فالمبدع هو الذي يأتي أمراً ينال به قبولهم و رضاهم و يثير دهشتهم.. فيقولون عن وصف عمله بأنه “عمل بَديع”

 

 

 

 

 

المُبدع و المبتَدع ……. بقلم : جلال مولوي

كثيراً ما كان أجدادنا يطلقون على شخص ما كلمة "مُبْدِع" و يقصدون بها الشخص الذي يتميّز في مجال من مجالات الحياة, فالمبدع هو الذي يأتي أمراً ينال به قبولهم و رضاهم و يثير دهشتهم..  فيقولون عن وصف عمله بأنه "عمل بَديع", أما إذا أرادوا ذم هذا العمل فيقولون أنها "بِدْعَة" و الشخص الذي يقوم بها يطلقون عليه كلمة "المُبتَدِع" ….. هذا لمن علِم أمور اللغة و الألفاظ.

أما الآن فالأمر لدينا سيّان، و لا فرق لدينا بين الأمرين فكليهما نسميه "إبداعاً" و هذا من جملة الالتباسات و الأخطاء التي نمرُّ بها عموماً، فلم نعد كما كان أجدادنا نهتم بالتفاصيل و الدّقة في الوصف بل على العكس نهتم بالظواهر و العموميات فنأخذ بكلام هذا الشخص إن اقتنعنا به و نسلّم له ونغض البصر عن البحث في صحة كلامه, و العكس بالنسبة للشخص الذي نرفضه جملةً و تفصيلاً، فننكر أقصر جمله و نعتبرها على خطأ و كأن عقلنا في غيبوبة, أما من يفكر أو يستخدم عقله بنسبة أكثر من ثلاثة بالمائة فيكون قدوة لغيره كما يقول علماء النفس, في حين أنّه من يفكر بنسبة تصل إلى عشرة بالمائة فسيجيد فن قراءة الأفكار و لغة التخاطر و بإمكانه ثني المعادن من على بعد, فأي عقل "بديع" نهمله ؟!!

إذا صنع الرجل عملاً مبتكراً و أحببناه تماماً نقول عنه "عبقري" و هي كلمة مأخوذة من قريةٍ موجودةٍ في شبه الجزيرة العربية و اسمها "عَبْقَر" و كان يسكنها الجنّ بصورة واضحة, فكان العرب كلما رأوا شيئاً غريباً و صعْب الصنع أطلقوا عليه كلمة "عمل عبقري" أي أنه يفوق قدرة الإنسان العادي و يجاري قدرة الجن, ثم اتسع أجدادنا في ذلك فأطلقوا على السيد وعظيم القوم كلمة "عبقري" فيقال "عبقري القوم سيدهم", أما اليوم فما شاء الله كلنا "عباقرة" .. وبلا تواضع, بل نغالي في التكبّر على بعضنا البعض دون حق, ونعتقد بأننا نحسن الصنع و أننا فريدون في عملنا فلا تواضع و لا إبداع إلا ما ندر.

ينقسم علماء النفس في تفسيرهم للسبب الحقيقي وراء الإبداع.. فمنهم من يقول أنّ حالة "الانفعال الخلّاق" هي التي تصنع الإبداع كوجهة نظر العالم "برجسون"، و منهم من يقول أن الإبداع حالة تأتي بعد التخلّص من حالة الكبت الجنسي و إشباع الغرائز كما يرى "فرويد" و تلامذته, و منهم من يرى بأن السبب الرئيسي وراء الإبداع هو الشعور بالنقص … و هذا رأي "ألفرد أدلر" و "كارل يونج", و أخيراً يرى بعض علماء النفس أمثال "روجرز" أن الإرادة في تحقيق الذات هي سبب توليد الإبداع, و لعلّ الأمر السائد في مجتمعنا هو الشعور بـ"عُقد النقص" التي تكثر لدينا على العموم و ما يتبعها من عقد نفسية كثيرة فنصِف الشخص الذي لا نتماشى معه بأنه "إنسان معقّد" أي غير سلس التفكير و مما هو واضح أنه من بين هؤلاء المعقّدين الكثير من المبدعين.

وعلى الرغم من أن الذكاء و الإبداع على ترابط وثيق, تبيّن من خلال الدراسات الحديثة بأن الذكاء يؤثر على الإبداع حينما يكون الشخص المُبدع عند مستوى معيّن من الذكاء يفوق ذكاء الشخص المتوسّط بقليل, و لا يكون لزيادة الذكاء بعد ذلك تدخّلاً في كون الشخص "مبدعاً" بل يتحوّل الإبداع إلى حالة نتاج خالص يخص قدرات المبدع من حماس و إصرار.

الأمر البيّن في حياتنا هو أنّه سُرعان ما يتراجع المبتدع فيضمحلّ شخصه و ابتداعه للأشياء, لأنه مهما ازدادت نسبة الجهل لابدّ أن يكون هناك قلّة من العقلاء ممن يفقهون الأشياء و الأفعال و الأقوال و يصنّفونها وبالتالي يُرجعون المُبتدعين إلى "أحجامهم الطبيعية" و يعيدونهم إلى الأماكن التي يجب أن يكونوا فيها فعلينا أن نواجه المبتدعين بحقيقتهم لأنهم سرعان ما يدمّرون مجتمعات بأكملها.

ومما هو واضح للأسف، فإن كل شخص لديه مشروعاً يضع نصب عينيه تسليم زمام الأمور لأشخاص تجمعه معهم مصالح العلاقات و الأموال غير آبه بإمكانيات أولئك الأشخاص و بجودة تفكيرهم و قدراتهم….. و عندها لا نرى سوى هلال "الفشل" بات قريباً فيأفل نجم "المبتدع" و يفشل المشروع و صاحبه و القائمين عليه و كل ذلك لأسباب كان من الممكن تداركها.

إذن، الخطر الذي يهدد جميع دول العالم و بالأخص دول العالم الثالث هو وجود الشخص "المبتدع" مكان الشخص  "المبدع"، وآمل أن نحفّز ذلك الشخص الموجود داخلنا على الإبداع الحق