالإيمان الذي بعثته من رقدته امرأته التي انتقلت إلى حفنة من تراب . "
وثمة بعض نواح مأساوية تظهر في صياغة المواقف ونهايات القصص من خلال المنازع الرومانسية عند الكاتب . فأبو صالح والد الطفلة ( هموم ) يقضي دهساً على صورة بشعة في الوقت الذي يعزم فيه على إلقاء ابنته بين عجلات شاحنة مسرعة . والطفلة المتسولة الناعسة تموت دهساً في آخر الليل ، وينسج الكاتب المفارقة مباشرة من منظور الرؤية الطبقية في انقسامها الحاد ، وبهذا التبسيط : " توقفت السيارة الفخمة المسرعة ، ونزل منها شاب ثري ، نظر إلى الجسد الصغير الذي كان يختلج من بعيد .. وفزع فتراجع ببطء منسلاً ، وتعثر أثناء تراجعه بفردة حذاء صغير كادت ترميه أرضاً ، ثم أدار محرك سيارته ، وتناهى إليه لغط كثير ، وسمع ضربات عصا الحارس تقترب منه ( ودائماً ثمة حارس يترصد ) وألقى نظرة على المارة القلائل الذين بدؤوا يتجمعون ، ثم انطلق بسيارته بسرعة مجنونة بعد أن أطفأ أنوارها .. "
وتبدو المداخلات المعترضة والإشارات واللفت المباشر وسائل غالباً ما تظهر في قصص صميم الشريف ، فتكون سبباً في تدني مستواها الفني ، وتذهب بالشيء الكثير من عفويتها وصدقها الفني ، ولا سيما عندما تكون من نوع التوجيهات التربوية والمبادئ الأيديولوجية والمذهبية .. وقد تقف وراء ذلك كله سمة الإيقاع الغاضب ، في صورته الجامحة الصارخة المباشرة ، الأمر الذي جعل هذه القصص تنفلت باستمرار من ربقة البناء القصصي أفكاراً وصوراً وشخصيات ، فضلاً عن اضطرابها ما بين مختلف التجارب التطويرية في كتابة القصة القصيرة . وهنا لا بد من ملاحظة مجموعة المحاولات التي اتسمت بها تجربة الكاتب في تجديد الشكل القصصي ، والميل بالقصة نحو الأساليب الحديثة ، ضمن عدد من الأطر للتأثر والاحتذاء ، كتجربة الرمز في قصة ( أرض الذئاب ) من مجموعة ( عندما يجوع الأطفال ) ، وعالم غوغول في قصة ( سعيد أفندي ) من مجموعة ( أنين الأرض ) . وأول ما يمكن ملاحظته أن هذه القصص التي اعتمدت التجديد تتفق مع مثيلاتها من قصص الوقائع الاجتماعية ، لكنها ربما اختلفت عنها وتميزت ، وهي تحاول أن تتلمس مواقعها أو خطواتها الأولى على طريق القصة الفنية الواقعية ، ولا بد من النظر إليها هنا من منظور الفترة الزمنية والفنية معاً ، حتى يمكننا اعتبارها الجسر الواصل ما بين الوقائعية والواقعية ، من ناحية ، وما بين الوقائع أو الصور والقصة الفنية من ناحية ثانية . وربما جاءت المجموعة الثانية ( عندما يجوع الأطفال ) ولا سيما القصة التي حملت المجموعة اسمها ، أكثر تمثيلاً لمحاولات الكاتب تلك . ولعل أول ما نلاحظه في هذا التجديد بدء خفوت الصوت المباشر في القصة ، واعتماد الكاتب أسلوب المتكلم كركيزة أساسية في السرد القصصي لكن على نحو ظل يتماهى بصوت الكاتب فيصعب غالباً التفريق بينهما ، إلى ذلك سنجد انتشار بؤر التحليل النفسي والتعمق في مشاعر الأبطال كمحاولات في الاستبطان ، عبر وسيلة التداعي ، أو المناجاة الداخلية ، أو المنولوج ، والتقاط الحدث في أوج حبكته ، والتركيز على أزمات الأبطال في واقعها العصابي ، والاستفادة من طرائق العرض المتنوعة للأحداث في القصة القصيرة وهذا بمجمله ما بات يوفر للقصة أحياناً عنصري التشويق والمتعة ، عن طريق الاسترجاع الذهني ، ورصد إحساسات الشخصية ، وهذا ما بات خاصة أساسية في قصص صميم الشريف ، لكن اعتماد المنولوج يكون غالباً من خلال النظر إليه أسلوباً من أساليب السرد ، وليس وسيلة عرض لحالة الصراع الداخلي العميق الذي يجري في نفس البطل ، ومن خلال نظراته الخاصة وتجربته المتفردة . وقد يضيق هذا الأسلوب باللحظات الزمنية الضئيلة المتاحة أو المرافقة ، فيغدو استعراضاً مفصلاً لدقائق الحدث الماضية ، في وقت تكون فيه شارة المرور مثلاً توشك أن تغير لونها .. أو تكون فيه ( أم إبراهيم ) في الممر المفضي إلى باب الدار لتفتح للطارق . كما لا تأمن هذه الوسيلة الرهيفة من أن تختلط بالصوت المباشر للكاتب ، بل بتوجيهاته لمسار الحدث ذاته وفق منظوره الأيديولوجي ، مما يدعو إلى القول إن هذه المحاولات في التحديث بقيت في أطوارها الجنينية ، محصورة في الرغبات ، لم تمتلك أبعاداً حيوية ، سوى ما يمكن ملاحظته في بعضها من خصوصية وتميز كقصة ( عندما يجوع الأطفال ) ، إذ استطاعت أن تمتلك ببساطتها وعفويتها بعداً حيوياً فنياً يقوم على اعتماد دور البطولة الجماعية لشرائح اجتماعية متنوعة ( الجنود ، الشرطي ، المرأة والطفل الجائع ، الرجل المدخن ، صاحب المكتب والعامل وقاطع التذاكر ) تصادف وجودها جميعاً في مكتب سفريات ، ويدور الحدث من خلال الشخصية المحورية ، عامل المكتب الشاب أسعد ، ومن خلال دوره الإنساني تجاه الطفل الجائع .
ويجدر أن نشير في مجال المحاولات الفنية للكاتب ، إلى خاتمات بعض قصصه ، أو ما يعرف بـ ( القفلة ) ، فقد عمد فيها إلى اصطناع عنصر المفاجأة المذهلة غير المتوقعة ، على نحو يذكر بالطريقة نفسها التي شاعت عند بعض كتاب القصة المصرية أمثال إبراهيم الورداني وأمين يوسف غراب . إن عناصر الصنعة تصب كلها في مقطع تنتهي به القصة ، ويبدأ هذا المقطع بعبارة " شيء واحد جعل كذا .. " فيراد لها أن تثير المفاجأة والدهشة في القارئ ، لكن ذلك كان يتم على الأغلب من دون مراعاة عنصر الصراع وتطوراته في القصة ، وما آلت إليه الأمور بالنسبة إلى تطور الأحداث وأفقها . أو أن هذه القفلة تأتي للتخلص من مسألة الخاتمة وعلاقتها بمحتوى القصة وتطوره .
إن مجمل ما استطاعت قصص صميم الشريف أن تفعله في حينها هو تكريس مفهوم القصة الوقائعية ، عبر الحيثيات المتعددة التي عمقها الكاتب ، فوصل بها إلى نهاياتها أو إلى طرقها المسدودة مما أتاح المجال لظهور ملامح التغيير في المفاهيم وفي الإبداع القصصي الواقعي على حد سواء . وتظل تجربة الكاتب حلقة هامة من حلقات تطور القصة القصيرة في سورية .

****************************

ثانياً – القصة الفنية والواقع الاجتماعي :

اكتسب الاتجاه الواقعي عمقاً ووضوحاً على أيدي من نسميهم بأعلام القصة الفنية من كتاب الرابطة ، إذ استطاع هؤلاء أن يكونوا أكثر تمكناً من أقرانهم في مقاربة الواقعية فنياً، حيث عكست كتاباتهم وتصريحاتهم مفاهيم متطورة عن الكتابة القصصية الواقعية ، إذ استطاعوا أن يتخلصوا إلى حد كبير من سمة الانفعال وتضخيمه وتعميمه ، واقتربوا من العمق الإنساني ذي العلاقة المتكافئة ما بين الذات والموضوع . وسرعان ما ظهر من خلال صورة النماذج القصصية الواقعية الفنية التي قدموها ، أن الاتجاه الوقائعي كان خطوة أولى بدائية للواقعية عموماً ولفن القصة القصيرة بوجه خاص ، فعندما أتيح لتجربة التيار الجديد أن تلامس وهج الواقع الاجتماعي ، وتمتلك وعياً فنياً وفكرياً ، أمكن ظهور نماذج قصصية ذات مستوى فني متقدم .
معالم الرؤية الجديدة :
وكان هذا الوعي قد ظهر على شكل ارتقاء ملموس في النظرة والتصور ، فيما يخص فن القص خاصة والأدب عامة ، وذلك من خلال مقررات مؤتمر الكتاب العرب عام 1954 . فثمة فارق واضح بين ما طرحه البيان التأسيسي لرابطة الكتاب السوريين ، وبين بنود مقررات رابطة الكتاب العرب ، فقد رأينا كيف أن البيان التأسيسي قد انصرف إلى طرح مبادئ عامة تتلخص بالدعوة إلى الالتزام وتوحيد الجهود لتصب في خدمة الإنسان ، ومهاجمة نزعة ( الفن للفن ) والتأكيد على الحرية والسلام .. في حين سعت مقررات المؤتمر إلى تناول قضايا في صميم المشكلات الأدبية ، وعلى رأسها الأدب الجديد المغاير لكل ما سلف ، وتحديد الأسس التي يجب أن تتوافر فيه ليساير ركب التطور ، كما قدمت هذه المقررات تصوراً للعلاقة التي يجب أن تقوم بين الأديب ومجتمعه ، فلم تهمل الذات على حساب الموضوع ، بل نظرت إلى الأدب على أنه " تجربة اجتماعية مكثفة في فرد موهوب ، تصور بيئته من خلال ذاته ، وتشارك في حياة شعبه وتطويرها في سبيل مجتمع أحسن . " كما لمسنا تطوراً نوعياً في فهم العلاقة القائمة ما بين الشكل والمضمون في العمل الأدبي ، فهما كل واحد ، والمحتوى المتطور هو الذي يبدع شكله الجديد . ولم تكن هذه النظرة الجديدة لتظهر لولا المسيرة الجديدة التي اختطها الأدب العربي الحديث بشتى أنواعه الأدبية ، فلم تكن مسألة التطور في حقيقتها فهماً نظرياً للأدب وقضاياه بقدر ما كانت تفاعلاً خلاقاً يغتني بمسيرته وتجاربه النابعة من عوامل كثيرة ومتشعبة ، كانت مرحلة الخمسينات أرضاً خصبة لها ، ففيها أطلت بوادر رؤى فكرية وفنية جديدة ، عنيت النصوص الأدبية بتمثلها ودمجها في عطاءات أصيلة .
لقد عمقت القصة الفنية الواقعية علاقتها بحياة الفئات الشعبية ، وأبرزت خصائصها الوطنية ، من دون أن يعني ذلك الإيغال في عرض الجانب الرث الظاهري البائس من حياة هذه الفئات ، على نحو ما فعلت القصة الوقائعية ، كما توجهت القصة الواقعية الفنية إلى رصد الإحساسات الإنسانية ، وتناولت بعمق موضوع الإنسان الصغير المسحوق ، وأزمة المثقف ، وصراع القيم ، وهموم بناء المجتمع الجديد ، والحب والصبوات الإنسانية ، كما ركزت على مشاعر الانتماء ، وارتباط الإنسان بالوطن .. وقد كان التعامل مع الموضوع يتم من خلال رؤية الأديب ذات الخصوصية ، وعمق نظرته وشمولها وسعة دلالتها ، وهذا ما خلق توازناً ما بين ذات الكاتب وموضوع المعالجة . وضمن هذا الإطار من العلاقة بين الأديب ونصه القصصي برزت الشخصية القصصية حية متطورة تمتلك نموها من داخلها ، كما لعبت الوسائل الفنية المعهودة في القص ، مثل اللقطات الجانبية والمعادل الموضوعي ورسم الجو وإحياء الذكرى .. لعبت دورها بشكل مبدع يخدم زاوية محددة للنظر ، وفق تأليف فني بدا وثيق الصلة بذاتية الكاتب أو وجهة نظره ، فوسائل القص المختلفة لم تأخذ شكل التوظيف الظاهري المفتعل ، كما رأينا في نماذج من قصص الوقائع ، بل نجدها قد تغلغلت في بنية القصة وشاركت في بناء الحدث وتطوره ، بل أخذت في بعض الأحيان دور الحدث نفسه ، أو أنها غدت الشكل والمحتوى في آن معاً .
ولعل أهم ما يمكن ملاحظته في القصة الفنية الواقعية أنها أخذت تدور غالباً حول محور واحد يشكل رؤية الكاتب على نحو شامل ، وهذه الرؤية – كما سنرى – تكاد تكون لازمة تتكرر في جميع القصص عبر التنوع الحي ، بحيث نرى كل كاتب قد امتلك تميزه في الأسلوب والموضوعات ، عندما استطاعت قصصه أن تحدد أطراً لشخصيته الفنية المتمحورة حول ذاتها والدائرة أيضاً في فلك هموم أساسها الواقع الاجتماعي المأزوم .
وقد تنوعت أشكال القصة الفنية تبعاً لتنوع الوسائل التعبيرية والرؤية الفكرية ، ووصل هذا التنوع إلى مرتبة إثارة قضايا عامة في الحياة الإنسانية ، بحيث انطلقت من الذات المحلية بقسماتها المحددة ، إلى آفاق عامة تلامس المشاعر الإنسانية ، تصلح لأن تعمم بنمذجة محببة ، في هذا الإطار يمكن أن نرصد عدداً من الموضوعات كالعلاقة بين الضعف البشري والقوة الإنسانية ، والعلاقة بين الطبيعة والإنسان ، وظاهرية المواقف العامة للحياة اليومية وما تكشف عنه من بعد إنساني .. وأصبح بالإمكان أن ننظر إلى أسماء قصصية امتلكت تميزاً واضحاً عندما سعت إلى تعميق الرؤية وتعميمها فنياً ، كما عند سعيد حورانية وحسيب كيالي وآخرين ، غير أن الظروف القاسية التي عاشها أنصار الاتجاه الواقعي في أواخر الخمسينات السورية من القرن الماضي ، كانت أقسى من أن تتيح المناخ الملائم للاستمرار والتجدد ، وبالتالي كان من البديهي أن لا تستطيع ترسيخ تقاليد هامة في الكتابة الواقعية ، تلك التي ستأتي في فترات لاحقة من عمر الكتابة السردية العربية عامة .
اللغة القصصية :
حققت لغة القصة الفنية الواقعية تطوراً ملحوظاً ، على مستوى السرد والحوار معاً ، فلغة السرد أصبحت أكثر طواعية وانسياباً ، وتخلصت إلى حد كبير من بقايا الأسلوب الإنشائي الذي وسم القصة في فترات سابقة بسمته ، كما ابتعدت عن جاهزية العبارة أو ما يعرف بالمسكوكات اللغوية .. أما لغة الحوار فقد اتصفت بالتنوع والغنى ، ولم تحسم فيها القضية لصالح شكل معين ، عامي أو فصيح ، كما توضح في دراسة هذا الجانب عند تناولنا لدراسة مقررات مؤتمر الكتاب العرب ، بل كان الباعث على اختيار الشكل الحاجات الفنية التعبيرية ، وبصورة عامة فقد توضح لدى أعلام القصة الواقعية الفنية ارتقاء نوعي في فهم مهمات اللغة القصصية والحوار ، وتجاوزوا إلى حد بعيد المفهوم الماثل عند ليان ديراني مثلاً أو أعلام القصة الوقائعية الآخرين .
التجريب في القصة الفنية :
حاولت بعض التجارب القصصية السير في طريق المغامرة وارتياد آفاق بكر ، في محاولة للبحث عن أشكال جديدة متطورة تخدم رؤية الكاتب ونزوعه الفني نحو التميز ، كما بدا واضحاً في قصص سعيد حورانية وشوقي بغدادي وعادل أبو شنب ، على الرغم من أن نصيب هذه التجارب من النجاح لم يكن في مستوى واحد ، تبعاً لعوامل عدة ربما كان أبرزها قضية العلاقة بين الذات والموضوع في العمل الأدبي ، فحيثما تطغى الذات كانت التجربة تصاب بالتضخم والافتعال ، فتفقد القدرة على التواصل وإثارة المعنى الجوهري للواقع ، لكن هذه التجارب بقيت علامة مميزة على درب القصة الفنية الواقعية.