عندما نزلت من المنصة حيث ألقيت الكلمة، مَررَتُ أمام النعش وكم تمنيت أن القي عليه علم بلاده وبلادي سورية

بالمشاركة مع موقع عالم بلا حدود

الكاردينال السوري في لبنان بقلم المهندس باسل قس نصر الله

أعلَنَتْ حاضرة الفاتيكان في روما وبطريركية السريان الكاثوليك ومقرها بيروت، نبأ وفاة الكاردينال البطريرك موسى الأول داود، الرئيس السابق لمجمع الكنائس الشرقية في الفاتيكان وبطريرك السريان الكاثوليك الأسبق، وكنت على صلة جيدة به، ولقائي به منذ بضعة سنوات، كان في مكتبه بحاضرة الفاتيكان، وقد جلست معه لأكثر من ساعة يسألني فأجيب، عن بلده سورية وعن أهلها وعن العلاقات بين أبناء الشعب الواحد وعن سماحة مفتي حلب آنذاك الشيخ د. أحمد حسون.

كنت قد تعرفتُ عليه سابقاً عندما قام بزيارته الرعوية الأولى إلى حلب، بصفته البطريرك الأنطاكي للسريان الكاثوليك، وقد اتخذ اسم موسى الأول داود، وحينها شاركت باستقباله في مدينتي، وأقام له سماحة مفتي حلب آنذاك حفل عشاء على شرفه، وتتابعت لقاءاتي به في حلب أو بيروت مقر إقامته، حتى عينه قداسة البابا الراحل يوحنا بولس الثاني رئيساً للمجمع البابوي للكنائس الشرقية وسماه كاردينالاً، وهو الذي طلب من البابا أن يحتفظ بلباسه الشرقي، فكان الوحيد في حاضرة الفاتيكان يختلف لباسه عن لباس الكرادلة الآخرين.

أعلمت الشيخ الدكتور أحمد بدر الدين حسون، المفتي العام لسورية عن الوفاة، واستقر الرأي أن انقل رسالة تعزية صادرة من سماحته لتتم تلاوتها في الكنيسة اثناء مراسم الجناز الذي سيقام في مقر البطريركية، وذلك للعلاقة الطيبة التي كانت تربطهما.

اتصلت بالمطران يوحنا بطاح وهو النائب البطريركي لبيروت وأعلمته أن مفتي سورية سيقوم بإرسال رسالة تعزية سأتلوها نيابة عنه خلال الجناز، وقد اتفقنا أن أسافر معه من دمشق إلى بيروت، فكان خير راعٍ لي بسفري هذا، وأنا مدين له بالكثير من الشكر.

بعد وصولي إلى بيروت وانتقالي الى الكنيسة مبكراً حيث ستتم مراسم الجنازة، وجلوسي في المكان المخصص لي بين المسؤولين اللبنانيين – قبل وصولهم – والذين سيشاركون، إن بصفتهم الشخصية أو كممثلين عن رئيس جمهورية ورئيس وزراء لبنان ورئيس مجلس نوابها وعن الشخصيات السياسية،…. وقد تصفحت الكتيب الذي طبعته البطريركية والذي ضم بصفحاته التي لم تتجاوز العشرين صفحة، مراسم الجناز ونبذة عن الكاردينال المتوفى ورسائل التعزية التي وردت وهي من البابا بنيديكتوس السادس عشر، والكاردينال بيرتونيه أمين سر حاكمية الفاتيكان، ومن الشيخ أحمد بدر الدين حسون مفتي عام سورية.

أعرف أن كل الذين اشتركوا في الجناز قد قرؤوا هذا الكتيب، والكل لا شك تساءل عن مَنْ الذي سيقرأ كلمة مفتي عام سورية؟، هل هو شيخ مُعَمَّم؟ أين يَجلُس؟ لا شك أن الأنظار بدأت تتوجه إلي، لأنني كنتُ الغريب بين المسؤولين اللبنانيين، ولكنني بالنسبة لهم، لستُ شيخاً ولا البَسُ لِباسَ رجالِ العلم الإسلامي.

بدأت المراسم بدخول النعش محاطاً بمجموعة من البطاركة والمطارنة والكهنة، وكما هي العادة المُتبعة وقف الجميع احتراماً، فوقفتُ ورسمت إشارة الصليب كأي مسيحي آخر، ونظرت يميناً ويساراً فرأيت الدهشة في عيونهم، فهم بعد أن قرؤوا اللوحة المعلقة على ظهر مقعدي – عندما وقفت – وتأكدوا بأني مستشار مفتي سورية، اندهشوا من أن أقوم برسم إشارة الصليب.

وخلال كلمة البطريرك يوسف الثالث يونان، بطريرك السريان الانطاكي، في تأبين سلفه الكاردينال داود، توجه بالشكر إلى سماحة مفتي عام سورية "الذي أوفد مستشاره" وذكر اسمي ببطء فكانت كلمة قس، والتي هي جزء من كنيتي، مَن جَعَلَ البعض مدهوشاً من كوني مسيحياً مستشاراً لمفتي.

خلال الكلمة التي تلوتها باسم سماحته، شدتني جملة واحدة قرأتها بكل جوارحي وهي "ونحن إذ نذكره في هذه اللحظات كمواطن سوري"، أجل فهو سوري من قرية مسكنة بجوار حمص، وقد طلب أن يُدفن في مقر البطريركية في لبنان، فحضر مراسم الجناز كل الممثلين عن السياسيين اللبنانيين وتم تسليط الأضواء عليهم من الإعلام المرئي والمسموع .

كل لبنان حضَرَت، إلا سفير بلده سورية، والذي اكتفى بأن قدَّم التعازي في اليوم الثاني، وكأن الموضوع للمجاملة فقط.

كان في مكان إقامته في روما يتصل يوميا مع بلدته ويطمأن على الوضع السوري، ولكن لدى نقل جثمانه من روما إلى بيروت لم تكن سورية التي كانت محور اهتمامه مُمَثلة.

ولدى وصول الجثمان إلى بيروت كان الممثلين عن المسؤولين اللبنانيين حاضرين ما عدا مُمَثلٌ عن سورية.

فقط ذكره مفتي سورية عندما قال في رسالته بأنه "مثّلَ وَطَنه ورعيته لدى العالم الكاثوليكي" والذي لولا المفتي لنسي الجميع انه أول سوري يتبوأ منصباً مهماً في الفاتيكان.

هكذا نخسر ونُضيع رموزنا الكبيرة.

عندما نزلت من المنصة حيث ألقيت الكلمة، مَررَتُ أمام النعش وكم تمنيت أن القي عليه علم بلاده وبلادي سورية.

آه غبطة الكاردينال، كم كنتَ سورياً حتى العظم، ونسيناك.

اللهم اشهد أني بلغت