النِّفَّري ومخاطباته للدكتور جمال طحان
- أبريل 30, 2012
- 0
النِّفَّري ومخاطباته
ويقدم لنا الدكتور جمال طحان نص محاضرته: بين مقامي الوقفة والرؤي ـ في مرآة العصر. وقال لي: فإن العارفَ كالمَلِك يبني قصوره من المعرفة فلا يريد أن يتخلى عنها
النِّفَّري ومخاطباته
بين مقامي الوقفة والرؤيا
في مرآة العصر
د.محمد جمال طحّان
jtahhan@aloola.sy
وقال لي: فإن العارفَ كالمَلِك يبني قصوره من المعرفة فلا يريد أن يتخلى عنها
حياته
ولد محمد بن عبد الجبار بن الحسن بن أحمد النِّفَّري، في مدينة نِفَّر الواقعة على ضفاف نهر الفرات شرقاً، ونفّر مدينة سومرية تسمى نيبور، وهي مبنية على ضفاف الفرات الشرقية، وكانت مركزاً دينياً مهمّاً قبل أربعة آلاف سنة، وكان فيها معبد آكور الذي يُعبد به (إنليل) سيد الهواء، ومن ثم أصبحت فيما بعد مركزاً للديانة المانوية ثم المسيحية في القرن السابع الميلادي، توفي النِّفَّري في القاهرة في عام 375 هـ /965 م.
*إن حياة النِّفَّري غامضة في ولادته وموته وسيرته ، غير أن المؤكد إنه عاش في القرن الرابع الهجري، وعاصر محنة الحلاج التي أثّرت على أهل التصوف ودعتهم إلى التحفّظ والكتمان والتقيّة. اكتشف كتاب المواقف والمخاطبات للنفري، المستشرق آرثر يوحنا آربري سنة 1934م.
الملامح الصوفية
*النِّفَّري كان صوفياً على طريقته. وكما تعلمون، إن جوهرَ أهل الطريق وهدفَهم الأسمى هو الله فقط، وشعارَهم الأبدي ( لا مقصودَ إلاّ الله ) ولا يتمُّ ذلك إلاّ بشروط، هذا ما ركز عليه الشيخ النِّفَّري في نصوصه من خلال فلسفة الإزاحة والعبور اللذين هما سلّمُه العروجي في الاتّصال والوصول. وأهم هذه الشروط المتعلقّة بفلسفة النِّفَّري شرطان هما: التخلّي والتحلّي.
الشرط الأول/ التخلي:
وهذا يعني التخلي عن كل العوالق والعوائق والأستار والزخارف في الذات الإنسانية والتي تقف حاجزاً سميكاً بين هذه الذات والحقيقة المطلقة. وتسمى هذه الحواجز في فلسفة أهل الطريق _ بشكلها الظاهري _ بفلسفة الحُجُب، وبشكلها الباطني بالبرازخ، وتنقسم هذه الحُجُب إلى قسمين :
أولاً : الحجب المادية (أو الظلمانية) وهذه الحجب تحيط بالذات الإنسانية، وتشكّل دوائرَ مغلقةً في حركة هذه الذات. وأول مراحل الاتفاق والعهد للدخول في دائرة أهل هذا الطريق هو العمل على إزاحة هذه الحجب ليتسنى للسالك الوصول إلى تصفية تامة لهذه الملكات من أجل رؤيا واضحة للحقيقة.
وأما الطريقة المثلى عند أهل هذا الطريق في التعامل مع عالم الحجب هو المجاهدة والرياضة المادية وعلى منهاج الشيخ والطريقة التي يتعامل بها مع مريديه.
ثانياً: القسم الثاني من الحجب هو الحجب المعنوية (الحجب النورانية):
وهي الحجب التي تتعلق بالمثل العليا والحقائق السامية وما تُظهره من أنوار حقائقها وأسرارها والتي تؤسس للسالك معتقداته. ومركز هذه الحجب في القلب والروح والسر وتسمى بالحجب القلبية والحجب الروحية وحجب الأسرار. وطريقة التخلص منها تتمثل بالمجاهدات والرياضات المعنوية. ويؤكد الشيخ النِّفَّري في نصوصه على هذه الحجب بالذات، ذلك أن التخلص منها يمهد الطريق لأصحاب العرفان والولاية للوصول إلى المقامات التي أبدعها الشيخ، وأبرزَها مقاما الوقفة والرؤيا.
أما الشرط الثاني/ التحلّي فهو:
التحلّي في الاتصال والوصول إلى الحقيقة المطلقة: ويعني أن يتحلّى أصحابُ السلوك العرفاني والصوفي بالأسماء الإلهية الصفائية والأسمائية والعقلية التي تسري في وجودهم بشكل خاص. والطريقة التي يتم بها التحلي هي تسلُّقُ المقامات العرفانية والمنازل الوجودية التي لها حالات مباشرة وذاتية مع الحق الإلهي. والغاية هي التكامل وشهود الحق في كل الوجود ومن خلال كل الوجود المادي والمعنوي. ويتخذون أسفاراً في الوصول قسموها إلى أربعة أسفار:
– السفر الأول: هو السير من الخلق إلى الحق.
– السفر الثاني: هو السير بالحق في الحق.
– السفر الثالث: هو السير من الحق إلى الخلق بالحق.
– السفر الرابع: هو السير من الخلق بالحق.
المؤثرات العرفانية عند النفري
1"- يبدو أن النِّفَّري اطّلع على تراث الديانات الأخرى، فمن خلال سياقات نصوصه الدلالية وبناءاتها المعرفية واللغوية نراه يركّز على صراع الأضداد والديانات، كما أشار إلى ذلك الأستاذ يوسف سامي اليوسف في كتابه مقدمة في المواقف والمخاطبات، فالاثنينيات من الخير والشر والنور والظلام والولادة والموت والتسامي …كلّها وردت في نصوص النِّفَّري ، إلا أنه ابتكر فلسفة الاستواء التي تنفي التضاد والتثنية ، يقول: (من رآني تساوى عنده الكشف والحجاب ومن لم يرني من وراء الضدين رؤية واحدة لم يرني)، فقد تجاوز النِّفَّري هذه الاثنينيات.
لم يذكر الشيخ النِّفَّري أقوال الأنبياء ولا أسماءهم أو مقاماتِهم ولم يستشهد بآيات القرآن الكريم والكتب السماوية الأخرى رغم أنه يستعمل الصياغات والاشتقاقات الأسلوبية للكتب المقدسة، ونراه يورد ثلاث كلمات فقط من القرآن الكريم، وذلك في نص واحد يقول فيه: (وترى النار تقول ليس كمثله شيء، وترى الجنة تقول ليس كمثله شيء، وترى كلَّ شيء يقول ليس كمثله شيء). ويبدو أن عدم ذكر النِّفَّري للنصوص القرآنية وأقوالِ الأنبياء يعود إلى دعوته لتبنّي فلسفة التجريد التام وبناء ذاكرة جديدة والوصول إلى الحقيقة من دون تسميات أو معارف أو كرامات، فأبدع مقامين يتلاءمان وهذه الفلسفة الجديدة هما ( مقام الوقفة ومقام الرؤيا ) ، لكنّه أورد إشارة معنوية وباطنية لحقيقة الإنسان الكامل.
تأثر الصوفيون الذين جاؤوا بعد النِّفَّري بأفكاره وصياغاته اللغوية وثراءِ خياله ومقاماته فذكره الشيخ ابن عربي في فتوحاته ورسائله ونسب إليه الطريقة الواقفية إشارة إلى مقام الوقفة الذي أضافه النِّفَّري إلى تراث مقامات أهل التصوف والعرفان. واعتبره الشيخ الأكبر ابن عربي من الأفراد وهو مقام عزيز لا يرتبط بالشكل التمثيلي مع مشايخ أهل الطريق ولا بمعارفهم و مفردات سلوكهم زمانياً، بل إن للأفراد طريقَهم ونتاجَهم الخاص، ولقد تأثر الشيخ ابن عربي بالشيخ النِّفَّري وفلسفته التجريدية وقوةِ أسلوبه وعمقه ، كما تأثّر كثير من الحكماء والصوفية بأسلوبه في الكتابة والصياغة والمعاني وحاولوا تقليده. وأما في وقتنا الحاضر فيبدو أن أهل الأدب وخاصة أهل الشعر المعاصر قد تأثروا بشكل واضح بنصوص النِّفَّري واستفادوا منه في سياقاته الدلالية والأسلوبية وخصوبة خياله وقدرته اللغوية في التصوير والانفتاح والاختزال والتلاعب باللغة بشكل مبدع، وكما هو معروف فإن (أدونيس ) قد أشار إلى كتاب المواقف والمخاطبات وأظهره لأهل الشعر، ولفت انتباهَهم إليه، ويبدو أن الشعراء والأدباء أكثر معرفة بالشيخ النِّفَّري من أهل الدين والتصوف في وقتنا الحاضر.
***
من أهم مقامات النِّفَّري المعنوية الخاصة نأخذ مقامين اثنين هما:
ـ مقام الوقفة
ـ ومقام الرؤيا.
المقام الأول/ مقام الواقف والوِقفة:
الواقف هو المنتظِر والمنتظَر داخل لحظة تكاملت في زمن الذات الإلهية و تهيأت وسكنت لتلقّي الخطاب الإلهي المطلق. والواقف هو ذلك الذي تسلق قمة سلّم التجريد، والذي تجرّد من التجرّد ذاته، فهو يدور في عوالم الغيب والشهادة بدون حُجُب أو أستار. ويحقق الواقف أعلى مراتبِ الفناء في سلّم المقامات المعنوية عند أهل الطريق.
على كل حال، ما نريد الوصول إليه من خلال التفسير اللغوي والاصطلاحي لهذه الكلمة [أوقفني] تبيان أن دلالة مقام الواقف تشير إلى أن صاحبَ هذا المقام يصبح مُلكاً لله وحده لا غير، ظاهرياً وباطنياً ويطبّق كلَّ الشروط المتعلّقة بتكاملِهِ داخلَ هذا المقام.
ونلاحظ ظهور هذا المقام عند النِّفَّري في كتابه الأول ( المواقف )، حيث يبتدئ كلَّ فصل منه بقوله: (أوقفني) ويردفها بقوله:( قال لي )، وكأنه يتلقى الخطاب الإلهي بعد أن يتم حال الوقف ويتهيأ للإنصات.
والوقوف حالة من حالات التواضع والأدب في مقام الواقف، ولا يصح لصاحب مقام الواقف أن يتلقى الخطاب الإلهي إلا في حالة الوقوف والاستعداد المعنويّ لتلقي هذا الخطاب. فالوقوف هنا وقوف معنوي، ومن ضمن أحوال هذا المقام الأدب التام مع الله، ومن أحواله أيضاً الإنصات والصمت، فلا يصح النطق عند الواقف وهو في دائرة الرؤيا التي تلازم الوقفة، والعكس بالعكس. يقول النِّفَّري: ( وقال لي : من رآني لا ينطق ).
في عملية تلقي الخطاب الإلهي من حضرة القائل – وهي حضرة الخطاب الإلهي – فإنّ أوّل ما يفقد الواقفُ الكلام، وبعبارة أدق القدرة على الكلام، وتحل محل الكلام حالات من مثل (الأدب والإنصات والصمت)، وبعد هذه العملية يتحقق الإلقاء وتبدأ العبارة الإلهية تكتمل داخل النص، مثل قوله: ( أوقفني في الوقفة …. وقال لي إن لم تظفر بي، أليس يظفر بك سواي؟).
و أما المسافات المعنوية في المعادلة السابقة فهي كالآتي:
أ ـ ما بين الخطاب الإلهي والقائل، تكون الكلمات الغيبية.
ب ـ ما بين القائل والواقف، يكون الإنصات المعنوي.
ج ـ ما بين الواقف وذاته، يكون التدوين الظاهري والباطني.
أهم سمات مقام الواقف:
– تشبّه مقام الواقف بالصفات الإلهية الشهودية والغيبية.
– الوقفة هي الساحة المعنوية لكمال الذات الإنسانية في دائرة الحقيقة المطلقة.
– تختفي كل ضدّانية وسوائية وغيرية داخل ساحة الوقفة.
– مدار الوقفة والواقف فوق مدارات أهل الأرض وأهل السماء كما يقول النِّفَّري: [ إذا علمت علماً لا ضدّ له وجهلت جهلاً لا ضدّ له، فلست من أهل الأرض ولا من أهل السماء].
– الوقفة تعتِقُ من كل شيء، فهي فوق عالم أضداد الدنيا والآخرة: [وقال لي:الوِقفة تعتِق من رقّ الدنيا والآخرة].
– أهم السمات الواضحة في سلوكية الواقف هي الحرية المطلقة (وقال لي: العالِم في الرق، والعارف مكاتب، والواقف حر ).
أهم الثوابت الذاتية في شخص الواقف هي الصمدية والفردانية وعدم الالتفات الى الأغيار… [وقال لي: فالواقف لا يقبله الأغيار ولا تزحزحه المآرب ] .
المقام الثاني/ مقام الرؤيا:
إن الرؤيا في معارف وخيال الصوفية والعارفين أهمُّ المنافذ المجردة والذاتية للارتباط بالخطاب الإلهي ومشاهدةِ الحقائق المجرّدة والالتقاء بالأسرار المعنوية، والرؤيا أعلى مراتب الكشف فهي تنزلات التجلي الإلهي على الفؤاد ليرى الحقيقة. كما هو وارد في القرآن الكريم: ﴿ ما كذب الفؤادُ ما رأى ﴾ فمقام الرؤيا آخر أبواب مقام الواقف في سلم المعنى الذاتي الإلهي. ومفتاح الرؤيا اللحظة المطلقة بلا ذاكرة ولا عنوان ولا تسميات، فهي القدرة الذاتية والكمالية لاختراق كل شيء و سلب شيئيته، وإزاحة محجوبية كل الحجب والموانع والأستار، و إزاحة كل غيرية وسوائية عن ذاتها المستقلة، فمن خلال مقام الرؤيا يستطيع الواقف أن يرى كل شيء من وراء كل شيء، وأن يرى الحقيقة الإلهية من وراء كل الأشياء والحجب، كما يقول في المواقف: [ وقال لي لا يكون المنتهى حتى تراني من وراء كل شيء ]. فالرؤيا آخر منتهى الوصول، ولكن أن ترى الحق من وراء كل الأشياء. وبوجود الأشياء يكون للرؤيا القدرة على شهود الحق في كل الوجود، ورؤية الوجود في وحدة شهود الحق. فالرؤيا تنزلات الذات الإلهية على سر الواقف وتجليات الحق على ذاته، ومن مساحات الرؤيا التي تتحقق فيها المشاهدة والكشف المعنوي، هو النوم. يقول في المواقف: [ وقال لي نَمْ لتراني فأنك تراني واستيقظ لتراك فإنك لا تراني ]، فنوم الواقف هو الرؤيا المطلقة للحقيقة الإلهية، فالنوم هنا نوم معنوي تنكشف له الحقائق عن مكنونها وأسرارها وهي إزاحة معنوية لكل رقابة حسية أو مادية، وجدانية أو معنوية عن حقيقة الواقف، فالنوم المعنوي يحقق هذا الفتحَ العظيم في رؤية الحقيقة الإلهية، واليقظة هي يقظة الأوهام في مسالك الوجود بحيث تتلاشى الذات الإلهية في حجب هذا الوجود دون أن يعلم المستيقظ بذلك، ظاناً أنه في يقظة أمام الحقيقة بينما هو في غيبوبة عن الحق، فالمستيقظ لا يرى إلا أشباحَ الحقائق وتنكشف للنائم من وراء الحجب أسرارُ الحقائق. ويكون الواقفُ صاحبُ الرؤية أعظمَ وأكبر من العارف كما يقول: (وقال لي: كلُّ واقفٍ عارف، وليس كلُّ عارفٍ واقف ).
ولأنّ معرفة العارف ملازمة لسرّ ذاته ولا تفارقه أبداً، فالعارف يبني قصوراً من المعرفة وينصّب نفسه المَلِك على هذه المملكة الشاسعة ولا يستطيع أن يتخلّى عن مُلكه فقد أصبحت المعرفة حجابَه الأكبر، يقول النِّفَّري: ( وقال لي: فإن العارفَ كالمَلِك يبني قصوره من المعرفة فلا يريد أن يتخلّى عنها) وتصبح المعرفة ناراً تأكل كلَّ محبّة، فالمحبة هي محور ذاتِ الواقفِ وجوهرُ مقامِ الرؤيا، بالمحبة يخترق الواقف كل مدارات الحقائق ليصل إلى مكنون الحقيقة الإلهية. فمعرفة العارف تأكل كل محبة لأنها النار التي سُلّطت على وجدانه المحجوب ( و قال لي: المعرفة نار تأكل المحبة ).
وأما علوم الرؤيا التي تزيح عن الواقف غيرية الأشياء وسوائية الحجب هي أن تشهد الصمت الذي هو جوهر سرّ الواقف وقلمه الذي يدوّن به وقوفه، والصمت عند الواقف مَلَكة ٌذاتية [ و قال لي: من علوم الرؤيا أن تشهد صمت الكل، ومن علوم الحجاب أن تشهد نطق الكل ].
فهذه الشهادة التي يراها صاحب الرؤيا هي استيلاء كماله على كل الأشياء فتشهد له بعمق الكل، وأما إزاحة ذاتية الحجاب فهي إشهاد وإنطاق الكل.
كما ذكرنا مراراً فإنه باختفاء ذاتية الأشياء واستقلالها عن المعنى الحق، ومحو ضدّانية التقابل وفعالية تأثير الأضداد على الإنسان، يستطيع الواقف أن يرى من وراء الضدّين رؤية واحدة، وهذه إشارة إلى عمق التوحيد في المشاهدة من وراء الأضداد رؤية واحدة حقّة (وقال لي من لم يرني من وراء الضدين رؤية واحدة ما رآني ). وهذا التوحيد هو حقيقة التوازن الوجودي في جوهر شهود الحق في كل الأشياء، ولا بد أن تتحقق، لصاحب الرؤيا، المعرفة التي يرى بها الحقيقة ولا يرى بديلاً عنها، وهذا هو الاختلاف بين معرفة الواقف ومعرفة العارف. فالواقف يستخدم المعرفة في الرؤيا لرؤية الحق. والعارف يرى في المعرفة، المعرفة ذاتها.
الرؤيا هي أهم العوالم و أعظم المراتب لأنها جوهر ذاتي يلامس الذات الإلهية ( يا عبدُ، لو علّمتك ما في الرؤيا لحزنت على دخول الجنة).
الرؤيا تحقق للإنسان الواقف عبورَ كل الأشياء واجتيازَ كل المسافات المعنوية والمادية و تلوح له الأشياء ظاهرةً في بواطنها وكاشفةً عن حقائقها وواضحةً في معانيها، يقول النِّفَّري: (أنت عابر كل شيء فجزت فرأيت كل شيء، ورأيت وجه كل شيء، ومعنى كل شيء ).
اخرج من الحجاب تخرج من البعد
اخرج من البعد تخرج من القرب
اخرج من القرب تر الله!
وهو المطلب الذي يتلألأ في أحد مواقفه القائلة :
"اذا رأيتني استوى الكشفُ والحجاب ".
ولا يعني استواءُ الكشف والحجاب سوى الخلاص من بقايا الرواسب المتطايرة في روح الإخلاص للحقيقة. فكون الأكوان كلها حجباً يعني أيضاً ضرورة تذليل تجلّياتها التي لا حصر لها في العلائق والعوائق (الظاهرة والباطنة، والمادية والروحية ) من أجل بلوغ وحدة الذات أو حقيقتها على مثال الواحد الحق. ولهذا كان السري السقطي يقول : "يا الهي مهما عذبتني فلا تعذبني بذل الحجاب ". وبهذا الصدد أيضا يمكن القول إن الإبداع نفسَه حجاب ما لم يبلغ حقيقة السر. أي ما لم يبلغ درجة كسر قناعاته المستعلية في النفس والآفاق، أو الأنا والعالم.
لقد فتح النِّفَّري آفاقاً ودوائر جديدة في التصوف، وكان يشعر بأن رؤيته أكبر من اللغة وقدراتها ولذلك يقول: (كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة) …… (أوقفني وقال لي الجهل حجاب الرؤية، والعلم حجاب الرؤية، أنا الظاهر ولا حجاب وأنا الباطن لا كشف) وقوله: (قال لي سل كل شيء عني ولا تسألني عني) وقوله: (وقال لي من كل شيء خاصية ولك خاصية، فخاصية تنسب إليك وخاصية تنسب لي)…. يقول: (أوقفني وراء المواقف وقال لي الكون موقف، وقال لي كل جزئية من الكون موقف).يطرح النِّفَّري أسئلته من موقع الوقفة أو المخاطبة، حيث يلهم الحقيقة، والتخصيص والولاية والرؤية، وكلّها _ وإن كانت تعبّرعن تحقق فضل الله على العارف_ إلا أنها في الوقت نفسه تُعدّ منهجاً لإعادة الفهم الكلي للأشياء والمعاني، عبر الممارسة الخطابية التي يمكن أن يتجلى من خلالها هذا الفهم، فنرى بديلاً خطابياً يحقق الانسجام الفعلي للذات مع ذاتها، والتواصل الحقيقي للإنسان مع جوهره من خلال الاتصال بالله. وإذا كانت المواقف والمخاطبات، تجسّد ثمرة الوصول إلى الله، مما قد يوحي بتضاؤل الفعل التواصلي وخاصة أنه يتجسد في الوقفة، فإنّه لا يتم إلا ليحل محلّه نزوع آخر، هونزوع التواصل مع الحقيقة، والمعنى، ليكون موضع سؤال، وهذا ما تجسّده فعلياً هذه النصوص التي يمكن النظر إليها من خلال ما يثيره تشكيلها الخطابي الذي يتمحور حول نقطتين هما: القطيعة مع البنية المعرفية للذات والمعادل الخطابي لفعل القطيعة. حاول النِّفَّري أن يتجاوز الأحادية في الإرسال ، ليصطنع شكلاً من التخاطب الذي يقيمه في المخاطبات على صيغة النداء "يا عبد"، وفي المواقف على صيغة الإخبارية الإسنادية "أوقفني وقال لي". وهو في كلتا الصيغتين يتعرف على سرّ المعنى الأصلي أو الجانب الباطن من الأسماء الذي هو حقيقتها، كما يعرّفنا على الحقيقة الأولى التي هي المعرفة "يا عبد لو لم أكتبك في العارفين قبل خلقك ما عرفتني في مجهود وجدك لنفسك". ومعرفة النفس هي الطريق إلى معرفة الله. "وقال لي: اعرف من أنت، فمعرفتك من أنت هي قاعدتك التي لا تنهدم وهي سكينتك التي لا تزلّ، وقال لي: فرضت عليك أن تعرف من أنت، أنت ولييّ وأنا وليّك.
وقال لي: اسمع عهد ولايتك، لا تتأوّل عليّ بعلمك، ولا تدعني من أجل نفسك وإذا خرجت فإليَّ، وإذا دخلت فإليّ، وإذا نمت فنم في التسليم إليّ، وإذا استيقظت فاستيقظ في التوكل عليّ".
هناك إذن جهد من أجل تحقيق التواصل مع الله، وهو فعل – كما نرى- قائم على التجرد من الذات والارتقاء بها إلى الحضرة الإلهية، عبّر عنها بالوقفة لأنه لا قيمة لمعرفة بدونها، وقد قال له الله: "معرفة لا وقفة فيها مرجوعُها إلى الجهل"، وكأن النِّفَّري – هنا- يُحدث القطيعة حتى مع أساليب المعرفة عند المتصوفة الأوائل الذين كانوا يعتقدون أن المعرفة آخرُ مراحل الطريق، وأنها جزاءٌ يُلهم فيه المعارفُ والأخبار، في حين قد لا يتمتع بحضرة الله ومخاطبته أو رؤيته معاً. ولذلك يقول: "وقال لي: العالم يخبر عن الأمر والنهي وفيها علمه، والعارف يخبر عن حقه وفيه معرفته والواقف يخبر عني وفي وقفته.. وقال لي: إخباري للعارفين، ووجهي للواقفين".
لا يطرح مفهوم الوقفة أو الرؤية عند النِّفَّري مجرد إضافة لمفهوم المعرفة أو الحب عند المتصوفة الأوائل، بقدر ما يؤكد اختلاف المرجعيات الذاتية لكل متصوف، الأمر الذي جعل خطاباتِهم تختلف من حيث الفعل التواصلي الذي ترسمه، لقد كان ينزل أصحاب خطاب الحب بالعلاقة مع الله إلى مستوى الاستغراق في عاطفة الحب، لتكون الذاتُ بكل حمولتها الشعورية مركزَ الاهتمام الأول، في حين فضّل النِّفَّري أن يرتقي بالخطاب إلى تمثل الله، فتبدو نصوصُه منقولة ًعن الله، ويوكل – منذ البداية – سلطةَ الحديث إليه، مباشرة في المخاطبات، "يا عبد"، وغير مباشرة في المواقف: "أوقفني وقال لي". ويتقمص النِّفَّري دور المتلقي الأول المتواطئ خطابياً مع المتكلم، ليُسهِم في ضبط شروط الرؤية والتخلص من المعاني المسبقة التي تحيط بالذات، على الرغم من أن التخلي عن البنية المعرفية للذات هو مشروع المتصوف منذ البداية، غير أنه بعد المعرفة يوضع موضع سؤال قبل أن يصبح الفعل التواصلي يمارَسُ من دون مسافة وهي القرب، لكنها من حيث البعد الوجودي هي البعد، المسافة الحقيقية التي تفصل بين الإنسان والله، مثلما يتجلّى ذلك في قوله: "وقال لي: تجدني ولا تجدني ذلك هو البعد، تصفني ولا تدركني بصفتي ذلك هو البعد. تسمع خطابي لك من قلبك وهو مني، ذلك هو البعد، تراني، وأنا أقرب إليك من رؤيتك ذلك هو البعد".
وتصبح المخاطبة التي تحدث أثناء الوقفة موضوعاً وأسلوباً آخر لتحقيق تواصل آخر مع الله. لذلك بدت المخاطبات عبارة عن أوامر ونواهٍ، هي بمثابة القواعد التي يركّز فيها النِّفَّري على نظام التواصل مع الله ومضمونه في الوقت نفسه. ولأن النظام هو الضمان الأساسي لتحصيل المضمون، نرى "المواقف والمخاطبات" تنفتح على جملة كبيرة من التقابلات والتوالدات الشكلية التي تندمج في شبكة دائرية عميقة هي بنية المواقف والمخاطبات.
وقد أشار التلمساني إلى أن "أوقفني" معناه أيقظ قابليتي لتلقي التجلي، وقال لي، معناه عرّفني بأنْ رَفَع َحجابي، فعرفت، فكأنه قال لي.
ومعنى ذلك أن النِّفَّري ، منذ البداية، يعطي تبريراتٍ على صدق الخطاب الذي سوف يمرّره للمتلقّي، وذلك بإسناده للّه . و النِّفَّري، كما يبدو، لم تكن تهمّه الأفكار التي يعطيها عن التجربة الصوفية، بقدر ما كان يهمّه كيف تنشأ هذه الأفكار أثناء التجربة، والصيغ التي تولدها أو تتولّد عنها، ومن ذلك نراه يحرِص ومنذ البداية على نقل تجربة الاتصال بالله والتي تنشأ في إطارها الأفكارُ والمعاني وتتشكّل، مراعياً في ذلك العلاقة بينه كمستقبِل والله كمرسل، لذلك يجعله مصدرَ السلطة الخطابية. وما دامت السلطة في حقيقتهاعلاقة قوّة وتأثير، فإن الممارسة الخطابية المقترنة بها لا بد أن تتميز كذلك بالقوة والتأثير في مراكز السلطة في الإنسان ألا وهي الذات أو النفس.
(الحرف يعجز أن يخبر عن نفسه فكيف يخبر عني)
يعرّف علماء البلاغة الإيجاز بأنه التعبير عن المراد بلفظ غير زائد، ويقابله الإطناب ويكاد يُجمع الجمهور على أن الإيجاز، والاختصار بمعنى واحد. ويعدُّ الإيجاز والإطناب من أعظم أنواع البلاغة عند علمائها، حتى نقل صاحبُ سر الفصاحة عن بعضهم أنه قال: اللغة هي الإيجاز والإطناب. وقال الزمخشري صاحب الكشاف: كما أنه يجب على البليغ في مظانِّ الإجمال أن يجمل ويوجز، فكذلك الواجب عليه في موارد التفصيل أن يفصّل ويُشبع .
ونحن جميعاً نعلم أن من أوجز أنجزو(الإيجاز): هو وضع المعاني الكثيرة في ألفاظ أقل، مع وفائها بالغرض المقصود ورعاية الإبانة والإفصاح فيها. و(الإطناب): زيادة اللفظ على المعنى لفائدة. وإذا لم تف العبارة بالغرض سمّي: (إخلالاً). وإذا زاد على الغرض بدون داع سمّي: (تطويلاً) ودواعي الإيجاز كثيرة وبخاصة في عصرنا عصر السرعة ، نشير الى بعضها: الاختصار. ـ تحصيل المعنى باللّفظ اليسير. ـ تقريب الفهم. ـ تسهيل الحفظ ـ ضيق المقام. ـ الضجر والسآمة ـ إخفاء الأمر عن ذوي الأمر لأسباب احتياطية، وغير ذلك. ما يمكن أن نمثّل له بالإيجاز التفريق بين المفهوم و الماصدق ، وهما معروفان بالفلسفة . في شرح أي شيء يتميز الإنسان عن الحيوان بقدرته على التجريد التي تمكنه من تكوين التصورات . والتصور فكرة كلية مجردة تقابل الصور الحسية ، فإذا عبرنا عنها بصيغة لفظية أصبح حداً، والتصور له مفهوم وله ماصدق ، بكلمات أخرى في مجال اللغة العربية : موصوف وصفة ، ويختلف المفهوم عن الماصدق بكونه يعبر عن مجموع الصفات التي تميز الشيء مثل قولنا :مدينة هادئة نائمة تتحول سراياها إلى فندق ويحرص فيها التجارعلى تجارتهم ( هذا مفهوم) أقصد هذا مانعني به كلمة مفهموم. هذا هو مفهوم مدينة محددة ، أما الماصدق فهو يعبر عن مجموع الذين يصدق عليهم هذا المفهوم كقولنا:حلب. الماصدق هو الموضوع ( موصوف) أما المفهوم محمول( موصوف).
والعلاقة بين المفهوم و الماصدق علاقة عكسية إذا ضاق المفهوم كان الماصدق واسعاً مثل قولنا : مدينة ، فهو مفهوم ضيق لأنه يتكون من حد واحد لكن ماصدقه واسع أي أنه يصدق على كل المدن . وإذا كان المفهوم واسعاً فإن الماصدق يضيق كقولنا : كائن حي يتحرك عاقل " فهو يصدق على الإنسان" فقط . إذاً من لوازم الاختصار أن نقول: المدينة النائمة ، أو حلب … بدلاً من قولنا: منطقة تقع في شمال سورية وتضم قلعة كبيرة وقد اشتهرت بثقافتها وتجارتها ومقاومتها للطغيان على مدى التاريخ وهي الآن … إلى آخره . ماأراده النِّفري هو بالضبط ماتشرحه جملته بإيجاز : كلّما اتّسعت الرؤيا.. ضاقت العبارة. عندما نعرف أكثر نكتب أقل ونحكي أقل. وهذا مايجعل النِّفري سابقاً لبدعتنا حول القصة القصيرة جداً التي تتميّز بالتكثيف فضلاً عن عناصرها الأخرى التي تتمثّل بالحكائية، والمفارقة ، والسخرية، واللجوء إلى الأنسنة، والاعتماد على الخاتمة المتوهجة الواخزة المحيرة، وطرافة اللقطة، واستخدام الرمز والإيماء والتلميح والإيهام، لتجنّب فهم الرقيب.
هل سمعتم بالفيسبوك؟ إنه أداة للتواصل الاجتماعي والثقافي ، يكمن سر نجاحه في التقاط اللحظة وقذفها مثل قنبلة لتلقى صدىً واسعاً لدى الآخرين . لاوقت لدى أحد كي يتغنّى بالمعلّقات العشر وأغاني أم كلثوم والفلم الذي يستغرق ثلاث ساعات والثورات التي تستمر سنوات طوال.
النسخة المتطورة عن الفيسبوك هي تويتر الموقع الذي لايسمح بكتابة أكثر من مئة وأربعين حرفاً كي يتعلّم الناس قسراً على عادة التكثيف والإيجاز والاقتضاب.
وهنا أرى الباحث المعاصر قد أوقفني وقال لي: ألم يكن المخترع الأول للفكرة الأساسية لحركة الفيسبوك والتويتر هوصاحبنا النِّفري ؟ وأترك لكم الإجابة عن السؤال حول مرآة العصر كيف تراه؟ هل تجد فيه نفسها؟ لعل مداخلاتكم تفي بالغرض. فاتركوني أسكت عن الكلام المباح.