تكريم الفنان طاهر البني و تحولات التشكيل 18-6-2012
- يونيو 20, 2012
- 0
أقامت مديرية الثقافة بحلب ندوة تكريم للفنان والباحث التشكيلي طاهر البني في السابع عشر من حزيران عام 2012 ضمن فعاليات منتدى حلب الثقافي
ندوة تكريم للفنان والباحث التشكيلي طاهر البني
بكل الود والمحبة نتمنى للفنان طاهر البني المزيد من العطاء والابداع، وننشر صفحة تكريمه ومقالة الأستاذ محمد شويحنة "تحولات التشكيل في أعمال طاهر البني"، لما للأستاذ البني من دور كبير في التشكيل والفن والثقافة السوري والعربي، ولما يخص به رواد عالم نوح من مقالات و دراسات مفيدة. نوح حمامي
أقامت مديرية الثقافة بحلب ندوة تكريم للفنان والباحث التشكيلي طاهر البني في السابع عشر من حزيران عام 2012 ضمن فعاليات منتدى حلب الثقافي . وقد قدم فيه باسل البني – نجل الفنان – فلماً توثيقياً استعرض فيه سيرة والده ، وأبرز المنعطفات التي مرت بها تجربته التصويرية ، مبرزاً أهم الجوانب التي خضع فيها الشكل الفني للتطوير عبر مسيرة امتدت لأكثر من أربعين عاماً منذ معرضه الأول في المتحف الوطني في حلب عام 1971 . وقد شمل الفيلم بعض ما كتب عن تجربة الفنان بما في ذلك كلمة للأديب محمد شويحنة تحت عنوان " تحولات الشكل عند طاهر البني ".
وقد تحدث الأديب نذير جعفر عن تجربة الفنان ، وذكر أبرز الثمات التي تشترك بها لوحات الفنان ، وأدار الندوة التي ضمت مجموعة من الفنانين والأدباء والمثقفين الذين شاركوا في الحوار و طرح الأسئلة على الفنان ، والاستفسار عن بعض الجوانب الفنية والفكرية في أعمال الفنان التصويرية ، وكان في طليعة المشاركين كل من الأدباء: سمير طحان و محمود أسد، عدنان كزارة و أسامة مرعشي و أحمد خيري، والمخرج المسرحي إيليا قجميني ، وكل من الفنانين : أحمد برهو و ناصر نعسان آغا و جورج بيلوني، والشاعر الغنائي صفوح شغالة.
وقد أكد الحضور على ضرورة عقد مثل هذه الندوات بشكل دوري كي يتمكن الجمهور من متابعة تجارب الفنانين التشكيليين والتعرف على نتاجاتهم و اتجاهاتهم الفنية المختلفة . لكن الندوة أغفلت الحديث عن الجانب البحثي والتوثيقي للفنان البني ولم تستعرض ما صدر له من كتب في هذا الميدان الذي تميز فيه ضمن الساحة التشكيلية السورية ، وهو الذي كتب عن الفن التشكيلي في حلب عبر أكثر من أربعة كتب ، واستعرض فيه نتاج أغلب الفنانين المتألقين في هذه المدينة ، في الوقت الذي أنجز فيه كتابه " ذاكرة الفن التشكيلي في سورية " والذي يقع في ثلاثة أجزاء ، ويستعرض تاريخ الفن السوري منذ الألف الثامنة قبل الميلاد وحتى نهاية القرن العشرين ، حيث صدر عن وزارة الثقافة السورية بين عامي 2004 و 2006 . والجدير بالذكر أن للفنان والباحث طاهر البني أكثر من اثني عشر كتاباً في الفن التشكيلي السوري والعربي والعالمي ، بعضها صدر عن وزارة الثقافة بدمشق ، وبعضها مازال في طريقه للصدور .
وفيما يلي سنعرض ما كتبه الأديب محمد شويحنة في تجربة الفنان البني .
تحولات التشكيل في أعمال طاهر البني
يبدأ طاهر البني الرسم منذ أوائل السبعينيات ومن خلال المشاركة في خمسة معارض جماعية وبعض المعارض الفردية التي بدأها عام 1971 تباعاً .. حتى وصلت إلى أكثر من عشرين معرضاً فردياً وبالمشاركة .. وقد أظهر بدايةً مقدرة فنية لافتة من خلال لوحاته المائية التعبيرية التي نهلت موضوعاتها من حياة المدينة والأحياء الشعبية وجانب من المشاهد القروية الرومانسية التي استطاعت أن تحاكي الطبيعة والإنسان والموجودات من حوله بلغة تصويرية شفافة تنهل ألوانها المشرقة من روحانية الجمال المترامي في أنحاء القرى وحضن الأحياء الشعبية .. ولكنه سرعان ما سينعطف في مرحلة تالية إلى الألوان الزيتية ليغادر مرحلة تتصف بالرقة والشفافية المحببة، وليدخل في واقعية تسجيلية تحمل ملامح أكاديمية، يعنى فيها بمحاكاة الأشكال وصوغها بدقة متناهية، وهذا ما برز بداية في تصويره لأعلام العرب، تلك التي كلف بها لتكون على أبواب قاعات ومدرجات كلية الآداب والعلوم الإنسانية في جامعة حلب في مطالع السبعينيات ، من أمثال المتنبي والمعري والجاحظ وابن خلدون وأبي فراس الحمداني وسامي الدهان ، ثم في معهد التراث العلمي العربي سنجد لوحات تمثل الفارابي والكندي والبيروني .. في هذه الأعمال سيتم الاعتماد على القيمة التعبيرية في البورتريه باعتبارها من ثقافة الخيال ، وذلك من خلال توزيع الإضاءة في اللوحة وتركيزها على الوجه تحديداً وضمن مجموعة لونية محدودة من الألوان الترابية ومشتقاتها . وسرعان ما سيتحول البني إلى منحى تعبيري آخر ينهل هذه المرة من الذات ولا يعنى بأن يكون صدى للصيغ الكلاسيكية الصارمة، بل صورة وانعكاساً لقلقه وطموحاته .. وسينزع في فترة لاحقة إلى الاستفادة من الصيغ الأسلوبية العالمية في الفن التشكيلي ، وقد بدا أن إغراء التجريد بصيغه الحروفية والتقطيعية والتكعيبية والتدويرية ومن ثم اللونية ، هو ما بات يهيمن على تجربته وتجريبه، دون أن يكون لأسلوب ما استغراق كامل، لا بل إن التعامل مع الصيغ التجريدية تلك أخذ منحى تجريبياً متحولا لا يقف عند مرحلة إلا سرعان ما يتجاوزها إلى مرحلة تالية .. بحيث بدا تعامله مع الأشكال الحداثية في الفن التشكيلي تعاملاً انتقائياً حذراً ، فراح يطوع بعض عناصر هذا المذهب الفني أو ذاك إلى رؤيته ، على نحو أقرب إلى التطعيم منه إلى التمثل الكامل، ففي تعامله مع المذهب التكعيبي مثلاً لم يكن يتبنى كاملاً لأسس فن التكعيبية، بل من خلال ملامسات تدخل في صياغة البنية العامة للوحة، عندما تقسم السطح إلى قطوع هندسية عدة بما يكشف عن إمكانات تشكيلية كبيرة، ويساهم في كسر حدة الشكل وثقل الألوان وتقديم بعض الحلول الفنية هنا وهناك .. بحيث قامت التكعيبة بتقديم اقتراحات تجريبية فنية ناجحة، وساهمت إلى حد بعيد في نجاح الشكل والصياغة الأسلوبية الخاصة بطاهر البني. وما إن يصل البني إلى بداية التسعينات وفي معرضه التاسع في صالة عشتار بدمشق عام 1991 حتى أخذت الأشكال التشخيصية تنسحب من أعماله رويداً رويداً ، وشرعت الصيغة اللونية تؤكد حضورها في تأليف مجرد يعكس حالات شعورية مختلفة، ويسعى إلى اختزال المفاهيم والقيم الإنسانية. ويصرح البني بنزوعاته الفنية فيقول: " إن لغة التجريد تدهشني بمؤثراتها البصرية البعيدة عن الموضوعات التشخيصية التي تعيق الفنان في ارتياد آفاق أكثر رحابة، فإذا كان فن التصوير قد أوغل في محاكاة المرئيات وعكسها بتفصيلات شكلية متناهية عبر مراحل مختلفة من تاريخه، فإنه سعى في الوقت ذاته إلى مخالفة ما تبصره العين ويعترف به المنطق في محاولة لصنع عالم تصغي في اللغة التصويرية إلى تجليات الروح وإيماءات المخيلة، وهكذا تولادت احتمالات غير محدودة بظرف مكاني أو زماني وانبثقت ينابيع ثرية لتشكل جاول شتى تنساب فيها ألوان من المتعة البصرية التي لم تحظ بها العين من قبل. "
في هذه التجارب أخذت البنائية التشكيلية الواعية تظهر في أعماله التصويرية وبدت ملامح التحليل والتركيب تشكل سمة واضحة في معالجاته بما يفتح مجالات جديدة للرؤية تستوعب هواجسه ونزوعاته الخفية ، وتتجاوز في الوقت ذاته الملامح التقليدية للواقع المرئي والمشاعر المباشرة ، وتخضع لقوانين تشكيلية جديدة ، وتحمل طموحاته في خلق لوحة ذات ظلال بعيدة تستمد عناصرها من البيئة العربية والمحلية وتطرحها بصيغة معاصرة تلتقي مع غيرها من التجارب الماثلة في عالمنا . وضمن هذا التوجه بدا في هذه المرحلة الإغراء التجريدي كبيراً من خلال بعض الأعمال التي تستمد صيغها الجمالية من الحرف العربي بتشكيلاته الحديثة بما يقدم متعة روحية بصرية ، أو من خلال التعامل مع التوشيح والاهتمام بالظل والنور والانصراف إلى التلوين وتوزيعه بانسجام موح على مساحة اللوحة دون أن تجذب البني في جميع محاولاته التحديثية أي من الصرعات الصارخة والعبثية والرافضة التي شهدناها في الفنون الغربية وبعض من تجارب التشكيل العربي ..
وبعيداً عن التصنيفات المذهبية والمدرسية يمكن القول إن تجربة الفنان التشكيلي طاهر البني ما بعد المرحلة المائية الأولى ، وما بعد المرحلة الواقعية التسجيلية ، أخذت تتمحور حول عدد من المرتكزات الموضوعية واللونية التي تنسج علاقات متعددة بالعالم المحيط ، نجدها أساساً تقوم من حيث الموضوع على محاولة الانعتاق والتحرر من عنت واقع ما أو ألم ضاغط على الروح ، بحيث بدأت رحلته بتحول لافت في التجربة ضمن سياق خاص انتهجه الفنان بداية يقوم على إبراز القيمة التعبيرية في الوجوه والأجساد والأشكال الأخرى المشكلة لعناصر اللوحة ، فالوجوه الأنثوية خاصةً تظهر في تشكيلاته الأولى سمحة مضاءة بألق خفي ، سادرة في حلم يقظة أو متناغمة مع عمق أسرارها من خلال حركة تداخل والتفاف في الخطوط المشكلة للوجوه والأيدي والأذرع وباقي تفاصيل الجسد الأنثوي ، وبما ينسجم ويتداخل أيضاً مع عناصر اللوحة الأخرى المكملة لموضوع التشكيل من طيور وديكة وخيول وأسماك وكباش وصقور وربما قطط .. والطيور البيضاء على أيدي الحسناوات باتت سمة تشكيلية أساسية تميز لوحات طاهر البني ، لكن صورة المرأة في مجملها باتت تشكل في أعماله حالة انتظار أو حلم مسافر وتوق إلى المجهول ، كما يبدو في نظرات العيون الساحرة الحانية على أسرار الروح وصبوات الجسد ، وفي حركة الطائر المتأهب بتحريك الجناحين أو فتحهما ، عبر حالة تتداخل مع التشكيل العام الذي وضعت الشخصيات الإنسانية وبقية العناصر في إطاره ، ونتيجة التعامل المتقن مع الضوء وانعكاساته يظهر جلياً نور قداح يشع من الوجوه الأنثوية من ذوات العيون النجل الوادعة والوجوه النورانية، وهنا لا بد من القول إن نظرة طاهر البني إلى جمال المرأة تعنى بإبراز ماهية الجمال الشرقي الذي لا ينصرف إلى التعامل مع حسن الصورة بقدر ما يفيض بالإيماء إلى جمال الداخل.
في فترة لاحقة سيتم الاشتغال على التفاصيل اللونية والتزينية، وتحديداً من خلال بدء ظهور هذا النسج اللوني الحار الصاعد من أسفل اللوحة ليضرب عمقها في الأعلى فيصل القاع بما هو بيوت شعبية وأحياء وكوى ومآذن وأسواق وآثار ضاربة في عمق تاريخ المنطقة، يصله بالأعلى بما هو انعتاق وتحرر ورغبة في التحرك الدائم ، بل زهد في الثبات والسكون، فعند طاهر البني لا نجد التشكيل مرصوداً في سكونه وثباته بل في حركته وتحوله، إذ حتى التكوينات الريفية التي رسمها تأخذ عنده شكل التدرج التراكمي كما في لوحات معلولا الشهيرة للؤي كيالي. فالبيوت والفتيات والشرفات والقباب والسلالم والمشربيات والمآذن تتصاعد معاً في حركة متضافرة من أرض اللوحة ، وتبدو جميعاً كما لو أنها عائمة على حلم، لكنها تتطاول في الوقت ذاته وتمتد قاماتها باتجاه الأعلى، يساعدها في ذلك المستطيلات اللونية الحارة الصاعدة هي الأخرى باتجاه العمق العلوي للوحة ، بما يتماهى أيضاً كحركة مغايرة تكسر رتوب الشكل، مع الأشكال الأولى التي تظهر في لوحاته، مع حركة الطيور والنساء وباقي الشخوص .. ويحمل المشهد كله في النهاية هذه النزعة النوستالجية بمعناها الحالم والشفاف ولكن الحزين أيضاً وهو يستحضر طرفاً من عالم مفتقد وزمن ضائع.
سيتدرج أسلوب طاهر البني التشكيلي ما بين البداية التصويرية التي تميل إلى الفوتوغراف في جانبه التسجيلي الذي يعنى بأدق التفاصيل ، ثم تبدأ بالتخلص رويداً من هذا البعد الضاغط ، باعتباره حاجة جماهيرية تلبي أذواق المتطلبات المنزلية التزينية فحسب .. هذا المنحى لم يكن إغراءً دائماً بالنسبة للفنان بل إنه أخذ فيما بعد يطوع أعماله لما يعرف بسلطة المعارض الفنية، هذه السلطة التي تدعوه لأن يكون في قلب الحركة الفنية لا خارجها ، فبات يصوغ لحظته الفنية مستقياً إياها من عمق قناعاته التشكيلية، ومستفيداً إلى حد بعيد من خبرته الواسعة في مجال النقد التشكيلي وتاريخ التشكيل المحلي والعربي والعالمي، وهو الذي أصدر عدداً من الكتب التاريخية والنقدية في الفن التشكيلي، وقد أفضت تلك الخبرة إلى عدد من المحاولات الفنية الناجحة، بحيث بدأت معارضه الدورية تأخذ في كل مرة طابعاً مستقلاً متميزاً بالجدة والتنوع والتحديث والتجاوز، وفي كل مرة سيجد طاهر البني مزيداً من الحفاوة والتعاطي حتى التجاري مع لوحته، بما يؤكد رؤيته المتناغمة مع الذوق العام لرواد المعارض الفنية التشكيلية باعتبارها رؤية لا تستجيب لهذه الأذواق حقيقة بقدر ما تقدم هي ذاتها واقتراحاتها الجمالية الموفقة.
في بداية التسعينيات يقدم طاهر البني معرضاً نوعياً متميزاً برؤية متجددة ، تتوزع الموضوعات التشكيلية فيها مابين عنصر أساسي يمثل صورة المرأة بتنويعاتها : أمومة ، امرأة حبلى ، أم تحنو على رضيعها ، فتيات حالمات ، عازفة كمان، قارئة .. وما بين عناصر أخرى تكميلية من أطفال وطيور وأسماك، زهور في أنية تتصاعد على جوانب اللوحة، فواكه وكؤوس وأباريق ، مشاهد من طبيعة صامتة، زهور وكتب وأوراق وأقلام وتحف ونحاسيات وفوانيس وسبحات وحلي متنوعة وأساور ذهبية وأصداف ونراجيل وقباقيب، وتبدو المعالجة التشكيلية لهذه العناصر آخذة بقوة من تقنية الحفر على الخشب، من خلال التعامل مع اللون البني وتدرجاته اللونية، ذلك اللون القادر على يدي الفنان أن ينطق بكل المخزون الشعبي والحكائي العربي .. إلى ذلك غالباً ما يتم الكسر التكعيبي للأشكال والوجوه والأيدي وباقي تفاصيل اللوحة، بحيث تتداخل مختلف العناصر والمكونات وتعطي اللوحة شكلها الكلي المتفرد ..
ويبدي البني اهتماماً خاصاً بخلفية اللوحة حتى لتغدو لديه موضوعاً آخر ينهض بحمولته الفنية الخاصة وينشغل في الوقت ذاته بخطاب الموضوع الأم في اللوحة .. وغالباً ما تتوشح خلفية اللوحة ببعض التفاصيل الغائمة والمغشاة من مشاهد قروية آسرة لا تزال منطبعة في مخيلة الفنان من أثر طفولة ماتعة في أحضان الطبيعة المترامية بالبساتين والطين على طول مجرى قويق .. أو ربما تظهر في الخلفيات تكوينات معالجة من قباب ومآذن وشرفات خشبية وكوى وأفاريز ، وقد تغيب هذه التشكيلات لتحل محلها وجوه مطموسة أو آنية فخار أو زهور ومقاطع من مشاهد تراثية أو أسطورية أو شعبية ..
في مرحلة متقدمة يدخل طاهر البني في معالجة عناصر من أشكال الطبيعة من صخور وجذوع وعشب حيث تتداخل الألوان في انزياحات مؤثرة موحية ليصوغ أشكالاً تتماهى بحالات أو ملامح إنسانية تؤكد وحدة مخلوقات الطبيعة ، وتظهر من هذه الملامح صور لأبطال شعبيين وعظماء وقادة من الحروب القديمة .. إلى ذلك تظهر في بعض لوحات البني الجدارية الضخمة مشاهد من وحي الأساطير الأوغارتية أو البابلية أو الآشورية كأسطورة مولد السحر والغسق ، أو أسطورة أقهات بن دانيال ، وبعض الموضوعات التاريخية المستوحاة من معارك التاريخ العربي الإسلامي ، كمعارك صلاح الدين ، حيث تظهر مشاهد البأس في حركات الخيول والفرسان والرماح الطويلة والسيوف المشرعة ، بينما ستظل تظهر في تلك اللوحات النساء في كادر لا بأس به من اللوحة بالزي العربي دون أن تفارق الحمائم البيضاء أيديهن.
في منحى آخر ستستولي لعبة التجريد بقوة على اللوحة فتبدو لنا بقايا من الشخوص أو الكائنات الإنسانية الحافلة بالتلوين العذب الموحي ، أو مقاطع من أجساد أنثوية مقدودة كأنما من صخور المنطقة وممزوجة بلون التراب والعشب والماء ، في صيغ يبدو العري فيها ملمحاً عاماً ، بحيث تظهر لنا مقاطع من صدور أو أرداف أو جذوع .. وقد تميزت هذه المرحلة بصغر حجم اللوحة 30 × 30 ..
في مرحلة تالية سيواصل طاهر البني التعامل تشكيلياً مع مقاطع من جسد المرأة مع ميل إلى التوهج اللوني من خلال الأحمر والأخضر والأزرق ، بحيث يمتزج العنصر التشكيلي الإنساني بغيره من عناصر اللوحة ليعطي انطباعاً تجريدياً ذا طابع تجريبي إيحائي ، وليشكل في اللون والعلاقات بين الكتل تناغماً وانسجاماً معبراً عن التطامن والهدوء وحالة من الرضا والارتياح. ويبدو حجم اللوحة هنا أكبر قليلاً من حجم سابقاتها 50 × 50 . لينطلق في عام 2005 وما بعد إلى حجوم أكبر 80 × 90 وليشكل المنحى الأسلوبي هنا استمراراً للمرحلتين السابقتين، لكن الأشكال الإنسانية ، وخاصة القامات النسائية ، ستعطي اللوحة مع العناصر الأخرى شكل الموضوع المتكامل مع ميل واضح إلى كسر حدة التجريد المسيطر على لوحاته السابقة . في هذه اللوحات الجديدة تظهر الأشكال المكونة للعمل في اللوحة كأنما لتحكي قصة أو تعرض أسطورة من أساطير الخلق والتكوين أو تحاكي مشهداً من حكاية شعبية .. في هذه اللوحات تختفي إلى حد واضح الألوان الحارة وتستقي اللوحة تأثيرها من برودة اللون إلى شيء من ضربات متوهجة سريعة وجزئية هنا وهناك تتوزع في أنحاء الشكل لتعطي التوازن والإيحاء المطلوب.
ويعود طاهر البني مجدداً ليقدم لوحات صغيرة الحجم نسبياً، وفي محاولة لتعميق الأسلوب الذي اختطه منذ عام 2000 مع تعامل مكثف مع اللون السماوي والأخضر الفاتح والأزرق المتدرج، ويبلغ التجريد في هذه المرحلة أقصى مداه لينعطف البني بعدها إلى التعامل التجريدي هذه المرة مع عناصر من الطبيعة، في لوحات يسودها الأخضر بتنويعاته المدهشة والحافلة بالانطباعات المبهجة ونزوعات الروح إلى المسرات الخفية .. إن ما تؤكده أعمال الفنان طاهر البني عبر مسيرتها الطويلة هو مبدأ التحول في التشكيل وبما يكشف عن هاجس الكشف المتواصل وارتياد عوالم خفية تسر بها النفس الشاعرة وتأبى إلى أن تتجلى باستمرار متحررة من أطر ونواميس لا تزال تعيق مسيرة الفن وتحد من تطوره .
محمد شويحنة