المنشد الحلبي صبري مُدَلّل بقلم بسام لولو
- نوفمبر 16, 2009
- 0
المنشد الحلبي صبري مُدَلّل سيد الارتجالات وصانع الوَجْد والسرور. تحقيق بسام لولو: انعجن صبري مدلل بهواء مدينته حلب، وتبلل بمطر مزاريبها، واستظل من شمسها في ركن من مساجدها أو تحت إحدى “ياسمينات “دورها،
المنشد الحلبي صبري* مُدَلّل سيد الارتجالات وصانع الوَجْد والسرور
تحقيق: بسام لولو
عناوين فرعية
ـ محمد ملص: صبري حافظة فقدناها وسنظل نحتاج إليها
ـ فواز باقر: صاحب طريق مباشر بين قلبه وحلقه
ـ محمود كحيل: كان يقدم مشهداً بانورامياً غنائياً ملوناً وهو لايقل إبداعاً في التلحين عن الغناء
ـ سهير شقير: حلّق بمستمعيه إلى آفاق من النادر أن يصلوا إليها مع مطرب آخر
ـ أمية الزعيم: جذبت سهرته الأسبوعية النخب العربية، وكان فيض الوجدان فيها لايُحد
ـ جمال الغيطاني: صبري جسد من مقامات
ـ سمير كويفاتي: مات وهو يغني
ـ سهيل عرفة: صوت انتصر على الزمن
ـ عابد عازرية: لم ألتق في حياتي إنساناً يعشق الغناء مثله
ـ عيسى راشد: يمكن أن يكون سيرة لمدينة حلب
ـ فيكتور سحاب: إنه شاهد على جيناتنا
ـ محمد صميم الشريف: إنه ظاهرة يجب الوقوف عندها
ـ وليد غلمية: يجب أن تُحفظ أعماله لمن يرغب في دراسة فترة مهمة من الغناء العربي
مقدمة
انعجن صبري مدلل بهواء مدينته حلب، وتبلل بمطر مزاريبها، واستظل من شمسها في ركن من مساجدها أو تحت إحدى "ياسمينات "دورها، واكتوى بلواعج أشواقها، والتقى كبار فناني مدرستها، وغاب أخيراً في تربتها، وخلال كل ذلك ما كان يفعل شيئاً إلا الغناء، حتى يخال المرء أن صوته لا يقل أثراً في حجارة حلب عن هوائها وشمسها ومطرها، وحتى صارت أشرطته مثل فسقتها وزعترها وصابونها وحلوياتها يرسلها الحلبي بفخر إلى أحبته في أصقاع الدنيا. لذلك ما كان بإمكان أي عمل موسيقي أو أدبي أو تشكيلي أو سينمائي أو صحفي أن يتناول صبري مدلل بمعزل عن مدينته، لكن أحد سمّيعته، قال: من الصعب على أي عمل أن يصل إلى قامة الشيخ صبري، إذ بقيتُ أبحث عن سر بهاء شخصيته، فلم أستطع أن أمسك بكل تلابيبها.
لذلك ما كان همنا في هذا العمل إلا أن نحاول الإجابة عن سؤال: من هو صبري مدلل إنسانياً وفنياً؟
من خلال بعض المصادر التي تحدثت عن سيرته، واللقاء بعدد من الفنانين والباحثين والسميعة الذين عايشوه عن قرب، وبعض مما قيل فيه، فإلى هذه المحاولة: سيرة ذاتية من كتاب "شيخ المطربين صبري مدلل وأثر حلب في غنائه وألحانه" لمحمد قدري دلال، وكتاب "مئة من أوائل حلب" لعامر مبيض، وبعض المصادر الأخرى، حاولنا أن نتعرف إلى بعض من سيرة صبري مدلل الذاتية:
ولد الشيخ صبري عام 1918، في أسرة حلبية متدينة، فقرأ القرآن منذ صغره على يد الشيخ أحمد المصري الذي اكتشف جمال صوته فأوكل إليه مهمة الأذان، قبل أن يتتلمذ موسيقياً على يد الشيخ عمر البطش، فتأثر به كثيراً، كما تأثر بالعديد من أعلام الموسيقى والغناء في حلب، ومنهم الشيخ بكري كردي، وراح ينشد ويغني في الزوايا والتكايا والمساجد وحفلات الموالد والأعراس، إلى أن أنشئت إذاعة حلب عام 1947، فكان واحداً ممن غنوا على هوائها المباشر عام 1949، لكنه سرعان ما أطاع والده في التخلي عن العمل فيها خشية أن يصير مطرباً، وهو الأمر الذي ما كانت تفضّله الأسر المتدينة، فعاد إلى الإنشاد الديني عملاً بالمبدأ القائل: "مدّاح طه لا يُضام"، وأسس فرقة تتابع عليها كبار المنشدين مثل أحمد السمان المدني وفؤاد خانطوماني وعمر نبهان ثم عبدالرؤوف حلاق وزكريا مكي ومحمد وعمر صابوني وحسن حفار.. وانتهت بأن تسلم ابن أخته الفنان أحمد حمادية إدارتها.
وقد خاض المدلل بجدارة غمار التلحين، فلحن أربعين عملاً دينياً، باستثناء واحد كان غزلياً. لكن النقلة النوعية في حياة المدلل حدثت عندما تعرف إليه أحد الموسيقيين الأجانب، هو كريستيان بوخه، فقدمه إلى الجمهور الفرنسي، لتتتالى بعد ذلك حفلاته في العديد من الدول العربية والأجنبية مثل ألمانيا وهولندا والنمسا واليونان وبلجيكا وسويسرا والصين وتونس ومصر والكويت ولبنان والإمارات العربية المتحدة.
حافظ الشيخ صبري على ما ورثه من أساليب الأداء والغناء والانتقاء، فلم يخرج على الجمل الموسيقية القديمة، ولم يتصرف فيها إلا في حدود الجماليات، وما يتناسب مع إمكاناته الصوتية العالية التي دربها أحسن تدريب، وكان لا يقنعه من الألحان سوى ما أتقن صنعه، واستكمل حظه من المراجعة والتنقيح والتدبيج، وهذا ما بدا واضحاً في ألحانه..
وقد استلهم ما خزنته ذاكرته من أعمال سيد درويش والقصبجي ومحمد عبدالوهاب وزكريا أحمد وداود حسني فأعطى لوناً جميلاً لأثواب لم يعرفها الإنشاد الديني قبلاً ولم يعهد مثلها في قوالبه.
وقد جعل المدلل من سهرة السبت من كل أسبوع علامة فارقة في مدينة حلب على مدى 51 سنة، فكانت تستقطب كبار فنانيها ومبتدئيهم وسميعتها وضيوفها من سفراء وفنانين ومثقفين. وخلال كل ما تقدم ظل الشيخ صبري يتحرك مثل نواس بين منزله في حي الجلّوم، وبين دكانه الذي يبيع فيه صابون الغار الحلبي في حي الكلاسة، وبين المساجد التي عمل فيها مؤذناً، والتي كان آخرها الجامع الأموي الكبير في حلب، حيث كان يؤذن فيه الظهر والمغرب والعشاء فقط.. وقد جعل من كل مكان يحط فيه مدرسة فنية يقصدها ويؤمها طالبو العلم، إلا المكفوفين فقد كان يقصدهم في معهدهم الخاص بهم ليعلمهم أصول الغناء والإنشاد على أمل أن يحصلوا بذلك على مصدر رزق لهم. كُرِّم المدلل من الرئيس السوري بشار الأسد عام 2001، ومن كل من التقاه أو سمعه أو سمع عنه، سواء بالحب والتقدير، أو بتخليد ذكره في الصحافة والأدب والتشكيل والسينما والدراسات الموسيقية. شيّعته حلب إلى مثواه الأخير في مقبرة "الصالحين" في 1982006 طفل كبير.
البعد الروحي والإنساني في شخصية صبري مدلل، تكلم عنه المخرج السينمائي محمد ملص الذي استطاع بعبقرية فذة أن يمسك بأحد مفاتيح هذه الشخصية من أول سؤال لها في بداية فيلمه الوثائقي عنها، عندما قال لصبري: من أنت؟ فأجابه: "أنا صبري مدلل المنشد الحلبي ومُدْخِل السرور إلى قلوب الناس"، فكشفت هذه الإجابة، فيما كشفت، عن البعد الإنساني العميق لهذا الرجل الذي كرّس عمره ليكون منشداً وباعثاً على السرور، فما كان من ملص إلا أن قبض عليها، وصاغ منها عنوان فيلمه "حلب.. مقامات المسرّة" وفي الوقت الذي يقدّر فيه ملص أن من سوء حظ الكثيرين، من خارج حلب، أنهم لم يتعرفوا إلى صوت المدلل إلا متأخراً في أواخر السبعينيات، يرى أن النصر الكبير الذي حققه صبري هو أنه استطاع أن يرفس سنوات العمر، وألا ينكسر أمامها، فظل ينشد ويبعث السرور، عبر صدق وجمال الصوت والكلمة واللحن، معلناً عن روحه في قدرتها على تجاوز جحود الأزمنة، وتدفقها بالحياة والكرم، وإصرارها على الجمال والتألق.
وللكشف عن المزيد من طبقات شخصية المدلل، يتحدث ملص بحميمية عن اللحظات الدافئة والجميلة، في الفترة التي أمضاها، ليلاً ونهاراً، في بيت المدلل الذي وضع نفسه بين أيدي فريق الفيلم، فكان ملص كلما دلف إلى دهليز من دهاليز شخصية المدلل، وجد ذاكرة أمينة ووفية للإنشاد ببعديه الديني والغزلي، وإرادة في التعبير عنه بأصالة وصدق، لحماية هذا التراث الغنائي الخاص الذي يتناثر في أرجاء وهواء مدينة حلب العريقة، فكان يفوح بعطر صوته أمام الكاميرا والأنوار والأجهزة في أوقات التحضير لالتقاط لحظة له، وهو يمسك "بالدف" ليستعيد على مسامع الفريق مقاماً من المقامات.
إلى جانب هذه الذاكرة الحية يرى ملص في المدلل طفولة نابضة، وهو يرتدي "جلابيته" الجميلة، ويقفز على السرير ليلتقط صورة من على الجدار، ولينفخ الغبار عنها، ويقول: "هذه الصورة لي وأنا في باريس، أو مصر.."، أو وهو يلتقط صورة أمه من بين صوره التي بعثرها على السرير، ليقول عنها: كانت لا تقدم لي العشاء، إلا إذا غنيت لها! وعن علاقة المدلل بمدينته ومجتمعها، يتحدث ملص عن التصوير في الشارع، فكان مع فريقه، يتجلل ببهاء قامة المدلل وطربوشه الأحمر القاني، وكانت تكل أيديهم من مصافحة الناس، وهم يعبرون الأسواق، من بيت المدلل إلى مئذنة الجامع الكبير، ليعلن أذان الظهر، فكان بمجرد أن ينبث بكلمات الأذان الأولى، يجلل حلب بصوته وهو يدعوها إلى الصلاة.
ولأنه لم يقدر للكثيرين أن يروا الفيلم، فقد ظل السؤال: هل استطاع أن يصل إلى قامة صبري؟ في الإجابة عن هذا السؤال يرى ملص أنه كسب صبري مدلل، وحقق ما يصعب تحقيقه، بجهود وعون أخيه الشاعر الإماراتي أحمد السويدي، لكن كلام ملص ظل يحمل شيئاً من حرقة وغصة على واقع هذه الأمة الذي حال دون توصيل هذا الإنجاز. فملص يرى أن الأزمات في منطقتنا العربية، كثيراً ما تكون ظالمة وجاحدة وناكرة عندما تنثر الرمال فوق العطاءات وفي هواء اللحظات المتألقة في حياة المجتمعات، لكن ملص يؤمن بقدرة التاريخ على إزاحة الغبار عن قاماته، من مثل عباقرة الموسيقى النادرين الذين أسسوا ما سمي بمدرسة حلب في الغناء، وهم: علي وإبراهيم الدرويش وعمر البطش وبكري كردي. وفي نهاية حديثه يؤكد ملص أهمية صبري مدلل في أنه الحافظة أو الذاكرة التي فقدناها والتي نحتاج إليها في كل الأزمنة.
نهاية جيل لتوصيف الجانب الفني في شخصية صبري مدلل، كان لنا وقفة مع فواز باقر؛ دكتور في الهندسة المعمارية وباحث في علم الموسيقى، مهتم في العلاقة بين العمارة والموسيقى، وعازف عود ذو سمعة ناصعة، رافق صبري مدلل في عدد من حفلاته، فقال عن صبري: إنه من أفضل مؤذني ومنشدي ومطربي وملحني حلب المبدعين، استطاع بما يملكه من موهبة وروحانيات وخيال وخبرة وحسن أداء وصوت أن يشق طريقاً مباشراً وسريعاً من قلبه إلى حلقه، مستغنياً بذلك عن الطرق الإجرائية الموسيقية، ومستفيداً في ذلك من عمله مؤذناً، ومعبراً في صوته عن كل ما يتحلى به من صفات الكرم والعفوية والشفافية والطيبة واللطف ودماثة الروح.
ويلفت باقر الانتباه إلى أن كون صبري ملحناً لا يقل عنه مؤذناً أو منشداً؛ إذ إن جملته اللحنية لا تقل مستوى وجمالاً عن جملة كبار ملحني الموسيقى العالمية، بما تنطوي عليه من خيال وكثافة، ويدلل باقر على ذلك بجلسة جمعته مع صبري وعدد من الموسيقيين الفرنسيين الذين تحدثوا فيها عن لحن سمعوه لأحد الموشحات القديمة، وسحر ألبابهم، فكانت دهشتهم كبيرة عندما عرفوا أن صاحب اللحن هو صبري مدلل الجالس معهم.. بهذه التوصيفات يرى باقر أن صبري ظُلم عندما قَصَره بعضهم على أنه موضوع فلكلوري سياحي.. وبهذه التوصيفات يعلن باقر برحيل صبري نهاية جيل مؤمن بموسيقاه الشرقية كما هي، ومكتف ومملوء بها بانسجام مطلق، من دون أي شعور بالنقص.
سيّد الارتجال الدكتور محمود كحيل، مدرس الأدب العربي القديم، قريب من أوساط الطرب الحلبي، وحافظ متمكن لقواعد وأصول الموسيقى الشرقية، يرتبط بعلاقة طيبة مع الراحل صبري، لم يبتعد عن الدكتور باقر في حديثه عن أهم ما يتميز به الجانب الفني في شخصية المدلل، لكنه تحدث بتفصيل أكبر عن ميزة الارتجال التي تسمى في لغة السميعة بـ "السلطنة"، والتي تحتاج إلى قدرات فائقة في التحكم بالصوت، فقد كان صبري يقدم من خلالها مشهداً بانورامياً غنائياً وملوناً، ينتقل فيه من موشح إلى قصيدة أو أغنية، ذات خصائص موسيقية مشتركة، أي من مقام واحد أو مقامات متقاربة، مستعيناً ببعض الآهات والليالي والحركات الصوتية، ليعود في نهاية المشهد البانورامي الغنائي إلى نفس الأغنية والطبقة الصوتية اللتين انطلق منهما. ويعجب كحيل من ارتجالات صبري المبهرة في الموشح؛ إذ إن الارتجال معروف وشائع في >الدور<، أما في الموشح فهو صعب ونادر جداً، لأن الموشح بطبيعته مقيد ومعقد. ويرى كحيل أن المدلل تأثر بالشيخ محمد النصار في ارتجالاته وغنائه وأدائه، وإن كان يقول إنه تأثر بعمر البطش وبكري كردي، فهذا الكلام يصح عليه من حيث كونه ملحناً، أما من ناحية كونه مغنياً ومؤدياً فإنه تأثر بالنصار أكثر. وينوّه كحيل ثانية إلى أن المدلل لا يقل إبداعاً في التلحين عنه في الغناء والأداء، فهو لحن الموشحات والابتهالات والمدائح الدينية، بأسلوب يمكن وصفه بأنه من السهل الممتنع الذي انتشر وشاع بسرعة، إلى حد أنه لا يقام مولد في حب، منذ أربعين سنة، من دون أن تنشد فيه بعض ألحانه.
هذا المشهد البانورامي الغنائي من الارتجالات عند صبري مدلل سمّته الفنانة سهير شقير الطقس المدور في الغناء، فقالت: إن الشيخ صبري تمكن منه بجدارة هائلة وساحرة، استطاع من خلاله أن يسلب ألباب مستمعيه، وأن يُسكرهم من دون شراب، وأن يحلّق بهم إلى آفاق من النادر أن يصلوا إليها مع مطرب آخر، وبزخم ظل حاضراً في روح صبري حتى آخر أيام عمره قبل أن يقع في مرض الموت. لكن سهير استغلت هذه المناسبة وتحدثت عن العسل الفني الموجود في طاقات وإمكانات فناني حلب، والمخبأ في خوابي كسلهم؛ إذ إنه مقتصر على جلساتهم وسهراتهم وحفلاتهم الخاصة، متفقة في ذلك مع عازف القانون العراقي سالم حسين الأمير رئيس فرقة ناظم الغزالي سابقاً.
سهرة السبت من أنشطة صبري مدلل المتميزة
سهرة السبت، التي كان يقيمها في بيت صديقه يحيى زين العابدين، والتي بدأت بسيطة ومتواضعة ومقتصرة على عدد من أصدقائه الرجال، وغدت مع الأيام علامة من علامات حلب الفارقة. ربما، انبثقت فكرة هذه السهرة عام 1948 عندما رغب صبري في أن يتخذ من بيت صديقه القديم والمتواضع مكاناً يلتقي فيه مع أصدقائه، بشكل دوري ومنتظم، إلا أن خبرها سرعان ما شاع بين الناس، فصارت معلماً يجتذب نخبة من سميعة وفناني حلب وفنانيها ومثقفيها وضيوفها على مدى نحو 51 سنة، ولم تتوقف إلا عندما تزوج صاحب الدار التي ما عاد بإمكانها أن تستوعب ضيوفها المتزايدين مع الأيام، لكن صبري استمر في إقامة سهرات خاصة لفناني حلب وضيوفها في منزله حتى قبيل وفاته.
أمية الزعيم، صاحبة صالة بلاد الشام للفنون التشكيلية، كانت تتابع بعض أبسط التفاصيل التي كان يحتاج إليها صبري في بعض حفلاته الخارجية، كأي أم أو سيدة حلبية أو عاشقة متيمة بمدينتها وأهلها وتراثها، فهي لا تنسى يوم استفقده الجميع في حفل كبير يحتفي به بمناسبة تكريمه من قبل رئيس الجمهورية العربية السورية، بحضور رئيس الوزراء آنذاك، فراحت تبحث عنه لتجده على طاولة متطرفة مع أصدقائه المقربين. وأمية الزعيم، هي أول امرأة اقتحمت سهرة السبت؛ إذ كانت قبلها وقفاً على الرجال، فكان صبري يبادلها التحية تقبيلاً، وكانت تدعو إلى تلك السهرة عدداً من ضيوف حلب، من مثل المحامي السوري المعروف نجاة قصاب حسن والقاصة كوليت خوري والكاتبة سلمى الحفار الكزبري والرسام محمد فريد الحديدي، سيد المائيات العربية، الذي خص صبري بإحدى لوحاته، والفنان عزت العلايلي ومذيعة الـ CNN هالة كوراني التي كانت تجلس على الأرض مذهولة بأسلوب صبري في الإنشاد، والتي ظل يستفقدها ويسأل عنها في غيابها. وقد كان الحضور يجلسون صيفاً في أرض الدار، وشتاء في إحدى غرفها، ويتوزعون الأمكنة بينهم على مبدأ "بيت الضيق يسع ألف صديق"، في حين يستقل السميعة المداومون على الحضور في أماكنهم المخصصة لهم، ليتناول الواحد كأس شاي معطرة بقطرة مسك، أو بقطرتين إذا كان من المدللين. وإذا قُدِّر لتلك السهرات أن تجمع في واحدة منها عدداً من فناني حلب، فإن فيض الوجدانيات لا يمكن أن يحده حد.. فـ أمية الزعيم لا تنسى سهرة جمعت إلى جانب صبري مدلل ميادة الحناوي وصباح فخري وعبود بشير وعمر سرميني ونهاد نجار، الذين وراحوا يتبادلون فيها الأدوار ويسلمون بعضهم الأغنيات في ارتجالات اضطرتهم إلى إيقاف التسجيل، بعد أن تهاوت أمامها كل القيود والقواعد والسدود، وهو الأمر الذي لم يتفهمه كثيراً الموسيقي الفرنسي جوليان الذي استوطن حلب وتسمى بـ جلال الدين، عندما كان يقيد صبري ببعض المطالبات، غير مدرك جماليات "السلطنة" في ارتجالاته. مشيئة الحياة تزامن رحيل صبري مدلل مع رحيل نجيب محفوظ، فكلاهما عاشا عمراً مديداً وخصيباً، وكلاهما كانا سيدين في فنهما، واستطاعا أن يحققا به فتوحاً عالمية (مع الفارق طبعاً)، ومتصالحين مع الحياة، وكأن الحياة شاءت أن يودعنا في هذا العام أكبر المتصالحين معها.
مما قيل في صبري مدلل:
ـ الروائي جمال الغيطاني:
عرفته لأول مرة عندما أهدانا أخي وصديقي عبدالرحمن منيف تسجيلاً لصبري مدلل. ثمة شيء يذكرني بالمطرب صالح عبدالحي، شيء لا أستطيع تحديده تماماً، لكن صبري أكثر حيوية، إنه يتفجر بالطاقة عند الغناء يبدو وسط فريقه متوجاً رئيساً، مركزاً وبؤرة، وعندما يندمج فإن حضوره المادي كله يتحول إلى موسيقى، فكأنه جسد مركب من مقامات وليس من أعضاء. في بيت الصديق محمد قجة رأيته أنحف .. كان يعاني المرض.. أجرى عمليات جراحية.. أما ذروة التكريم التي حظيت بها فجملة قالها لي صبري أثناء لحيظات راحة: "والله لم أغن من سنتين"
سمير كويفاتي ــ موسيقي سوري:
لا يعرف اليأس والملل، ولم يسمح للسنين والمرض والظروف أن يفرضوا عليه الصمت، فقد عاش يغني.. كان يكبر ويغني.. يصلي ويغني.. ومات يغني.
سهيل عرفة ــ موسيقي وملحن سوري:
صبري مدلل ظاهرة قل وجودها في الأصوات البشرية، إذ يستطيع أن يجلب أكثر من مقام على الرغم من عمره الكبير، فإذا كنا نعشق ما يقدمه الأطفال عندما يكون بسوية عالية لا تتناسب مع صغر سنهم، فإن إعجابنا الكبير بصبري فلأنه تميز بطبقات وقدرات صوتية لا تتناسب وكبره في السن.
عابد عازرية ــ موسيقي سوري مقيم في باريس:
منذ لقائي الأول بصبري شعرت بأن صوته وشخصه يحملان فرحاً وكرماً لا مثيل لهما.. لم ألتق في حياتي إنساناً من الشرق يعشق الغناء مثله ويندهش معجباً بأصغر الأشياء.
عيسى راشد ــ صحافي:
لم يكف لحظة عن الغناء.. لم يتقاعد.. لم يبتذل.. لم يستسلم صوته.. إن حياته الهادئة ترمي على سيرته نوعاً من سحر خاص، وتطرح سؤالاً: هل يمكن للمرء أن يكون فناناً إلى هذا الحد من دون أي عواصف؟ لا شك أنه يمكن أن يكون سيرة لمدينة ينبغي حقاً أن تكتب من جديد.
فيكتور سحاب، مؤرخ، نائب رئيس المجلس الدولي للموسيقى (اليونسكو):
صبري المدلل آخر شهود عصر الطرب الأول الذين نشأ وجدانهم الموسيقي، حين كانت عناصر تكوين الثقافة الموسيقية أقرب إلى النقاء والأصل والشخصية العربية الحضارية الواضحة. لم يكن واحداً من الذين أتونا من عصر جميل سالف، ليسمعنا ما يفوتنا سماعه اليوم، في وسائل العصر الملتبسة فقط، بل كان شاهداً على أن ما في غددنا وتكويننا العضوي لا يمكن تغييره مهما تباعد الزمن، وأنّى مضى بنا عصر التعتيم على شخصيتنا الفنية والثقافية. ميزة غناء الشيخ صبري ليست جمال الصوت بالذات، بل شحنة الطرب الكبيرة التي يبثها في مستمعه من شدة أصالته وتعمقه في التراث وأصوله، والتزامه قواعد الوصلة الغنائية التي تحيي في المستمع كوامنها الخفية، من دون أن يدري سر ذلك السحر الذي يأخذه، والتي من أهم عناصرها علم الارتجال والتلوين والتصرف عفو الخاطر، وفق اللحظة والمشاعر التي تجمع في أوانها العازف والمغني والمستمع في وحدة حال ونشوة اسمها الطرب.
محمد صميم الشريف ــ باحث وناقد موسيقي:
له أسلوب خاص في الغناء تصح تسميته بأسلوب "المدلل" الغنائي. صوته ظاهرة يجب الوقوف عندها، فهو على الرغم من تقدمه في السن، وتراجع مساحات صوته، كان يمتلك القدرة على التحكم بالطبقات الصوتية الثلاث: المنخفضة والمتوسطة والمرتفعة، والتكيف في الانتقال بين النغمات بسهولة من دون عناء.
محمد قجة ــ رئيس جمعية العاديات السورية:
منذ مطلع الثلاثينات كان صبري مدلل يتلقى دروس الموسيقى لدى الشيخ عمر البطش، وكانت أجرة كل حصة دراسية نصف ليرة سورية، ولكن الشيخ عمر قرر تلقينه الدروس مجاناً نظراً لتفوقه وتميزه.
محمد قدري دلال ــ موسيقي سوري:
– لصبري مدلل مع طول النَفَس قصة طريفة، إذ اكتشف أن الموسيقار محمد عبدالوهاب تنفّس قبل كلمة عيني في غنائه و"تعطلت لغة الكلام وخاطبت/ عيّني في لغة الهوى عيناك" من قصيدته المشهورة "يا جارة الوادي"، فتمرن عليها وغناها بنفس واحد.. والقصة لا تعني شيئاً عند الأغلبية، لكنها تعني كثيراً عند مزاولي الغناء. – المشهور في الأذان أن يؤدى من مقامي "الحجاز" و"الراست"، وفي أحيان قليلة من مقام "البياتي"، لكن الحاج صبري، كان يؤديه من مقامات مختلفة، فكان يستوقف الناس للإصغاء والاستمتاع بذلك الأداء.
وليد غلمية ــ موسيقي لبناني:
كان صبري وريث مدرسة غنائية عريقة هي المدرسة الحلبية التي تشكل واحداً من ثلاثة مراكز أساسية للموروث الغنائي التقليدي هي حلب وبيروت وبغداد. وكان ضليعاً في مقام "السيكاه" التركي الذي يعد أساساً كبيراً للمقامات الموسيقية التي استعملت في المشرق العربي. أتمنى أن يعمم ما تركه صبري أو يحفظ على الأقل، ليكون إنتاجه موضوعاً لمن يرغب في دراسة فترة زمنية مهمة من الغناء العربي.
* الصور أثناء الملتقى الدولي للتصوير في مدينة حلب ـ تنظيم صالة الجسر عيسى توما ـ 2004