بسام لولو عن مصطفى العقاد
- أكتوبر 30, 2009
- 0
أول إنتاج لقناة «الجزيرة الوثائقية» «هل تستمر الرسالة..»؟ عن حياة المخرج مصطفى العقادـ تحقيق: بسام لولو
٭ تجربة صحفية على فيلم وثائقي
أول إنتاج لقناة «الجزيرة الوثائقية»
«هل تستمر الرسالة..»؟
عن حياة المخرج مصطفى العقاد
تحقيق: بسام لولو
عناوين فرعية
٭ صار العقاد أضحوكة في حلب عندما فكر بدراسة الإخراج في هوليوود
٭ تزوج على الطريقتين المسيحية والإسلامية
٭ كان عليه أن يحصل على موافقة أناس يحرّمون الصورة ولا يصدقون أن الإنسان صعد إلى القمر ويجهلون أن ابن الهيثم صاحب نظرية التصوير التي تُدرس في الغرب
٭ تغلّب على عدم ظهور الشخصيات الأساسية في «الرسالة» بالنوتة الموسيقية ففقد الفيلم شيئاً من توازنه
٭ كان كل من أنطوني كوين وعبدالله غيث يخاف الآخر
٭ لم يستطع أنطوني كوين الخروج من شخصية عمر المختار بعد سنة من تمثيلها وطُبعت صوره في الكتب المدرسية على أنه عمر المختار
٭ لم يتنازل عن شروطه وقناعاته أمام ضغوطات وإغراءات الخارج والداخل
٭ لم يقدم صورة سيئة عن العرب للغرب ليقال عنه عالمي
٭ ظلت جذوره تشرب من مدينته حلب
٭ كان يحج إلى وطنه العربي بشوق كبير ويعود منه بدمعة
٭ لو صرف العرب 5% مما تستنزفه الجيوش والأسلحة على برنامج إعلامي شامل ودائم ومتطور لحققوا المعجزات
٭ رسالته الأخيرة: شيء من الغضب يا أمة العرب
مقدمة
لماذا لا يتم تحويل بعض الأفلام الوثائقية التلفزيونية المهمة، والمتعوب عليها، والمشغولة بتكلفة وجودة عاليتين، والتي تلتقي عدداً من المتخصصين أو المتحدثين المتمكنين حول تجربة إنسانية أو قضية ملحة، إلى عمل صحفي مقروء؟ تعميماً لفائدتها، واحتراماً لها وللقائمين عليها، وبدلاً من هدر الوقت والجهد والمال في تحقيقات صحفية أقل جودة وجدوى، بحجة أنه لا يليق الشغل على المشغول، خاصة وأن العمل التلفزيوني، بميزاته وتشويقه وسرعة واتساع انتشاره يبقى آنياً، وأسرع نسياناً من الكلمة المكتوبة الأبعد والأعمق أثراً، مع الاعتراف بأنه لا يمكن لأي عمل إبداعي أن يلغي الآخر.
هنا محاولة أو تجربة، للإجابة عن السؤال السابق الذي راودنا كثيراً، في أول فيلم أنتجته قناة «الجزيرة الوثائقية» عن حياة المخرج العربي مصطفى العقاد تحت عنوان «هل تستمر الرسالة؟».
قبل البدء
اشتدت أحداث بلادنا على إنساننا العربي، واسترخصت حياته وروحه ودمه ولحمه ودموع أهله وصرخاتهم، وتضاربت الأقوال في تلك الأحداث، إلى حدٍ جعل العقل العربي أشبه بقردٍ مجنون وأجرب وسكران، وكانت التلفزيونات واحدة من أهم الوسائل التي زادت من تخلخل الإنسان العربي، وكأنها لا تهدف إلا إلى ذلك، فتراوح الناس تجاهها بين أغلبية مُسْتَلَبة، ظلت تلهث وراءها، وتتقلّب بين محطاتها الإخبارية والفنية والرياضية والطائفية والرسمية والمشفرة، وبين قلة نادرة أدركت خطورة التلفزيون عليها، فألغته تماماً من حياتها، وما عادت ترغب في غيره، وبين معتدلين حاولوا أن يقنّنوا ساعاتهم أمام تلفزيوناتهم، ويبحثوا عن محطات قد تساعدهم على واقعهم، وتعيد إليهم شيئاً من تماسكهم، فكانت قناة «الجزيرة الوثائقية» واحدة من هذه المحطات التي انطلقت في 1 يناير/كانون الثاني 2007، واستقطبت جمهوراً نوعياً، وجد ضالته، في عدد من برامجها وأفلامها الوثائقية الاجتماعية والتاريخية والجغرافية والعلمية والسياسية والفنية، فحققت في زمن قياسي نجاحاً بالأصداء والآراء التي أثارتها، سواء المتفقة أو المختلفة معها.
وكان أول إنتاجات «الجزيرة الوثائقية» فيلماً عن المخرج العربي مصطفى العقاد سمته، كما أسلفنا، «هل تستمر الرسالة..؟» وهو من فكرة توفيق فوني مدير القناة، وسيناريو وإخراج محمد بلحاج رئيس قسم البرامج فيها، وأدار تصويره منصور الأبي، وساعد في إنتاجه أنس عبدالوهاب، وقد سلّط الفيلم الضوء على عصر العقاد ومراحل حياته وأعماله وتجربته الحياتية والفنية والتحديات التي واجهته، والصفات التي وُصف بها، وأحلامه التي قصفها الموت، وذلك من خلال تنقّل الفيلم في 90 دقيقة بين الأماكن التي عاش فيها العقاد وتردد إليها، في حلب وأمريكا وبيروت، واستعراض العديد من الصور والوثائق والمقابلات والأفلام، مع خلفيات موسيقية وغنائية مؤثرة، والاستماع إلى عدد من أفراد أسرته وأصدقائه من الوسط الفني وخارجه وهم: ليلى العقاد، زهير العقاد، باتريسيا العقاد، مالك العقاد، أسامة العقاد، نبيل العقاد، سهى العقاد، زيد العقاد، منى واصف، دريد لحام، أحمد حداد، زياد المنلا، نزار محمود، غازي كتموتو، جون كليدس، وعبدالحفيظ العجم.
اعتبارات شخصية
قدرت أنني سألاقي في فيلم «هل تستمر الرسالة؟» ما أجهله عن مدينتي حلب، أو ما نسيته، أو ما يمكن أن يعيد إليّ بعضاً مما أفتقده، لكنني استشعرت في داخلي شيئاً من الحسد الحلال للفيلم الوثائقي التلفزيوني على الإمكانات والحريات المتاحة له، واستيقظت رغبتي في تحويل هذا الفيلم إلى عمل صحفي مكتوب، لا لأنني أعجبت جداً بفيلم العقاد «عمر المختار» ولا لأن العقاد مخرج مشهور من مدينتي حلب، إذ لا أرى في الشهرة إلا ناتجاً طبيعياً لسلسلة من المقدمات، إلا أن ما هو غير طبيعي أن يعتصر قلوبنا الألم منذ سنوات ويومياً على الذين يموتون ميتته، إلى حدّ يحرّض على الكفر بهذا الشرق الذي حار العقاد في تبييض وجهه أمام الدنيا، فأبى إلا أن يقتله مع ابنته، في تفجير انتحاري استهدف أحد فنادق عمّان في 9 نوفمبر/تشرين الثاني 2005.. وهكذا وجدتني أمضي في تجربتي إلى نهايتها، أستبعد أحاديث الصور والموسيقا، على أهميتها، وأصغي كما في أي تحقيق صحفي إلى المتحدثين وأدون كلامهم، وأحرص على نقل أفكارهم وترتيبها وتقليمها، وبما أمكن من عدم التدخل، وبتسلسل منطقي، ليتاح للقارئ أن يرجع إليها، وأن يأخذ منها ما يأخذه، وأن يستنتج ما يستنتجه، متأكداً من أن التجربة إن لم تنفع ولم تنجح فلن تضر!
المكوّنات الأولى
ولد مصطفى بن بكري العقاد في 14 يوليو/تموز 1929، وتربى في بيت حلبي متشدد في أمور التعلم والدين ومراعاة المظاهر الاجتماعية، ودرس في مدارس حلب الأجنبية، على أمل أن يصير طبيباً أو مهندساً، إلا أنه تعلّق بالسينما عن طريق جاره جون كليدس الذي كان يعمل عارضاً للأفلام في صالة سينما «الأوبرا» بحلب، والذي كان يصطحب معه مصطفى إلى غرفة العرض، فأتاح له التعرف إلى طبيعة العمل في تلك الغرفة، ومشاهدة الفيلم الواحد أكثر من مرة، والإعجاب بأفلام هيتشكوك وديفيد لين، فأتى مصطفى بآلة عرض سينمائية إلى بيته، وركبته فكرة دراسة الإخراج في هوليوود، فكان أضحوكة في بلدٍ يرى أن مثل هذا الحلم ضرب من الجنون، لكن ذلك لم يثن العقاد عن رغبته، فحصل على قبول جامعي وعمل لمدة سنة ليجمع ثمن تذكرة الطائرة، واستجلب بعض الكتب المقررة ليدرسها خلال هذه السنة، وفي الموعد المحدد سافر إلى مطار بيروت بصحبة أبيه الذي دسّ في جيبه مئتي دولار، وفي جيبه الآخر نسخة من القرآن الكريم، قبل أن يطير إلى نيويورك، ليظل مشهد الوداع هذا حاضراً في ذهنه مدى حياته.
السفر وإثبات الوجود
التحق العقاد بجامعة «يو سي إل إي»، بعد أن استغرق منه السفر بالحافلة من نيويورك إلى كاليفورنيا نحو أسبوع، ليبدأ البدايات القاسية والمتوقعة، بثقة مهتزة بالنفس، فعمل في عدد من أعمال الخدمة المتواضعة، كي يعيش ويصرف على دراسته، وسكن عند سيدة أمريكية أحبته مثل ابنها.. وشيئاً فشيئاً بدأ يستعيد ثقته بنفسه، مع شعوره بغناه التربوي الذي ظل يدعوه للقول: أنا مسلم، أنا عربي، أنا سوري، ومع شعوره بأنه لا يقل شأناً عن أي طالب أجنبي، بل عن كبار السينما العالمية ، فشغل منصب رئيس اتحاد الطلبة الأجانب في الجامعة، وترأس الجمعيات العربية فيها، وشكّل بعض اللجان، وأقام عدداً من الأنشطة، ثم عمل عدداً من الأفلام الوثائقية والبرامج التلفزيونية مثل «آز أور سي إس» في محطة «cbs» و«عالم سيزر»، وحاول من خلالهما تقديم آراء الطلبة الأجانب، في شتى مجالات الحياة، وتعريف الأمريكيين بدول أولئك الطلبة، لكنه رفض عروض التمثيل التي عرضت عليه لملاحة شكله.. وخلال دراسته الماجستير التقى باتريسيا، فأحبا بعضهما بعضاً، وتزوجا على الطريقتين المسيحية والإسلامية تاركاً كل منهما للآخر حرية اتباع دينه، فعرف أولادهما الديانتين، وارتبطوا بهما، وشعروا بفرادتهم في ذلك.
بهذه المكونات والتطلعات والتحديات والمرحلة والظروف التي رافقت العقاد أحب شخصية جمال عبدالناصر التي شدت من أزره العربي أمام الغرب، لذلك رأى في الانفصال بين مصر وسوريا جريمة ومؤامرة كبرى.
منعطف «الرسالة»
شكل أولاد مصطفى العقاد منعطفاً مهماً في تجربته وحياته، فكانوا من أكثر المحرّضات له على إنجاز ما ظل يعتمل في نفسه من رغبات تهدف إلى تقديم الإسلام والعرب بصورة حسنة إلى الغرب، وإلى رفع معنويات العرب بأنفسهم، وإلى تعريف أولاد الجاليات العربية والإسلامية بانتمائهم.
وبدأ العقاد السير على طريق تنفيذ فيلم «الرسالة» عن بدايات الإسلام، وقد كان سيراً طويلاً وصعباً مع التحديات المالية والدينية والسياسية والفنية، فانطلقت الإعدادات والتحضيرات للفيلم من بيروت، واستطاع العقاد أن يؤمن تمويلاً له من الكويت والمغرب وليبيا، وكان عليه أن يحصل على موافقة الأزهر ورابطة العالم الإسلامي والمجلس الشيعي الأعلى، فلم يفلح في إقناع أناس يحرّمون الصورة والموسيقا، ويجهلون أن حسن بن الهيثم هو صاحب نظريات التصوير التي تُدَرَّس في الغرب، ولا يصدقون أن الإنسان صعد إلى القمر، فمنعوا تصوير الفيلم، وضغطوا على الكويت لتنسحب من تمويله، في حين استمرت المغرب في دعمها للفيلم على أن يتم تصويره فيها بشكل سري.
وهكذا راح العقاد يواجه التحديات الفنية والمهنية بثقة ومسؤولية كبيرة، فأنشأ في المغرب مدينة سينمائية، واستقدم من هوليوود ومصر جيشاً من التقنيين والفنيين واليد العاملة، فاستغرق بناء الكعبة والساحة ومكة نحو أربعة شهور، وواجه تحدّي عدم تجسيد الشخصيات الأساسية بالنوتة الموسيقية المستمدة من نغمة الأذان، ليعبر عن وجود الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم، ما أفقد الفيلم شيئاً من توازنه، في حين واجه العقاد عثرات وعيوب الترجمة بإنجاز الفيلم على نسختين (عربية وإنكليزية) وبطاقمين مختلفين ، وهو الأمر الذي أوقعه في إشكال بسيط بين أنطوني كوين بطل النسخة الأجنبية وعبدالله غيث بطل النسخة العربية، فقد كان كل منهما يرغب في أن يبدأ الآخر بتصوير المشهد، إذ كان أنطوني كوين يرى في عبدالله غيث ممثلاً عربياً ومسلماً، وبالتالي فهو أقدر على أداء الدور، في حين كان عبدالله غيث يرى في كوين ممثلاً عملاقاً، وبالتالي يجب أن يكون البادئ في تصوير المشهد، وذلك ليتعلم كل منهما أداء الدور من الآخر، فارتأى العقاد أن يتخلص من هذا الإشكال بأن يبدأ بالمشهد الأجنبي في التصوير الداخلي، لتسهل على الفنيين الأجانب معرفة الحركة عند إعادة تصويره بالعربي، وأن يبدأ بالمشهد العربي في التصوير الخارجي لتتعلم المجاميع العربية إعادة الحركة في المشهد الأجنبي.
ومن أجل مشهد حجة الوداع المهم جداً، قصد العقاد أحد بازارات المغرب، حيث يتجمع البائعون ومروّضو الحيوانات والحكواتية، فاستوقفه واحد منهم استطاع أن يجتذب جمهوراً كبيراً بحديثه اللافت عن الزير سالم وعنترة، فسأله العقاد: هل تستطيع أن تُبكي الناس، فأجابه: نعم.. بقدر ما تدفعه لي.. وهكذا عثر العقاد على الشخص المناسب لمشهد حجة الوداع، وبقي عليه أن يلجأ إلى الحيلة مع المجاميع التي ستظهر في المشهد، فجمعها وأخبرها بإلغاء التصوير في اليوم التالي، بسبب عيد ميلاد الملك الحسن الثاني، وقدوم الشيخ حسن المكي من السعودية ليلقي كلمة في هذه المناسبة، وأقام منصة على مرتفع أرضي وأخفى تحتها كاميرات التصوير، وفي الموعد المحدد تجمهرت المجاميع أمام المنصة التي سار نحوها الحكواتي على أنه هو الشيخ السعودي حسن المكي، ووقف على المنصة، ليتقدم منه العقاد مع مساعديه وليقبلوا أياديه أمام المجاميع، لتشعر بأهمية هذا الرجل الذي راح يتكلم عن الرسول بطريقة أثارت تعابير الحزن والبكاء في وجوه المجاميع، فحصل العقاد على صورٍ وصفها بأن الواحدة منها تساوي مليون دولار.
الصفعة الكبيرة
لكن الصفعة الكبيرة التي تلقاها العقاد، كانت بعد ستة شهور من إقلاع العمل في الفيلم، وتسرب خبره إلى معارضيه الذين شكلوا ضغطاً على الملك الحسن الثاني، مستغلين بعض الظروف السياسية، فطلب من العقاد إيقاف التصوير كي لا يحمّل المغرب ما لا تحتمله، فكان على العقاد أن يتفهم هذا الواقع، وأن يتلقى الصدمة بصمت ومتانة، وأن يكمل التصوير الذي يحتاج إلى الديكورات بسرعة وسرية، وأن ينتقل إلى طرابلس في ليبيا، وهي المدينة التي لا عهد لها بصناعة السينما قبلاً، ولا تملك المعدات السينمائية اللازمة، فكان على العقاد أن ينقل أطناناً من العتاد والثياب والإكسسوارات والعربات والأحصنة المدربة.
وهكذا، استغرق العمل في فيلم «الرسالة» مدة سنة، اعتز فيه العقاد بالممثلين العرب القادمين من أغلب الدول العربية، أمام الممثلين الأجانب، فهو لم ير تفاوتاً في قدراتهم، إذ إن الممثل – كائناً من يكون ـ بقدر ما تقدم له من تقنيات وإمكانات بقدر ما يعطيك، لكن العقاد أشار إلى أن عبدالله غيث القادم من خلفية مسرحية تفوّق على كوين في المشاهد التي تحتاج إلى شيء من الخطابة، في حين تفوق كوين على عبدالله غيث في المشاهد الحوارية، أما منى واصف فقد أشارت إلى انضباط الممثلين الأجانب وصبرهم وعدم شعورهم بالملل وتواضعهم، وشعرت بأنها كبرت مع مخرج من بلدها وراحت تتنفس النجاح مع كبار فناني العالم.
بعد رحلة مخاض عسيرة قطعها فيلم «الرسالة»، راح العقاد يشن حملته الإعلامية والإعلانية للترويج له، مستفيداً من تسامح الإسلام مع بقية الأديان ومن نظرته إلى المسيح ومريم، وتم عرض الفيلم لأول مرة في لندن، كما افتتح في 3000 صالة بأمريكا، فهُدِّد العقاد بالقتل من قبل بعض معارضي الفيلم، وهوجمت ثلاث بنايات، وخطفت 22 رهينة، إلا أن العقاد كان يرى في هذه الأعمال دعاية للفيلم لا يمكنه أن يحقق مثلها، ولو دفع ملايين الدولارات، وفعلاً كان الفيلم واحداً من أكثر الأفلام مشاهدة في العالم، فقد دُبلج إلى ثلاثين لغة، وشوهد من أناس أميين لا يعرفون القراءة، ووزع في أمريكا على المنظمات والمؤسسات والجيش، وتراجع أغلب المعارضين له عن موقفهم، إذ لم يجدوا في الفيلم ما يدعو إلى الوقوف ضده، خاصة وأن نحو ثلاثين ألفاً من البشر أعلنوا إسلامهم بعد مشاهدته.. وللأمانة فقد عدنا إلى إحدى المقالات المعارضة للفيلم، فتبين أنها تنطوي على جهل عميق وعقيم، ولا تعرف الفارق بين الفن والتاريخ الذي لا يخلو من اللغط والقال والقيل.
عمر المختار
بعد نجاح فيلم «الرسالة» الإسلامي، راح العقاد يتطلع إلى إنجاز فيلم عن الكفاح العربي ضد الاستعمار، فوجد في قصة الثائر الليبي عمر المختار نموذجاً يمكن إسقاطه على كل قصص النضال العربي من أجل الاستقلال وجلاء المستعمر، فلم يخرج بذلك عن رؤيته التي حملها سنوات طويلة، والتي تتخذ من السينما وسيلة وأداة تهدف إلى تقديم صورة جيدة عن العرب للغرب وللعرب أنفسهم، وتؤكد حقهم وحق أبنائهم في الدفاع عن أراضيهم، إلا أن العقاد لم يواجه في «عمر المختار» الصعوبات التي واجهها في «الرسالة»، سوى بعض الضغوطات والإغراءات التي حاولت أن تثنيه عن هدفه، وساعده على إنجاز الفيلم وجود مكتبة غنية عن موسلليني واحتلاله لليبيا، واعتماده على كاتبه المفضل هاري كريك الإيرلندي الثوري، وعلى أنطوني كوين وإيرين باباس اللذين اختارهما ثانية وفق معاييره، فاستطاعت باباس أن تنقل أحاسيس المرأة العربية بكل اقتدار وجدارة، في حين تماهى أنطوني كوين مع الشخصية، لدرجة أنه لم يستطع الخروج منها، حتى بعد سنة، بل إن صور أنطوني كوين صارت تطبع في الكتب المدرسية على أنه عمر المختار، بعد أن أخذ دور مدرسٍ فُرضت عليه مقاومة الاستعمار، فكسب تعاطف الجمهور معه، وتعاطف الغرب مع الشعب الليبي ضد الفاشيست، في فيلم جاء متماسكاً بحبكة درامية ذات بداية ونهاية، ومشاهد فيها الكثير من الحوار والحركة والتشدد في عدم تمرير أي هفوة، والإتقان الذي كان يتطلب عمل يوم كامل من أجل مشهد لا يستغرق ظهوره على الشاشة أكثر من ثانيتين.
إلا أن العقاد لم يتوقف في أعماله على أحلامه ومشروعاته الكبيرة، فقد أنجز سلسلة أفلام الرعب «هالويين»، توجه فيها العقاد إلى الشباب الغربي الذين يشكلون 80% من رواد شباك التذاكر، فلاقت نجاحاً، وأمنّت له أرضية مالية مهمة، لقناعته بأن المحتاج غير حر، وعدّت السلسلة من أفضل أفلام تاريخ هوليوود.
صفات العقاد وقناعاته
وُصف العقاد بأنه مرح في أوقات الفراغ، أما خلال العمل فقد وُصف بأنه جاد ومُجوِّد وذكي وصبور وفخور وواثق ودقيق، وبأنه متفرد في إمكاناته يعرف ما يريد وما سيفعل، وقيادي نبيل وعادل، يرى جميع أفراد فريق عمله مهمين، سواء في ذلك النادل أو الممثل الكبير، فيشعرون في العمل معه بأنهم كبروا شأناً. كما وُصف بأنه يرفض تداخل المهام، ويحرص على أن يؤدي أبسط الأعمال أناس متخصصون، وبأنه يصل بالممثل إلى أعماق الشخصية بأبسط الطرائق، وأنه لم يتنازل عن شروطه وآرائه أمام الضغوط والإغراءات، سواء من الشركات الاحتكارية في الغرب أو من السياسيين والحساد في الشرق، فلم يخضع في اختياراته إلا لقناعاته ومعايير جودته، ولم يقبل بأي شائبة في الفيلم مهما كلفه ذلك، احتراماً لجمهوره الذي لم يستبعده أبداً من حساباته، فالمخرج في رأيه يجب أن يعرف جمهوره، ولغة هذا الجمهور، وما الذي يريد أن يقوله له، وكيف سيقوله، وساعده على كل ذلك أنه منتج ومخرج أغلب أعماله.. وحتى لا يبدو تائهاً لا يعرف ما يريد أمام فريق عمله، لجأ إلى تدخين الغليون ليبدو مشغولاً به، عندما يضطر إلى التفكير في أمر ما بين المشاهد.
بعد ذلك رفض العقاد أن توصف أعماله بالعالمية، أو أن يوصف بأنه عالمي، وشكك بدقة هذا المصطلح، وفضل أن يقال عنه: إنه عربي حاول أن يخاطب العقل الغربي بلغته وفنانيه، إلا أنه وصف بأنه آمن بحضارته فاستطاع أن ينقلها إلى الآخر، وبأنه تفرد في كونه لم يقدم صورة سيئة عن العرب ليوصف بأنه عالمي، وفي كونه حقق فيلماً جاداً يحمل رأياً وفكراً من دون أن يفرط بالجاذبية التي يحبها الجمهور.
هكذا استوعب العقاد الغرب وانفتح عليه وجاراه وعايشه وفرض عليه احترامه، ولكن من دون أن يفقد خصوصيته، فقد ظل يعشق مدينته حلب، وظلت جذوره تشرب منها، وظل يكثر من زيارتها، فكان حلبياً صرفاً في لهجته، وإخلاصه لصداقاته، واهتمامه الأول بعائلته على الرغم من شهرته في العالم، وتسمياته لأولاده، وتشدده في تربيتهم، وخوفه عليهم، وتسامحه وتوادده معهم، فكان عائلياً بامتياز، أحب ابنته ريما أكثر من أي شيء في الدنيا، وربّاها تربية متوازنة، فتعلقت بشدة به، وعندما شبت احترمها وأخذ برأيها، أسعدته جداً بقرار متابعة دراستها في بيروت، وأسعدته أكثر بقرار زواجها بالشاب العربي زياد منلا، فحضر حفل خطبتها، وأنهاه بشكل مفاجئ عندما قطع الكهرباء عن الموسيقيين قائلاً: إن أي حفل يجب أن ينتهي وهو في أوجه.
وكما أحب العقاد أسرته ومدينته أخلص لوطنه العربي الكبير الذي ينتميا إليه، فكان يحجّ إليه بشوق كبير، ويقطع إليه آلاف الكيلومترات لأبسط الأسباب، ولكن ما كان يعود منه إلا بدمعة على أحواله وتخلفه وضعفه وجهله وفساد أنظمته، وضيق أفق سياسييه وأصحاب المال فيه، فلم ير العلة إلا فيه، لا في الإمبريالية ولا في الصهيونية. يبدد طاقاته وأمواله وأوقاته على إعلام ضعيف مهلهل غير صادق وغير مؤثر، مع أن أحوج ما يحتاج إليه هو برنامج إعلامي شامل ودائم، يضم السينما والتلفزيون والإذاعة والصحف ومجالات الإعلام كافة، ينطلق من الغرب وبلغته وكوادره وبإنتاج عربي مشترك.. فلو صرف هذا الوطن العربي 5% مما تستنزفه الجيوش والأسلحة على مثل هذا الإعلام لعمل المعجزات، إذ إن إنجاز فيلم أو فيلمين مثل «الرسالة» و«عمر المختار» لن يغير كثيراً من نظرة الغرب إلينا، وهو حلم لا يحتاج من العرب إلا قليلاً من الغضب، لكنه بانتظار تلك الخطوة الحضارية وعلى طريقها، كان يعمل على إنجاز فيلم عن صلاح الدين الذي تسامح مع الأديان، فرأى فيه العقاد نموذجاًَ يصلح لتقديمه في فيلم بهذا الوقت الذي صار فيه الإسلام مرادفاً للإرهاب، إلا أن هذا الشرق أبى إلا أن يقصف حلمه، مع أحلامه الأخرى بمدينة إعلامية شاملة وبفيلم عن الأندلس، فأنهى حفل حياته وهو في أوج عطائه، مع ابنته التي أحبها أكثر من أي شيء في دنياه، والتي كانت نور عينيه وحياته.
كيف وحتى تستمر الرسالة..
لكن فيلم «هل تستمر الرسالة» لم يشر إلى أي هفوة من هفوات العقاد، ربما لأنه اتخذه نموذجاً من النماذج التي يمكن أن يحتذى بها لنهضة أمتنا في وقتنا الحاضر، فلم يشر إلا إلى الجوانب الإيجابية في شخصيته، إذ إن أغلب المتحدثين في الفيلم لم يستطيعوا أن يتحرروا من صلتهم الخاصة بالعقاد، ومن تأثرهم بالنهاية المأساوية التي انتهى إليها، فأضفوا عليه صفات وإن كانت تليق به وبإنجازاته، لكنها تبقى في إطار المديح الشخصي الذي لا يضيف شيئاً كبيراً إليه، لذلك حاولنا أن نتخفف منها في عملنا، وأن نركز قدر الإمكان على الأفكار المجردة والأحداث والأفعال، بغض النظر عن توصيفها وتقييمها، فهي بحد ذاتها تتحدث عن نفسها.. إذ إننا نعتقد أن احترام أي رسالة واستمرارها، لا يكون في تلبّسها وإنما في البحث فيها واكتشاف عثراتها وتلافيها، وتطويرها وإثرائها بالنقاش المحترم، بغض النظر عن الاتفاق أو الاختلاف معها، ولكن يبدو أن هذا الأمر بقدر ما هو بديهي بقدر ما هو صعب في شرقنا، ربما.. هذا ما كان يريده العقاد الذي انطلق من طبقته الوسطى غير المتخمة إلى حد الترهل وغير الجائعة إلى حد الموت، وابتعد عن وطنه لكي يستطيع أن يحبه وأن يدافع عنه، وآمن بالدين الذي لا يبقيه خارج العصر، وانخرط في العصر الغربي من دون أن يذوب فيه، فلم يلغ انتماؤه الخاص انتماءه الإنساني.. في كل الأحوال إننا حاولنا محاولةً بسيطة جداً ومتواضعة للإجابة عن تساؤل وعنوان الفيلم «هل تستمر الرسالة؟».