من تأليف و دراسة الكاتب والمؤلف محمد شويحنة هذا الكتاب عن القصة القصيرة في أعمال الكتاب السوريين، نقدم الجزء الأول منه.

محمد شويحنة

القصة القصيرة

 

 الباب الأول

رابطة الكتاب السوريين – رابطة الكتاب العرب

دراسة في النشأة والتكوين

الفصل الأول
الواقع السياسي والاجتماعي

 

 

 

دراسة
مدخــــــــــل

( 1 )

كانت فترة الخمسينات في سورية مسرحاً لتطورات ملموسة على مستويات متعددة ، تتلامح خلفها تطلعات اجتماعية وسياسية غايتها التخلص من حال التخلف والاضطراب ، وصولاً إلى حال من الاستقرار تتيح فرصة النهضة وإعادة التشكيل الاجتماعي على أسس مختلفة ومغايرة لما كانت عليه الحال في الفترات التي سبقت . وضمن هذا المناخ العام من التحول كان الأدب يعمل على تجاوز عقباته والتبشير بقيم جديدة ، وذلك عبر البحث الجاد والواعي عن أشكال في التعبير تكون أكثر مواءمة لتلبية متطلبات المرحلة ، وقد تجسد هذا من خلال مزاولة فنون أدبية مستحدثة، عدت في حينها طيعة وسريعة التلبية للحاجات القائمة . ومن هذه النقطة تحديداً ربما كانت القصة القصيرة بوجه خاص هي المرشحة أكثر من غيرها في تلك المرحلة للتعبير عن تطلعات ذلك الواقع المتغير.

ولعل الأبرز في تلك الفترة ، من حيث الثقل النوعي للكتابة الأدبية ، هو ذلك التحالف الذي قام بين الاتجاه الواقعي كمذهب طاغ في الأدب، وفن القصة القصيرة ، ذلك اللون الأدبي الجديد الذي وجد حضوره الحقيقي في أحضان المذهب الواقعي . إن البيئة المواتية التي قدمتها الواقعية للقصة القصيرة جعلت من هذه الأخيرة فرس رهان في السباق الأدبي، سباق بدا فيه الشعر العربي غير قادر على الاحتفاظ بالراية الريادية التقليدية ، أو المكانة المثلى بين الفنون الأدبية الأخرى.

وتعد فترة الخمسينات مرحلة تأسيس في الكتابة الواقعية ، فهي تقدم مادة دراسة فريدة ، سواء من ناحية التفجر والتصارع اللذين كانا يسودان القطر العربي السوري ، أو من ناحية هذا البروز المفاجئ لفن القصة القصيرة المتحالف مع المذهب الواقعي النشط في تلك المرحلة . ويجمع الباحثون في القصة السورية على أهمية هذه الفترة التحويلية التي مهدت السبل لقفزة تغدو فيها القصة القصيرة الفن الأدبي الأول ، بحيث أصبحت زاداً لا تروج صحيفة أو مجلة إن لم تتزود به . إن عدد الدراسات التي كتبت حول تلك الفترة ضئيل إذا ما قيس بالمستوى الفني الذي بلغته القصة القصيرة في عقد من الزمن ، عبر تطور لافت في أشكال الكتابة الواقعية ، تطور ينهض على أساس البعد الاجتماعي الذي برز حديثاً وكاد يستقطب مختلف أشكال الكتابة القصصية .

إن هذا التحالف بين القصة والواقعية سيؤكد لنا باستمرار حقيقة العلاقة ما بين القصة بإمكاناتها الموضوعية وفترات التحول والتشكل الاجتماعي.

ولعل اختيار نتاج القصة القصيرة لرابطة الكتاب السوريين حقلاً لدراسة تطور شكل الكتابة الفنية القصصية الواقعية في تلك الفترة من عقد الخمسينات ، يمتلك أهمية خاصة إذا علمنا أن جلَّ من كانوا يكتبون القصة آنئذ – ولا سيما في سورية – هم أعضاء في تلك الرابطة ، بل إن أهم حدث أدبي تنظيمي وثيق الصلة بالكتابة القصصية الواقعية ، كان ظهور رابطة الكتاب السوريين ، المؤمنة بالالتزام الجماعي ، والتي حشدت عدداً كبيراً من كتاب القصة القصيرة في شبه تظاهرة ، للتعبير عن قيم وأفكار وردت في بيان أصدرته عند ولادتها عام 1951. ويعد هذا البيان في الحقيقة من أهم الوثائق الأدبية التي عرفتها سورية في تاريخها الفكري الحديث ، ففيه التفات إلى ضرورة التنظيم وتضافر الجهود لإنتاج كتابة واقعية جديدة تثبت حضورها وفاعليتها وسط جو من التصارع والتجاذب ما بين القديم والحديث، وقد عملت رابطة الكتاب السوريين ، ومن بعدها رابطة الكتاب العرب التي تأسست عام 1954، من خلال مجمل ما صدر عنهما من نتاج فكري وفني ، على مواجهة الاتجاهات السائدة آنذاك ، من رومانسية ووجودية ومستغربة ، وعُدَّ ظهورهما آنئذ فاصلاً حقيقياً بين عهدين ، وحسماً للصراع الذي كان مستمراً منذ الثلاثينات بين أنصار القديم وأنصار الجديد . فقد دعا كتاب الرابطة إلى الكتابة الملتزمة ، وخاضوا صراعات ضد دعاة ( الفن للفن ) إذ رأوا في تلك الدعوات امتهاناً لمهمة الأدب ودوره الحقيقي ، ورفعوا مقابل ذلك شعار ( الفن في سبيل الحياة ) ، فشددوا في كتاباتهم النظرية ، ولا سيما في البيان التأسيسي لرابطة الكتاب السوريين ، على مجموعة من القضايا السياسية والاجتماعية والإنسانية ، وجدوا فيها ما يجسد أهم تطلعات الجيل الجديد الناهض في الخمسينات.

ولقد نما التيار الأدبي الجديد ، وتعاظم أنصاره في مختلف الأقطار العربية ، مما دفع أعضاء رابطة الكتاب السوريين في أواسط الخمسينات إلى كسر الطوق الإقليمي وتوسيع الدائرة لتشمل عدداً أكبر من الأدباء الملتزمين ، توحدهم القضايا والمشكلات المعيشة ، وتدفع بهم للتغيير أفكار ووسائل واحدة .. وقد دعيت رابطة الكتاب السوريين عقب مؤتمر أيلول عام 1954 برابطة الكتاب العرب ، وضمت إلى صفوفها طليعة المفكرين والأدباء في الوطن العربي ، مما أغنى الكتابة الأدبية الواقعية ، ولا سيما في جنس القصة القصيرة ، وساهم إلى حد كبير في تطور شكلها الفني ، فدفع بها خطوات في طريق تكامل بنائها الواقعي .

( 2 ) وإذا كانت هذه الدراسة تعنى أساساً بتناول أشكال الكتابة الواقعية في القصة القصيرة في أعمال رابطة الكتاب السوريين، وتطور هذه الأشكال تبعاً لنمو المفاهيم الفنية والفكرية ، فإن ما يعنيها أيضاً النظر في نشأة الرابطة وتكونها ، باعتبارها تاريخاً يكاد يكون منسياً ، بعد نصف قرن من الانطلاقة الأولى ، وخلال عمر لم يتجاوز السنوات العشر أساساً ، إذ أصيب الاتجاه الواقعي بضربة في الصميم أواخر الخمسينات ، الأمر الذي يدفع بالباحث إلى لمِّ ما تناثر من أوراق ، وجمع شتات الأفكار والوثائق المتفرقة للرابطة ، تلك التي ضاعت أو باتت وشيكة الضياع ، علَّ ذلك يسعف في جلاء صفحة من الحياة الأدبية السورية لحق بها الكثير من الطمس والتحوير.

من هذه الضرورة انقسمت الدراسة إلى بابين اثنين، سعى الأول منهما إلى البحث في نشأة رابطة الكتاب السوريين وتكوينها وتطورها لاحقاً إلى رابطة للكتاب العرب ، وقد جُعل الباب في أربعة فصول .. كان من شأن الأول منها النظر في الواقع السياسي والاجتماعي خلال ثلاثة عقود تبدأ من الثلاثينات، وكان هذا الفصل بمثابة مدخل تمهيدي يحدد البنية العامة للمجتمع العربي السوري ومفاصل تطوره والتبدلات المتصارعة في ساحته خلال تلك الفترة .

وتوجه الفصل الثاني إلى البحث في أصول التيار الجديد ( الأدب الواقعي الاجتماعي ) وأثر البنية الاجتماعية المتشكلة حديثاً في ظهوره ، والأسس التي نهض عليها . وقد تبدت هذه الأسس عبر عدد من الأدوار ، رأينا البحث والتدقيق في أبرزها المتمثل فـي :

دور أهم المجلات العربية الفكرية .
دور أبرز أعلام حركة التيار الجديد .
دور مصر في التأسيس للتيار الجديد .
دور الثقافة الأجنبية .
   وهذا الدور الأخير تحديداً قد توزع بحسب الأهمية ما بين تأثير الأدب الروسي ، وتأثير الفكر الماركسي ، والتأثيرات الأجنبية الأخرى ، لا سيما الأدبية منها . كما كان للاتصال الشخصي بالثقافة الأجنبية – خاصة الفرنسية – أثر واضح فـي هذا الدور . وتبع ذلك بحث في الترجمة وسبلها ومستوياتها وارتقائها النوعي في الخمسينات ، وأهم المترجمات الأدبية والفكرية ، ودور صحيفة النقاد السورية تحديداً في نشر المترجمات ، والتعريف بالنصوص الأجنبية ودراستها.

وعني الفصل الثالث بالتوثيق لتأسيس رابطة الكتاب السوريين وظهورها وتنظيمها الداخلي ونشاطها .. ومن ثم عرض الأفكار الرئيسة لبيان الرابطة التأسيسي ، وتحليل المواقف التي خرج بها التنظيم الأدبي الجديد .
وجاء الفصل الرابع توثيقاً لإنشاء رابطة الكتاب العرب ، كإحدى فعاليات ووقائع المؤتمر الأول للكتاب العرب عام 1954 ، وتبع ذلك نظرة في الجانب الفني والفكري للمقررات التي خرج بها الأدباء العرب ، وتبلور الوعي وتوحد الأهداف عند الأدباء المشاركين بعامة.

وسعى الباب الثاني إلى دراسة مفهوم الكتابة الواقعية وتطوره في القصة القصيرة عند كتاب الرابطة في سورية. وقد تركز هذا الباب في فصلين، جُعل الأول منهما توطئة للثاني ، فبحث في الجو القصصي لمرحلة ما قبل الرابطة ، والعلاقة بين المرحلتين وحدودها .. واختتم الفصل بدراسة البعد الاجتماعي في القصة القصيرة عند جيل ما قبل الرابطة وأهم قضاياه الفكرية والفنية ، وأثر مفهوم الواقعية عند ليان ديراني ( عضو الرابطة الأكبر سنًّا )، كنموذج لممارسة التأثير في الجيل اللاحق من كتاب الرابطة وفق المفاهيم المعلنة ذاتها.

أما الفصل الثاني فهو الذي يشغل حيز الدراسة الأكبر، وفيه رصد وتحليل لتطور مفهوم الكتابة الواقعية القصصية في أدب الرابطة. فانقسم الفصل وفق النتائج الأولية للبحث إلى قسمين أساسيين، تناول القسم الأول الواقعية على أنها ( وقائعية ) بحسب الفهم الذي توضح لنا من خلال نماذج عديدة ركزت على الوقائع الاجتماعية ، وكانت تملك النظرة ذاتها إلى الواقع، إذ تتعامل وإياه من زاوية الانفعالية والذاتية والترسم التسجيلي لتفاصيل الحياة اليومية .. وقد توجه البحث إلى تبيان الفارق النوعي مابين الواقعية والوقائعية ، سواء من حيث التمهيد النظري لدراسة النصوص القصصية، أو من خلال دراسة هذه النصوص وتحليلها واستقراء الظاهرة .. وقد تبين أثر المفهوم الواقعي في الشكل الفني للقصة القصيرة – ضمن مستوى الوقائع – في تراجع هذا الشكل وقصوره في النهوض بأعباء الصورة الفنية، ومبدأ التعميم الفني أو النمذجة.

وتناول القسم الثاني الواقعية في مفهومها الفني، الحيوي المتطور، والعلاقة ما بين هذا المفهوم ونجاحات الشكل الفني التي سعى إلى تحقيقها بعض كتاب القصة القصيرة في الرابطة ، وذلك عبر تنوع الموضوعات وتكامل الرؤية الفنية وانسجامها في كل واحد محدد ، تبدو العلاقة فيه متناغمة بين الذات والموضوع ، من خلال مبدأ الوحدة والتركيز ، وإضاءة جانب من الحياة الإنسانية يبدو في القصة شكلاً منسجماً مع الأصول النظرية والقدرات الموضوعية لفن القصة القصيرة ، هذا إلى ظاهرة خفوت الصوت الأيديولوجي الدعاوي الذي كان ماثلاً إلى حد كبير في القصص الوقائعية.

وقد عمدت الدراسة التحليلية في كلا المستويين ( الوقائعي والواقعي ) إلى رصد وتوضيح العلاقة ما بين المفاهيم النظرية في أذهان الكتاب حول الواقعية وقضاياها النظرية والتطبيقية وحدودها .. والقصة القصيرة وأصولها ومدارسها ، مما قد يساعد على اجتلاء الصورة الغامضة التي استمرت ردحاً من الزمن ، حول طبيعة هذه الأعمال القصصية التأسيسية التي قدمها كتاب الرابطة في سورية ، وحول قيمتها ومكانتها في الواقعية وتطور أشكالها الفنية. 


 

يبدأ تاريخ سورية الحديث فعلياً بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى مباشرة ، إذ وضعت الحرب حدًّا للسيطرة التركية العثمانية على سورية والمشرق العربي بعامة ، وفتحت الباب أمام مرحلة جديدة تماماً من حياة سورية ، اتضحت فيها بالتدريج معالم شخصية القطر العربي السوري الذي عمل جاهداً منذ ذلك الحين على تمييز نفسه بدور نضالي بارز ضد السيطرة الاستعمارية الجديدة ، وكذلك ضد واقع التجزئة الذي فرضته هذه السيطرة على الواقع العربي بأسره مشرقاً ومغرباً . في ذلك الحين انهارت الآمال المعلقة على الثورة العربية وقائدها فيصل بن الحسين ، ومني الاستقلال العربي بواقع جديد حمل الخديعة والخيبة معاً وسمي بالانتداب ، خضعت سورية ولبنان بموجبه للسيطرة الفرنسية ، وقد حمل الدلائل على النيات الاستعمارية للحلفاء ، فلم تكن كلمة الانتداب في حقيقتها أكثر من تعبير دبلوماسي ناعم لإخفاء النوايا الاستعمارية في المنطقة العربية ، إذ أصبح احتلالاً عسكرياً مباشراً ، استخدم القوة في قمع كل حركة تحررية في البلاد ، وركز السلطات كلها في يد ممثلي الاحتكارات الفرنسية وغيرها من الاحتكارات المتحالفة معها . وتطلب توطيد السلطة الاستعمارية إيجاد أساس اجتماعي مضمون ، لا سيما في الريف الذي حوله الفلاحون إلى ساحات معارك في السنوات الأولى من الاحتلال . ووجد المستعمرون ذلك الأساس في شخص الإقطاعيين وكبار الملاكين وزعماء العشائر وغيرهم .
في عهد الاحتلال الفرنسي لسورية ولبنان أصبح للإقطاعي السيادة الاقتصادية والاجتماعية ، سيادة دعمتها قوى الاحتلال ، فكان الفلاح يرى ويلمس عظم السلطة التي دعم بها الإقطاعي في كل المجالات ، فهو عين السلطة الفرنسية في الريف ، ويد الاستعمار المنفذة لمشاريعه ، بل كان الأمر يصل بالإقطاعيين في بعض الأحيان إلى حد تأليف الفرق المسلحة المناوئة للثورة التي اندلعت في سنوات الاحتلال الأولى ، وبلغت أوجها عام 1925 ، الذي شهد اشتعال الثورة السورية الكبرى في جنوب البلاد وشمالها ، وقراها ومدنها . وقد استطاعت قوى الثورة على الرغم من ضعف التنظيم وقلة الإمكانات مجابهة قوات الاحتلال الفرنسي ، مظهرة العجز العسكري للحكومة المنتدبة ، بالإضافة إلى العجز السياسي الذي بدا واضحاً منذ الأيام الأولى للانتداب . " وقد تركت البطولات والتضحيات الشعبية خلال الثورة أثراً لا يمحي في ذاكرة الشعب العربي السوري ، وتجلى ذلك واضحاً في الإنتاج الأدبي لفترة ما قبل الاستقلال ، بل انعكست أصداؤه في الفترة التي تلت . "
في فترة الانتداب دخلت البلاد في حال من الفوضى فلم تعرف الحد الأدنى من الاستقرار أو البناء الاجتماعي والثقافي ، فقد استغلت بعض الفئات ظروف الحرب العالمية الثانية ، وأفادت من المتاجرة بالمواد التموينية ، أومن التهريب ، أو من التعامل مع القوات الأجنبية ، واستمر هذا الوضع حتى بعد الاستقلال ، فقد ساد جو مستمر من القلق والتحفز والامتعاض ، وتعاقبت الهزات الداخلية والأزمات الاقتصادية ، وانعكس ذلك في كثرة الإقبال على إنشاء الأحزاب السياسية ، فكان هناك ( الحزب الشيوعي السوري ) عام 1924 ، و( حزب الشعب ) عام 1925 ، و( حزب الكتلة الوطنية ) عام 1927 ، و( الحزب السوري القومي الاجتماعي ) عام 1932 ، و ( عصبة العمل القومي ) عام 1943 ، و ( حزب البعث ) الذي بدأت جذوره عام ( 1943 ) ، يضاف إلى ذلك التجمعات الدينية السياسية التي لعبت أدواراً متفاوتة الأهمية في حياة القطر السياسية . وكانت النواحي البارزة في فكر هذه الأحزاب وسلوكها تتعلق بالتحرر الوطني وبناء الكيان السياسي للقطر ، وقد لوحظ في أكثر هذه الأحزاب التركيز على النواحي الاجتماعية ، وارتفعت الأصوات المنادية بالإصلاح أو بالنهضة أو بالانقلاب أو بالتغيير الشامل ، الأمر الذي ظهر واضحاً في المرآة الأدبية لهذه الفترة وللسنوات التي تلتها . وسوف يحتل كتاب القصة القصيرة الذين تناولتهم هذه الدراسة مكان الصدارة في الدعوة إلى الثورة والتغيير الشامل ، من أجل الوصول إلى إقامة دعائم المجتمع الجديد ، إذ اجتذبتهم بقوة هموم الناس ومعاناتهم اليومية ، حتى إن الموضوع الاجتماعي أصبح الموضوع المركزي في كتاباتهم ، ربما للمرة الأولى في التاريخ الطويل للأدب العربي في هذا القطر .
وقد ساعد تطور الأحداث السياسية العربية والعالمية على تعميق هذا الاتجاه الواقعي الاجتماعي ، فكان من نتائج الحرب العالمية الثانية ، تحطيم الخطر النازي الماحق ، وانتصار النظام الاشتراكي ، واكتساب حركة التحرر العربية والعالمية بعداً اجتماعياً إلى جانب البعد الوطني .
بعد الاستقلال تسلم التحالف الإقطاعي والبورجوازي السلطة السياسية ، وكان من الطبيعي أن هذا التحالف – بحكم مصالحه – غير قادر على حل المهام الوطنية المطروحة أمام المجتمع العربي السوري . وقد جاءت نكبة فلسطين عام 1948 لتعلن انهيار هذا التحالف النهائي ، وانقطاع صلته بالجماهير ، وكان أن اشتد الوضع السياسي الداخلي في سورية تأزماً ، وتقوض وضع الاقتصاد الوطني ، وتزايد تغلغل الاحتكارات الأمريكية والبريطانية في سورية ، وتأزمت التناقضات الاستعمارية من جراء ذلك . وقد استتبع هذا الواقع تدخل الجيش السوري في الحياة السياسية ، فوقعت أربعة انقلابات عسكرية ما بين عامي 1949 و 1951 ، عكست الصراع على السلطة السياسية بين مختلف التكتلات البورجوازية الإقطاعية المعتمدة على أوساط معينة في الجيش ، وعلى تأييد الاحتكارات الأمريكية والبريطانية ، ودخلت فئة من الضباط الشباب ميدان السياسة ، ولعبت دوراً حاسماً في حكم البلاد بشكل مباشر وغير مباشر . ولقد حظي انقلاب حسني الزعيم في البدء بمساندة الفئات البورجوازية الصغيرة ، التي كانت تتوقع من الحكومة الجديدة تطبيق برنامجها في الإصلاحات الاجتماعية والاقتصادية ، كما دعمت انقلاب الزعيم أديب الشيشكلي في 19 ك1 عام 1949 ، لأنه وقع تحت شعار الدفاع عن النظام الجمهوري في سورية ، وضد خطط توحيد سورية مع العراق الملكي ومع الأردن الملكي .
وكانت قد أجريت في هذه السنة انتخابات للجمعية التأسيسية ، وسيطر على أغلبية المقاعد ممثلو الإقطاع والبورجوازية التجارية الناشئة ، وهم أنفسهم الذين ورثوا السلطة من عهد الانتداب . ولكن بنتيجة فوز بعض العناصر التقدمية من أبناء الفئة الوسطى ، وكذلك من بين ضباط الجيش ، أمكن طرح مبادئ متقدمة نسبياً في مجال الإصلاح الاجتماعي ، وإدخالها في الدستور الذي أقرته الجمعية التأسيسية ، والذي نص على أن الحكومة يجب أن تحرر المواطنين من كابوس الفقر والمرض والإهمال والخوف ، بإقامة نظام اجتماعي واقتصادي سليم ، من شأنه أن يحقق العدالة الاجتماعية ، وأن يحمي العامل والفلاح ، وأن يضمن الأمن للضعاف والخائفين ، وأن يمكن كل مواطن من التمتع بخيرات البلد .
ويشير د . حسام الخطيب إلى أن سورية في تلك الفترة " كانت منهمكة انهماكاً شديداً بمشكلة تأسيس الحكم الوطني ، والقضاء على آثار السيطرة الأجنبية ، ووضعت مسألة الإصلاح الداخلي في المرتبة الثانية . لكن وجود تحالف الإقطاع والبورجوازية التجارية على رأس الحركة الوطنية ، فسح المجال للفساد السياسي والديماغوجية والتلاعب وشراء الأصوات الانتخابية وهضم حقوق الفلاحين والعمال وإغلاق الفرص في وجه الشبيبة المتعلمة الناشئة ، مما أثار خيبة أمل كبيرة لدى الطليعة والجمهور . " وتبدت هذه الخيبة بل النقمة في الكثير من قصص الخمسينات .
لكن السياسة الداخلية الرجعية ، والخارجية الموالية للإمبريالية التي انتهجتها الأنظمة الديكتاتورية العسكرية ، أدت بصورة محتمة إلى عزل هذه الأنظمة ، وإلى توطد الحركة الديمقراطية المعادية لها . ففي شباط عام 1954 تم القضاء على نظام الشيشكلي من خلال حركة تمرد مدعومة شعبياً ، فألغي الدستور الذي فرضه على الشعب ، وحُل حزبه وتبعثر معاونوه ، وانحسرت موجة البطش والإرهاب التي حملتها أيام حكم هذا الديكتاتور . وسرعان ما حاول التحالف القديم للإقطاع والبورجوازية التجارية الاستئثار ثانية بالسلطة ، ولكنه في هذه المرة وجد نفسه في مواجهة تحد قوي من اليسار الناشئ ، وأمكن الاتفاق بين القوى السياسية المختلفة على إجراء انتخابات شاملة ، وأمكن لهذه الانتخابات أن تجري في جو نسبي من الحرية والنزاهة عام 1954 ، وأن تفسح المجال لممثلي القوى الجديدة للوصول إلى البرلمان لأول مرة في تاريخ سورية ، وربما في تاريخ البلاد العربية الحديث . وأقبلت البلاد على النصف الثاني من الخمسينات ، وسط زخم جماهيري تصدره خاصة كل من حزب البعث العربي الاشتراكي ، والحزب الشيوعي السوري ، مقابل انزواء الأحزاب التقليدية ( الشعب والوطني ) ، والحزب القومي السوري ، وحركة التحرير . وقد تتوج ذلك الزخم الجماهيري بالوحدة السورية المصرية عام 1958 ، في مناخ قومي يميزه صعود نجم جمال عبد الناصر ، وتوطد الأواصر مع المعسكر الاشتراكي ، خاصــة بعد معارك عام 1956 في مصر.
وكان لهذا الوضع الجديد انعكاسه القوي في المجال الأدبي ، إذ برز التياران القومي العربي والواقعي الاجتماعي في هذه الفترة ، واحتلا واجهة الساحة الأدبية ، ولا سيما في النثر القصصي حتى نهاية الخمسينات تقريباً .
كان قيام الجمهورية العربية المتحدة ثورة كبرى في تاريخ العرب المعاصر ، ومؤشراً هاماً على اتجاه التطور في البلدان العربية نحو التحرر والقضاء على التجزئة والتخلف . لقد حملت الوحدة معها آمالاً عريضة تصبو إلى عهد جديد من البناء والكفاح في سبيل الوطن العربي كله ، ولكن الأحلام سرعان ما تبددت جزئياً أو كلياً ، لأن كل فئة من الناس تصورت الوحدة على هواها . لقد اتصف نظام الوحدة في الواقع بالمركزية والهيمنة التامة للدولة ، فانعدمت المكتسبات الديمقراطية ، وألغيت جميع الأحزاب السياسية بناء على اتفاقات مسبقة بين قيادتي الإقليمين الشمالي والجنوبي ، وحلت محلها هيئة سياسية رسمية هي ( الاتحاد القومي ) كما جرى تأميم الصحف والمجلات ووسائل الإعلام بحيث أصبحت جميعها تنطق باسم الدولة ، إضافة إلى موجة من الاعتقالات شملت طليعة العناصر التقدمية ، وتجمعت عوامل داخلية وأخطاء في التطبيق ، وتدخلات خارجية ، استغلها التحالف البورجوازي الإقطاعي ، واستطاع في النهاية تحقيق انفصال سورية عن مصر ، على أثر انقلاب عسكري مفاجئ في 28 أيلول ، عام 1961 .
تميزت هذه المرحلة – من زاوية ما يهم هذه الدراسة – بصعود البورجوازية الوطنية ، بشريحتيها الأساسيتين ، الريفية والمدنية ، مؤلفة من الفلاحين أصحاب الملكيات الصغيرة والمتوسطة ، ومن العمال وصغار التجار وأصحاب الحرف أو المهن الحرة والباعة والأجراء ، وتمثلت قيادات هذه الفئات بالمتعلمين والمثقفين .
إن اتساع قواعد البورجوازية الوطنية في مطلع الاستقلال المحكوم بتحالف البورجوازية الكبيرة والإقطاع ، أدى إلى قيام تناقض رئيسي بين مصالح هذا التحالف وبين مصالح البورجوازية الوطنية الريفية والمدنية ، فأصبحت هذه القوى مرشحة لتصفية هذا التحالف وإسقاط مصالحه ، بعد أن ثبت عجزه عن المحافظة على الاستقلال الوطني واستسلامه لمصالح الاستعمار والإمبريالية . واستطاعت القوى الجديدة الصاعدة أن تلعب دور الحامل لأهداف الجماهير ، القائد لحركتها ، واستطاعت من دون أيديولوجية واضحة واستراتيجية محددة ، أن تسقط تحالف البورجوازية مع الإقطاع ، ورشحت قيادتها لا لتحقيق ما عجز هذا التحالف عن تحقيقه وحسب ، وإنما لإعطاء هذه القيادة دوراً تاريخياً مؤهلاً لإنجاز تحولات جذرية في البنية الاجتماعية والاقتصادية .
لقد أدركت هذه الفئات الشعبية العريضة أن نضالها في سبيل التحرر ، يجب ألا يتجه إلى المستعمر الأجنبي فحسب ، بل يجب أن يقترن بالنضال ضد الفئات التي تحاول الحلول محل المستعمر أيضاً مستبدلة بالقيود الأجنبية قيوداً محلية ذات طابع وطني في الظاهر ، ولكنها من حيث المحتوى والنتائج لا تختلف كثيراً عن قيود المستعمر .
ومن هذه الزاوية سنجد أن الاتجاه الواقعي الاجتماعي في قصص الرابطة أخذ يتنامى ويكتسب أهمية خاصة بوصفه انعكاساً حيًّا لمجمل الصراعات و التغيرات المتسارعة في مختلف جوانب الحياة الجديدة ، ومساهمة فعالة في مسألة إعادة التشكل الاجتماعي والثقافي ، وتوطيد دعائمه بوعي جديد ينهض على أسس من العدالة والحرية والديمقراطية .

الفصل الثاني
الواقـــــــع الثقافـــــــي والأدبـــــي

تحاول هذه المقدمة في الواقع الثقافي والأدبي ، أن ترصد الأسباب والدوافع التي أنتجت ملامح وعي فكري مغاير ، بدءاً من ثلاثينات هذا القرن ، وتتويجاً بمرحلة الخمسينات ، عندما بدأ يتبلور تيار جديد في الأدب والفكر ، وبخاصة على أيدي أعضاء رابطة الكتاب السوريين ، ومن بعدها رابطة الكتاب العرب ، إذ يتم تبيان طبيعة الدور الذي لعبه التنظيم الوليد للكتاب في تلك الفترة ، وأثر معطيات الواقع بمختلف فعالياته في إنتاج الحساسية الأدبية الجديدة . فما هي معالم هذا الواقع ؟

أثر البنية الاجتماعية في ظهور التيار الجديد :

تتصف البنية الاجتماعية لفترة الاستعمار الفرنسي في سورية ، بسيطرة العلاقات الإقطاعية على القسم الأكبر من الريف ، ورسوخ العادات والتقاليد الإقطاعية البالية في أعماق الجماهير الواسعة . وقد مكن الاستعمار الفرنسي لهذه العلاقات ورسخ جذورها ، وجعلها إحدى ركائزه الأساسية لإحكام سيطرته على البلاد بالتعاون مع الإقطاعية والبورجوازية التجارية . وقد أدى الانتشار النسبي للعلاقات الرأسمالية التي بدأت في بلاد الشام في أواخر العهد العثماني مع اتساع السوق الرأسمالية العربية ، إلى ازدياد قوة البورجوازية الوطنية ، ولا سيما البورجوازية التجارية ، ومن ثم الصناعية ، التي أخذت في ترسيخ أقدامها على أعتاب الحرب العالمية الثانية وفي أثنائها . واحتلت الطبقة الوسطى في هذه الفترة مكاناً مرموقاً ، وتمثلت في الريف بالفلاحين الأغنياء ، وقسم من الفلاحين المتوسطين ، وفي المدينة بمعلمي الحرف والتجار والمثقفين . وهذه الطبقة تشعبت اتجاهاتها ، وقامت بأدوار مختلفة بحكم موقعها بين الطبقات الدنيا .
وأدت بداية انتشار العلاقات الرأسمالية إلى بداية ظهور العمال والوحدات الصناعية الكبيرة نسبياً ، مما ساعد على بدء ظهور القوة العمالية ، وعلى النمو المطرد في الصناعة السورية .
ولم تكن الفئات المختلفة من الفلاحين الفقراء والعمال في وضع يمكنها في عهد السيطرة الاستعمارية من الاستقلال الفكري الذي يتيح نمو وعي فكري متحرر ومستقل ، لكنها على الرغم من ذلك استطاعت أن تلعب دوراً تحررياً ساعدت على إبرازه عوامل خارجية ، كان في طليعتها تنامي قوة الحركة العمالية العالمية ، وانتصار ثورة أكتوبر الاشتراكية في روسيا سنة 1917 ، وصعود حركة المد الفاشستي النازي الذي هدد حركة التحرر الوطني .
" وقد تم ظهور الأفكار الاشتراكية في سورية ولبنان قبل الحرب العالمية الثانية في الغالب على يد مثقفي البورجوازية الصغيرة الأكثر تقدمية ، الذين أعربوا عن آمال ومطامح الطبقات المستثمَرة المستعبدة . "
في تلك الفترة بدأت تدور رحى معركة اجتماعية كبرى بين القديم والحديث ، بين الفئات المتنفذة من إقطاعية ورأسمالية متحالفة مع الأجنبي ، وفئات أخرى مكونة من جموع الفلاحين والعمال الطامحين إلى إقامة نظام اجتماعي أكثر عدالة ، وإلى تحقيق استقلال حقيقي يحرر الاقتصاد الوطني من سيطرة الشركات الاحتكارية الأوربية .
وأمام التطورات الهامة التي شهدتها تلك الفترة ، بدا واضحاً تخلف الاتجاهات التقليدية التي سادت في الأدب العربي في النصف الأول من القرن العشرين . فلم تعد تلبي حاجات المرحلة الحاضرة ، أو تساير ركب المجتمع الجديد بفئاته المكونة من شرائح البورجوازية الصغيرة المدنية ومن العمال والفلاحين . لقد احتدمت بقوة في المرحلة الجديدة حركة الصراع من أجل التحرر الوطني ، وكان السعي مستمراً طوال الخمسينات إلى إنجاز مهمات الثورة الديمقراطية الوطنية . ولقد أصيبت الاتجاهات الفكرية والأدبية التقليدية بالعجز في مجال التعبير عن المجتمع الجديد ، سواء في مرحلته الجنينية ، وهو يتشكل في نضالات الشعب العربي في أواخر الأربعينات ومطلع الخمسينات ، أو هو ثمرة واقعية ملموسة لهذه النضالات . وكان من الطبيعي أن تنجلي تفاعلات الحركة الاجتماعية والثقافية الفنية في المرحلة الجديدة عن صياغات أدبية أكثر قدرة على التعبير عن المجتمع الجديد ، فظهر الاتجاه الواقعي الانتقادي الاجتماعي بأشكاله المختلفة ، بدءاً من البساطة والعفوية في تناول الحياة الشعبية ، وانتهاءً بتعميق المسيرة الواقعية الفنية وإغنائها من خلال البعد الإنساني الشامل . وقد عدَّ الدكتور حسام الخطيب مطلع الخمسينات الحد الفاصل بين عهد النهضة الأدبية القائمة على احتذاء البنى التقليدية وعهد النهضة المتطلعة إلى التغيير الجذري . لقد كانت إحدى أهم سمات الأدب الجديد رفض الرؤية الشعرية الانفعالية للحياة ، ورفض التأنق المختلق ، فالرؤية الواقعية الجديدة قامت على المواجهة والتحدي والرغبة في التغيير المستند إلى منظور فكري جديد ، يتناسب والمرحلة الجديدة من تطور المجتمع . ولعلنا نجد في رد شوقي بغدادي على سؤال حول ظروف نشأة رابطة الكتاب السوريين وتكونها ، ما يؤكد تعاظم وبروز التيار الجديد المتنامي ، الذي قاد إلى خلق تجمع أدبي منظم في مطلع الخمسينات .
يقول شوقي بغدادي :
" لم تخلق الرابطة بالتأكيد في فراغ . إنها في اعتقادي محصلة صعود تقدمي يساري على وجه التخصيص ، بدأ منذ الثلاثينات يأخذ شكله المنظم في نشاط الحزب الشيوعي ، وحزب البعث العربي ، وظهور مجموعة من الكتاب ، شعراء وقصاصين وكتاب مقالة ، في لبنان مثل عمر فاخوري ورئيف خوري ، وفي العراق مثل الجواهري ومحمد صالح بحر العلوم ، وفي سورية مثل ليان ديراني وشحادة الخوري وعلي خلقي وغيرهم ، منذ الأربعينات كانت كتاباتهم تناقش على الساحة الثقافية ، وتجسد ظاهرة تحول في مفهوم الأدب وضرورة التزام الأديب ، وعلاقته بالبيئة والطبقات الكادحة المحرومة . هذا الصعود الوطني اليساري الذي ظل مبعثراً في جهود فردية أو في الأدبيات الحزبية مع تصاعد دور البورجوازية الصغيرة كان لا بد أن يدفع إلى التفكير في ترجمة هذا التطور الاجتماعي والسياسي على الساحة الثقافية إلى إنشاء تكتل مواز له . أذكر على سبيل المثال استفتاءً ثقافياً نظمته جريدة ( النصر ) السورية ، بإشراف الآنسة فلك طرزي ، شارك فيه مجموعة من المثقفين السوريين في مطلع الخمسينات ، إذا لم تخني الذاكرة ، وقبل نشوء الرابطة رسمياً في عام 1951 ، شاركت فيه أنا شخصياً ، كطالب جامعي ذي نشاط أدبي بدأ يلفت النظر داخل الجامعة وخارجها ، إذ وجهت إليَّ أسئلة الاستفتاء ، ونشرت إجاباتي في عدد مستقل ، وكانت بعض الأسئلة تتعرض لمفهوم الالتزام في الأدب . والظاهر أن إجاباتي لاقت تجاوباً وقتها من المهتمين بهذا الموضوع ، فاستدعاني أستاذنا في الفلسفة والتربية الدكتور حكمة هاشم ، وناقشني في الإجابات التي نشرتها لي الجريدة المذكورة ، وكان واضحاً في طريقة مناقشته تأثره بضرورة الالتزام ، وفرحه بأفكار طالبه المتفتحة ، وتشجيعه لها . كما سعى أحد الصحفيين المغمورين وقتها ، والذي أصبح مشهوراً فيما بعد – وهو صديقنا الروائي حنا مينة – إلى طلب الاجتماع بي ، وتم اللقاء في أحد بيوت أقاربه ، حيث تبادلنا الحديث طويلاً حول هذا الموضوع ، وبدا واضحاً لي أن كثيرين يحملون أفكاري ويشجعونها بشكل أعمق وأنضج . ثم تعرفت على الأخوين الكاتبين المعروفين وقتها ، مواهب وحسيب الكيالي ، وكانا من أنصار هذا الاتجاه ، إضافة إلى رفاقي في الجامعة الذين كانوا يتناقشون طويلاً حول هذه الموضوعات ، من خلال هذه الصلات الاجتماعية والثقافية الجديدة الواسعة . "

الأسس التي قام عليها التيار الجديد :

برز الاتجاه الواقعي في الأدب العربي الحديث وتعزز في أعقاب الحرب العالمية الثانية ، وبلغ قمة زخمه في الخمسينات ، وقام في أحد أسسه الهامة – ربما من دون تصور متقن منظم – على النظرية المادية في المعرفة . فبعد قيام المعسكر الاشتراكي وتزايد حركات التحرر الوطني ، تهيأ الجو لشعور متفائل بالتعاطف وانتصار الثورة الاشتراكية ، وأخذت تظهر أحزاب اشتراكية ، وقفت ضد الثقافة الغربية ، واتجهت نحو الثقافة الاشتراكية ، وقد لعب الأدباء الذين ينتمون إليها دوراً هاماً في بعث حركة التيار الجديد ، وأصبحت أفكار الواقعية تتخمر لدى عدد كبير منهم ، شعراء وكتاباً ونقاداً طوال هذه الفترة ، " وغدا الهجوم على الرجعية بشتى مظاهرها السياسية والثقافية والاقتصادية بنية أساسية للأدب الواقعي " .
وسوف نحاول تتبع أهم معالم هذا التيار ، تلك التي نعدها الأساس الفكري والأدبي لمجموعة الكتاب الذين انجلت عنهم ( رابطة الكتاب السوريين ) . وقد تمثلت هذه المعالم في أحد مستوياتها بظهور بعض المجلات الأدبية ، تجاوبت على صفحاتها الأفكار الجديدة في أشكال مختلفة ، وفي مستوى آخر بالأقلام التي ساهمت في توطيد ذلك الاتجاه وترسيخه . وقد تناولنا أصحاب التوجه الأدبي في إطار الفكر الثوري ، من دون أن نتتبع أعلام هذا الاتجاه من الذين يندرجون في تيار الواقعية السياسية ، مفضلين اعتبارهم خلفية فكرية ، ربما كان لها تأثيرات مختلفة وهامة ، لكنها لم تكن تمارس هذه التأثيرات بصورة فاعلة مباشرة . وكان من المهم أيضاً البحث في التأثير الذي مارسه الكتاب والمفكرون المصريون في كتاب الرابطة ، ومحاولة تلمس الحجم الحقيقي لمثل هذا التأثير ، وفي مستوى آخر رصد تيار مهم أسس لهذا التحول واستمر في رفده بنسغ ضروري لكل حركة ثقافية مفصلية ، ألا وهو تيار الترجمة وطبيعة توجهاته الكمية والنوعية في تلك الفترة .

أ – دور أهم المجلات الأدبية :

1 – مجلة ( الطليعة ) : ظهرت مابين عامي 1935 – 1939 في دمشق ، وقد مثلت الفكر البورجوازي الصغير التقدمي الثوري ، الذي كان ينتقل تدريجياً إلى مواقع الطبقات الشعبية الكادحة ، ويتبنى أكثر فأكثر الفلسفة الماركسية . ولقد حددت مجلة الطليعة في عدد صيف عام 1937 هدفها في خدمة الثقافة العربية بما يلي :
1- بعث كل ما هو تقدمي وجميل في أدب العرب وتاريخهم وتراثهم الفكري القديم
2- لم شعث الأدباء المتحررين ، وتشجيع الناشئين ذوي المواهب ، وتوجيههم في طريق الأدب القومي الشعبي .
3- إطلاع العالم العربي على الإنتاج الثقافي الأجنبي – الإنساني منه – المشبع بروح الديمقراطية والعطف على قضايا الشعوب الضعيفة .
وتبدو الروح الطبقية ظاهرة في هذا البرنامج ، فالدعوة إلى بعث التراث العربي القديم لم تشمل إلا الجانب التقدمي منه ، والأدب الذي دعت المجلة إليه ليس أدباً قومياً فحسب ، بل شعبياً أيضاً ، وقد أرادت المجلة أن تطلع القارئ العربي على الثقافة الأجنبية المشبعة بروح الديمقراطية والعطف على الشعوب المستضعفة ، أي أنها رفضت الأدب البورجوازي المتعالي ، وربطت الأدب بالشعب وحاجاته . وهكذا فاتجاه مجلة الطليعة قام على الاصطفاء ، سواء فيما يتصل بالتراث العربي القديم ، أو الثقافة الأجنبية المعاصرة ، اصطفاء كل ما هو تقدمي إنساني معاد للاستعمار والاضطهاد .
" كما رأت ( الطليعة ) أن العدو الأول للحركة الوطنية العربية وللإنسانية هو النازية في ألمانيا والفاشية في إيطاليا ، فوجهت نار انتقاداتها إليهما ، وفتحت صدرها لكل نقد يتعلق بالفاشية . " وبلغت هذه الحملة أوجها أثناء انعقاد مؤتمر مكافحة الفاشية السوري واللبناني الأول في بيروت ، أيار عام 1936 ، وكانت هذه الحملة ضرورية وصعبة في وقت اعتقد فيه خطأً قسم من المثقفين العرب بأن انتصار الفاشية سيجلب الحرية للأقطار العربية ، متناسين طبيعة الفاشية العدوانية ، وغير مدركين بأنها أشد أشكال الإمبريالية شراسة ووحشية ، ولم تكن المهمة الملقاة على عاتق القوى التقدمية العالمية بإقامة جبهة موحدة عالمية معادية للفاشية سهلة التحقيق في الأقطار العربية الرازحة بمعظمها تحت نير الاستعمار الإنكليزي والفرنسي ، والتي لم تذق مرارة الاستعباد النازي والاضطهاد الفاشستي .
لقد قطعت مجلة الطليعة أشواطاً بعيدة في ميدان الأدب والنقد الأدبي اليساريين ، فظهرت فيها مقالات تعرض نظرة الواقعية الاشتراكية في الأدب ، وتترجم نماذج من الأدب الاشتراكي ، وكتب سليم خياطة مقالاً بعنوان ( غوركي الذي فقدته الإنسانية ) ، فبين في هذا المقال أهمية غوركي بالنسبة إلى الأدب التقدمي العالمي ، ودوره في صياغة دعائم الاتجاه الواقعي الاشتراكي في الأدب . كما كتب رئيف خوري مقالاً آخر عن مكسيم غوركي مبرزاً أهميته الإنسانية ، يقول رئيف خوري: "كانت في غوركي عناصر أربعة أساسية ، وهي العناصر التي تؤلف الكاتب الثوري ، قل كل كاتب ثائر إن شئت :
1- الجرأة على مجابهة الواقع ، وعدم دفن الرأس في رمال الصحراء ، كما تفعل النعامة اختباءً من الصياد المطارد لها .
2- فهم العوامل التي سببت هذا الواقع فهماً صحيحاً مجرداً ، لا خطأ فيه ولا محاباة.
3- تخطيط الطريق لإزالة هذا الواقع وتبديله بواقع أحسن منه .
4- المضي قدماً في هذا الطريق بغير تردد أو هوادة حتى يتحقق النصر .
ثم يتابع رئيف خوري قوله : " ولا شك أن فن مكسيم غوركي لا يكمن في هذا فقط ، فهناك أشياء تميز بها أدبه بالإضافة إلى العناصر الأربعة ، مثل الاختيار الدقيق ، والأسلوب المسهب ، الذي يلاحق حركات النفس كما يلاحق دقائق الواقع ، والتكنيك القصصي الذي ورثه عن الكتاب الروس السابقين ، وتعميم الظاهرة بحيث تصبح نموذجاً واقعياً … إلخ . "
ويكشف يوسف يزبك في مقالة بعنوان ( الحركة الأدبية في العراق ) عن الوجه التقدمي النضالي للحركة الأدبية في القطر العراقي ، مبيناً دور الأدب بوصفه سلاحاً فعالاً في معركة التحرر والاستقلال . وظهر مقال آخر لنجلا عبد المسيح بعنوان " لقد حان لنا أن ننبه إلى القوى الجبارة الكامنة في نفوس الجماهير الشعبية ، فنعمل على تثقيفها وتنويرها " ، وفيه دعوة صريحة إلى شعبية الفن ، فالكاتبة ترى أن الجماهير الشعبية أساس الإنتاج المادي والروحي ، وكل اهتمام بهذه الجماهير يعني تفجير طاقات هائلة في شتى الميادين الاقتصادية والسياسية والثقافية ، وقد أجادت في إبراز الوضع السيئ للجماهير في تلك الأيام .. تخلف وجهل واستغلال لطاقاتها لا حد له .. ورغم ذلك كانت هذه الجماهير تخوض النضالات ضد السلطات الانتدابية ، وضد الإقطاع . "
وكان دأب هذه المقالات عموماً أن تشرح بوضوح وتبسيط جوانب النظرة الواقعية الجديدة ، لكنها لم تقف إلا على الجوانب الفكرية الأيديولوجية ، ولم تمض إلى ملامسة قضايا فنية تساهم في دفع الحركة الأدبية على نحو فاعل على طريق التجديد الحقيقي .
2 – مجلة ( الطريق ) : في مطلع الأربعينات صدرت مجلة ( الطريق ) في لبنان لتكمل ما سبقتها القيام به ، في ظروف أشد صعوبة ، مجلات أخرى من مثل : الإنسانية ، والدهور ، والطليعة ، وسواها ، من جهد في سبيل نشر الثقافة الوطنية الديمقراطية والدفاع عنها ، وتعميق الفكر الثوري وإغنائه ، والانفتاح على ثقافات العالم ، والاندماج بحركة الفكر العلمي الكوني الذي يؤسس للثورة ، ثورة التغيير وبناء العالم الجديد الذي ينهض على أنقاض العالم القديم الذي يتداعى.
وكانت الطريق بذلك مجلة للثقافة الوطنية الديموقراطية والفكر العلمي الثوري ، تناهض الفاشية وتدافع عن الصداقة مع الاتحاد السوفيتي ، وتناضل من أجل الاستقلال الوطني ، ومن أجل الجلاء ، وتدعو لمحاربة الأحلاف والقواعد العسكرية العدوانية ، والانخراط في حركة الدفاع عن السلم العالمي ضد أخطار الحروب ، وتناضل ضد المشروع الكتائبي الفاشي وضد الهجمة الصهيونية العنصرية ، وتعبئ المثقفين في جبهة ديمقراطية واسعة من أجل أن يكونوا في مجالات نشاطهم المتنوعة ، إبداعاً أدبياً وفنياً وإنتاجاً فكرياً ، ونشراً للمعرفة وتعميقاً لها ، أكثر ارتباطاً بقضايا شعوبهم ، معبرين بصدق عن آماله وطموحه الدائم إلى التحرر والتقدم ، أكثر ارتباطاً بالثورة وبتطورها عربياً وعالمياً .
وقد خرجت مجلة ( الطريق ) على القراء بمقالات نوعية جديدة في السياسة والفكر والاجتماع والأدب والنقد ، وكان من أبرز الدراسات في مجال النقد والدراسات الأدبية ، دراسة عن رواية ( الأم ) لمكسيم غوركي ، كتبها هاشم محسن الأمين ، وهي دراسة موسعة عن القصة الواقعية ، كما قدم لقصة أخرى بعنوان ( على هامش " أقوى من الموت " ) ، يتناول فيها بعض جوانب الواقعية الأوربية . ويكتب أنطون ثابت صاحب المجلة مقالة بعنوان ( الفكر والعمل ) يبين فيها نظرة الفلسفة الواقعية إلى العلاقة القائمة بين الفكر والعمل ، بين العمل الفكري والعمل اليدوي . أما أميلي فارس فقد كتبت مقالاً تحدث فيه عن افتقارنا إلى أدب مذهبي ، وفيه دلالة واضحة على نظرة الواقعية إلى الأدب بوصفه رديفاً للعقيدة والمبدأ .
ومن الملاحظ أن هذه الفترة من الأربعينات هي الفترة التي تم فيها شرح النظرة الواقعية في إطارها الفكري والفلسفي ، فقد شرحت المادية الدياليكتيكية والمادية التاريخية ، وترجمت مقالات نقدية حول الأدب التقدمي في العالم ، وعلى الأخص من فرنسا والاتحاد السوفيتي ، كما أن المثقفين العرب صاروا يطالعون نماذج من الشعر والقصة الواقعيين ، ولكن الدراسات الأدبية التطبيقية كانت محدودة ومحصورة تقريباً بكاتبين عربيين كبيرين هما عمر فاخوري ورئيف خوري اللذان سيأتي الحديث عن دورهما بعد صفحات . ولا بد هنا من الإشارة إلى الدور الذي لعبه بصورة خاصة أدب ( مكسيم غوركي ) في تحريك أقلام الاتجاه الواقعي ، فلقد انصب كثير من الدراسات على تناول جانب أو جوانب من شخصية غوركي وأعماله الأدبية .
3 – مجلة ( الثقافة الوطنية ) : إذا كانت مجلتا الطليعة والطريق قد مهدتا لظهور الاتجاه الواقعي ولعبتا دوراً تأسيسياً فيه ، فإن مجلة ( الثقافة الوطنية ) قد واكبت هذا الاتجاه واحتضنت أعلامه ، بل تبنت حركة ( رابطة الكتاب السوريين ) الأدبية الجديدة التي تولدت عنه مع مطلع الخمسينات ، فكانت إلى حد كبير الناطق الرسمي باسم الرابطة ، وعلى صفحاتها وجد الكثيرون من أعضائها فرصة لنشر معظم نتاجاتهم من شعر وقصة ودراسة . وقد نما هذا التعاون وتعاظم ولا سيما بعد تأسيس ( رابطة الكتاب العرب ) عام 1954 ، إذ بات من المؤكد أن نجد في كل عدد من أعداد هذه المجلة مجموعة لا بأس بها من ممثلي هذا التيار الجديد من مختلف الأقطار العربية . ولقد كانت الحركة القصصية ناشطة إلى حد بعيد ، وجل هذه القصص إنما يمتح من الرؤية الواقعية والواقعية الجديدة على نحو ما .
لقد أبرزت مجموعة الدراسات على صفحات هذه المجلة قضايا الأدب الجديد وعلاقته بالتراث والأدب الموجه ، وعلاقة الأديب بالجماهير ، وحرية الأديب ومسؤوليته ، كما تناولت دراسات أخرى أعلام الواقعية البارزين عربياً وعالمياً ، وقد لقي الأديب الواقعي عمر فاخوري اهتماماً كبيراً ، فتناولت بعض الأقلام جوانب كثيرة من أدبه وفكره ، وخرجت المجلة بأعداد ومحاور خاصة عن عمر فاخوري وفرح أنطون وأمين الريحاني وآخرين ..

ب – دور أبرز الأعلام في حركة التيار الجديد :
كان لأعلام الفكر اليساري في تلك الفترة من الأربعينات ، من أمثال رئيف خوري وعمر فاخوري وسلامة موسى وفرح أنطون وشحادة الخوري وآخرين ، أثر بعيد في صياغة فكر الرابطة وتوجهها منذ بداية تشكلها ، وقد بدا ذلك واضحاً في بيانها التأسيسي ، وفي أفكار مؤتمرها الأول عام 1954 ، وفي المناقشات الفكرية والأدبية التي كانت تعقدها على شكل ندوات مفتوحة في أول عهدها ، وقد أفاد عدد من كتاب الرابطة الذين التقيناهم ، أنهم تأثروا بأفكار هؤلاء ، باعتبار أنهم يشكلون طليعة الفكر التقدمي الحر في النصف الأول من القرن العشرين ، وإذ نقف مع بعض هؤلاء الأعلام ، إنما لنلقي نظرة على أهم الأفكار المتداولة في الساحة الثقافية حينها ، لنكون صورة عن الوسط الذي نشأ في مهاده تيار الواقعية في الأدب القصصي لرابطة الكتاب السوريين .
1 – رئيف خوري : " يعد رئيف خوري من مؤسسي المدرسة الواقعية في الأدب والنقد ، ولا نعرف – حسب المصادر التي بين أيدينا – أحداً سبقه إلى ذلك . ولا يختص رئيف بميزة السبق وحدها ، بل يعتبر من أغزر الكتاب الواقعيين إنتاجاً على الإطلاق ، فمنذ عام 1934 وحتى عام 1950 قدم ما يقارب الثلاثين عملاً من شعر ونثر وقصة ونقد ودراسة . "
وتتسم كتابات رئيف خوري باختيارات نوعية للأعلام والموضوعات ، فقد تناول الأدب العربي القديم والحديث بالنقد والدراسة ، ومن خلال رؤى مغايرة ، وقدم أبحاثاً متميزة في كل من امرئ القيس وعمر بن أبي ربيعة وأبي تمام والمعري ، كما قدم كتاباً كاملاً عن الأدب العربي بعنوان ( نصوص التعريف بالأدب العربي ) ، ودرس التاريخ العربي في كتابه ( مع العرب في التاريخ والأسطورة ) . أما في الأدب العربي الحديث فقد تناول بالدراسة كلاً من الزهاوي والرصافي وحافظ إبراهيم وأحمد شوقي وعمر فاخوري .. وله عدد من الدراسات الاجتماعية من مثل ( حقوق الإنسان ) المنشورة في مجلة الطليعة عام 1936 ، و كتاب ( الفكر العربي الحديث ) الصادر عام 1943 ، وكتـاب (الثورة الروسية ) الصادر عام 1945 ، وكتاب ( أمين الريحاني ) الصادر عام 1948.
وفي الفكر العالمي قدم عدداً من الدراسات ، مثل دراسته عن أدب مكسيم غوركي ، وكتابه عن باغنيني ، وترجمته كتاب ميخائيل كازاكيفيتش ( نجمة ) ، وهو قصة من الأدب السوفياتي عن الحرب العالمية الثانية ، وقد صدرت هذه الترجمة عام 1948 ، وكان آخر كتاب ترجمه بعنوان ( إن الأدب كان مسؤولاً ) عام 1948 ، لأندريه جدانوف ، وهو كتاب يعرض لوجهة النظر الجدانوفية في الأدب ، وقد ترافق هذا النشاط الثقافي لرئيف خوري بنشاط إبداعي فقدم نصوصاً في القصة والرواية والمسرحية الشعرية . " أما نشاطه العملي في الميدان السياسي فيكفي أن نشير إلى أنه كان من مؤسسي ( عصبة مكافحة النازية ) في تلك الفترة العصيبة من تاريخ لبنان والعالم . "
وما يعطي الأهمية لرئيف خوري في كل ذلك النتاج ، النظرة الواقعية إلى الأدب ، تلك النظرة التي تبناها كتاب الرابطة ، والتي تعتبر الأدب مسؤولية ، والأديب مسؤولاً ، والإنسان أغلى رأسمال ، والسعادة هدفاً ، وإزالة الاستغلال وإذلال الإنسان وسيلة . كما ترى هذه النظرة أن المجتمع – من حيث البنية والتركيب – واقع تدور فيه المصالح وتحكمه الصراعات .
وما يميز نظرة رئيف خوري إلى الأدب ، اهتمامه بالناحية الجمالية وطرق الأداء ، وهذا ما يظهر في كتابه ( الدراسة الأدبية ) الذي يدافع فيه عن النثر المرسل ، مظهراً جماله الفني ، كما يعقد مقارنة بين الأسلوبين العلمي والأدبي ، فيبرز روعة الأسلوب الأدبي وشدة تأثيره في النفوس ، ومن هذه الزاوية تنبع خطورة الأدب في رأيه ، إذ إن التأثير في القارئ لا يأتي من روعة المضمون فحسب ، بل من هذا النسغ الذي يتغلغل مع البناء الفني لكل أثر أدبي أيضاً.
2 – عمر فاخوري : مع عمر فاخوري تتأسس بوادر عهد جديد في الأدب ، علامته المميزة ضرورة الصلة الوثقى بين الأديب والناس ، وقد دعمت مختلف كتاباته تلك الصلة وأكدتها " فأجرى انعطافاً هاماً في الأدب العربي الحديث ، بمقالاته عن الأدب والأديب من لحم ودم ، والنزول إلى السوق ، وهجر البرج العاجي . كان مدرسة بحد ذاته ، دشنت لمرحلة الواقعية في الأدب العربي ، تلك المرحلة التي عرفتها نهاية النصف الأول من قرننا ، وامتدت على طول الخمسينات . فقد وجه عمر فاخوري بنقده الصائب العميق الساخر ، الضربة القاضية لمدرسة الرومانسية والبكاء والنواح ، وافتتح عهداً صحيًّا ، الأدب فيه معافى ، يعيش هموم الناس ويعبر عنها ، يلتزم بأنبل قضايا العصر ، السلم والتحرر والتقدم . " فما دام الأدب والفن ، في الأصل والجوهر ، انعكاساً حيًّا لحياة الناس والمجتمع ، فالجديد في الأدب والفن إنما هو النتاج الأدبي والفني الذي ينعكس فيه الجديد في حياة الناس والمجتمع انعكاساً حيًّا ، وهذا الجديد هو ما يولد وينمو ويتطور . إن ما يميز أدب عمر فاخوري هو الاتصال المستمر بالشعب وبالحياة ، والإخلاص العميق الذي لا حد له لقضية الشعب وللأدب نفسه . وليس بين أيدينا اليوم تراث ضخم لعمر فاخوري ، لكن ما خلفه من كتابات كان في وقته دعامة أساسية من دعامات الحركة الفكرية الثائرة بالبنى التقليدية التي سلفت ، وقد حفلت كتبه بهذه الموضوعات الجديدة جدة المرحلة ، تلك التي استجابت لدواعي التغيير ، ومهدت لهذه الدواعي في آن ، وأهم ما قدمه في هذا المجال كتابه الذائع ( كيف ينهض العرب ) ، وكتبه الأخرى من مثل : ( أديب في السوق ، الفصول الأربعة ، لا هوادة ، الباب المرصود .. ) إضافة إلى بعض القصص وجزء من رواية وبعض المترجمات .
ولقد كان عمر فاخوري على اتصال دائم بالثقافات الأجنبية والتراث العربي ، ففي باريس عرف ندوات الفن والنقد والآراء الاشتراكية ، تلك التي ساهمت إلى حد بعيد في تكوينه الفكري وتحديد اتجاهه ومذهبه في الأدب ، فهو يقول في رسالة الأديب كما يراها: " الأديب الحق من كان على اتصال دائم يقظ بهذا الوجود الذي يحدث عنه ، وبهؤلاء الناس الذين يتحدث عنهم – إليهم ، وهل الأدب إلا حديث عن الناس وعن الوجود ؟ ذلك هو الأديب حقًّا وصدقاً ، لا كما عرفته عصور الصناعة بأنه راوية للشعر ، حافظة للأمثال ، محيط بالأخبار ، آخذ من كل فن بطرف ، وهلمجرا … "
إن الأدب عبقرية وجهد ، يضاف إليهما شرط أساسي " هو أن يستمد المرء عناصر فنه وأدبه من الينبوعين اللذين لا يشح سلسبيلهما أبداً ، أعني الكون والحياة : كون لا تنفد روائعه ولا تحد صوره ، وحياة لن تزال متطورة متحولة ، فكأنه بعث مستمر في خلق جديد . " فالأدب عند عمر فاخوري تجديد ونمو دائم ، له حياة كحياة الكائن البشري ، وله هوية تخصه واستقلال يميزه .
وقد بين عمر فاخوري رأيه في قضية التراث والمعاصرة ، فقدم نظرة متوازنة تتسم برغبة في مواكبة العصر دون الانقطاع عن الماضي والجذور الأصيلة ، فهو لا يريد للكاتب أن يظل أسيراً للتراث لا يرى أمامه شيئاً سواه ، فالتراث بحسب مفهومه بداية انطلاق وأفق غروب في الوقت نفسه ، فمن يقع أسير التراث ينخلع عن عصره ، ومن ينسى التراث يفقد الأصالة . إن التعرف إلى التراث في رأيه لا يعني بحال من الأحوال النسج على منواله والتقيد بحرفيته ، ففي مثل هذا الوضع لا يولد جديد ولا يتطور قديم . أما الكاتب والشاعر الحقيقي فهو الذي يطلع على أصول الأدب ليصلب عوده وتصقل ملكته وتتكامل أدواته ، فإذا تم له ذلك راح يستمد من الطبيعة والحياة ، أما الأديب أو المتأدب الذي يحسب " أن في دراسة الكتب وسعة الرواية ما يكفي لجعله شاعراً مفلقاً وكاتباً مبدعاً ، فقد ضل سبيلاً . "
إن الأديب في رأي فاخوري كشّاف يقوم بارتياد الآفاق البعيدة ، ويغوص في بحر الحقيقة ليصطاد درها الثمين ، وبذلك يطبع أدبه بطابع الطرافة والعمق في آن ، وإن الإيغال في حقائق الكون والحياة مهمة أساسية من مهمات الأديب الأصيل ، ولا ينبغي على الأديب أن يتعامل مع الحقيقة السطحية العابرة والبسيطة .. بل هو مطالب بأن يكون كشَّافاً يرود منابع الكون والحياة ليقدم أدباً حيًّا لا جثة مزوقة . يقول في كتابه ( الباب المرصود ) : " الأدب الحق في زمن ما ، هو الذي يصور هذا الأدب ويعرب عنه .. أما الجثة فيبالغون في تنميقها وتزويقها ، لكنه ( تواليت ) الميت الذي لن يخدع طويلاً ، لن يخدع في صفوفنا هذه الفئة الفتية التي تطمع فيما هو خير من نسخ الأقدمين وأعسر من تقليدهم ، وتطمع إلى ما وراء صب الألفاظ في القوالب الجاهزة . "
" ولا يرى عمر فاخوري تعارضاً ولا تبايناً بين رسالة الأدب ومظاهر النشاط الأدبي الأخرى ، وكما أن لكل فرع من فروع هذا النشاط خصوصية معينة ، فإن للأدب خصوصية معينة ، فإذا كان الهدف العام لهذه النشاطات هو خلق إنسان الغد ، فإن لكل نشاط ناحية معينة يختص بها ويعنى ، فالعلم ليمكن الإنسان من السيطرة على قوى الطبيعة والاقتصاد لأموره المعيشية ، والسياسية لأموره الاجتماعية … بينما يختص الأدب بهندسة النفوس البشرية . " وكل هذه النشاطات تنصب في هدف واحد هو خلق ( إنسان الغد ) . وبما أن الهدف العام واحد لكل هذه النشاطات ، فإن عمر فاخوري يرى أن رسالة الأديب تفقد مضمونها إن لم تكن هناك سياسة توجهها . والسياسة ليست فرضاً ، إنما من الأمور الطبيعية ، فلا يمكن لإنسان ، أديباً كان أم غير أديب ، أن يصم أذنيه عما يجري حوله ، لا بد له أن يحدد موقفه ، لأن العصر نفسه يفرض عليه أن يحدد موقفه . يقول الفاخوري : " ولقد أخذ بعضهم على أديب أو ( متأدب ) ما اشتغاله بالسياسة، زعماً منهم أنه يسخر فنه وأدبه، بل ( الفن والأدب ) لأغراض لا أدري بم ينعتونها ، أوهم لا ينعتونها بشيء، مخافة أن يحملوا على الخروج من دائرة الغموض والإبهام التي يجدون فيها راحة نفوسهم، مكتفين بإيماءة يبدونها، أو لهجة يتصنعونها" .
إن ادعاء الحياد أمر باطل – في رأيه – ووهم محض وسجف شفاف يخفي وراءه الأديب موقفه الحقيقي ، وللحصول على أديب حيادي ، لا علاقة له بالسياسة ، ولا علاقة للسياسة به ، علينا أن نجرده من العاطفة والانفعال والشعور والحماسة ، ونخفف من حدة ذهنه قليلاً لنضمن ابتعاده عن المعسكرين معاً . هذا إذا بقي يحمل بعد كل هذا لقب أديب ، أو بقيت فيه معالم الإنسان الطبيعي . وهو من خلال ذلك يوجه نقداً ساخراً إلى بعض من يسمون كتاباً في عصره . يقول : " فإن كثيراً من كتابنا هم ذلك الرجل المسيخ الذي لو قطعت شرايينه لما أخرجت إلا حبراً ، ولو مزقت لحمه ، لما أخذت إلا ورقاً " . ويختتم الفصل بهذه العبارة العميقة : " لا بأس .. لا بأس بأن يظل الأديب رجلاً من لحم ودم " . وبهذا الأسلوب الساخر يرد عمر فاخوري على أولئك الذين يطالبون بحياد الأديب وعزلته .
وتتوجه الواقعية عند عمر فاخوري إلى المستقبل ، ولا تنحصر فيما هو قائم ، إنها كما يقول – رسم معالم إنسان الغد .. فهي خلق جديد ، ضفائره مجدولة من نزوع الجماهير الكادحة ، يقول عمر فاخوري : " إن في المجتمع حياة زاخرة ، لا تعد حياة أي فرد ، مهما يكن عظيماً ، بإزائها شيئاً مذكوراً . فكيف إذا كان هذا الفرد ولا هم له إلا أن يعيش متقلباً منكمشاً في نفسه ؟ وللجماهير التي تتعذب وتكدح مطالب وآمال ، ولها أمثلة عليها تتوق إليها ، وتتطلع نحوها ، وتيمم شطرها . قد يكون ذلك كله غامضاً في سرائرها ، موزعاً في ضمائرها ، يتلجلج في الأفئدة ، أو تتمتم به الألسن فهو ينتظر من يبين عنه ويبرزه في صورته المثلى ، فإذا لم يوجد هذا الأديب أو الفنان ، فإن المجتمع وحياته يظلان في الوجود .. في دنيا العمل والكدح هذه ، في دنيا الأمل والفرح هذه . " فالمطامح والآمال والمثل العليا التي تتوق إليها الجماهير التي تتعذب وتكدح ، هي هدف الأديب الواقعي ، من هنا يرى حنا عبود " أن الواقعية التي آمن بها ودعا إليها عمر فاخوري هي الواقعية الاشتراكية . إنها النظرة الطبقية إلى المجتمع ، وتحليل القوى الاجتماعية المتصارعة ، وتمييز الأقلية من الأكثرية ، والوقوف إلى جانب الجماهير العريضة التي سيكون المستقبل رهن إرادتها إن أحسنت صنعاً " .
إن مأثرة عمر فاخوري الكبيرة في جيله ، أنه ظل على اتصال دائم مستمر بالحياة ومشاكلها الكبرى ، وبالشعب وقضاياه الحيوية الأساسية . إنه لم ينفصل عن هذه الجماهير حتى في أحلك الظروف التي مر بها ، فقد كانت الحياة تجري زاخرة بالأعباء .. وهذه الجماهير تتحفز متلعة أعناقها إلى الكلمة الطيبة ، التي تنتظر فيها الإسهام والقيادة .. في تلك الفترة المحيرة اختار عمر فاخوري مكانه الصحيح ككاتب ، موحياً لمعاصريه وخلفه من الكتاب كيف يختارون عندما صاح صيحته الحارة : " في دنيا العمل والكدح هذه .. ليست الحياة لهواً ولعباً .. "
إن جيل أدباء الرابطة الشباب ليدين للفاخوري بالكثير .. فالخطاب الفكري الذي ميز كتاباته قد اختط منهجاً واضح القسمات للكتابة الواقعية الملتزمة ، وهذا الأثر الهام في البنية الثورية لفكر الرابطة في تلك الفترة عبرت عنه رابطة الكتاب السوريين في ذكرى عمر فاخوري الثامنة بالقول : " .. ولا جدال أبداً أن رابطتنا – رابطة الكتاب السوريين – التي اتخذت الحرية والسلام شعاراً لها ، قد تأثرت بذلك الرائد الذي شق أمامها وأمام غيرها الطريق ، فتضافرت أيدينا ، واتحدت حناجرنا ، وظل عمر معنا .. شاباً بين الشباب يلهمهم أن دور الأدباء أبداً في الطليعة ، فإذا جهدنا طوال السنوات الثلاث الماضيات – عمر الرابطة – شعراءً وكتاباً وباحثين .. أن نأخذ ذلك المكان ، فذاك لأن عمر قد ضرب لنا المثل من قبل ومهد الدرب .. نحن الآن نعرف كيف نكتب . "
3 – شحادة الخوري : لا بد قبل الحديث عن شحادة الخوري ، من الإشارة إلى أن هذا العلم البارز في حركة التيار الجديد كان نتاجاً أكثر مما كان تمهيداً لهذا النتاج موضوع الفصل . إنه مع مجموعة من الأعلام الآخرين ، أمثال لويس عوض ومحمود أمين العالم وعبد العظيم أنيس وحسين مروة .. يشكل عطاء فترة الخمسينات في الفكر الأدبي الثوري ، كما يمكن أن نعد رابطة الكتاب السوريين والعرب عطاء آخر يضاف إلى هذه الفترة ، بما أسست له ، وبما اغتنى بها ونما عبر الاهتمام والحوار والالتزام بمنطلق محدد في الكتابة .. لكن إدراج شحادة الخوري هنا ضمن الأعلام المؤثرين في نشوء الرابطة وتكونها ، ينطلق من اعتبار أساسي ، هو أنه أحد أبرز مؤسسي رابطة الكتاب السوريين ، ومن الأعضاء النشيطين في اتحاد الكتاب العرب فيما بعد ، وكان قد أصدر كتابه النقدي المسمى ( الأدب في الميدان ) في عام 1950 م ، أي قبل تأسيس الرابطة رسمياً بعام واحد . وقد شغل هذا الكتاب حيزاً كبيراً في الساحة الأدبية والفكرية والنقدية سنة ظهوره ، ولم تغيبه السنوات التالية . حتى إن حنا عبود قد ذهب إلى أن هذا الكتاب كان تلخيصاً في مبادئه العامة لنظرية رابطة الكتاب السوريين ، التي أخذت بمعظم الآراء التي طرحها شحادة الخوري منطلقاً من وجهة نظر اشتراكية واضحة شديدة التحديد . وعندما اتسعت رابطة الكتاب السوريين في الخمسينات إلى رابطة الكتاب العرب ، اتسعت هذه المبادئ لأنها ظلت في جوهرها تقوم على ما جاء به كتاب ( الأدب في الميدان ) .
– كتاب ( الأدب في الميدان ) : يقوم شحادة الخوري في كتابه بعدد من الدراسات والمقارنات الأدبية بغية الوصول إلى مفهوم محدد للأدب الجديد ، ذلك الأدب الثوري الذي يقوم على تجاوز الأطر التقليدية ويبشر بقيم إنسانية ويشيد بدورها الفاعل في التاريخ . " فيعرض ضمن هذا المنحى لأدب التشاؤم كما تمثله في أدب المعري وشوبنهور والوجودية ، ثم ينتقل إلى أدب الكفاح عارضاً ومقرظاً مواقف أدباء النضال في الأدب العربي الحديث ، وأخيراً يقدم إلى القارئ وجهة نظره في قيام أدب جديد . "
ويعرف الخوري الأدب بأنه " فن يكشف حقائق الكون والإنسان ، ومرآة للحياة تعكس أحداث الطبيعة والمجتمع ، لكن هذه المرآة يلزم ألا تكون منفعلة بل فاعلة . " كما أن الأدب سلاح لخدمة الحق والذود عن الحرية ، إنه بالأحرى ليس إلا الحديث عن الناس والوجود . وهكذا فهو يعد الأدب " وسيلة من وسائل البناء والنهوض الاجتماعي ، شريطة أن تتصل جذوره بالحياة . بالأرض والعاملين في الأرض ، وتتجه فروعه نحو بناء حياة فضلى ، ينال الناس منها حظًّا أوفر من النفع والحرية والسعادة . " فالأدب بهذا المعنى سلاح يرفعه الإنسان في وجه ظالميه ، إنه ليس وهماً بل كياناً ينشأ من البناء التحتي للمجتمع ، أي من حياة الناس وعلاقاتهم ، وإن كل تغيير في هذا البناء يستتبع تغييراً في البناء الفوقي أيضاً ، أي في الفن والأدب والفلسفة والحقوق والتشريع ، وما الصور الجديدة التي تظهر في حركات الأدب الحديث إلا تعبير عن بناء تحتي مستجد ومتواصل ، أخذت عناصره تتسرب إلى مجرى الحياة العامة .
وينطلق شحادة الخوري في نظرته هذه من فهم صحيح ودقيق للعملية الأدبية ودور الأدب ، عندما يربط بإحكام بين الأدب باعتباره بنية فوقية وبين البناء التحتي . وعلى هذا الأساس يعد الأدب تقدمياً إذا عبر عن القوى الصاعدة عبر الحركة الاجتماعية ، وأبرز الصراع المتنافر بينها وبين القوى الأخرى .
وهو يربط إلى ذلك بين الجهد الفكري والضرورات المادية والاجتماعية ، فيقول : "وجلية الأمر أن الجهد الفكري لا يستطيع أن يكون قوة محركة للجماهير وحافزاً على التقدم والرقي ، وباعثاً على الصعود بالبشر إلى مستوى أعلى من الإنسانية ، إلا إذا كان منبعثاً من الضرورات المادية والاجتماعية ، ملائماً لتدرج الحياة البشرية ، مفصحاً عن آمال الكثرة من أبناء الأرض ، وبكلمة .. أن يكون ثورياً " . إن الأدب المنشود الذي يسعى إليه الكاتب هو ذلك الأدب الذي يؤاخي بين المعنى والمبنى ، ويوفر الوضوح ، والوحدة العضوية ، ويرتبط بالحياة العامة ، ويظهر بالشكل الفني الراقي . كما يحدد الخوري علاقة الأدب بالمعارف الأخرى على النحو التالي :
" الاستعانة بالفلسفة التي تعطيه المنهج والمعرفة ، والاستعانة بالعلم الذي يعطيه المعارف الثابتة التي يطمئن لها العقل ، وأخيراً الاستعانة بالفن الذي يعطيه روعة الشكل ودقة التعبير . " ، ثم يؤكد على وجوب تحيز الأديب وانخراطه في السياسة ، فكل أديب سياسي ، والمحايد نفسه إنما يسهم في تثبيت الوضع القائم ، أي أنه ذو موقف سياسي . إن الأديب هو " من كان على اتصال دائم يقظ بهذا الوجود ، الوجود الذي يتحدث عنه ، وبهؤلاء الناس الذين يتحدث عنهم – إليهم . " من هنا يرى أن لا حياد في موقف الأديب ، إن مهمته الواجبة كما يحددها الخوري هي نقد الإنسان وما ينشئ الإنسان ، وتعميم الفضيلة والخير والتقدم ، أي أن يقدم ( ما يجب أن يكون ) وليس ( ما هو كائن ) ، " ولتحقيق هذا الغرض يلح على رفض الأدب الرومانتيكي والرمزي والانطباعي والوجودي والاستقبالي وفوق الطبيعي . "
ويوجه المؤلف سهام النقد إلى الأدب السائد في عصره ، فيرى أنه ما يزال يجتر المواضيع البالية المعزولة عن المجتمع ، المنكفئة على الذات ، والأدب الناشئ لا يرقى إلى مستوى الأدب السائد ، فهو حسير النظر ويهتم بالماضي أكثر من الحاضر ، وبالفرد أكثر من الجماعة ، وبالحلم أكثر من الواقع .
ومن أجل التواصل والتأثير في الجماهير يدعو المؤلف إلى بساطة تكون على غرار بساطة الفطرة عند العرب الأقدمين ، ويكون ذلك بإنتاج أسلوب أقل تعقيداً ، وبالسعي لنشر العلم والثقافة بين الجماهير .
إنه يريد لكل ذلك أن يتم من خلال نهج الواقعية التي يعرفها بأنها رسم الحياة الإنسانية بصدق وأمانة من دون الوقوف عند حدود التصوير ، حتى لا يغدو الأدب كما يسمى آلة فوتوغرافية ، إن الواقعية تستشرف المستقبل ، وتفيد من التراث فيما ينفع في السير نحو ذلك .
ويعد كتاب ( الأدب في الميدان ) من الدراسات الواقعية الرائدة ، جهد فيه المؤلف أن يضع أسساً وقوانين للأدب ، محاولاً الاقتراب من الدائرة العلمية ما أمكن ، وقد برز شحادة الخوري ناقداً مهتماً بالجدل والتوجيه ، أكثر من اهتمامه بالوصف والتفسير أو التحليل ، وخرج في أكثر الأحيان بنظرات صائبة دقيقة . ولم تقدم عطاءاته التالية إضافة تذكر إلى أفكاره في هذا الكتاب .

ج – دور مصر في التأسيس للتيار الجديد :
إذا كان الحديث عن المكونات قد خصَّ كلاً من سورية ولبنان حتى الآن ، فهذا لا يعني التقليل من الدور الذي ساهمت به الأقطار العربية الأخرى ، وعلى رأسها مصر والعراق ، ويتحدد هذا الدور بالنسبة لمصر بتأثير الواقعية السياسية ، كما سماها حنا عبود ، ولكن على نحو غير مباشر . فالقطر المصري كان الموئل الأول للديمقراطيين الثوريين المصريين منهم والسوريين الذين عبدوا الطريق أمام ظهور بوادر الفكر الاشتراكي العلمي . ففي مصر حمل في مستهل القرن العشرين كل من اللبنانيين فرح أنطون ، والدكتور شبلي شميل لواء الاشتراكية ، ودخل الدكتور شميل في معركة كتابية جريئة مع مجلتي الهلال والمقتطف اللتين كانتا تسفهان أغراض الاشتراكية وتعلنان عن مفاسدها . وكان سلامة موسى من أوائل الداعين للأفكار الاشتراكية ، وقد أسس في مصر الحزب الاشتراكي عام 1920 م ، وألف كتاباً عن الاشتراكية ، غرضه تنوير الرأي العام عن مفاهيمها ، مع بيان أغراضها في أوربا وأمريكا ، كما أخرج عام 1930 م كتاباً بعنوان ( في الحياة والأدب ) تطرق فيه إلى بحث النظريات الأدبية من خلال رؤية اشتراكية . وساهم نقولا حداد بكتاب آخر بعنوان ( الاشتراكية ) صدر في مصر عام 1920 م عن دار الهلال ، هذا إلى جانب أولى الترجمات للنظرية الاشتراكية والكتيبات والمنشورات السياسية الأخرى في هذا المجال . وقد لعبت الواقعية السياسية دوراً غير مباشر في التأثير ، فكانت خلفية عامة للثقافة الديمقراطية الثورية في ذلك الحين . وربما كان المضي في الحديث عن المؤثرات المصرية المباشرة يساعد في الكشف عن طبيعتها ، وتحديد الدور الذي لعبته في الأدب ، وفي تكوين الرؤية الفكرية الجديدة التي صدرت عن رابطة الكتاب السوريين .
إذاً ، هل هناك تأثير يذكر لتيارات مصرية معينة في الرابطة ، وما حجم هذا التأثير ؟
هذا السؤال قمنا بطرحه على مجموعة من أعضاء رابطة الكتاب السوريين ، فجاءت الردود على الشكل التالي :
1 – حسيب الكيالي : كان في مصر أدب يساري ضخم وأصيل ، تمثل في مجلة من أعظم ما صدر في العربية حتى الآن ، وهي مجلة ( الغد ) ، إضافة إلى عدد كبير من المنشورات اليسارية الخالصة ، الناصعة ، وقد قضى انقلاب 23 يوليو على هذا الأدب الشامخ ، وهو لا يزال في المهد .
2 – عبد المعين الملوحي : لم نتأثر بتيارات مصرية معينة في ذلك الوقت ، وأغلب الظن أن رابطة الكتاب السوريين كانت هي صاحبة التأثير ، وكان بيانها بادرة تنظيمية ونظرية .
3 – مراد السباعي : قرأت بعض ما كتب المازني وتوفيق الحكيم ومحمود تيمور وطه حسين ، ولكني لم أتأثر إطلاقاً بما قرأت .
4 – فاتح المدرس : كنا نقرأ الأدب المصري ، الجيد منه ، وبوجه خاص تراجم طه حسين ، لقد أحسن كثيراً إلينا بترجمته الأدب الفرنسي الحديث ، أما الكتاب المصريون الذين يشبهون كثيراً مستنقعات نهر النيل ، فكان تأثيرهم أقل من أن يذكر ، ويستثنى من ذلك عملاق أو اثنان فقط من كل الأدب المصري ، وكلنا يعرفهم .
5 – شوقي بغدادي : أذكر أن الكتاب المصريين كانوا يحتلون بالنسبة إلينا – نحن شباب الرابطة – منزلة أهم . مثل محمود تيمور وإبراهيم الورداني ويوسف الشاروني ، إضافة إلى الكتاب الكبار المعروفين مثل طه حسين والمازني والحكيم .. كنا نقرأ هؤلاء جيداً ونتابعهم باستمرار ، وكان لكل من هؤلاء وغيرهم نكهته الخاصة المؤثرة ، التي كنا نتذوقها جيداً ونناقش حولها من حين لآخر . صحيح أن هؤلاء لم يستطيعوا إشباع طموحاتنا الخاصة للكتابة الملتزمة ، ولكنهم كانوا حاضرين في ساحة اهتماماتنا المباشرة ، وفي اللاشعور إذا صح التعبير ، لأننا قرأناهم بنهم ولذة منذ أيام الطفولة ، ومعهم بدأنا حياتنا كقراء متلهفين وكتاب ناشئين .
6 – عادل أبو شنب : قرأنا طه حسين والعقاد والمازني والمنقلوطي ، بمتعة وتلمذة ، ولعل الأهم في هذه القراءات أنها أطلعتنا على نماذج من أساليب وأنماط الكتابة أكثر مما وضعتنا في المضمون الفكري والطبقي والسياسي . بهذا المعنى ، أي بمعنى التأثر بأساليب وأنماط الإنشاء ، كنا متأثرين ، أو ربما كنت وحدي .
7 – إحسان سركيس : الجيل الذي طلع منه كتاب الرابطة تأثر بما أعطته الحياة الأدبية في مصر ، لا من منظور الرابطة ، وإنما من خلال المنظور العام للأدب ، فما من أحد لم يقرأ شيئاً لطه حسين والعقاد وحقي والحكيم وتيمور ومندور ، فضلاً عن الثلاثي في الشعر ، شوقي وحافظ إبراهيم وخليل مطران . وكذلك أبو شادي ومحمود طه وناجي ورامي . فعلى هذا الصعيد العام يمكن أن نتحدث عن تأثير الأدب المصري ، أما على صعيد النهج الذي التزمته الرابطة ، فلا أعتقد أن هناك تأثيراً يذكر ، وإنما هناك تطلعات مماثلة لدى بعض الطلائع المصرية ، وبمعنى ما ، كان لكل قطر عربي حلبته في مجال التجديد الذي دعت إليه الرابطة ، فهناك تعاصر وتناظر ، ومن خلال ذلك لا بد من تبادل المؤثرات .
8 – صميم الشريف : تأثرت كغيري بجميع الكتاب ، ولا أكتمك أنني في بداية قراءاتي قد أعجبت بكتابات أحمد الصاوي محمد وطه حسين قبل أن يحتل هذا الإعجاب توفيق الحكيم ومحمود تيمور ويحيى حقي ، ومن ثم نجيب محفوظ وأمين يوسف غراب ، حتى إن هذا الأخير جعلني في فترة من الفترات أنحو نحوه في طريقة ( القفل ) . وبصورة عامة فإن فترة التأثر لم تطل لأني اكتشفت ذاتي وانطلقت بالاتجاه الواقعي الذي عرف عني ، والذي وجدت في بعض الكتاب المصريين صورة عنه .
9 – عبد الرزاق جعفر : في أثناء مناقشات أعضاء الرابطة ، وفي كتاباتهم ، كان يلاحظ مدى تأثرهم العميق بالكتاب الشباب في مصر ، وعلى الأخص نجيب محفوظ وعبد الرحمن الشرقاوي وعبد العظيم أنيس ومحمود أمين العالم ولطفي الخولي وعبد الرحمن الخميسي وغيرهم . إذ كانت تناقش مؤلفاتهم آنذاك بعد أن تقرأ وتلخص . كانت الرابطة تكلف أحد أعضائها بدراسة أثر أدبي ( رواية الأرض لعبد الرحمن الشرقاوي مثلاً ) ، وإلقاء تقرير عنه ، تجري مناقشة واسعة حوله ، وبعد ذلك يكتب عنه في الصحف المحلية . لكن هذا لا يعني أن أعضاء الرابطة لم يكن لهم أي اهتمام بالأدباء المصريين الكبار الآخرين ، بل على العكس تماماً ، إنهم كانوا يهتمون بطه حسين وتوفيق الحكيم وعباس محمود العقاد وغيرهم . لكنهم كانوا يرون في أدبهم أدباً جميلاً من حيث الصياغة والأسلوب ، لكنه ( أي هذا الأدب ) كان متأثراً بالماضي وضعيف التأثير في الحاضر . وكان ثمة تقدير خاص لأدب طه حسين وعبد القادر المازني .
10 – ليان ديراني : تأثرت كثيراً بجبران ونعيمة والمنفلوطي وأحمد حسن الزيات وطه حسين ، وأثرت فيَّ أيضاً قضايا التحرر الاجتماعي وتحرير المرأة .
– نتائج عامة :
1 – وجود تأثير يساري تمثل في عطاء مجلة ( الغــــد) والمنشورات اليسارية الأخرى ( الكيالي ) وفي عطاء الجيل الشاب المعاصر للرابطة ( جعفر ) .
2 – نفي التأثير المصري نفياً باتاً ( الملوحي ، السباعي ) ، أو النيل من قيمته ، ومن ثم حصره بكاتب أو كاتبين ( فاتح المدرس ) . وإذا كنا نجد في إجابة فاتح المدرس تبسطاً واستهانة بفكرة هذا التأثر ، بل تهكماً لاذعاً على طريقة الفنانين ، فيجب ألا يفوتنا أن كلاً من الملوحي والسباعي من الجيل المزمع بحث تأثيره ، مما يجعل الحديث عن التأثر بأناس من الجيل نفسه حديثاً فيه غضاضة ، أو لعل فيه انتقاصاً ..
3 – نفي التأثير اليساري المصري : فقد تم التأثر بالحياة الأدبية في مصر لا من خلال منظور الرابطة ، وإنما من خلال المنظور العام للأدب ، سواء من ناحية الجـــــــــــودة ( المدرس ، بغدادي ) أو من ناحية الاهتمام بالأساليب وأنماط الكتابة والإنشاء ، دون المضمون الفكري والطبقي والسياسي ( أبو شنب ، سركيس ) أو أكثر تحديداً : دون إشباع الطموح للكتابة الملتزمة ( بغدادي ) .
4 – التأكيد على تأثيرات جيل ما بعد النهضة ، المتمثل بـ طه حسين والعقاد والمازني والحكيم وحقي ومندور .. هذا التأكيد الذي تقدمه إلينا أكثر هذه الإجابات يقرب إلى الذهن حقيقة أن التأثير لم يتم من خلال المنظور الذي ألزمت الرابطة نفسها به ، حتى إن عبد المعين الملوحي يذهب إلى أن الذي حدث – من هذه الزاوية – إنما حدث بالاتجاه المعاكس . نفياً منه لوجود أي تيار مصري ذي منحى يساري مارس تأثيره ، وهنا يجب أن نشير إلى أن تأكيد حسيب الكيالي على وجود أدب يساري ضخم كان يمارس تأثيره من خلال مجلة ( الغد ) لا يقارب الحقيقة إذ إنه يعنى بالحديث عن فترة لاحقة ، عن فترة العطاء لا فترة التكوين بالنسبة إلى جيل الرابطة ، فقد صدرت مجلة ( الغد ) مع مطلع الخمسينات ، عهد كانت الرابطة قد ولدت ومضت في ممارسة نشاطها الجم . ومن هذا المنظور نفسه يتحدث عبد الرزاق جعفر عن تأثير جيل الشباب في مصر . والحال أن التأثير المصري في كتاب الرابطة قد وجد طريقه من خلال " رصانة العبارة التقليدية ، وإحكام الصيغ الأدبية الكلاسيكية ، والنكهة الخاصة المؤثرة .. " كل ذلك جعل منزلة الكتاب المصريين عند شباب الرابطة سامقة أثيرة .
أما التأثير العراقي – إن كان هنالك تأثير يذكر – فإنما ينحصر في رأينا ضمن عطارات الكتاب الذين كانوا هم أنفسهم أعضاء في رابطة الكتاب العرب ، أمثال عبد الملك نوري وغائب طعمة فرمان وعبد الوهاب البياتي وآخرين ، ممن قدموا الكثير من نتاجهم الواقعي ، لا سيما على صفحات مجلة ( الثقافة الجديدة ) .
لكننا يجب أن نلاحظ أن التأثير في حقيقته قد أخذ شكل تفاعل ثقافي ، وربما كانت مجموعة كبيرة من الكتاب العرب متأثرة بفكر الرابطة وأدبها وليس العكس ، كما يرى عبد المعين الملوحي ، وقد انجلى مؤتمر الكتاب العرب الأول عام 1954 م عن هذه الحقيقة ، ليصبح الكتاب السوريون البؤرة المنيرة التي جذبت إليها خيرة ممثلي التيار الواقعي الاجتماعي في الأدب العربي الحديث .
د – المؤثرات الأجنبية :
لقد تناول بحث مكونات التيار الجديد حتى الآن المؤثرات الداخلية التي برزت بشكل أساسي في حركة الصحافة ذات التوجه الأدبي اليساري ، أو من خلال بعض أقلام الفكر الأدبي الثوري . لكن المورد الأكثر عمقاً والأبعد تأثيراً كان بلا شك ما نقل من الآثار الأجنبية ، الفكرية منها والأدبية ، كما كان للاتصال الشخصي دوره الهام في تعزيز هذا المورد وإخصابه . هذا التأثير الأجنبي يتخذ صبغة أشد تركيزاً بالنسبة إلى الآثار المتسمة بالالتزام اليساري ، أو تلك التي سايرت هذا الاتجاه ، سواء أكانت هذه الآثار أدبية – ومنها بشكل خاص الآثار الكلاسيكية الروسية ، لا سيما في الرواية والقصة – أم نظرية تشرح النظرية المادية في المعرفة ، أو تتحدث عن الالتزام ومسؤولية الأديب وتوجيه الأدب وعلاقة الفن بالحياة الاجتماعية .. إلخ
ولما كان معظم نتاج الرابطة – ولا سيما القصصي منه – مجال بحثنا – قد جعل من الأدب والفكر الماركسي منظوراً عاماً لرؤيته ، أو إطاراً لهذه الرؤية – كما سيتضح في الدراسة التحليلية – آثرنا أن نوجه سؤالاً إلى بعض أعضاء الرابطة بشأن المؤثرات الأجنبية ، يكون على الشكل التالي :
– ما مدى تأثير الأدب الروسي والفكر الماركسي في كتابات الرابطة ، وفي كتابتك شخصياً ، وهل هناك تأثيرات أخرى ؟
بعض الردود ألزم نفسه بإجابة دقيقة ، وبعضها الآخر اتخذ صفة شخصية ليس إلا ، أو جاء عاماً من دون تحديد . وفيما يلي نعرض ما جاء في هذه الردود :
1- حسيب الكيالي : أثر الفكر الروسي الكلاسيكي فيًّ تأثيراً عميقاً حتى إن تشيخوف وغوركي وغارشين وتورغنيف وبوشكين وليرمنتوف وتولستوي ودستويفسكي كانوا شغلي الشاغل ، طوال سنوات ، وأما تشيخوف فقد قرأته كله وترجمت مسرحه جميعاً . ولا أظن أن أدباً آخر قد استحوذ عليَّ كما فعل الأدب الروسي ، بعد أن قرأت كل تشارلز ديكنز وستندال وفلوبير . موباسان عند الفرنسيين ، وهمنغواي عند الأنكلو سكسون ، ولوركا عند الإسبان ، وميخائيل سيباستبيان عند الرومان ، كان لهم تأثير لكن لا يبلغ زخم الأدب الروسي . وأما الفكر الماركسي فلم نتعمقه ، لا أنا ولا الرابطة ، ولم أطلع عليه إلا من خلال ترجمات الحزب الشيوعي السوري لكتابات ستالين اللينينية . وأما من كانوا مجازين مثلي بالحقوق فقد اطلعوا على الفكر الماركسي الاقتصادي خاصة ، من دراساتهم المدرسية للاقتصاد عموماً ، وهي دراسات قاصرة . ولا أظن أن أحداً من أفراد الرابطة قد ألم إلماماً عميقاً بالماركسية . غير ، ربما – إحسان سركيس .
2 – عبد الرزاق جعفر : الأدب الروسي عملاق . هذه هي النظرة السائدة آنذاك بين معظم أعضاء الرابطة ولا سيما أدب تولستوي ودستويفسكي وتشيكوف وغوركي . ولكن هذا لا يمنع احترام الأدب الفرنسي الرائع : هوغو ، بلزاك ، أناتول فرانس ، أراغون ، ألفرد دو موسيه .. أو الأدب الإنكليزي : ديكنز ، شيكسبير ، أوسكار وايلد .. أو الأدب الأمريكي ، أو الإفريقي ، أو الإيطالي ، أو الأدب الأمريكي اللاتيني ، أو غيرها من الآداب ..
المهم أن أعضاء رابطة الكتاب العرب آنذاك كانوا يقرؤون بنهم ، وكانوا يبحثون بين السطور ، ويدرسون الآثار الأدبية بعمق ، ويرون ما فيها من جمال وأسلوب وواقعية ، ليستفيدوا منها في كتاباتهم ، ولينبهوا الأذهان إليها . كان هناك تأثير قوي للأدب العالمي الضخم ، بصرف النظر عن منبته .
في ذلك الوقت كان على كل مثقف أن يكمل ثقافته بدراسة الفلسفة الماركسية ، والمادية التاريخية ، لذا كان على أعضاء الرابطة أن يقرؤوا هذه الفلسفة ، ويتوسعوا في قراءتها لإتمام ثقافتهم .
3 – مراد السباعي : كان للأدب الروسي بوجه خاص ، وللأدب الغربي بوجه عام تأثيره الكبير في أسلوبي القصصي .
4 – شوقي بغدادي : الحقيقة أن تأثرنا بالفكر الماركسي كان أكبر من تأثرنا بالأدب الروسي ، ذلك أن هذا الأدب لم ينقل في روائعه الكبرى إلى العربية بشكل واسع مؤثر إلا بعد تأسيس الرابطة بسنوات قليلة ، وخاصة في إنتاج ( دار اليقظة العربية ) بدمشق ، التي أصدرت هذه الروائع ، لكبار الكتاب الروس ، مثل تولستوي وديستويفسكي وتورغنيف وبوشكين وغوركي وغيرهم .. وذلك في أوائل الخمسينات ، وبعد تأسيس الرابطة بعامين على ما أذكر ، أي بدءاً من عام 1953 م . ولكن هذا لا يمنع بالطبع من الاعتراف بأن هذه الروائع احتلت المكانة الأولى من اهتماماتنا وشغفنا وخاصة أنها تصدر لأول مرة على ما أذكر بنصوصها الضخمة الكاملة . لكن الفكر الماركسي كتوجه أساسي ، ظل هو الخلفية العميقة التي كانت تلعب دورها الأكبر في طموحاتنا لإنتاج أدب عربي تقدمي جديد .
وغني عن الذكر أننا لم نستطع تحقيق هذه الطموحات تماماً في التطبيق والممارسة الفنية ، بسبب ثقافاتنا المتنوعة والمتضاربة أحياناً ، وبتأثير من منشئنا الطبقي الذي كان مثقلاً بأحلام البورجوازية الصغيرة ورومانسياتها السائدة . إلا أن الفكر الماركسي ظل هو المرشد العام الذي كان يخفف على الأقل من شطحات الرومانسية وطغيان النزعة الذاتية.
ينسحب هذا الكلام بالدرجة الأولى على شباب الرابطة الذين كانوا دون الثلاثين من عمرهم ، أما الآخرون مثل مواهب وحسيب الكيالي وليان ديراني ، فكانوا أقل إنتاجاً ولكنهم كانوا أبعد عن هيمنة الطابع الرومانسي ، بسبب فارق السن أو النضج الفكري . إلا أن الشباب كانوا أكثر اهتماماً بتقنيات العمل الفني والرغبة في التجديد فيها . ويتضح هذا من الناحية النظرية على الأقل في المقدمة النظرية التي كتبتها لمجموعتي القصصية الأولى ( حينا يبصق دماً ) حيث يبدو واضحاً هذا الاهتمام بالتجديد والمؤثرات الأدبية الأجنبية الأخرى – غير الروسية – مثل الأدب الفرنسي والأمريكي بشكل خاص .
5 – إحسان سركيس : لا شك في أن معظم أعضاء الرابطة كانوا متأثرين بالماركسية ، بشكل أو بآخر ، تبعاً لمنحى أكثريتهم السياسي ، وإن يكن هذا التأثير متفاوتاً وغير شامل دائماً لمكونات الماركسية كلها من سياسي واقتصادي وفلسفي . كما أن تأثير الأدب الروسي كان شيئاً لا ينكر ، إذ من المعروف أن الأدب الروسي قبل ثورة أكتوبر كان فيه أعلام كبار في القصة والرواية والمسرحية والشعر . وبهذا الأدب تأثر الكثيرون ، وكانت له ترجمات في أيدي الناس ، ثم تواصلت الترجمات في النصف الثاني من الأربعينات والخمسينات ، إذ كان مترجماً لبوشكين وليرمنتوف وتولستوي وتشيكوف وغوغول وديستوفسكي ، كما بدأت الترجمات تترى بالنسبة لغوركي في الرواية والقصة ، وماياكوفسكي في الشعر . ثم شُرع في الترجمة لجيل ما بعد الثورة : إهرنبورغ ، فادييف ، شولوخوف ، مارشاك .. إلخ . وأعتقد أن تأثير غوركي كان كبيراً في هذا المجال . وبذلك يمكن القول بأن الفكر الماركسي والأدب الروسي كان لهما تأثير كبير ، ولكن دون أن يستغرق ذلك المؤثرات الأخرى ، من خلال الآداب العالمية ولا سيما التقدمي منها .
أما فيما يتعلق بي شخصياً فقد كانت بداية توجهي نحو الأدب ، انطلاقاً من أدبنا العربي قديمه وحديثه ، ثم الأدب الفرنسي والآداب العالمية بعامة والدراسات التي تكتب حولها ، وأذكر أنني كنت أقرأ ما تيسر لي من مجلة ( الليترفرنيز ) ثم صرفت اهتماماً أكبر للأدب الروسي ، وقرأت الكثير من قديمه وحديثه . ولربما يسرت في ذلك معرفتي باللغتين الفرنسية والإنجليزية . وقد ترجمت في حينه قصة ( كتلة الشحم ) مع مقدمة لها لموباسان ، كما ترجمت منفرداً أو بالاشتراك مع عضو الرابطة الشاعر الأستاذ نصوح فاخوري ، بعض أشعار وكتابات ومسرحيات ماياكوفسكي . أما ما يتعلق بالماركسية والتأثر بها ، فقد بدأت أطلع عليها في سن مبكرة ، وتبعاً لنوع النشاط الفكري الأدبي الذي كرست له جهدي واهتمامي ، فقد كنت معنياً بتعمقها ، والواقع أنها أصبحت جزءاً من مكوناتي الفكرية والأدبية .
6 – عبد المعين الملوحي : كان التأثير الأول للفكر الروسي في أدب الرابطة ، ثم كان للأدب الروسي خاصة ، والأدب التقدمي في العالم التأثير الثاني . ولعل ارتباط الكتاب بمجتمعهم كان هو الباعث لهم على البحث عن الفكر الماركسي والأدب التقدمي .
7 – فاتح المدرس : الأدب الروسي أدب رصين ، ومعلموه كبار . لقد تأثرت بطبيعة الحال كغيري ، بتشيخوف وغوركي . وعذبني كثيراً ديستويفسكي . وقد تأثرت بالفكر الماركسي من زاوية العدالة المطلقة في توزيع العمل . وعلى هذا الأساس جاء التأثير في كتاباتي . فقصصي مبنية على أساس أن العدالة الاجتماعية هي التي تؤدي إلى تفهم جمال العالم ، وجمال العالم يقود بشكل أوتوماتيكي إلى عبادة الحرية ، وأن عبادة الحرية تأتي كنتيجة حتمية للتشريع الفاضل ..
8 – عادل أبو شنب : قرأنا الأدب الروسي واطلعنا على الفكر الماركسي . أظن أن تأثيرهما في بعض كتاب الرابطة كان واضحاً ، كحنا مينة والكياليين وحورانية وبغدادي . وأظن أن القصة الوافدة المترجمة بجميع أنماطها وانتماءاتها قد تركت بصماتها في ثقافتنا . القصة الفرنسية على سبيل المثال : غي دي موباسان ، والقصة الأمريكية : وليم سارويان ، هذا الأرمني الرائع الذي تُرجم مبكراً في سورية . لكنني أكاد أجزم أن كتاب الرابطة باستثناء قلة كانوا مشدودين إلى الأدب الروسي ، وأحياناً إلى الأدب السوفيتي .
9 – صميم الشريف : كل أديب وكل كاتب تأثر دون شك بالأدب الروسي ، ولعل كتاب القصة عموماً كانوا أكثر تأثراً بشيخ كتاب القصة الروس ( أنطون تشيخوف ) ، غير أن تأثير غوركي في أدب الرابطة كان كبيراً ، فقد وجدوا فيه معلماً اشتراكياً كبيراً . وبصورة عامة كان تأثير الأدب الروسي في كتاب الرابطة أقوى من تأثير الفكر الماركسي .. وقد متح كتاب الرابطة كما متح غيرهم من إنتاج ديستويفسكي وتولستوي وغوغول وتشيخوف وبوشكين أكثر مما متحوا من إنتاج غوركي وتورجنيف ، وماياكوفسكي وإهرنبورغ .. وقد ألقى هذا الأدب بتأثيراته البعيدة آنذاك ، ولكن ..! هل كان الأدب الروسي – السوفياتي الوحيد الذي ألقى بظله على الكتاب ، وأعطى كل هذا الفيض من التأثير ؟ وهل هو وحده الذي لعب ذلك الدور الكبير في بلورة عطاء رابطة الكتاب العرب والسوريين ؟!
بالرجوع إلى تلك الفترة ، وبعيداً عن إنتاج الكتاب العرب ومؤلفاتهم المؤثرة الفاعلة إلى حد ما ، نلمس ظاهرة ترجمة الأدب العالمي التي غزت الأسواق العربية ، وكان أبرز الترجمات التي ظهرت على فترات متقاربة ، هي تلك التي ظهرت للأدب الفرنسي والأدب الأمريكي المعاصر ، وقد تأثر كتاب الرابطة بكتاب الواقعية الفرنسيين من أمثال بلزاك وفلوبير وجي دي موباسان ، على مختلف اتجاهاتهم في الواقعية ، كذلك كان تأثير جاك لندن من الرواد الأمريكيين ، ومن ثم المعاصرين : همنغواي ، شتاينبك ، رايت ، كالدويل ، سارويان . الذين أثروا بمؤلفاتهم التي قام بترجمة جلها إلى العربية الأستاذ منير البعلبكي .
10 – ليان ديراني : اطلعنا على الآداب الأجنبية لتولستوي وغوركي وتشيخوف وموباسان وبلزلك ، وترجمتُ رواية ( الأم ) لمكسيم غوركي .
– نتائج عامة :
يمكن توزيع المؤثرات الأجنبية من خلال الإجابات الآنفة ، وبحسب فعاليتها ، في ثلاثة أقسام رئيسة تتمثل في :
1- تأثير الأدب الروسي : أكدت جميع الردود بحسم قضية التأثر بالأدب الروسي الكلاسيكي وأعطته المرتبة الأولى من حيث مناحي العمق والإنسانية فيه . وقد تم هذا التأثير من خلال الأعلام البارزين أمثال تشيخوف وديستويفسكي وتولستوي وتورجنيف وبوشكين وليرمنتوف .. وركزت الردود أيضاً على الأثر البارز والفعال الذي تركه غوركي في حركة التيار الجديد . وتخلل بعض الإجابات إشارات ضئيلة إلى دور الأدب السوفيتي ، أو أدب ما بعد الثورة الاشتراكية .
2 – تأثير الفكر الماركسي : ينحصر تأثير الفكر الماركسي في كتّاب الرابطة باطلاع بعضهم على شذرات منه ، من دون دراسة أوتعمق ( الكيالي ) . وقد سبق الفكر الماركسي بتأثيره الأدب الروسي ( الملوحي ، بغدادي ) ، نظراً لتأخر نقل الآثار المهمة في الأدب الروسي إلى العربية ( بغدادي ) . ولا يفوت هذه الردود جميعها أن تعد الفكر الماركسي " توجهاً أساسياً تقدمياً " ، أو " خلفية فكرية " ، أو " ثقافة لا بد منها " ، أو " تمثيلاً للعدالة الاجتماعية " ، أو " مرشداً ضرورياً " . وربما دلت تلك الإشارات على مستوى معين للعلاقة مع الفكر الماركسي ، لا يصل بأية حال إلى درجة تبني هذا الفكر أو فهمه والتعامل معه من منظور علمي منظم ومتكامل ، بل إنه يظل منحصراً في مجال الثقافة الشخصية للكاتب ، وبمجرد الميل والتوجه العام .
وانطلاقاً من هذه الفكرة يذهب صميم الشريف إلى أن تأثير الأدب الروسي في كتاب الرابطة كان أقوى من تأثير الفكر الماركسي والأدب السوفيتي معاً . وسوف يتبين لنا بصورة أو بأخرى حجم التيار الرومانسي وفاعليته في قصص الرابطة ، الأمر الذي يناقض أساساً دعوى تأثير الفكر الماركسي بهذه القوة ، أو بهذا العمق .
3 – التأثيرات الأدبية الأجنبية الأخرى : تنحصر هذه التأثيرات بالترجمات الأدبية الغربية ، ويأتي دورها في المرتبة الثانية بعد الأدب الروسي ، ويحتل أعلام الأدب الفرنسي مكانة خاصة هنا ، بسبب عوامل عديدة منها النقل المبكر لآثار هذا الأدب ، والبعد الإنساني التحرري في هذا الأدب ، ووسيلة الاتصال الشخصي بالثقافة الفرنسية . ويمكن أن نعد من هؤلاء الأعلام المؤثرين بحسب الأهمية : موباسان وبلزاك وفلوبير وهوغو والفرد دو موسيه وأناتول فرانس وأراغون .. يأتي في المرتبة التالية أعلام الأدب الأمريكي أمثال : همنغواي وسارويان وشتاينبك وكالدويل ورايت .. ثم يأتي أعلام الأدب الإنكليزي ، وأهمهم : شكسبير وديكنز وأوسكار وايلد .. إضافة إلى تأثيرات أخرى طفيفة ومتفرقة من آداب ألمانية وإسبانية وإفريقية .
إن هذا النتاج المتنوع من الأدب العالمي الضخم ، ولا سيما التقدمي منه ، قد مارس تأثيره في أعضاء رابطة الكتاب العرب ، بصرف النظر عن منبته ( جعفر ، سركيس ) ، ولقد تركت القصة المترجمة بجميع أنماطها وانتماءاتها بصماتها في ثقافة هؤلاء الكتاب ( أبو شنب ) ، وأرضت نزوع شباب الرابطة واهتماماتهم فيما يخص تقنيات العمل الفني والرغبة في تجديدها ( بغدادي ) ، ورؤية ما في هذه الآثار من جمال وأسلوب وواقعية ( جعفر) .
4 – دلت هذه الردود على أن المؤثرات الأجنبية قد وجدت سبيلها ومارست وجودها من خلال الترجمة بالدرجة الأولى ، ومن خلال الاتصال الشخصي المباشر بالآداب الأجنبية واتجاهاتها الفكرية بالدرجة الثانية . وقد كان جل أعضاء الرابطة على معرفة وثيقة بلغة أجنبية أو أكثر ، ونخص بالذكر اللغة الفرنسية التي تم عن طريقها نقل معظم النتاج الأجنبي ، وقد كان كتاب الرابطة بشكل عام يتقنون اللغة الفرنسية بحكم النشأة وبرامج التعليم التي تلقوها خلال فترة الاحتلال الفرنسي لسورية ما بين عامي1920 – 1946م.
وبعد فربما كان المضي في الحديث عن المؤثرات الأجنبية يعطي صورة دقيقة عن فعالية الترجمة ومدى تأثيرها في فترة باتت السمة الأساسية فيها ، التطور المتسارع في مناحي الحياة العامة ، والبحث عن هوية خاصة مستقلة ، تدعم التحرر الوطني وتستجيب لحل المشكلات الاجتماعية ، عبر الاستفادة من تجربة الغرب ولا سيما المجتمع الاشتراكي ، بكل ما تحمله تلك التجربة من حرارة وجدة .
وإذا كان ما أحدثته الرابطة من حركة في قلب الحياة الأدبية في سورية ، قد تميز بتغيير في النظم الفكرية والأدبية السائدة على نحو واضح ، وشكل تياراً جديداً ، فلا بد من الإشارة في هذا المجال إلى التطور الحاسم في نوعية المنقول من الآثار الأجنبية ، وفي كميته أيضاً ، قياساً بالفترة السابقة ، بدءاً من مطالع القرن العشرين وحتى الثلاثينات منه . وقد يكون مفيداً إلقاء نظرة سريعة على أهم ما ظهر من هذه الآثار ، ولا سيما في فترة ما بين الحربين ، حتى نستطيع تلمس نقاط التطور ، والقفزة النوعية التي حصلت في حركة ترجمة الآثار الأجنبية الأدبية منها والفكرية النظرية .
إننا نلاحظ أولاً ذلك الفيض الكبير الذي غمر الأسواق الأدبية ، من القصص المترجم في لبنان ومصر . ومعظمه من القصص الخفيف التجاري الذي يشغل بالحادثة عن الفكرة والأدب . وقد ظهرت ترجمات أخرى ولا سيما في مصر ، وضعت في قمة اهتماماتها العناية بالأسلوب المتين ، والصياغة البليغة ، وعدت لبضع سنوات قمة النجاح في التعريب ، بل أقبل الناس عليها بشغف . ومن هذا النوع قرأ الناس لأحمد حسن الزيات ( آلام فيرتر ، ورافائيل ) وللمنفلوطي ( ماجدولين ، وبول وفيرجيني ، وفي سبيل التاج ) ، وبعض أقاصيص ( العبرات ) ولحافظ إبراهيم ( البؤساء ) الجزء الأول فحسب ، ولمحمد عوض محمد ( فاوست ) لغوته . ثم تطامن الأسلوب وفسح المجال لأداء الفكرة في أعمال التعريب المتأخرة ، مثل ( من الأدب التمثيلي اليوناني ) لطه حسين ، و ( نطاق من الجمد ، سانين ابن الطبيعة ) لإبراهيم عبد القادر المازني ، و ( اعترافات فتى العصر ) لألفرد دو موسيه ، و ( هكذا تكلم زرادشت ) لنيتشه ، وقد ظهرا بترجمة فيلكس فارس ، و( الأساطير الإغريقية من الإلياذة والأوديسة ) لدريني خشبة .. إلى جانب ما عرب من أدب شيكسبير وبعض الآداب الإنكليزية والروسية .
هذه المرحلة كما يرى الدكتور حسام الخطيب " كانت مرحلة تشكل ثقافي ، تفاعلت فيها عناصر الثقافة التقليدية مع عناصر الثقافة الأوربية ، وكان الانفتاح على الثقافة العالمية لا يمتلك الحدود الدنيا من الاصطفائية ، وقد بدا الإقبال واضحاً على آثار الأدب الرومانسي الذي يتغنى بالشرق ، ويفسح المجال للعاطفة المسرفة ، كما في كتابات غوته ولامارتين وهوغو . "
أما المكونات الأساسية لثقافة جيل الخمسينات وكتاب الرابطة تحديداً ، فقد تميزت من هذه المحاولات الأولية في الترجمة ، فارتقت ارتقاءً نوعياً ، وشقت لنفسها طريقاً جديدة ، قد لا تمت بصلة إلى التجربة السابقة في الترجمة أساساً ، وقد تولى عدد من كتاب الرابطة نقل ما رأوه مناسباً لتوجهاتهم الأدبية والفكرية . ولعل في كلمات شوقي بغدادي ما يعطي دلالة حية على ما ذهبنا إليه . يقول بغدادي : " بدأنا متعة القراءة ونحن مراهقون في مجلات ذلك العهد ( يقصد فترة بدايات الأربعينات تحديداً ) مـــع كرم ملحم كرم والزيات وأحمد أمين وألبير أديب ، ثم سهـيل إدريس في ( ألف ليلة وليلة ) و ( اللطائف المصورة ) و ( الرسالة ) و ( الثقافة ) و ( الأديب ) و ( الآداب ) . وكنا لا نزال نتخبط في حمى الشباب المبكر ، ودوامة الثقافة التي لا هدف لها إلا الفضول . إلا أننا مع بداية الخمسينات بدأنا نتحرر من هذه الفوضى ، وشرعنا نتواصل مع الطبقات الكادحة المضطهدة لكن الصاعدة ، ونفهم أكثر أن أية ثقافة لا تربط مصيرها بمصير هذه الطبقات فهي ثقافة محكوم عليها بالعقم . "
لقد كان الفكر التقدمي الاشتراكي مهاداً لهذه الحركة النشطة في الترجمة ، بل المتعاظمة بدءاً من مطلع الخمسينات . إن التيار الجديد الذي مثلته رابطة الكتاب السوريين والعرب ، تدعَّم بما نقل من المؤلفات الأيديولوجية حول النظرية المادية في المعرفة ، عن اللغة الفرنسية غالباً ، فضلاً عن ترجمة بعض الأدبيات الماركسية التي ترددت أصداؤها في نتاج بعض الأقلام في هذه الفترة . ولعل أهمها كتاب أندريه جدانوف ( إن الأدب كان مسؤولاً ) الذي قام بترجمته رئيف خوري ، وظهر سنة 1948 م ، وقد تضمن أهم المبادئ التي استند إليها كثير من الكتاب والنقاد اليساريين وقتها . من هذه المبادئ : تحيز الفنان ، إذ لا وجود للأديب المجرد ، وحرية الأديب المشروطة ، إذ إنه غير حر في أن يرتفع إلى البرج العاجي أو ينخفض ، والتفريق ما بين الواقعية والواقعية الاشتراكية ، والرومانتيكية الثورية والواقعية الاشتراكية ، والحرص على الوضوح والبساطة ، كي لا يكون الأدب للأقلية ، وكي لا يقف الشكل الفني حاجزاً بين الأدب والشعب . وقدم لهذه الدراسة هاشم أمين حيث تناول من خلالها حال الأدب العربي ، وشن هجوماً حاداً على سارتر ومذهبه .
ولا يقل كرّاس بليخانوف ( الفن والحياة الاجتماعية ) أهمية عن كرّاس جدانوف ، وخاصة في معالجته مسألة الفن للفن ، التي كانت محوراً من محاور المعارك الأدبية والفكرية الهامة التي خاضتها الرابطة في تلك المرحلة . وقد درس بليخانوف في كتابه شروط الإبداع الفني ، ونفعية الفن ، والخلاف بين الفنان وبيئته الاجتماعية ، والنظر إلى قيمة الفن من خلال محتواه الفكري ..
أما الترجمات الأدبية ، فقد نشطت حركتها كثيراً عن الآداب الاشتراكية والتقدمية في العالم ، واحتلت من بينها روائع الأدب الروسي مكانة خاصة . وهذا ما أكده مراسل مجلة الآداب في دمشق تعليقاً على تجارة الترجمة الرابحة ، عندما أشار إلى شغف قراء الخمسينات في كل من سورية والعراق بالترجمات ، وإلى إقبالهم على القصص الروسي بوجه خاص . وتكثر الملاحظات والتعليقات على ازدياد الترجمة من الآداب الواقعية ، ففي زاوية ( مع الكتب والكتاب ) في صحيفة ( النقاد ) الدمشقية ، يتحدث كاتب الزاوية عن منشورات دار اليقظة العربية بدمشق ، ثم يعلق على ذلك بقوله : وتتجه الدار بصورة خاصة إلى الأدب الروسي ، إنه يستهوي بإنسانيته الصوفية المعذبة قلوب الشباب العربي . ثم يذكر الكاتب أن الدكتور طه حسين قد أعلن منذ أسابيع بأن مركز الحركة الفكرية العربية قد انتقل إلى سورية ولبنان .
وقد يضيق بنا المجال إذا ما حاولنا تتبع الآثار الأجنبية الغزيرة التي نقلت إلى العربيـة ، لكن نظرة إلى أهم ما نشر من آداب أجنبية مترجمة ما بين عامي 1953 – 1954 في سورية ولبنان ، تعطينا فكرة جلية عن المنحى القوي الذي اتخذته الترجمة في تغذية الحساسية الأدبية لتلك الفترة . ولكن يجب ألا يفوتنا هنا أن نلفت النظر إلى أهمية الدور الذي قامت به صحيفة النقاد الدمشقية ، والمتمثل في إذكاء حركة الترجمة وبعث النشاط في الحياة الأدبية في سورية . إن ظهور هذه الصحيفة الأسبوعية أتاح الفرصة لنقل الكثير من القصص الأجنبية الحديثة ، فقدمت صفحاتها قصص موباسان وتشيخوف وغوركي وهمنغواي وسارويان ، وكثيرين غيرهم ، كما حفلت أيضاً بالمقالات التي تتناول القصة القصيرة بالنقد والتحليل ، وتتحدث عن خصائصها العديدة عند أربابها الكبار ، ولا بأس هنا من الإشارة إلى الجهود التي قدمها جلال فاروق الشريف في التعريف بنصوص الآداب الأجنبية ، لا سيما الروسي والسوفيتي منها ، فقد نشر الدراسات والترجمات التي تناولت الواقعية قبل الثورة الاشتراكية ، والواقعية الاشتراكية ، والمستقبلية ، وأهم مبادئ النقد الأدبي السوفيتي ، والمفهوم السوفيتي للأدب ، وكذلك ترجم العديد من نصوص ماياكوفسكي وإيسنين وغوركي وغيرهم ، وقام بنشر دراسات وافرة حول الآداب الأجنبية الأخرى ، من خلال زاوية أسبوعية في النقاد بعنوان : (أضواء على الأدب المعاصر ) . فتحدث عن الميتافيزيقية في الأدب المعاصر ، والصلة الإنسانية في الأدب بين القارئ والكاتب ، والعلاقة بين الأدب والجمال ، ثم شرح مذهب سارتر وفكرته في الالتزام ، وتحدث عن الوجودية والحرية والاختيار . وظهرت أكثر هذه المترجمات والدراسات في مجموعة كتب صدرت تباعاً .
وفي زاوية أخرى من صحيفة النقاد بعنوان : ( أعلام الأدب والفن ) ، وعلى مدى أربع سنوات ، كانت تظهر دراسات مسهبة ومعمقة ، يكتبها منير سليمان ، تنوعت موضوعاتها ، وتناولت حشداً كبيراً من أدباء العالم بالدراسة والتحليل .
لقد كان لصحيفة النقاد أثر بارز في التعريف بنصوص كثيرة من الأدب العالمي ، فضلاً عن مأثرتها الكبيرة في احتضان الحياة الأدبية في سورية طوال عقد من السنوات هو حصراً فترة وجود الرابطة .
هذه المؤثرات بتنوعها وتداخلها تأخر أكثرها بالظهور إلى ما بعد فترة تأسيس رابطة الكتاب السوريين ، لكن ذلك لا ينبغي أن يجعلنا نقلل من أهميتها في ترسيخ مكونات التيار الجديد ، إذ إن معظم كتاب الرابطة إن لم يكن كلهم كانوا على معرفة وثيقة باللغات الأجنبية ولا سيما الفرنسية ، فكانت هذه الآثار وغيرها – بالضرورة – زادهم الثقافي الهام ، حتى قبل نقلها إلى العربية . ويأتي الحديث عن هذه المترجمات هنا ضرورة ماسة لكونه يعطي صورة واضحة عن التفاعل والتواصل الحميم بالثقافة الأجنبية ، فضلاً عن أثرها الأكيد في رابطة الكتاب العرب ، تلك التي غدت أوسع شمولاً وتنظيماً .

الفصل الثالث

رابطة الكتاب السوريين

1 – تأسيس رابطة الكتاب السوريين :

في كل فترة من الفترات التي تتسم بالنشاط والتحرك الاجتماعي ، تطرح الحياة ويطرح الفكر موضوعات جديدة ، وتكون الإجابة عنها على مستوى الحاجة ، ومن خلال التجارب الذاتية ، والمأثور المحلي ، وبالاستناد إلى مستويات البحث والفكر والأدب لدى التيار الأكثر تقدماً في المجتمع الإنساني . هذه الظاهرة وجدت دائماً في دنيا الفكر والأدب العربيين ، من بداية عصر النهضة العربية الحديثة إلى اليوم . لذلك لا بد لفهم ظاهرة قيام رابطة الكتاب السوريين ، من دمج هذه المقومات أو المكونات معاً . على أن أية حركة ما في المجتمع ، سياسية كانت ، أو فكرية أدبية ، لا تمتلك قيمتها إلا بقدر التصاقها بالأوضاع الاجتماعية التي تعد وسيلتها للبقاء . وإن مستوى عملية الاندماج هذه هو الذي يعطي كل حركة أصالتها أو عدمها .
وكان الهدف في أذهان الكتاب الطليعيين السوريين واضحاً منذ البداية ، وهذا ما عبر عنه مواهب الكيالي بقوله : " هذه الرابطة .. أو لنقل هذه الحزمة الشابة من الأقلام ، لم تتناد على طريقة رقاع الدعوة لكي تتثاءب في حديث خاطف عن الأدب في هذا البلد ، ثم تفترق بعد عدة اجتماعات ، على اسم براق ، وندوة أنيقة ، تضم أعضاءها في الليالي ، على سهر وسمر . بل اجتمعت لأن استجابة صميمة جمعت فيما بين أفرادها ، وربطت قلوبهم .. ربطتها حول قضية مقدسة ، تستمد عناصرها من قضية بلادنا : الحرية ، ومن قضية الإنسانية : السلام . فكان مولدها استجابة لا تنادياً .. استجابة لكل ما في صدور قومنا من أشواق تنضفر حول أدب قاطع ، في صف الشعب . "
بهذا المعنى تغدو الاستجابة على قدر المسؤولية ، تصبح تحريكاً للركود المهيمن ، وتغييراً يتناول الأعراف السائدة في الثقافة والمجتمع ، بل بعثاً للقوى الكامنة التي لم يكن يلزمها أكثر من شرارة محرقة لاذعة ، تماماً وفق الصورة الحارة والصادقة التي نقلها إلينا سعيد حورانية عن فترة الانعطاف الحاسمة ، بدافع من التطورات السريعة والمتلاحقة لمسيرة القطر في فترة من أحلك الفترات وأشدها مصيرية . يقول سعيد حورانية : " …. بينما كنا ندور في حلقات مفرغة من ثرثرات الفن للفن ، ونقرأ بنهم شعر نزار الذي تعرف علينا وسعى ليضمنا تحت لوائه .. انتزعتنا دكتاتورية الشيشكلي السوداء لتعلمنا درسنا السياسي الأول . كانت سورية تتمخض عن ثورة حقيقية ، وكانت الجامعة التي تشبعت بالأفكار الأيديولوجية تهتز كبركان ، وعرفنا المظاهرات والنظارات والتوقيف ، وذهلنا لأول يد غريبة وهي ترتفع لضربنا ، واكتشفنا صلابة وقسوة العالم المضاد ، وماتت بسمات اللهو وضحكات العربدة على شفاهنا المزيفة ، وعلا الغبار دواوين نزار وغنائيات علي محمود طه ، وانجرفنا بكليتنا إلى حلبة الصراع ضد الثور الأسود الذي أحس بالخطر وعلا الزبد شدقيه . في تلك الأيام المجيدة ولدت رابطــة الكــتاب السوريين . "
هذا الانعطاف الحاسم نحو الالتزام ، بكل حدته واندفاعه ، لم يكن معلقاً في الفراغ خارج شرطه التاريخي أو دواعيه الفكرية والفنية ، بل عبر عن التصاق وثيق بالواقع الاجتماعي المتوفز ، وباليقظة العامة لحركة التحرر العالمي بكل محتواها الإنساني . أو كان حاجة انبثقت من تحولات الواقع وصراعاته المحتدمة . وكأن هذه الفترة المتأججة من الخمسينات قد تجسدت فيها وتجمعت جل المشكلات المصيرية للإنسان العربي .
وقد عبرت مجلة ( الأديب ) في كلمتها التي حيت بها الرابطة ، عن هذا الانتقال النوعي في مسيرة الحياة الأدبية في سورية بقولها : " كانت مسألة الأدب في سورية ، إلى يوم قريب لغزاً من الألغاز ، فقد كان كل شيء في هذا البلد العربي منذ أكثر من ربع قرن ينتفض ويتوثب ، ويثور ويتمرد ، ويجاهد ويكافح ، إلا الأدب . فالأدب وحده في سورية ظل طوال هذا العهد " قانعاً " بالتفاهة والسذاجة والبلاهة ، ظل يلهو كالأطفال بهذه الدمى العتيقة من الألفاظ والأفكار والأساليب الموروثة المحطمة المشوهة . لقد كان لغزاً عجيباً حقاً ، فعهدنا بالأدب أنه دفقة الدم في شرايين الحياة ، فكيف صح أن تكون سورية قوية ثائرة ويكون الأدب السوري – مع ذلك – في صقيع الموت ؟ وبقينا على التلفت إلى دمشق دهراً نسائلها : أين أدبك ينتفض مع الحياة ويتوثب ، ويثور ويتمرد ، ويجاهد ويكافح ، حتى كانت ( عصبة الساخرين ) منذ ثلاثة أعوام ، فقلنا : هذا أدب جدير يريد أن يتدفق ، ولكنه حائر .. أي مجاري الحياة يسلك .. وراح هذا الأدب يتدفق على الحيرة والضلالة وهو " يسخر " من نفسه ويضحك من حيرته . ولكن عصبة الساخرين كانت بداية الحياة في أدب الشام دون ريب ، وهكذا الحيرة أبداً ، فهي خفقة الحياة الأولى ، ثم ينبثق الينبوع ، وهذه رابطة الكتاب السوريين ، هي الينبوع المنتظر .. هؤلاء أدباء الرابطة الجديدة ، يتدفقون إلى المجرى الأعظم على هدي وبصيرة ونور .. هؤلاء هم يتقدمون إلى الحياة قائلين بصوت واحد : " في نهضات الشعوب تجند الأمة كل شيء كي تدفع به إلى الميدان ، إلا نحن لم نقف بعد في الصف ، ولم نتهيأ ، فلنشرع أقلامنا ، ولنخضها معركة شريفة نبيلة . إنها معركة تهمنا كما تهم كل إنسان طيب ، لأنها معركة حريتنا وسلامتنا وسعادتنا " . فإلى رابطة الكتاب السوريين تحيتنا .. وإنما هي تحية المسافر المستوحش إلى مطلع الفجر الصادق .
هذا النهوض في الحياة الأدبية السورية تحدثت عنه الصحف كثيراً وأظهرته واحتفت به ، وكان الواضح أنه شكل ظاهرة جديدة ساهمت في تدعيمها أقلام مختلفة ودماء شابة ، وقد شاركت صحيفة ( النقاد ) الأسبوعية بقسط وافر من جهود في رصد هذا النهوض ، وذلك من خلال افتتاحها عهد المسابقات الأدبية ، وتشجيعها المستمر للأقلام الشابة الموهوبة ، وقد أوجد ذلك نشاطاً غير مسبوق ، برزت أصداؤه فيما بعد عبر الزاوية الأسبوعية ( أضواء على الحياة الأدبية في سورية ) تلك التي شارك فيها معظم كتاب الفترة بمن فيهم كتاب الرابطة . في ذلك الحين " برزت ظاهرة تشكيل الروابط والجمعيات أو الندوات الثقافية والأدبية ، وكانت الأدوات الفضلى للتعبير عن النشاط الفكري والأدبي والسياسي أيضاً " .
وإذا كنا نود أن نتريث قليلاً قبل أن نبدأ في التحدث عن ظهور رابطة الكتاب السوريين ، فذلك بسبب رغبتنا في إعطاء لمحة عن تجمع أدبي سبق الرابطة ، وربما كان له فضل ترسيخ فكرة التكتل في الحياة الأدبية السورية . هذا التجمع عرف باسم ( عصبة الساخرين ) . تألفت العصبة في أواخر صيف عام 1948 . وقد نشأت فكرتها من مجرد الاتفاق على شيء واحد هو السخرية ، وضمت مجموعة من الأعضاء ، تختلف توجهاتهم الثقافية وتتنوع ، وكانوا يريدون ربما دون وعي نقابي مسبق أن يوجدوا تكتلاً أدبياً ما في سورية ، لا التزام له إلا الالتزام بالأدب ، غير عابئين بأفكار العضو المنتسب ومعتقداته ومبادئه . ويمكن القول إنه " لم يكن للعصبة نهج ولا رسالة ولا منطق فكري حقيقي ، وهي عموماً كانت تضم من الصحفيين أكثر مما تضم من الأدباء." " لقد حاول شبابها المطلون على الحياة العامة في اندفاع وطموح نقد ما رأوا أنه بحاجة إلى نقد ، بلهجة ساخرة ماكرة ترتدي ثوب الفكاهة ، وحاولوا أن يخلقوا من الأدب ، بلغته وأدواته ، عالماً جديداً يقربه من الحياة اليومية ، وينأى به عن الموروث الجامد القابع في بطون الأسفار والكتب والمخطوطات . " ، ويرى عادل أبو شنب أن فكرة التكتل قد ورثتها العصبة للرابطة التي عدت دائماً من أبرز التكتلات الأدبية التي جاءت زمنياً بعد عصبة الساخرين ، والتي استبدلت بالميثاق غير المكتوب ميثاقاً مكتوباً ، واستعاضت عن السخرية بالجدية ، فأعلنت عن ظهور أدب ملتزم بقضايا المجتمع . وقد لا يكون من المصادفات أن تضم الرابطة الجديدة بعض أعضاء العصبة القدامى ، فلقد أدى المخاض الذي أحدثته العصبة ثم الرابطة ، إلى فرز أدبي على أساس طبقي وأيديولوجي ، مما حول فكرة التكتل من تجمع أدبي إلى لقاء حول مبادئ فكرية بل سياسية ، وبذلك انتهج التكتل الأدبي منهجاً مختلفاً إن لم نقل مناقضاً . فبين أن تكتب أدباً ساخراً ، وبين أن تكتب أدباً يحاول التغيير .. فارق ، لا في الكيف فحسب ، بل فارق في النوع أيضاً .
وعلى أية حال فإن رابطة الكتاب السوريين لم تكن رداً على عصبة الساخرين بصورة مباشرة ، بل جاءت لترسم الطريق الصحيحة في الفكر والأدب . إن السخرية يمكن لها أن تغدو أسلوباً ناجحاً في نقد الجانب المتهرئ من حياة الفرد والمجتمع فيما لو كانت وسيلة ، ولكنها عندما تصبح شكلاً للتفكير والممارسة ، إلى حد تصير معه غاية ، فإنها تغدو عبئاً لا طائل منه .
وقد تتالت ظاهرة تشكيل الروابط الأدبية بدءاً من مطالع الخمسينات ، على اختلاف أهميتها وتأثيرها .. فكان منها : ( رابطة الأرض ، أهل القصة ) ، ( رابطة الكتاب الشباب ) ، ( رابطة وحي القلم ) ، ( رابطة الأدب الجديد ) ، ( جمعية الأدباء العرب ) ، وجميعها في دمشق . وكانت هناك روابط مماثلة في المدن السورية الأخرى ، مثل : ( أسرة الأصدقاء ) في حلب ، و (رابطة الأدب السوري الجديد ) في اللاذقية ، و( أسرة الكواكبي ) في دير الزور ، بالإضافة إلى عدد آخر من الروابط والجمعيات الأدبية .

2- ظهور رابطة الكتاب السوريين :

" كانت الاجتماعات التمهيدية الأولى لرابطة الكتاب السوريين تجري في منزل الأستاذين الشقيقين مواهب وحسيب الكيالي ، في حي السبكي بدمشق . وكان ذلك عام 1950 م " ، " وفيها جمعت خيوط الفكرة عن تأليف رابطة أو تجمع أدبي يضم الكتاب الذين يلتفون حول فكر تقدمي . " . " ثم حدث أول اجتماع لهذا الغرض في مطلع تموز عام 1951 ، حضره وقتها ثمانية أشخاص هم : شوقي بغدادي ، سعيد حورانية ، مواهب الكيالي ، حسيب الكيالي ، ليان ديراني ، شحادة الخوري ، حنا مينة ، صلاح دهني . ثم عقدت الرابطة اجتماعات متوالية ، انضم إليها في أثناء ذلك : إحسان سركيس ، أنطون حمصي ، نبيه عاقل . " . " وبذلك أصبح الأعضاء المؤسسون يعدون أحد عشر شخصاً منهم كتاب معروفون وآخرون ناشئون . وقد تم الاتفاق على وجاهة الفكرة وضرورتها ، واختيار اسم ( رابطة الكتاب السوريين ) لهذا التجمع . كما تم الاتفاق على وضع الخطوط الفكرية الأساسية لبيان تقرر تكليف كل من شوقي بغدادي وحسيب الكيالي بصياغته . هذا البيان يعلن مولد الرابطة ، ومبررات وجودها ، والأسس الفكرية لتوجهاتها الأدبية . وقد تم ذلك فعلاً بعد أيام معدودات ، إذ كتب شوقي بغدادي المسودة الأولى ، وناقشها معه حسيب الكيالي أول الأمر ، ثم الأعضاء الآخرون في اجتماع موسع آخر ، وتم الاتفاق على الصياغة النهائية ، ودفع البيان للنشر في الصحف المعروفة التي نشرته كلها في وقتها . " ، " وكان ذلك في أواخر صيف 1951 " . واقترح حنا مينة في الاجتماع الثاني إصدار مجموعة قصصية مشتركة ، ينشر البيان مقدمة لها ، وسرعان ما أعدت المجموعة ، وصدرت في أواخر أيار من عام 1952 ، وقد ضمت البيان في المقدمة ، وثماني عشرة قصة قصيرة لكل من مواهب الكيالي ، وسعيد حورانية ، وليان ديراني ، وشوقي بغدادي ، ومصطفى الحلاج ، وحنا مينة ، وحسيب كيالي ، ومراد السباعي ، وصلاح دهني . على أساس نصين لكل من هؤلاء القصاصين التسعة الذين ضمتهم المجموعة المذكورة ، والتي حملت اسم ( درب إلى القمة ) وهو عنوان القصة الأولى لمواهب الكيالي ، الذي رأت فيه الرابطة أفضل الرموز المناسبة للكتاب وطموحاته وقتها كما يذكر شوقي بغدادي .
وخلال الفترة ما بين تأسيس ( رابطة الكتاب السوريين ) عام 1951 ، وانعقاد مؤتمرها الأول الذي تحولت فيه إلى ( رابطة الكتاب العرب ) عام 1954 ، كان قد انضم إليها من سورية مجموعة من الكتاب والشعراء يقارب عددهم الثلاثين ، موزعين في أكثر المدن السورية ، في دمشق وحلب وحمص واللاذقية ودير الزور . منهم : غسان الرفاعي ، صميم الشريف ، عادل أبو شنب ، فاتح المدرس ، ثابت المدلجي ، كــامل ناصيف ، عبد القادر الجنيدي ، محمد علي الزرقا ، مصطفى البدوي ، نديم مرعشــلي ، وصفي البني ، نذير الحسامي ، عبد المعين الملوحي ، ممدوح فاخوري ، عبد السلام عيون الســود ، وصفي قرنفلي ، عبد النافع طليمات ، عبد الحكيم عبد الصمد ، محمد شيــخ ديب ، عبد الرزاق جعفر ، ثابت عزاوي ، عبد القادر عياش . كما انضم في فترات لاحقة لإعلان رابطة الكتاب العرب كل من نصر الدين البحرة ، وأحمد سليمان الأحمد .

3– حول التنظيم الداخلي لرابطة الكتاب السوريين :

نود من استعراضنا للنظام الداخلي لرابطة الكتاب السوريين ، أن نعطي فكرة حية وثائقية عن هذا التجمع الأدبي ، فربما ساعد ذلك على اجتلاء الصورة ، وإزاحة ما قد علق بالرابطة " عبر فترة طويلة من التعتيم المقصود والمبرمج " ، من تقولات وشائعات بالعمالة والتبعية ، لنؤكد حقيقة مفادها أن الرابطة لم تكن تنظيماً سياسياً أو مرتبطة بتنظيم سياسي ، بمعنى أن ما كان يجمع بين أعضائها لم يكن الانتماء السياسي إلى أحد الأحزاب ، بل وحدة الفكر والهدف ، وكذلك فإنها لم تكن تتلقى أوامر أو توجيهات من حزب سياسي معين ، ولكنها كانت تنظيماً أدبياً يستند على أهداف محددة ، بسيطة وعامة ، أعلنها الكتاب في بيانهم ، وهي : خدمة الأمة ، الالتزام في الأدب ، التقدم ، الحرية .. ومن ثمّ ، وبالنظر إلى هذه الأهداف بالذات ، كان ثمة تعاطف وتعاون بينها وبين الأحزاب والفئات التقدمية الأخرى ، وقد فسر هذا التعاون والتعاطف على أنهما ارتباط وانتماء ، وحلت الرابطة على هذا الأساس ، وصودرت كتبها وأثاثها ، وأغلق مقرها في فترة الحملة على الشيوعيين في مطلع عام 1959 .
وكانت الرابطة قد " درست قضية طلب ترخيص رسمي من الحكومة السورية ، لإثبات شرعية وجودها ، فوجدت أن ظروف الحكم الديكتاتوري لا تساعد ، وأن الحكومة سترفض دون ريب ، وعندئذ يصبح كيان الرابطة في خطر من الوجهة القانونية ، ونشاطها غير شرعي . وهكذا آثرت الرابطة أن تثابر على نشاطها دون ترخيص ، تفادياً لأي اصطدام حول شيء لا فائدة عملية منه ، وقد يهدد كيانها . " وهذا ما جعل اجتماعات الرابطة تأخذ شكلاً سرياً كما يتوضح من حديث صلاح دهني الذي يكشف فضلاً عن ذلك جانباً كبيراً من التنظيم الداخلي لرابطة الكتاب السوريين . يقول صلاح دهني : " فبعد تلك السهرة الميمونة في قبو حي السبكي ، في دار مواهب وحسيب التي رأت فيها فكرة الرابطة النور لأول مرة ، كنا نجتمع في القبو ذاته ، أو في بيت شوقي أو ليان أو في بيتي .. وكنا نتستر على اجتماعاتنا ونحاول أن نأتي الدار فرادى ، ونخرج منها فرادى ، ونسير في الشارع متفرقين كأننا اجتمعنا لمؤامرة أو على معصية – نحن الذين نتنكب طريق المعاصي دوماً – وأكثر هذه الاجتماعات كانت أسبوعية ، وقد تأتي ظروف فيتعطل الاجتماع لأسبوعين أو ثلاثة ، ولعل التئام شملنا عندها كان انتقامنا الصامت الصغير من أيام الرعب .
أما مالية الرابطة ، ومالَها ، وما لُها ، فكلمات تؤدي معنى واحداً فيه الكثير من حسن النية ، ومن " تكبير الكلام " . لقد جرينا في الآونة الأولى على تقاضي ليرتين من كل عضو شهرياً ، ثم تراخى مع الأيام حبل المطالبة – وحبل الدفع بالمقابل طبعاً – حتى إذا صدر أول كتاب لنا قلنا سيأتينا الفرج ببعض المال يغطي مصروفاتنا الصغيرة ، وفجأة شعرنا بامتلاء خادع ، وتناسينا أو نسينا قضية دفع الاشتراك الشهري . وعندما اتفقنا بعد ذلك مع دار القلم لصاحبها خليل منيمنة ، بتنا على ما يشبه اليقين بأن قضية المال قد حلت نهائياً ، وتباعدت بنا ذكرى الاشتراكات الشهرية ، وعددناها من مخلفات ماض سحيق منسي ، وقد مرت الأشهر الأولى على الاتفاق ، فإذا خليل يمد يده إلى جيبه ، ويناول حنا بكل طيبة وشهامة خمسين ليرة من حساب كتاب حسيب ، وبعد أشهر أخرى مائة من حساب كتاب سعيد ، ثم ثلاثين أخرى على كتاب حسيب ، وانتهى الأمر ، وقد صدر بعد الكتابين كتاب لمواهب ، ومسرحية ( المفتش العام ) ، ثم كتاب لشوقي ، ثم كتاب ( حادث فوق العادة ) ، وبقيت بعد ذلك يد خليل بإصرار في جيبه ، لا يمدها بمائة ولا بخمسين ولا بأقل من ذلك ، حتى كدنا نقع في عجز لولا أن جاء كتاب ( الشمس في المرج ) الذي قدمه ليان للرابطة بمائة ليرة ، كما جاءنا من ليان أيضاً عن كتاب ( الأم ) خمسون أخرى ، ومجموع دخل الرابطة من هذا كله بلغ ثلاثمائة وسبعاً وستين ليرة .
ولعلكم تتساءلون عن المصاريف ، المصاريف تتألف من النثريات التالية إذا صح التعبير : طبع بيان المثقفين ، وأجور توزيعه من مغلفات وطوابع وغيرها . تبرع بمبلغ 25 ليرة لطبع كراس بمناسبة الذكرى الخامسة لتأسيس مجلس السلم العالمي . المساهمة في طبع بيان مؤتمر شعوب الشرقين الأدنى والأوسط . ديون للصندوق على بعض الأخوة الحاضرين . برقية تعزية لآل زميلنا المرحوم عبد السلام عيون السود . حفلات عديدة لإخواننا الكتاب اللبنانيين في زياراتهم لدمشق . مساهمة في مصروف رحلة مواهب وشوقي إلى حمص وحلب واللاذقية . ومجموع هذا كله بلغ مائتين وثمانين ليرة. وعلى ذلك فما تبقى في الصندوق الآن هو أقل من مائتي ليرة ، إذا أدخلنا الديون التي لم تسدد ، ودون حساب وارد الكتب الخمسة الأخيرة . إن ما بتنا نشعر بضرورته شيئاً فشيئاً وشهراً بعد شهر ، هو أننا يجب أن ننتقل إلى مرحلة جديدة من حياتنا . فمدى عملنا قد توسع بعض الشيء ، وأضحى لنا فرع جديد فتي في حلب ، وإخواننا الكتاب في البلاد العربية ينظرون إلينا بعين فيها معنى الاعتبار والتقدير ، ورجل كمحمود تيمور ، في زيارته الأخيرة لدمشق استغرب من عدم خروجنا إلى نطاق عربي أوسع من نطاقنا الحاضر . إن هذه الاعتبارات كلها تجعلنا نقف وجهاً لوجه أمام مسؤولياتنا ، وتدعونا لأن ننظم إدارتنا على نحو جديد لنواجه مرحلة من حياتنا جديدة ، ولهذا كان لا بد لي من عودة صغيرة إلى قضية الاجتماعات الدورية ، فأذكر أننا في دمشق فقط كنا نجتمع ، ولم يتصل بعلمنا أن إخواننا في حمص أيضاً كانوا يجتمعون على نحو نظامي . لقد أخذنا أنفسنا هنا بنظام صارم ، وخصوصاً في السنة الأولى لتأسيس الرابطة ، ولعل ذلك هو السبب في أن هذه الاجتماعات دخلت في عاداتنا وحياتنا ، حتى لبثنا نشعر بشيء من الفراغ إذا ما أتى آخر الأسبوع ومضى ولم نلتق في دار أحدنا . ذلك أن هذه الاجتماعات الدورية – على بساطتها – لم تكن منعدمة الجدوى والفائدة ، كانت صميمية الدار – وأؤكد على كلمة الدار دون المقهى – وخصوصية الاجتماع توجهان أحاديثنا وجهة معينة ، وتعينان على تركيز الحديث في مشكلاتنا الخاصة ، ومناقشة قضايانا ، أو معضلاتنا حسب الكلمة العزيزة على أخينا غسان .
ولهذا فقد رأى فرع الرابطة في دمشق أن يقترح مبدئياً بعض نقاط للتنظيم ، ويضعها موضع النقاش ، مع تأكيده على مسألة الاجتماعات الدورية :
أولاً : تنظيم اجتماعات دورية في كل من حمص وحلب واللاذقية ، أسبوعية .
ثانياً : تحديد اجتماعات عامة للرابطة مرتين في السنة .
ثالثاً : تحديد مسؤولين ، أو لنسمهم أمناء سر في كل فرع للإشراف على تنظيم الاجتماعات ، ولمكاتبتهم في كل ما يتعلق بأعمال الرابطة .
رابعاً : انتخاب أمين سر عام للرابطة .
خامساً : انتخاب محاسب للرابطة .
وإلى هذا فقد راودتنا في هذه السنة الأخيرة على نحو ملح ، فكرة إيجاد مقر عمل للرابطة في دمشق ، إلا أن ظروفنا المادية حالت حتى الآن دون تحقيق هذه الفكرة . وقد تقدرون الأسباب الكثيرة التي تدعو إلى إيجاد هذا المقر . فهو بالإضافة إلى أنه يمكن أن يضحي ملتقى أعضاء الرابطة ، فإنه يجمع من حولها أصدقاءها ، ويهيئ لها أسباب تنظيم اجتماعات عامة أو شبه عامة ، وإلقاء محاضرات ، وإتباعها بمناقشات ، هذا إلى استقبال الشخصيات الأدبية والفنية ، والاتصال بها في بيت الرابطة بدلاً من غرفة في فندق أو ناد لغيرنا ، كما جرى في أول احتكاك مع محمود تيمور . كما أننا قد ننظر في أمر تجهيز سرير لإيواء بعض ذوي الفضل من إخواننا الغرباء عن دمشق في ترددهم عليها .. وقد اقترحنا على الأخوين حسين مروة ومحمد دكروب في زيارتهما الأخيرة لنا ، أن يمدونا بمبلغ شهري لنفسح في نادينا أو بيتنا المقترح غرفة نخصصها لأعمال ( الثقافة الوطنية ) في دمشق فقبلا ذلك مبدئياً وطلبا إلينا موافاتهما بما يستقر عليه رأينا بعد اجتماعنا هذا . وهنا أيضاً ، لما كانت واردات كتبنا لا تدفع إلينا بصورة نظامية ، وهي لا تكفي على كل حال ، فقد رأينا أن نقترح عليكم نقطة جديدة في تنظيماتنا الداخلية ، هي مساهمة الأعضاء في جميع الفروع بدفع اشتراك شهري يجمعه المسؤول ، ويرسل إلى المقر العام في دمشق . إذ لا يخفى أن الأثر الذي يمكن أن يتركه مثل النادي المقترح لا تقتصر فائدته على دمشق بل يهم كل عضو في الرابطة في كل مكان . ولا بأس من الإشارة إلى أن أصدقاءنا من كتاب لبنان الشقيق قد تحمسوا للفكرة ، وأبدوا استعدادهم للتبرع للمشروع من جيوبهم فيما إذا عجزت مالية المجلة عن مدنا بالخمسين ليرة الموعودة .
أما فيما يتعلق بتنظيمنا خارجياً ، فينبغي توثيق صلاتنا بالكتاب العرب في الأقطار الشقيقة . ولقد اقترح علينا إخواننا اللبنانيون منذ حوالي الشهرين في بيروت توسيع رابطتنا مبدئياً وتسميتها : ( رابطة الكتاب السوريين واللبنانيين ) واقترحنا نحن أن نتمهل سنة أو بعض السنة لعلنا نخرج برابطة باسم ( رابطة الكتاب العرب ) وهذه أيضاً نقطة جديرة بالبحث ، ولا شك أنها ستوضع موضع النقاش في مهرجــان الرابطــة الكبير . "

4 – نشاط الرابطة :

أصدرت رابطة الكتاب السوريين ما يزيد على عشرين كتاباً بين موضوع ومترجم من قصص وشعر وروايات وأبحاث أدبية واجتماعية . وكانت هذه الكتب تصدر متسلسلة تحمل عنوان ( كتاب الرابطة ) ، " وكان أعضاء الرابطة عندما ينشر أحدهم أي نتاج أدبي ، يذيل اسمه بعبارة [ من رابطة الكتاب السوريين ] وذلك كيما يرسخ في أذهان القراء اسم هذه الرابطة مقترناً بأسماء أعضائها . "
أثارت الرابطة في الصحف حملة منظمة ضد ما عرف بمبدأ ( الفن للفن ) ، وكذلك المذهب الوجودي ، والانتهازية ، والانعزالية ، وتيار العبث واللامعقول .. منادية بطريقة المذهب الواقعي في الكتابة الأدبية . وقد سعت إلى إثبات دعائم وجودها وسط هذه التيارات ، وإلى أن ترفع لواء الأدب للحياة ، وتجعله شعاراً عاماً .
وقد خاضت الرابطة معترك الحياة السياسية والاجتماعية عملياً وفكرياً وكتابياً ، فكان عدد من أعضائها مناضلين بارزين في سبيل السلم والتحرر الوطني ، وقد دافعوا ببيانات عديدة عن المضطهدين في بقاع عربية أو غير عربية ، وانتصروا لقضية السلم في العالم ، وقوبل نشاطهم بحملة من الضغط السياسي والقمع وكبت الحريات الديمقراطية ، بحيث اضطر قسم منهم إلى الهجرة خارج سورية والتخفي زمناً . وقد تصاعدت الحملة في الفترة الأولى للوحدة السورية المصرية ، عندما وجد كتاب الرابطة أنفسهم ينقلبون ضدها ، أو ضد أسلوب الهيمنة والمركزية ، بعد أن كانوا من أكبر المتحمسين لهذه الخطوة التاريخية .
وقد مثَّل بيان رابطة الكتاب السوريين الدستور الفكري والمنهج الأدبي للرابطة ، فوقف ضد نزعات عديدة كانت تهدف إلى إبعاد الأدب بعامة عن ساحة النضال وهموم الإنسان المسحوق ، وقد أصبح الأدب بحسب مفهوم التيار الجديد وسيلة هامة من وسائل الانتشار السياسي ، بوصفه نتاجاً للصراع الاجتماعي ، يلعب بطريقة أو بأخرى دوراً هاماً في هذا الصراع .

5 – البيان التأسيسي لرابطة الكتاب السوريين ( دراسة وتحليل ) :
أ – نص البيان :
" هذه أشياء تعيش في صدورنا منذ عهد بعيد ، ولم يكن ينقصها إلا أن تتلاقى بعض الأيادي ببعض في مصافحة واحدة قوية ، وأن تسند الكلمة أختها ، فتصبح فكرة جديرة أن تفتح عينيها للنور وتعيش ، إن فكرة التكتل الفكري ليست حادثة لا سابقة لها ، بل هي فكرة قديمة كانت تظهر للنور في كل عصر وفي أكثر الأمم ، وليست المجامع العلمية والأدبية واللغوية ، إلا نوعاً من هذا التكتل . ولو استعرضنا تاريخ نهضات الشعوب ، لرأينا أن فئة معينة من المفكرين ، كانت دائماً تتساند وهي تحمل سارية العلم في ساحة النضال تحت اسم واحد ، ولا أكثر من الجمعيات ، أو الأسر الفنية والفكرية التي تعيش الآن في العالم ، جاعلة من قضاياها أحداثاً تقف من خلفها عشرات الأقلام حزمة واحدة لا تملك الأمة حيالها إلا أن تهتم وتشترك . تلك هي ميزة الصرخة التي تطلقها عدة حناجر معاً ، وكل منها تحمل لونها الخاص وطابعها المتميز ، فتفرض وجودها بقوة لأنها بنت الكثرة التي اتفقت .
كان يجب أن توجد هذه الرابطة للكتاب السوريين منذ أمد طويل ، ولكننا لسنا هنا في مجال اللوم والندم ، وإنما نحن في ميدان الإنشاء والعمل . إن هذه الرابطة لم توجد من قبل ، وكان يجب أن توجد ، وها نحن نفعل .
هو اسم بسيط يتألف من ثلاث كلمات ، ولكنه ضخم كالقلوب الكبيرة ، لم نحاول فيه أن نفتش عن الرمز البراق بقدر ما أردنا أن نضع اللفظة نفسها . نحن لا نمثل الكتاب السوريين أجمعين ، هذه حقيقة لا ننكرها . ولكن ليس يضير الاسم أن لا يجمع الكل ، إذا استطاع أن يجمع البعض فاتحاً الباب لمن يشاء من المنتجين المحسنين . نحن جماعة لنا في العيش مهن مختلفة ، لكن شيئاً واحداً يجمعنا هو أننا نحمل قلماً لا نستطيع حبسه عن الورق ، أو كما قال جبران : من هؤلاء الذين إذا لم يكتبوا ماتوا . كذلك نحن . مهما تنوعت أعمالنا في الحياة ، فإن عملاً واحداً لا نستطيع التخلي عنه ، يجمعنا ويقرب أيدينا بعضها إلى بعض .
ولسنا نزعم أننا إذ نطلق على أنفسنا لفظة كتاب ، أن الكتابة – شعراً كانت أم نثراً – قد أصبحت في أيدينا ناضجة كاملة كعناقيد العنب في أول أيلول ، إن اتحادنا مدرسة بقدر ما هو رابطة ، نتكاتف فيه ونتعلم في وقت واحد ، وليس بعيداً أن يصبح الحصرم عنباً إذا ظل على أمه ينمو في ضوء الشمس ويبهر العيون بجماله .
أولاء هم نحن . أما ماذا نريد وكيف سنعمل ؟ ! فتلك أشياء يجب أن نصوب نحوها الأشعة قليلاً ، تاركين للعمل ذاته فيما بعد ، أن يشرح ويتكلم ..
ادخل ذات يوم مكتبة ، في أي بلد سوري ، واسأل صاحبها ، أو استقرئ صاحبها عن بضاعة الدكان ، تجد أن سورية أفقر البلاد العربية إنتاجاً في ميادين الفكر والفن ، ثم حاول أن تعد في ذهنك أسماء لشعراء أو لقصاصين أو لكتاب آخرين ، تجد أن رأسك كالصحراء الخاوية ، إلا من بعض واحات ، وقبضة من أشجار النخيل ، بينما في لبنان ، تتبادر لذهنك الأسماء على الفور كثيرة منتجة ، وفي العراق نهضة مباركة ، أما في مصر ، فإن إنتاجها يغمر أسواقنا ، ترى ما هو السبب ؟ ولكنه حديث طويل ذو شجون ، فلنطو بساطه في هذه العجالة ، ولنحاول أن نكون عمليين ، فنصل إلى المشكلة فوراً ونبدأ حلها .
كلنا يؤمن أن التكتل يثير ضجة ، قلَّ أو كثر امتلاؤها فهي ضجة ، تفتح العيون ، وما علينا إذا ما تفتحت ، إلا أن نرمي إنتاجنا في السوق ، وأن نطالب غيرنا بمثله .
نحن ليس لدينا فنانون ومفكرون ومنتجون كثر ، ولكننا سوف نخلقهم ، فينا أو في غيرنا ، سوف نكونهم على الأقل ، وإننا نريد أن نوقظ حركة نائمة ، وأن ندفعها إلى السير فلا تقف بعد ذلك أبداً . تلك هي مهمتنا ، أما وسائلنا فهي أقلامنا لا غير ، أقلام تخط وراء هدف واحد ، وإن اختلفت ألوانها ، أقلام قاسية عنيفة إذا ترى العشب الفاسد في طريقها اقتلعته من جذوره ، ورحيمة بناءة إذ يطالعها الزهر في أرضها باركته ورشت عليه الماء .
نحن كتاب تقدميون بكل ما في الكلمة من خصب . تقدميون لأننا نستهدف أبداً أن نمشي إلى أمام حيث يتلامح هدفنا ، إننا نؤمن بأمتنا ، ونؤمن بأننا نستطيع خدمتها ، وأننا لن نكون كتاباً إذا لم نعش حياة أمتنا . إن هدفنا هو أن نعمل للشعب لأننا منه ، ولأن الفن الصحيح هو الفن الذي ينبع من حياة المجموعة ، إن الآثار العظيمة الباقية هي الآثار التي غيرت وجه الحياة ، فأغنتها وأكسبتها أشياء صالحة جديدة ، لم يعد هناك – كما يقول بعضهم – من فن للفن ، ولا من زهر للزهر . إن الفن هو للناس ، كما أن الزهر هو للعيون التي تراه والأنوف التي تشمه ، والزهرة لا تكون جميلة إلا إذا استطاعت أن تؤدي لي شيئاً يتصل بذاتي ، وخدمة تحسن حياتي . نحن من القائلين بأن الفن هو تعبير جميل عن الحياة ، ولكن التعبير لا يكون جميلاً إذا لم يعبر عن الحياة الحقة ، حياة المجموعة . نحن لا نطالب أن يذوب الفرد في الجماعة ، لأن مجموعة الأصفار لا تساوي أكثر من صفر ، وإنما نطالبه أن يعيش مجتمعه ، ويشارك فيه ، وينطلق بعد ذلك كما يشاء فهو لن يضلَّ ولن يبتعد عنا كثيراً . الفرد الواحد المستقل عن الجماعة غير موجود ، كذلك العاطفة الواحدة المفردة غير موجودة ، فإذا استطعت أن توجدها وأن تعبر عنها ، فأنت تصطنع الحياة ، وبالتالي فأنت تصطنع الفن .
ونحن تقدميون قبل أن ونتصافح ونتحد . ولكننا الآن أكثر اتصالاً بالفكرة لأن الرفقة تشجع وتنير ، لقد أردنا أن نرسم هدفاً لنا ، لنسعى إليه أبداً ، فما وجدنا أنبل ولا أغنى من هاتين الكلمتين : الحرية والسلام ، إذ تلخصان قصة الإنسانية المجهدة التي تعمل لعالم أفضل .
سنعمل على أن نتحرر إذن ، ونساعد غيرنا على أن يتحرر : من الأفكار العتيقة التي ماتت وتأبى إلا أن تحمل رفاتها في أذهاننا في أذهاننا بكل ما فيها من نتن وعفونة ، ومن الأنظمة المتخلخلة التي يرفض البعض إلا أن يتمسك بها ، لنحياها أمة متفسخة ضائعة ، ومن الدخلاء الذين يقبضون على مصائرنا ويمتصون دمنا ، وإن خيل للناس أنهم حملوا متاعهم وارتحلوا ، حتى إذا بلغناها – هذه الحرية – استطعنا أن نتخذ الطريق الفضلى للحياة التي نرغب . إننا نؤمن بالحرية والسلام لأنهما شيئان متلازمان ، يجمعان فيهما أنبل القضايا التي تهم الجنس البشري ، وفي معركتنا الشريفة هذه ، سوف نحارب كل إنتاج رخيص ، فكري أو فني ، يبعث على الانحلال ، ويثير روح اللامبالاة في نفوسنا .
تلك هي طريقنا ، أما وسائلنا فهي إنتاجنا الخاص ككتاب تقدميين ، وعنايتنا بالنتاج الفكري العربي القديم الذي يتصل بقضايا الحرية والسلام ، ونشره على الناس كيما نبرهن لهم أن هذه القضايا كانت تهم الإنسان من قبلنا بكثير من العهود . كما أننا سوف نعمل على أن نخرج من القوقعة التي نعيش فيها هنا ، فلا نقرأ إلا نوعاً معيناً من الأدب ، ولا نطلع إلا على زاوية واحدة من الثقافة ، إن قضايا العالم الآن أصبحت قضية واحدة ، ولن يستقر السلام في دولة واحدة إذا كانت الدول الأخرى يهددها غول الحرب . لذلك صارت كل محاولة لعزلنا عن التيارات الفكرية الحديثة في العالم ، محاولة دنيئة ، يريدون بها أن يربطوا عيوننا بعصابة كي ندور في مكان واحد ، والسوق الأدبية العربية أحوج ما تكون لأن تصبح ملتقى هذه التيارات ، كي ندركها جمعاء ، والبقاء بعدئذ للأصلح .
أما إنتاجنا فلن يظل بعد الآن مبعثراً في كل واد ، إننا سنكتب ، ولكن في الموضوعات التي نرغب ، وبالأسلوب الذب نحب ، وفي الصحف المخلصة الحرة .
ليست حركتنا هذه جديدة بأسلوبها ولكنها جديدة بهدفها ، كثيرون هم الكتاب الذين اجتمعوا في رابطة للفكر والقلم ، ولكنهم قلة نادرة ، بل لعلهم لم يوجدوا عندنا أولئك الكتاب الذين يعملون لا للكتابة نفسها ، وإنما يعملون من الكتابة وسيلة لغاية أنبل .
إن كل تراث فني في العالم ، وكل أسرة سعيدة ، وكل حقل خصب ، مهدد في هذه الحقبة من التاريخ ، أن يتشوه أو يزول من الوجود أكثر من أي عهد مضى ، وشبح الحرب يبسط ظله في سمائنا ، ونحن مطالبون بأن نعمل أكثر من أي وقت مضى للتحرر من هذا الشبح كيما نربح سعادتنا وطمأنينتنا .
لهذا الهدف نحن نعمل ، وتحت هذه الراية نحن نجتمع ، إننا نضع تواقيعنا تحت هذا البيان باسم ( رابطة الكتاب السوريين ) ، باسطين أيدينا لكل كاتب تقدمي يريد أن يعمل لنفس القضية ، آملين في يوم قريب أن تجمع هذه الرابطة كــل الكتاب السوريين .
في نهضات الشعوب تجند الأمة كل شيء كي تدفع به إلى الميدان ، ولم يبق إلا نحن لم نقف بعد في الصف ، ولم نتهيأ ، فلنشرع أقلامنا ، ولنخضها معركة شريفة نبيلة . إنها معركة تهمنا كما تهم كـــــل إنسان طيب ، لأنها معركة حريتنا وسلامتنا وسعادتنا . "

ب – الدراسة والتحليل :
يؤكد لنا تاريخ الأدب أن كل اتجاه أدبي أو مذهب فني له تأثيره في الحياة الثقافية ، يرتكز على مبادئ فكرية وقيم جمالية تميزه وتحدد هويته ، كما تحدد مواقف أتباعه من الواقع ومن الحياة .
إن أفكار بيان الرابطة تشكل بنية متكاملة تتصل علاقاتها بوشائج حميمة ، يساندها وعي متميز ، وتسودها نغمة مؤثرة من التواضع والصدق في إنكار الذات ، بكلماتها العفوية ، البعيدة عن الزخرف ، والكبيرة والحاسمة في اتجاهها الوطني والاجتماعي والسياسي . وقد جاءت قبل كل شيء ذات دلالة على إحساس هؤلاء الكتاب بجسامة العمل الذي ندبوا أنفسهم للقيام به . " ففي نهضات الشعوب تجند الأمة كل شيء كي تدفع به إلى الميدان ، ولم يبق إلا نحن لم نقف في الصف ، ولم نتهيأ ، فلنشرع أقلامنا ، ولنخضها معركة شريفة ، نبيلة ، إنها معركة تهمنا كما تهم كل إنسان طيب ، لأنها معركة حريتنا وسلامتنا وسعادتنا . "
فما هي المبادئ الفكرية والقيم الجمالية التي تضمنها البيان ؟

1- فكرة التكتل الجماعي :
لقد أشار البيان إلى فقر المكتبة السورية ، وركود الحياة الثقافية في سورية ، مما دعم فكرة خلق الرابطة ، التي حاولت من خلال التكتل والنشاط الجماعي الفعال ، إيقاظ الحركة النائمة ، وبعث الحياة الثقافية من سباتها الذي طال ، بعد أن ظهرت إلى الوجود فكرة الالتزام الجماعي " الذي يؤمن بأهمية الصرخة التي تطلقها عدة حناجر معاً ، وكل منها تحمل لونها الخاص وطابعها المتميز ، فتفرض وجودها لأنها بنت الكثرة التي اتفقت . "
وهذا الإيمان بالعمل الجماعي لا يدعو إلى محو الفرد وإغفال قيمة نشاطاته الذاتية ، بل إلى دمج هذه النشاطات في كل جماعي ، باعتبارها قيمة إنسانية لها دورها الفاعل في التطور الاجتماعي . " نحن لا نطلب أن يذوب الفرد في الجماعة ، لأن مجموعة الأصفار لا تساوي أكثر من صفر ، وإنما نطالب أن يعيش مجتمعه ويشارك فيه ، فالفرد الواحد المستقل عن الجماعة غير موجود ، وكذلك العاطفة المفردة غير موجودة . "

2- الموقف الفكري :
حدد البيان الانتماء الفكري لأعضائه عندما أشار إلى أن الرابطة لا تضم الكتاب السوريين كافة ، بل التقدميين منهم " نحن كتاب تقدميون بكل ما في الكلمة من خصب ، تقدميون لأننا نستهدف أبداً أن نمشي إلى الأمام ، حيث يتلامح هدفنا " . وهم ثوريون يريدون إيقاظ المجتمع ودفعه في طريق التغيير ، " إننا نريد أن نوقظ حركة نائمة ، وأن ندفعها إلى السير فلا تقف بعد ذلك أبداً ، تلك هي مهمتنا ، أما وسائلنا فهي أقلام لا غير ، أقلام تخط وراء هدف واحد ، وإن اختلفت ألوانها ، أقلام عنيفة إذ ترى العشب الفاسد في طريقها اقتلعته من جذوره .. وإذ يطالعها الزهر في أرضها باركته ورشت عليه الماء ."
وقد عدَّ البيان هذا التجمع مدرسة مفتوحة الأبواب لكل الكتاب التقدميين يتعلمون فيها ، ويناضلون من خلالها ، فجاء فيه : " ولسنا نزعم أننا إذ نطلق على أنفسنا لفظة كتاب ، أن الكتابة – شعراً كانت أم نثراً – قد أصبحت في أيدينا ناضجة كاملة كعناقيد العنب في أيلول ، أن اتحادنا مدرسة بقدر ما هو رابطة ، نتكاتف فيه ونتعلم في وقت واحد " .
وفي رأس التوجهات الفكرية التي شغلت كتاب الرابطة من خلال هذا التكتل ، السعي إلى تحقيق ( الحرية والسلام ) .. فهاتان الكلمتان تلخصان قصة الإنسانية المجهدة التي تعمل لعالم أفضل . إن الحرية والسلام في رأي كتاب الرابطة " شيئان متلازمان يجمعان فيهما أنبل القضايا التي تهم الجنس البشري " . وطريق الحرية تتوزع فيه مختلف المشكلات الاجتماعية والسياسية والإنسانية التي تلاقت واحتدمت في جو من الصراع اللاهب في فترة الخمسينات ، عربياً بشكل خاص ، وعالمياً بشكل عام ؛ إذ إن هذه المشكلات قد اندمجت في قضية واحدة تهم الجميع في كل مكان ، على أساس من الفرز الطبقي الذي بدت أبعاده واضحة في القرن العشرين . ولذا كانت الدعوة ، كما جاء في البيان ، على أساس من :
1- العمل على التحرر من الأفكار العتيقة التي ماتت ونأبى إلا أن نحمل رفاتها في أذهاننا بكل ما فيها من نتن وعفونة .
2- العمل على التحرر من الأنظمة المتخلخلة الرجعية ، التي يرفض البعض إلا أن يتمسك بها ، لنحياها أمة متفسخة ضائعة .
3- العمل على التحرر من الدخلاء الذين يقبضون على مصائرنا ويمتصون دمنا ، وإن خيل للناس أنهم حملوا متاعهم وارتحلوا .
4- العمل على التحرر من شبح الحرب ، والإبقاء على الثقافة التقدمية الحرة المهددة أكثر من أي وقت مضى .
وقد ورد في البيان أيضاً نصوص عديدة تشير بالتفصيل إلى القضايا المصيرية للشعب ومشكلاته الاجتماعية ، من مثل : " إن هدفنا هو أن نعمل للشعب لأننا منه ، ولأن الفن الصحيح هو الفن الذي ينبع من حياة المجموعة . "
وتبدو النزعة الإنسانية واضحة في مجموعة الأفكار والقيم والعواطف التي نص عليها البيان ، فضلاً عن هذا الوعي الجديد بدور المثقف ومسؤوليته في تطوير مجتمعه ، ودفعه نحو مستقبل أفضل : " إننا نؤمن بأمتنا ونؤمن بأننا نستطيع خدمتها ، وأننا لن نكون كتاباً إذا لم نعش حياة أمتنا " .

3- الموقف الأدبي :
على أساس من الموقف الفكري السابق أكد كتاب الرابطة مبدأ الالتزام في الأدب ، وأظهروا عداءً شديداً لمبدأ ( الفن للفن ) وعدوه مروقاً وامتهاناً للأدب ، ورفعوا مقابله شعار ( الفن في سبيل الحياة ) ، وقد اعتبروا الصدق والالتزام أرفع القيم الأدبية ، ومن هنا حاولوا أن يوجدوا في حركة القصة السورية شيئاً اسمه اتجاه أو مذهب أدبي عام ، إذ نقلوا مفهوم الالتزام من صيغته الفردية إلى معنى جديد ، نقلوه إلى حيز الالتزام الجماعي المسؤول ، وعبر البيان عن ذلك حين قال : " لو استعرضنا تاريخ نهضات الشعوب لرأينا أن فئة معينة من المفكرين كانت دائماً تتساند وهي تحمل سارية العلم في ساحة النضال ، تحت اسم واحد ، أو ضمن إطار واحد . ولا أكثر من التجمعات الفكرية والفنية التي تنتشر الآن في العالم ، جاعلة من قضاياها أحداثاً تقف خلفها عشرات الأقلام في حزمة واحدة . "
وحول مفهوم الفن وغايته رأى أعضاء الرابطة أنه : " لم يعد هناك كما يقول البعض من فن للفن ، ولا من زهر للزهر ، إن الفن هو للناس ، كما أن الزهر للعيون التي تراه ، والأنوف التي تشمه . " . فالفن كما فهمه هؤلاء الكتاب يجب أن يكون تعبيراً عن الحياة ، ومرتبطاً بها أشد الارتباط ، وفي سبيل أرقى قيم الإنسان وتطلعاته ونضاله . وهكذا فإن قيمة كبرى كقيمة الجمال مثلاً في العمل الفني إنما تكمن في فائدته حصراً : " فالزهرة لا تكون جميلة إلا إذا استطاعت أن تؤدي لي شيئاً يتصل بذاتي ، وخدمة تحسن حياتي . نحن من القائلين بأن الفن هو تعبير جميل عن الحياة ، ولكن التعبير لا يكون جميلاً إذا لم يعبر عن الحياة الحقة ، حياة المجموعة . "
وقد دعا البيان الكتاب إلى توظيف جهودهم للعمل على " محاربة الإنتاج الفكري والفني الرخيص الذي يبعث على الانحلال ويثير روح اللامبالاة في النفوس . "
وهكذا وضع البيان الحركة الأدبية في القطر ، بل والحياة الثقافية والفكرية عامة على مفترق طرق ، فقد هيَّأ لانقلاب فكري عميق الأثر ، وحمل في طياته بشائر قيم جديدة ، وموضوعات جديدة ، وأشكالاً في التعبير لم يعهدها الأدب التقليدي .

4- الموقف من التراث :
إن موقف كتاب الرابطة من التراث يتبلور من خلال الدعوة إلى العناية بالنتاج الفكري العربي القديم الذي يتصل بقضايا الحرية والسلام ، وبنشره على الناس " ليتم نقل جوهر القضايا التي تهم الإنسان قبلنا بكثير من العهود ، ولا زالت تحيا بيننا . " وهذه الدعوة شملت التراث الأجنبي أيضاً باعتباره زاداً مشتركاً للناس جميعاً في هذا العصر : " سوف نعمل على أن نخرج من القوقعة التي نعيش فيها هنا ، فلا نقرأ إلا نوعاً معيناً من الأدب ، ولا نطلع إلا على زاوية واحدة من الثقافة . إن قضايا العالم أصبحت واحدة ، ولن يستقر السلام في دولة واحدة إذا كانت الدول الأخرى يهددها غول الحرب ، لذلك صارت كل محاولة لعزلنا من التيارات الفكرية الحديثة في العالم ، محاولة دنيئة يريدون بها أن يربطوا عيوننا بعصابة كي ندور في مكان واحد ، والسوق العربية أحوج ما تكون لأن تصبح ملتقى هذه التيارات ، كي ندركها جمعاء ، والبقاء بعد ذلك للأصلح . "

5- نظرة أخيرة :
برز الهم الاجتماعي واضحاً في أفكار البيان من خلال التشديد على قضية الالتزام الجماعي من أجل التحرر والسلام والفن في سبيل الحياة ، لكن هذه الدعوة لم تأخذ شكل نظرية أدبية لها مقوماتها النقدية الدقيقة المفصلة ، وغابت جوانب أساسية جديرة بالتناول ، مثل مفهوم الواقعية والعلاقة بين الشكل والمضمون وقضية الفصحى والعامية .. إلخ ، وقد شُغل البيان عن ذلك بالحديث عن الهم الأكبر ، وانطوت النظرية الأدبية في أثناء ذلك . وعلى أية حال فتلك كانت بداية التجربة ، إذ كان النتاج الأدبي لكتاب الرابطة يخطو أولى خطواته ، على أننا سنلاحظ في دراستنا التطبيقية للأعمال القصصية أن التفاوت في تلك التجارب كان سمة بارزة ، وأن ثمة اتفاقاً من حيث التوجه العام ، واختلافاً بيناً في الأسلوب والأدوات الفنية ، وأن هذا النتاج بمجمله قد توزع في مستويين ، بين التقريرية المباشرة ( الوقائعية ) وبين البحث الجاد عن شخصية فنية متميزة تتسم بالرؤية الواقعية المتجددة ، أو بالرؤية الواعية الأصيلة لمفهوم الكتابة الواقعية . وقد أشار سعيد حورانية إلى تلك النماذج المتفاوتة بقوله : " كانت بعض كتابات أدبائنا تتراوح بين الجدانوفية العربية ، إذا صح التعبير ، التي يبدو فيها انتصار الجماهير حتمية قدرية ، وحيث البطل الإيجابي يجب أن يكون من الطبقة المسحوقة ، وحيث الطبقات العدوة شريرة حتى النهاية ، ومتكررة المثل ، كالآغا ، والشيخ ، والإقطاعي ، والموظف الكبير ، وأدوات القمع كالشرطي والدركي ، كلها تبدو نموذجاً واحداً مكرراً مملاً ، وحيث الأسلوب يتسم بالمباشرة والتقريرية ؛ وبين ارتياد تجارب جريئة حقًّا ، وجديدة حقًّا ، لإيصال المضمون الأكثر عمقاً وحيوية وغنى ، وبأساليب حديثة معتمدة على التحليل النفسي ، وعلى رصد اللحظات المضيئة ، بلغة أقرب إلى الإيحاء والرمز والشعر أحياناً . ولهذا لا أفهم تقييمات بعض نقادنا المولعين ولعاً شديداً بتصنيف المدارس الأدبية ، والذين يقولون بوجود مدرسة واقعية اشتراكية نصبوني على رأسها ، فمن المستحيل في ذلك العهد من التبلبل الفكري ، وانتماءات أعضاء الرابطة ( بعد أن وسعت في السنوات الثلاث فأصبحت تضم أكثر من خمسين عضواً من كل أنحاء سورية ) وتوزعهم بين التيار الماركسي والليبرالي والقومي ، أن تخلق مدرسة أدبية لها مقوماتها كالرمزية والدادائية والسوريالية . وإنما كان يجمعنا الاتجاه ، ويجمعنا الإيمان والعزم على النضال في سبيله . وكانت الرابطة مدرسة لنا جميعاً ، وكان تعدد الآراء مفيداً لنا جم الفائدة فلم تمض سنوات ثلاث حتى فرض أدبنا الملتزم وجوده في الساحة الأدبية السورية والعربية ، رغم أمثلة غير قليلة من النماذج الرديئة جداً من الشعر والقصة ، ممن كانوا يفهمون الالتزام على أنه منشور أو خطبة أو شرح مدرسي ، والذي انطلق منه بعض النقاد الحاقدين على الاتجاه كله ، فوصموا الرابطة كلها ، والواقعية الاشتراكية بالتفاهة والابتذال والسوقية . رغم هذا كله ألفينا تجربتنا قد نجحت ، وأننا يجب أن نوسعها حتى تشمل الوطن العربي كله . "

الفصل الرابع

رابطة الكتاب العرب

1- إنشاء رابطة الكتاب العرب :
نما التيار الجديد في الأدب العربي الحديث ، وتعاظم أنصاره في مختلف الأقطار العربية ، بدءاً من مطالع الخمسينات وسجل انتصارات عدة في ميدان النقاش الأدبي ، وفي ميدان الإبداع . بل إن سمة الواقعية قد نُظر إليها في تلك الفترة على أنها وسام يزين صدر الأعمال الأدبية ، ويدفع الأدباء إلى الزهو والحماسة ، فالانتماء إلى التحرر والتقدم وحركة الجماهير قد أصبح السمة الغالبة وبدا أن هذا الأدب الجديد لا يعنيه إلا أن يكون أدب الفئة التقدمية الواعية التي ارتبط إبداعها بحركة الجماهير ، وتأتي صفة التقدمية – بحملها الأيديولوجي – أساسية وحاسمة ، وقد أصبح المذهب الواقعي عموماً ، ودون تأصيل نقدي يعتد به ، ميداناً رحباً لحشد كبير من الكتاب العرب ، وبدا واضحاً تفاوت مستوى المواهب الأدبية والفكرية في الكتابات الكثيرة التي وصفت بالواقعية ، فتعددت المفاهيم لدى الكتاب فيما يتصل بالواقعية ، على مستوى النقد والإبداع ، الأمر الذي دفع إلى بروز مشكلات وقضايا في هذا الأدب الجديد النامي ، أصبحت محور الحوار اليومي في الصفحات الأدبية لصحف تلك الفترة ، وكانت رابطة الكتاب السوريين طليعة هذا التيار ، فهي تمثله جماعياً وبشكل منظم ، وكانت قد أصدرت عدداً من الأعمال الأدبية حفلت بمثل هذه القضايا والمشكلات ، وأصبحت الظروف مهيأة لاجتماع يضم مختلف الكتاب المعنيين بمثل هذه الكتابات الجديدة ، من السوريين والعرب الذين ارتبطوا بعلاقات وشيجة مع الرابطة في بداية تشكلها ، وخاصة الكتاب اللبنانيون . أما على المستوى السياسي فقد أصبحت الظروف مواتية بعد الهبة الجماهيرية العسكرية ، التي أسقطت الديكتاتور الشيشكلي ، وبعد انفراج الجو السياسي الذي حصل حينها ، مما هيَّأ لدعوة وجهتها رابطة الكتاب السوريين إلى عقد اجتماع عام لكل أعضائها ، بمناسبة مرور سنوات ثلاث على تأسيسها ، وفيه أقرت فكرة إقامة مؤتمر للكتاب العرب يعقد في دمشق ، وقد تركزت الغاية حول عرض وإثارة مشاكل الكتاب والكتابة في البلاد العربية ، وموقف الأدباء بصورة عامة من القضايا الفكرية التي يمر بها المجتمع العربي ، "فثمة أدب جديد ينمو ، تقف في وجهه تيارات استعمارية ورجعية ، ثمة ثقافات وطنية مهددة ، وتراث عربي مطموس ، عن قصد أو غير قصد ، ثم هناك أدباء شرفاء يناضلون من أجل التحرر ، ويعانون الاضطهاد والتشريد والسجن والتعذيب ، وثمة قضايا وطنية وعالمية ينبغي على المفكر العربي أن يعلن موقفه تجاهها ، ويشارك في المعركة الدائرة من أجل فكر حر وحياة فضلى ، وثمة أيضاً حاجة ملحة لإيجاد رابطة للكتاب العرب تقف حزمة واحدة بوجه كل المؤامرات التي تحاك للإنسان العربي والفكر العربي "
حدد زمان هذا المؤتمر في 6آب 1954 م ، كما تقرر عقد اجتماع في السادس من آب يكون اجتماعاً تحضيرياً منظماً للمؤتمر القادم ، وقد عقد هذا الاجتماع في موعده بدمشق ، وحضره مندوبون عن كتاب سورية ولبنان والأردن والعراق . وكانت قد وجهت الدعوات إلى مختلف الكتاب في الأقطار العربية للمشاركة في هذا المؤتمر وتقديم المقترحات التمهيدية . ولاقت الدعوات حماسة كبيرة ، وأعلن الكتاب المدعوون عن رغبتهم الصادقة في المشاركة وإبداء الرأي ، وبعث بعضهم بمقترحاتهم التمهيدية حول النقاط الواجب طرحها في المؤتمر . وقد تألفت لجنة لتوحيد هذه المقترحات مع المقترحات الإفرادية التي قدمت خلال الاجتماع ، وأخيراً تليت الصيغة الموحدة وجرى نقاش حولها ، انتهى بالاتفاق المبدئي على أن يكون جدول أعمال مؤتمر الكتاب العرب في 9 أيلول من عام 1954 م على الشكل التالي :
أ – القسم الأدبي :
1- قضية الأدب الجديد وتحديد معنى الجمالية والواقعية في ( الشكل والمحتوى )
2- موقف الأدباء من التيارات الفكرية المختلفة .
3- النقد الأدبي ومهمته في تطوير الأدب وإشراك الجماهير فيه .
4- إحياء التراث العربي من خلال :
– دراسة الإنتاج الفكري والأدبي ونشره ، وإقامة المهرجانات لإحياء ذكرى المفكرين العرب .
– تحقيق التاريخ العربي وفق المنهج العلمي .
5- الدفاع عن الثقافة الوطنية وتطويرها .
6- قضية اللغة الفصحى والعامية .
7- قضية الترجمة : تأليف لجنة لنقل التراث العالمي القيم ، توحيد المصطلحات الفنية ، مراقبة الترجمة وتشجيع الجيد منها ونقد السيئ .
8- نقد الكتب ومناهج التعليم المدرسية وتوجيهها توجيهاً وطنياً وفكرياً صحيحين ، والمطالبة بتدريس العلوم باللغة العربية في جميع مراحل التعليم .
ب- القسم السياسي :
1- الحرية وعلاقتها بالفكر : حرية الرأي والنشر والاجتماع ، والدفاع عن الكتاب العرب وغيرهم ضد أي اضطهاد .
2- موقف الأدباء من القضايا الوطنية والعالمية ، وقضية السلم بصورة خاصة .
ج- القسم التنظيمي :
1- الدعوة لإنشاء رابطة للكتاب العرب في كل بلد عربي تحت اسم " رابطة الكتاب العرب " ، ووضع شعار للرابطة وطريقة تنظيمها الداخلي والمالي .
2- التبادل الثقافي : إنتاج ، زيارات ، مشاركة في مؤتمرات أدبية عالمية .
3- المطالبة بسن تشريع لحماية الملكية الأدبية والفنية .
4- تنظيم علاقة المؤلفين والمترجمين بدور النشر ، وبحث قضية إنشاء دار للنشر تشرف عليها رابطة الكتاب العرب .

2- مؤتمر الكتاب العرب ومقرراته

أ – وقائع المؤتمر

في التاسع والعاشر والحادي عشر من أيلول عام 1954 م ، اجتمع مندوبون عن لبنان ومصر والعراق والأردن والبحرين مع الكتاب السوريين في مقر الجمعية السورية للفنون بدمشق ، في أول مؤتمر للكتاب العرب . ومن المفكرين والأدباء الذين حضروا المؤتمر وشاركوا في أعماله :
من سورية :
إحسان سركيس ، أنطون حمصي ، حسيب الكيالي ، حنا مينة ، خليل هنداوي ، سعد صائب ، سعيد حورانية ، شاكر مصطفى ، شحادة الخوري ، شوقي بغدادي ، صبحي كحالة ، صلاح دهني ، صميم الشريف ، عادل أبو شنب ، عبد الحكيم عبد الصمد ، عبدالرزاق جعفر ، عبد القادر الجنيدي ، عبد الكريم الكرمي ( أبو سلمى ) ، عبد المعين الملوحي ، عبد النافع طليمات ، غسان رفاعي ، فاتح المدرس ، كامل ناصيف . ليان ديراني ، ثابت مدلجي محمد علي الزرقا ، مدحت عكاش ، مصطفى بدوي ، نبيه عاقل ، نصوح فاخوري ، نهاد الغادري ، وصفي قرنفلي ، يوسف بنا .
ومن لبنان : الشيخ أحمد عارف الزين ،الشيخ عبد الله العلايلي ، حسين مروة ، مارون عبود ، الخوري طانيوس منعم ، الدكتور علي شلق ، الدكتور علي سعد ، أحمد أبو سعد ، عبد اللطيف شرارة ، محمد عيتاني ، أحمد سويد ، محمد شرارة ، رضوان الشهال ، مصطفى محمود ، سهيل يموت ، محمد إبراهيم يموت ، أحمد غربية ، حبيب صادق ، عبده مرتضى الحسيني ، علي شرف ، أدمون سلامة .
ومن مصر : الدكتور يوسف إدريس ، أحمد صادق .
ومن العراق : غائب طعمة فرمان ، محمد عني حكمت .
ومن الأردن : الدكتور نبيه رشيدات ، الدكتور عبد الرحمن شقير .
ومن البحرين : ناصر أبو حيمد .

وفي أثناء انعقاد المؤتمر كانت ترد إلى مكتبه برقيات ورسائل التأييد من جهات مختلفة ، عربية وعالمية ، ومن هذه البرقيات : برقية سعيد الغزي رئيس مجلس الوزراء السوري ، وبرقية بإمضاء كل من ألكسي سوركوف وبوريس بوليفوي باسم اتحاد الكتاب السوفياتيين ، وبرقية من ألفريدو فاريلا باسم مؤتمر الثقافة الأرجنتيني ، واعتذر بعض مفكري وأدباء الوطن العربي ، لظروف بلادهم السياسية ، أو لأسباب أخرى ، وأرسلوا برقيات تأييد ، ومنهم : عبد الرحمن الشرقاوي ، يوسف السباعي ، عبد الرحمن الخميسي ( الذي كان في السجن ) ، ثابت عزاوي ، سلمى الحفار الكزبري ، الدكتور فؤاد أيوب ، ألبير أديب ( صاحب مجلة الأديب ) ، أمين نخلة ، أنور الجندي ، صدر الدين شرف الدين ، حسن فخر ( صاحب جريدة الصرخة – بيروت ) منير البعلبكي ، قدري حافظ طوقان ، عبد الكريم خليفة ، عبد الوهاب البياتي ، بدر شاكر السياب ، محمد روزمانجي ، إلياس قنصل ، وغيرهم .. ورشح المجلس الوطني لأنصار السلم في العراق كلاً من كاظم السماوي وكمال عمر نظمي لتمثيل الكتاب والأدباء العراقيين في هذا المؤتمر .
كان المؤتمر في حقيقته تجمعاً كبيراً وغير مسبوق لأدباء العرب الملتزمين ، وكان له ولمقرراته وقع كبير في الأوساط الثقافية العربية ، إذ يعد أول تجمع أدبي منظم في مسيرة التيار الجديد في الأدب العربي الحديث .
في اليوم الأول للمؤتمر أعلن الشيخ أحمد عارف الزين ( صاحب مجلة العرفان ) افتتاح مؤتمر الكتاب العرب ، وقدم شوقي بغدادي ممثلي الأقطار العربية ، فألقى حسيب الكيالي كلمة سورية ، والشيخ عبد الله العلايلي كلمة لبنان ، وأحمد صادق كلمة مصر ، والدكتور نبيه رشيدات كلمة الأردن ، وألقيت كلمة باسم أدباء العراق ، وكلمة للفنان العراقي محمد غني حكمت ، وكلمة باسم أدباء البحرين .
أما في اليوم الثاني لانعقاد المؤتمر فقد ألقيت التقارير والبحوث التالية :
– ثابت المدلجي ( سورية ) إحياء التراث العربي .
– حسين مروة ( لبنان ) الدفاع عن الثقافة الوطنية .
– غائب طعمة فرمان ( العراق ) قضايا الأدب الجديد .
– قدري طوقان ( الأردن ) الإنتاج الفكري عند العرب .
– إلياس قنصل ( عن المغتربين ) الأدب العربي في الأرجنتين .
– شحادة الخوري ( سورية ) في سبيل رابطة للكتاب العرب ( تقرير تنظيمي ) .
وبعد تلاوة هذه البحوث والتقارير توزع أعضاء المؤتمر في ست لجان هي :
1- لجنة الأدب الجديد .
2- لجنة إحياء التراث العربي .
3- اللجنة الاجتماعية السياسية .
4- لجنة الدفاع عن الثقافة الوطنية .
5- لجنة الترجمة .
6- لجنة تنظيم رابطة الكتاب العرب .
وقد اجتمعت كل لجنة وصاغت مقرراتها ، ثم تليت هذه المقررات في المؤتمر العام ، حيث نوقشت ، وعدل بعض بنودها ، وأقرت .
في ثالث أيام المؤتمر مساء السبت 11/ 9 / 1954 ، أقيم في نادي ( الأبولون ) مهرجان أدبي كبير ، بمناسبة اختتام أعمال مؤتمر الكتاب العرب ، حضره جميع أعضاء المؤتمر ، وعدد كبير من رجال الصحافة والفكر والأدب ، وتليت في هذا المهرجان البرقيات الواردة إلى المؤتمر ، كما تليت المقررات ، وأعلن عن تأليف ( رابطة الكتاب العرب ) وحل ( رابطة الكتاب السوريين ) و ( أسرة الجبل الملهم) وانضمامهما إلى الرابطة الكبرى ، وكان برنامج المهرجان الختامي كالتالي :
– صلاح دهني ( تقديم المهرجان ) .
– إحسان سركيس : كلمة بعنوان ( بعد المؤتمر ) .
– الشيخ عبد الله العلايلي ( أعاد إلقاء كلمة لبنان في المؤتمر بعد أن أضاف إليها نموذجين من أدبه الاجتماعي . )
– أحمد أبو سعد ( شعر )
– د . نبيه رشيدات : كلمة بعنوان : ( تحية إلى المؤتمر )
– د . يوسف إدريس : قصة بعنوان ( الطابور )

ب – مقررات مؤتمر رابطة الكتاب العرب
( نظرة في الجانب الفكري والأدبي )

يعد المؤتمر حدثاً بارزاً في مسيرة التيار الجديد في الأدب العربي الحديث ، فقد قدم من خلال مقرراته وتوصياته تصوراً متكاملاً منظماً لمختلف شؤون الأدب والفكر ، وتعد هذه المقررات وثائق أدبية تنظيمية ذات أهمية بالغة ، لأنها مست المشكلات والقضايا الأدبية القائمة في تلك المرحلة ، وأعطت تصورات وحلولاً لها . ولعل أهم القرارات القرار الذي أوصى بتأليف رابطة للكتاب العرب تضم كل المخلصين من الكتاب في كل بلد عربي . والشيء الهام هنا أن يعبر الأدب والفكر عن وحدة الحياة الأدبية ، ويجيء هذا التعبير وليد الحياة العربية نفسها على صعيد التاريخ واللغة والاقتصاد والمطمح والمأمل والمحنة والعاطفة . لقد كانت القرارات في حقيقتها دعوة إلى القضاء على التجزئة الفكرية المتماثلة مع التجزئة السياسية ، وقد خرجت بالحركة الأدبية إلى ميدانها الأوسع والأشمل ، ساعية للخروج بالأدب من قوقعته الفردية المثالية ، إلى معايشة الناس ، بجعله تجربة اجتماعية .
فكيف عالجت مقررات المؤتمر القضايا والمشكلات الأدبية والفكرية القائمة ؟

1- قضية الأدب الجديد :
وضع المؤتمر في رأس اهتماماته معالجة قضايا الأدب الجديد ، والأسس التي يجب أن تتوافر فيه ليساير ركب المجتمع العربي المتطور ، وقدم تصوراً واضحاً ودقيقاً لمفهوم الأدب ، " فهو تجربة اجتماعية مكثفة في فرد موهوب ، تصور بيئته من خلال ذاته ، وتشارك في حياة شعبه وتطويرها في سبيل مجتمع أحسن .
وقد تحدد لدى المؤتمرين انتماء الأثر الأدبي ، فهو لا يعرف الحياد ، " فإما أن يكون مع القوى التي تحتضر وتضمحل في المجتمع ، وإما أن يقف إلى جانب العناصر المقابلة الجديدة التي تولد وتنمو " ، ومن هذه الزاوية " فالأديب متحيز في كل أحواله تحيزاً تلقائياً واعياً " . ويوضح عضو الرابطة غائب طعمة فرمان هذا الفهم لتحيز الأديب في المقال الذي ألقاه بين يدي المؤتمر ، بقوله : " إن المتحيز بصورته المجردة غير مقبول في الأدب قطعاً .. لقد وضع تولستوي للفن شرطاً سماه العدوى ، أي أن يقوم إنسان ما بصورة مدركة بواسطة رموز خارجية معينة بإيصال مشاعر حية في نفسه إلى الآخرين ، لكي تصيب الآخرين عدوى هذه المشاعر وتجربتها . وكل كتابات التحيز التي ليس لها القدرة على إيصال مشاعرها للآخرين تخرج من عالم الفن والأدب ، والقصصيون الذين يلجؤون إلى بث أفكار مجردة بصورة دعاية مكشوفة أو تحيز واضح ، لا يمكن أن توصف كتاباتهم بأنها فن ، فإن إدراك الحقائق الاجتماعية شيء ، وصنع رواية فنية تهدي القارئ بصورة غير مباشرة إلى مثل هذه الحقائق شيء آخر . وكل تحيز يأتي بصورة حماسة مقحمة يكون عند ذلك بمثابة ورم يصيب التركيب الفني للعمل الأدبي . "
أما مادة الأدب فهي الواقع الحي ، منه يستقي الأديب قبل كل شيء " والأدب الصحيح هو أبداً ضد الافتعال في سبيل رسم نماذج وأحداث مسبقة بعيدة عن الواقع " ، " إن حماسة الفنان لا تنبعث من بثه لأفكار معينة بصورة مجردة ، ولكنها تنبعث من اندماجه الفعلي والكلي مع الحياة ، ومن حبه للناس والاتصال بهم والتوغل عميقاً في حياتهم ، أما الذين يختارون ذهنياً وعلمياً شخصيات نموذجية بتمثيلها لطبقة ما أو لاتجاه ما ، فلا يمكن أن يوصفوا بأنهم في عملهم هذا قصاصون . لأن القصة ليست آلية ، أو ليست معادلة رياضية ، بمعنى أنه لو اختار الفنان شخصية من بيئة معينة أو طبقة معينة فإنها ستتصرف كذا وكذا بصورة ميكانيكية ، أو ستكون عواطفها معدودة مرسومة سلفاً . إن النموذج المخطط مقدماً هو ضد الموهبة الأدبية التي لا يمكن أن تنكر ، وضد حرية الفنان . والفن في حد ذاته تعبير صادق عن الحياة المعاشة فعلياً ، لا هيكل اصطناعي يبنى على أساس منطق دقيق ، ومن هنا تظهر قيمة التجارب المعاشة للأديب قيمة الحياة التي عاناها . " ، ومن هنا ّ أيضاً " فللحرية دور كبير في إكساب الأثر الأدبي جماله المنشود ، إلى جانب العنصر الذاتي الذي يعطي الأدب طابعه الخاص .
والعلاقة بين الشكل والمحتوى في العمل الأدبي علاقة وثيقة ، فهما كل واحد ، والمحتوى المتطور هو الذي يبدع شكله الجديد . إن صورة هذه العلاقة عكست المفهوم الفني الواعي للأدب الجديد ، الذي اغتنى في مسيرته بتجارب كثيرة ، جعلته يقف بوجه الآداب الأخرى ويعي بعض نواقصه ، ويعمل على تجاوزها . ولم يكن ممكناً منذ البداية أن يصدر الكتاب في أعمالهم الأدبية عن فهم واضح لآلية العلاقة بين الشكل والمحتوى ، وأن يدركوا أن " العمل الأدبي ، صورته ومادته ، ليس لغة ومعاني ، بل هو تركيب عضوي يتألف من عمليات بنائية تتكامل فيها الصورة والمادة تكاملاً عضوياً حياً . " وقد فصل غائب طعمة فرمان مفهوم العلاقة بين الشكل والمحتوى فرأى أن المضمون مجموعة متداخلة من العواطف والميول والانطباعات والأفكار والإيحاءات متخذة مظهراً تدركه الحواس يسمى ( الشكل ) وهو الهيكل الذي يتجسم فيه المضمون . إلا أن نقاد المدرسة الواقعية الحديثة يعترفون سلفاً بأن هذا التقسيم للإنتاج الأدبي نظري محض ، وبأن الشكل والمضمون في وحدة تامة لا يمكن فصلهما إلا نظرياً ، وكل أثر يهتم بواحد أكثر من اهتمامه بالآخر يفقد عنصراً ضرورياً من عناصر الخلق الفني . لهذا فقد هاجموا الشكليين لأنهم في نظرهم قد فصلوا بين الشكل والمضمون ، واهتموا بالشكل أكثر من اهتمامهم بالمضمون ، وكأن الشكل يستطيع أن يمحو خطايا المضمون ، ويذيب رجعيته ، ويكفر عن سيئاته ، باعتبار كل شيء مهما كان فاسداً فإن الفن يستطيع أن ينقيه ويجعله مستساغاً مقبولاً. وتشير الواقعية الحديثة إلى مظهرين من مظاهر ارتباط الشكل بالمضمون.
********************

 

رابطة الكتاب السوريين

في أعمال أولهما : أن الأشكال تتطور بتطور الأفكار والعواطف ، أو بتطور الحيز الزمني والتاريخي لمجتمع ما . فالكاتب حين يجد مضموناً جديداً يحس بضرورة تطوير شكل تعبيره لاستيعاب هذا المضمون ، فالمضمون هو الذي يحدد الشكل ، ولا يجري ذلك بطريقة آلية موضوعة قبلاً .. فإن اختيار الشكل الملائم للمضمون جزء أساسي من عملية الخلق الفني ، أي أنه يرجع إلى إمكانية الكاتب وقابليته على خلق شكل يخدم مضمونه وينسجم معه ، ومن هنا تبرز قيمة الموهبة . إن الواقعية الحديثة على رأي ( هنري لوفافر ) تبدأ من الوحدة الأساسية بين الشكل والمحتوى ، ولكنه يؤكد مع ذلك أن المضمون أسبق من الشكل ، وهذا لا يعني بطبيعة الحال أن المضمون يخرج إلى الوجود ثم يليه الشكل، وإنما المقصود به أن العنصر المتطور النامي في العمل الفني هو المضمون، وأنه بتطوره ونموه يطور شكله وينميه ، ففيه تكمن النواة الحية التي تغذي العمل الفني، وتبعث فيه الحياة وتجعله يتطور مضموناً وشكلاً . إلا أن تعيين المضمون للشكل وتطويره له لا يجري بشكل آلي أو صدفي ، وإنما ينشأ الثاني عن نضوج الأول واتجاهه إلى القوة المدركة لدى السامع والقارئ . فالنضوج الشكلي خاصة من خواص المضمون، تجعله ينعكس في الإدراك ، ( أي يدرك بالحواس ، ينظر أو يسمع .. ) إن هذا المضمون الناضج ، الذي أصبح نتيجة نضوجه هذا شكلاً فنياً ، يمثل مجموعة معقدة من التيارات الفكرية والعاطفية والاجتماعية والنفسية، وينتج عن فعالية حرة ( والحرية لا تعني الاستسلام الأعمى للحاجات والضرورات ، إنما معرفتها والسيطرة عليها ، أو بعبارة أخرى معرفة القوانين الموضوعية والسيطرة عليها ) . ونضوج المضمون كي يصبح شكلاً شاق عسير ، يكون دون شك الجزء الأهم من عمل الفنان . فهو فردي ذاتي من جهة ، وهذه الذاتية نفسها نتاج عوامل أخرى تتعلق بمحيط الفنان وبطبقته وظروفه . وهو موضوعي من جهة أخرى ، لأنه يتطلب من الفنان الإحاطة بالمضمون وإنضاجه في شكل يمكن أن ينعكس في إدراك الآخرين . فهناك نزاع إذن بين هذه الموضوعية ( أي الإحاطة بالمضمون الفني والتعبير عنه في موضوع مدرك هو العمل الفني ) وبين الذاتية ( أي كون المضمون الفني جزءاً من نفس الأديب لا صلة مباشرة له بالآخرين ) . وإن حل هذا النزاع ، والتوفيق بين ذاتية الإنضاج الفني وموضوعيته يحدد نجاح الفنان ونبوغه ، ومن هنا فإن كون الفن واقعياً يستقي عناصره من الحياة ، لا يتناقض مع كونه جهداً ذاتياً واختياراً وبحثاً لإخراج المضمون في شكل محسوس ، بل ينسجم معه كل الانسجام . وهذا ما يتيح للأشكال الفنية وأساليب التعبير أن تتطور وتنمو مادامت ملحقة أساساً بمضمون العمل الفني المرتبط بالواقع .
ثانيهما : أن اللفظ ليس شكلاً فقط ، ولكنه مضمون أيضاً لما يوحيه للسامع أو القارئ من فكرة أو شعور أو انطباع أو إيحاء . وحين يصبح اللفظ شكلاً فنياً ، أي داخل عمل فني ، فإن مضمونه يتوضح ويتحدد بوضع اللفظ اللغوي وموسيقاه وموقعه قي الجملة وتناسق حروفه ، ثم يأتي القارئ ليضيف تحديداً آخر بما يثيره اللفظ في نفسه من ذكريات وإيحاءات ومشاعر معينة .

2- لغة الأدب الجديد :

بحثت لجنة الأدب الجديد مشكلة الفصحى والعامية في العمل الأدبي ، وربطت بين لغة الأدب والقضية الاجتماعية ، نظراً لأن الأدب الجديد يجب أن يقترب أكثر ما يمكن من الواقع الذي نعيشه " إن الفصحى مهما قيل فيها ، لغة لا يمكن التخلي عنها ، وهي ممثلة لجانب كبير من حياتنا ، ولكن خيرها ما كان بعيداً عن الحذلقات والتقعر ، قريباً إلى الأفهام ، سهلاً بسيطاً ، والعامية بالمقابل واقع لا يمكن نكرانه ، فهي حديث الناس ، ولا يمكن في سبيل إنتاج أثر أدبي صحيح ، وخاصة في المسرحيات والحوار الروائي أن نغفل هذه الناحية. "

وهذا الربط بين لغة الأدب والقضية الاجتماعية أو الواقع المعاش ؛ لم ينظر سوى في وجه العلاقة الأوحد ، في وظيفة اللغة بوصفها وسيلة إيصال ، وأهمل جانب الخلق الذي يقوم عليه الفن أساساً . إذ القضية في الفن ليست الأمانة في نقل الواقع الحرفي، بل الانطلاق منه – وهو المادة الأولية – لتشكيل عالم قائم بذاته ، يشبه في الظاهر عالمنا الخارجي ، لكنه يختلف عنه في قوانينه وقيمه ومعطياته . وهذه في الحقيقة قضية عامة تشمل اللغة وعناصر العمل الأدبي الأخرى.

وقد تُركت مشكلة اللغة دون حسم برأينا ، حسب التصور الذي قدمه المؤتمر . فقد أراد المؤتمرون من الفصحى أن تكون سهلة قريبة إلى الأفهام ، بسيطة بعيدة عن الحذلقات والتقعر ، ومادامت تمثل جانباً كبيراً من حياتنا فلا يمكن التخلي عنها . وفي الوقت الذي وضعت فيه الفصحى أمام منظور التخلي أو عدمه ؛ أتاح المؤتمرون للعامية أن تمارس دورها " في سبيل إنتاج أثر أدبي صحيح ، باعتبارها حديث الناس ، وواقعاً حياً لا يمكن نكرانه ولا سيما في الحوار .. " وكأنهم أدركوا مخاطر مثل هذه الدعوة – من منظور قومي طبعاً لا فني – فلم يجعلوا الأمر نهائياً بل دعوا إلى فتح باب التجريب في هذا المضمار ، وهذا ما كان صحيحاً وقتها ، نظراً لضعف الآثار الأدبية العربية الحديثة وقلتها . والآثار الأدبية التي قدمها كتاب الرابطة تعاملت مع اللغة من المنظور الغائم نفسه ، فلم تحسم القضية عند أي كاتب ، بل وجدنا تفاوتاً في المستوى الفني للغة بين الكتاب ، وفي الأثر الأدبي نفسه ، على نحو يدخل المسألة في مستوى التجريب والبحث عن هوية.

إن معركة الفصحى والعامية التي بلغت أوجها في الخمسينات لم تحسم في الحقيقة بقرار من كتّاب أو توصية من مؤتمر ، بل كان الدور الأكبر في حسمها منوطاً بمسيرة الأدب العربي الحديث وتطوره ، سواء في آثار كتاب الرابطة أو الآثار الأدبية الأخرى التي تابعتها .

3- قضية التراث العربي : جاءت مقررات لجنة إحياء التراث العربي خصبة وملمة بجوانب الموضوع ، وراسمة الطريق لإحياء هذا التراث الضخم ووضعه في إطاره التاريخي ، بعد أن رأت فيه الغث والثمين ، وجعلت منطلقها الأساسي في فهم التراث والاستفادة منه الالتزام بالنواحي التالية :
أ – المنهج العلمي المبني على النظريات العلمية في تطور المجتمع والتاريخ .
ب – الاصطفاء والجمهرة والتعليل التي يقتضيها هذا المنهج العلمي .
ج – اجتلاء ذلك المدى الذي وقف عنده المفكرون القدامى ، وجعله نقطة انطلاق تساعد في حماية هذا التراث الفني واكتماله.

وقد أوصى المؤتمر بإحياء التراث العربي في مجالات عدة :
1- التراث الفني : وجهت المقررات عناية المؤتمرين إلى وجوب الكشف عن النواحي الخلاقة في حياتنا الفنية ، وإلى العلاقة القائمة بين آثارنا الفنية والفنون الأدبية الحديثة ، وإلى أثر الفنون العربية في تطوير الفنون الأدبية الأوربية وإغنائها . إن الفن العربي القديم يجب أن يكون نقطة انطلاق للفن العربي الحديث ، حتى يمكن الحفاظ على الأصالة العربية ، وتوفير الصبغة المحلية للأثر الفني بمختلف أشكاله وصوره .
2- التراث الأدبي : أوصى المؤتمر بإعادة النظر في الأدب العربي كله ، وبوضعه تحت معايير النقد العلمية للكشف عن الانحرافات والأوهام فيه ، وإبراز ما طمسه الزمن تحت وطأة القوالب الجامدة والتيارات الدينية والسياسية والمذهبية ، وبالإلحاح على إظهار الخصائص التي يتميز بها الأدب العربي ، والكشف عن الروابط التي تصله بباقي حلقات سلسلة الآداب العالمية ، ما سبق منها وما لحق .
3- التراث الشعبي : أوصى المؤتمر المشتغلين بالأدب العربي في كل بلد عربي ، بالعمل على إظهار الدور الذي نهضت به الجماهير في تكوين الأدب . إن دراسة الأدب والفن الذي أنتجه الشعب ، ذات أهمية خاصة في توطيد دعائم أدبنا الحديث ، إذ تجعله يتواصل والقضايا الأساسية لحياة عامة الناس ، تلك التي عبر عنها الفن بشكل عفوي بسيط .
4- التراث الفكري : أوصى المؤتمر بإحياء تراث المفكرين العرب الذين طمست آثارهم نتيجة الطغيان أو النسيان ، وذلك باصطفاء ما صلح منها ، وشرحها وفق المنهج العلمي ، وجعلها في متناول الجماهير العربية ، مع مراعاة استعمال الأساليب الحديثة فيها ، ودراسة المدارس الفكرية التي أوجدها المفكرون العرب ، وإظهار خصائصها ، ولا سيما ما كان منها إنسانياً . والاصطفاء يقوم على أساس انسجام تلك الآثار الفكرية مع خط سير الحضارة ، وما يساعد منها على تطوير الفكر الحديث وإغنائه .
5- التراث التاريخي : أوصت المقررات بالعناية بالمنهج العلمي الواضح في تحقيق التاريخ العربي ، وإبراز دور الشعب في تكوينه ، ومحو الضلالات والأوهام العالقة بالحوادث التاريخية ، والاعتماد على المعارف المختلفة في فهم التاريخ .

4- الجانب السياسي والثقافي :

دعت مقررات اللجنة الاجتماعية السياسية إلى مساهمة الكتاب العرب في مجمل قضايا أمتهم ، من إذكاء للروح الوطنية في مقاومة الاحتلال الاستعماري والمشاريع الحربية العدوانية ، إلى محاربة الاتجاهات الاستعمارية في الثقافة الرامية إلى إشاعة الروح اللاوطنية ، مستخدمة في سبيل ذلك المعاهد الأجنبية ودور الإذاعة والسينما والصحف والكتب والأقلام الأجيرة التي تدعم عبودية شعبنا . ومن ثم العمل على توطيد السلم العالمي ، وتجنيب بلادنا ويلات الحرب الاستعمارية ، والمطالبة بإطلاق حرية الصحافة والفكر في البلاد العربية ، وإطلاق سراح الكتاب والأدباء المعتقلين .
أما مقررات لجنة الدفاع عن الثقافة الوطنية فقد دعت إلى تعميم إلزامية التعليم الابتدائي ومجانيته في جميع الأقطار العربية ، ومكافحة الأمية ، وجعل اللغة العربية لغة التعليم في جميع مراحله ، وتوسيع وتعزيز التعليم الثانوي والجامعي ، ومكافحة الكتب والمجلات والنشرات والإذاعات والأشرطة السينمائية التي تشيع الميوعة واليأس والقلق والانحلال الخلقي والنزعات الطائفية ، وتحبب إلى الناس الحرب والجريمة .
وقد جاءت مقررات اللجنة الاجتماعية – السياسية ، ولجنة الدفاع عن الثقافة الوطنية ، رداً آنياً حاسماً على مشاريع إخماد الروح الوطنية والحماسة العارمة في الوسط الشعبي والثقافي ، ونشاط التكتل الاجتماعي الذي ساد فترة الخمسينات ، بكل ما حمله من حسن نية وإيمان بالقضية الاجتماعية .

5- الترجمة :

بحث المؤتمر في شأن الترجمة ودورها ، وأصدر مقررات عدة أعطت بمجملها خطة شاملة للعلاقة بين الثقافة الأجنبية والعربية . وقد حددت المقررات الكتب التي تنتقى للترجمة ، فكانت بالدرجة الأولى الكتب العلمية والأدبية والاجتماعية العالمية التي تفيد في تطوير المرحلة التاريخية التي تجتازها البلاد العربية في الوقت الحاضر ، وتساعد في التحرر الوطني ، وتثقيف الجماهير ودفعها كي تأخذ مكانها الصحيح في ركب الحضارة الإنسانية . ووجهت عناية المؤتمرين إلى ضرورة الاعتناء بالكتب والأبحاث التي تهتم بالتراث العربي وقضاياه . وقد أوصى المؤتمر بتأليف لجان للترجمة من أعضاء رابطة الكتاب العرب ، وألح على ضرورة توفر الكفاءات العلمية والثقافية فيهم ، كما دعا إلى وضع مقدمات وشروح وافية للكتب المترجمة وانتقادها موضوعياً ، وإلى إصدارها في طبعات شعبية زهيدة الثمن . وهذا ينم عن اهتمام كبير بالثقافة الأجنبية ، وإدراك دورها في التطوير الاجتماعي .