وهو في هجرته.. (المسيحي المشرقي) يُفقد الكنيسة والوطن طاقات ضخمة من العطاء والابداع.. “الهجرة المسيحية من بلاد اقرأ” بقلم المهندس باسل قس نصر الله

الهجرة المسيحية من بلاد اقرأ

                                     بقلم المهندس باسل قس نصر الله


الهجرة هي تلك الحركة التي لا سبيل الى كبحها والتي تقود الذين لا يستطيعون العيش على ارض اجدادهم من منطقة الجوع الى منطقة البطالة .

والهجرة انواع خارجية " الهجرة في الجغرافية " وهي اكثر الهجرات استنزافا، وهجرة داخلية "الهجرة في المجتمع" وتؤدي الى الانكفاء على الذات والانطواء، والعزوف عن المشاركة والالتزام بقضايا المجتمع ، والخوف، والعيش في "الغيتو" .

ولا شك أن الهجرة بنوعيها مصدرها عدم الاستقرار السياسي وظلام المستقبل والتوق الى سلام (ولو في الغربة بالنسبة الى الهجرة الخارجية).

بدأت الهجرة مسيحيا بشكل فعال مع نهايات الامبراطورية العثمانية حتى النصف الاول من القرن العشرين بشكل اساسي، وكان سببها الرئيسي ما يسمى "بنظام الملل" في الامبراطورية العثمانية، وما استتبع هذا النظام من قلاقل وازمات ونزاعات طائفية اسلامية ومسيحية، ومن ضيق مادي اصاب بعض المناطق في الامبراطورية العثمانية وهذا الامر حدا ببعض المسيحيين الى الهجرة .

والسؤال هو لماذا يهاجر البعض من المسيحيين؟ وتأتي الاجابة من البطريرك نصر الله صفير وهو رئيس مجلس البطاركة الكاثوليك في الشرق، على سؤال من بي بي سي عن اسباب هجرة المسيحيين العرب من اوطانهم، "إن بعض المسيحيين يشعرون بأنهم مهمشون ولا رغبة في وجودهم.

لا شك أن المسيحي المشرقي بات عاشق المغامرة والترحال ينشد الحرية والهناء الاقتصادي والآفاق الرحبة. وهو في هجرته يُفقد الكنيسة والوطن طاقات ضخمة من العطاء والابداع.

اختلف بعض الشيء مع غبطة البطريرك صفير، فليس عامل الاحساس بالتهميش هو السبب الرئيسي للهجرة المسيحية، بل – برأيي – ان المسيحي هاجر لاسباب اقتصادية ايضا، ويجب أن نعلم أن الدوافع – مهما تعددت – والتي حدت المسيحيين على الهجرة تختلف عما هي لدى امثالهم من المسلمين .

أقول عن السبب الاقتصادي ، وأحب أن انقل لكم كيف أن الاعداء الاسرائيليين تنبهوا للموضوع، واستغلوه سياسيا، فالنسبة لهجرة اليهود الى فلسطين ، قدم الحاخام كلوستر المسؤول عن المهجرين في الثاني من أيار 1948 تقريراً الى المؤتمر اليهودي الامريكي جاء فيه: انني مقتنع بوجوب حث اليهود على الهجرة الى فلسطين… ، أما بالنسبة الى تهجير العرب ومن بينهم المسيحيين ، يعتقد الدكتور مارتين شيرمان، المدير الاكاديمي لقمة القدس الثانية واستاذ العلوم السياسية في جامعة تل ابيب، ان 70% من العرب سوف يهاجرون اذا ماحصلوا على مغريات مادية مثل : الحصول على عمل جيد في الخارج او تعويضات مالية كافية. بذلك يمكن – لان الحلول السياسية للصراع العربي الاسرائيلي لن تجلب سوى الاذى – مساعدة الفلسطينيين بتأمين حياة أفضل من خلال اغراءات مالية تؤدي بهم الى الهجرة الطوعية الى بلدان عربية .

إذن نحن أمام رغبة سياسية في تهجير مسيحيي المنطقة، بدءاً من فلسطين الى كل الدول العربية، عن طريق الضغط عليهم اقتصاديا، وترغيبهم بالانتقال من خلال عامل جذب مالي، اضافة الى سياسة التخويف والترهيب من المسلم في البلاد العربية الذي يحاولون اظهاره بمظهر من يريد ترحيلك من خلال فرض الجزية أو الخطف (إن كان صادقا في معتقده أو لم يكن) . كما انتبهت الى قضية غريبة بعض الشيء، وهي ان الغيارى على مصير المسيحيين العرب، والذين بدأوا بدق ناقوس الخطر (الهجرة) هم مفكرون وباحثون غربيون، بعضهم "مستشرق" وبعضهم الاخر كان يشغل مناصب ديبلوماسية في المشرق العربي، ولم أجد (سابقاً) باحثاً أو بحث جدي يتكلم ولو خفرا الى موضوع الهجرة .

ما هي المحاذير: المشكلة مع هجرة المسيحيين العرب تكمن في امرين : الامر الاول هو ان المسيحيين العرب يغادرون بمعدل يصل الى ضعفي معدل مغادرة غيرهم من المواطنين. والامر الثاني فان معظم الجماعات المسيحية في بلادنا جماعات صغيرة عدديا، ومن ثم تترك الهجرة فيها اثرا كبيرا من حيث شل قدرتهاعلى متابعة الحياة الجماعية بما تتطلبه من نشاطات هجرة. كما تؤثر هجرة المسيحيين العرب سلبا على تركيبة المجموعة السكانية التي يأتي منها المهاجرون فمن ناحية يزداد متوسط العمر لهذه المجموعة بفعل هجرة فئة الشباب وتصبح المجموعة اكبر سناً من بقية السكان مما يؤثر على نشاطاتها وفعالياتها وتتأثر كذلك نسبة النوع في هذه، كما ان موضوع الهجرة المسيحية يتناوله الناس بعامة، من تأكيدات مصدرها الخوف والقلق غير المبررين أو غير الدقيقين، وبدوافع ترتكز على ارادة الخروج من مأزق، او على الهروب من واقع – مضخم أو مفتعل – لا يرتضونه .

تتحمل الكنيسة مسؤولية روحية واخلاقية تخولها قول كلمة الحق ومواجهة الاخطار الكامنة في هجرة ابنائها والعمل على الحد من هذه الظاهرة ضمن الامكانات المتاحة لديها. وتستطيع الكنيسة من خلال التربية والتوعية والوعظ والارشاد والحوار المستمر، ان تسهم في تكوين شخصية مسيحية واعية على ضرورة المحافظة على الوجود المسيحي، وفي تكوين شخصية انسانية اقل انفعالية في مواجهة المستقبل والمشكلات الحياتية المعقدة من النواحي الاقتصادية او الاجتماعية وغيرها .

كما لا يجب أن نحمل المسلم مسؤولية المسلمين الذين بينهم وبينه بالاساس خلاف، وهم يعرفون ان هجرة المسيحيين المستمرة الى الخارج وارتفاع معدل الولادات بين المسلمين، قد وضعا حدا للاكثرية المسيحية، وأظن أنهم لا يعتقدون أن على سورية أن تصبح مسلمة بالكامل .

أكرر أن الموضوع اقتصادي بحت، يتغلف بموضوع ديني، لأن الدين والخلفيات الدينية هي أسهل الطرق لتأجيج أي صراع كان، والدول الغربية من مصلحتها قبول مهاجرين ينتمون معهم الى ثقافة واحدة ذات خلفية دينية واحدة على قبول مهاجر لا ينتمي اليهم حسب معتقدهم، ولذلك قدموا الكثير من التسهيلات (ارمينيا – المانيا) .

اذا كانت الهجرة مصدرها عدم الاستقرار السياسي وظلام المستقبل والتوق الى سلام ولو في الغربة. فإن صنع السلام في المنطقة بأكملها هو العامل الاول لترسيخ العرب المسيحيين في اوطانهم . واستقرار البلاد وديمقراطيتها وترتيب العلاقات العامة والخاصة كل هذا له شأن في هذا الدفع نحو الخارج او في الحيلولة دونه .

ونحن نلمس أن الانقسامات العميقة داخل مجتمع ما يؤدي الى عنف هائل يهدد المجتمع. هذا التهديد الاخير والحركات نحو الاستقلالية او الانفصال يحتمل ان تظهر عندما تكون الاختلافات الثقافية متوافقة مع الاختلافات في الموقع الجغرافي . اذا لم تتوافق الثقافة والجغرافيا فانه ربما يتم عمل توافقهما من خلال اما الابادة الجنسية او الهجرة بالقوة.

اللهم اشهد اني بلغت