جدي إلى اين لمنى تاجو
- فبراير 20, 2015
- 0
منى تاجو: كنت دائماً أدعو الله أن يساعدني لأكتب كتاباً، كتاباً واحداً فقط و سأشعر بأنني امتلكت سعادة العالم حينها
الكاتبة الدكتورة منى تاجو
كنت دائماً أدعو الله أن يساعدني لأكتب كتاباً، كتاباً واحداً فقط و سأشعر بأنني امتلكت سعادة العالم حينها.
بدأت الأزمة في وطني، تصاعدت الأحداث و أشتد العنف إلى درجة غير متوقعة، تفجير هنا، أشلاء هناك وصبغ الدم كل ما حولنا، الزلازل تأتي و تذهب أما ما نمر به فهو زلزال مستمر متصاعد لا يتوقف عن الدمار و الوحشية و الألم، دخلت حالة لم أخبرها في السابق، لم أهرب بعيداً بل هربت إلى عمق مدينتي، إلى القلعة أستمد منها الثبات و الرسوخ و أقاوم، شاركني هذا الهروب أحد الأصدقاء، مع قهوتنا نحكي ألمنا و خوفنا، و في لحظة مشبعة بالألم اندفعت أصف ما أحس فتدفق الألم كلمات تبعها الدمع، و بعد سورة العواطف هذه سأل صديقي لم لا تسجلي ما قلت؟ موقف كهذا يجب أن يكتب و أظنك قادرة على هذا.
شتاء، برد و ألم متزايد، و وحدة، سؤال ملح كيف لامرئ أن يجتاز كل هذا، كيف له أن يحتمل يحتاج لما يساعده، و بدأت الكلمات بالظهور على شاشة حاسوبي ثم تدفقت لترسم حلماً.. لتقول حقيقة أو خيالاً، يتوقف التدفق حيناً و يغزر في حين آخر و مازال الوهم و الخيال يتجاذبان و يتصارعان و بدأت الصور تصبح أكثر وضوحاً و تحول الخيال إلى حقيقة، توقفت قليلا مع نفسي أولاً ثم مع من هم حولي، قرأت فاستمعوا، هناك من أعجب فشجع، و هناك من تردد، و هناك من قال لا تلبسي ثوباً ليس لك…..طالت الوقفة ثم عدت، كنت حيرى وزادوا من حيرتي هل أدخل التجربة؟ هل أدخل عالماً ليس لي؟ و إن فعلت ماذا ستكون النتيجة؟ سوف أكمل ما بدأت و عند النهاية سأقرر ما أفعل.
حيث تختبئ أسرار الحياة عشت ساعات طويلة و سكبت ما علمني إياه العيش كلمات و أحداث، خلال هذا كان علي أن أكتسب مهارات عدة، و أن أوجد بيئة لأفكاري، فوجدت أن أتحدث عن ما فعلت المرأة عبر مئة عام، كيف حرمت من إنسانيتها، وكيف انطلقت لتصبح متعلمة ،عاملة، قادرة على كسب حياتها و تصريف أمورها، ما قدمه المجتمع من جديد لهذه الإنسانة الجديدة ؟ هل غير من أسلوب تعامله معها؟ هل أعطاها الموقع الذي تستحقه؟ هل غير نظرته لها فلم تعد فقط مجرد أنثى؟
أرى أنه لم يفعل……..فما زالت عقلية الجدود تستعمر عقول الآباء و الأبناء، حتى بدأت أسأل نفسي هل ما في عقولهم عن المرأة محمول على مورثاتهم. هذا ما لم استطع إيجاد جواب له، و من خلال بحثي عن هذا صدمت بأن أكبر عدو للمرأة هي المرأة نفسها.
قد يجد أي قارئ نفسه على الصفحات هذا لا يعني أنني أعرفه و أحكي عنه إنها الحياة بغرائبها لذا… فليسامحني الجميع أنا لا أرغب بالإساءة لأحد، رغبت أن أحلم معكم لنبحث عن حلول لما نحن فيه.
مع اشتداد الأحداث في حلب أنهيت الكتابة و سكنت لأشهر، مترددة بين إتمام الطريق أو التوقف ها هنا ….قررت المتابعة، و هاهي تجربتي بين أيديكم.
أتمنى أن أكون قد أجدت، و أتمنى أن أكون حركت مشاعركم.
و استطعت أن ألمس الجرح و العلاج.
فنحن نعيش بين الحلم و الحقيقة، بين الوهم و الخيال
بيت جدتي
لطالما اشتقت إلى أحيائك القديمة، أي مدينتي العجوز متجددة الشباب، لم أسكن أحياءك تلك و لكن زيارات بيت جدي كانت من أحلى الأوقات التي وسمت طفولتي بلمحة من الخيال، كم كان يسعدني أن تسمح لي والدتي بالمبيت لدى الجدة، حضنها الدافئ يضم أعوامي المتواضعة، رائحتها العطرة تضوع مزيجاً عطرياً تحب استعماله ممزوجاً برائحة ورق التبغ الذي تشكل منه لفافاتها و التي كنت أستمتع بتنشقها، يدها الحنون تضمني إليها، وقبلة محبة على جبيني، كل هذا كان يسحرني، لم أدرك مدى العمق الذي انغرست فيه كل هذه الذكريات و لا الأثر العريض الذي حملته في داخلي دون أن أحس به ودون أن أحكيه، تلك المحبة التي برعت جدتي بإحاطتنا بها نحن الأحفاد هي التي تدفعني لأحكي ما يلي.
عقد صداقتنا المختوم بدوام المحبة جعلني أحكي عن حياتك بعد نضوج تجربة عمري، كيف سرقت منك دون قصد، دون عمد، و لكن هكذا، هي حصيلة تراكم الكثير من الأخطاء الصغيرة و التي شكلت بمجموعها هوةً كبيرةً التهمت حياتك و حياة الكثيرات بإغراقهن بالجهل و التخلف الفكري و الاجتماعي.
قبل أكثر من مئة عام كان كل شيء يسير هاهنا في منطقتنا بهدوء و رتابة، و بساطة شديدة، الجميع يعيش فقط لاهتماماته اليومية، ما كانت الكلمات التالية لتمر بذهن أحد (علم، تطور، طموح، سياسة، عالمية)، بدت الحياة جميلة و لا تحتاج إلى أي تغيير، عجلة الأيام تسير بالدفع الذاتي و تستغرق حياة الناس لتلبية حاجاتهم من طعام و شراب و أشياء أخرى، أما الثياب فما كانت إلا وسيلة، لم تكن هدفاً… للتباهي.
1905 في مساء خريفي، مع المغيب، شعرت جدة والدتي بآلام المخاض، كانت قد أنجبت ولدين صبي وفتاة، و الرغبة بأن يكون القادم ذكراً متفق عليها دون اتفاق، من يكره المزيد؟ رغم أن القرن العشرين قد بدأ إلا أن سحب الجاهلية مازالت تعتم العقول و إنجاب فتاة أخرى غير مستحب و سيقبل على مضض، إنها عبء يحمله الأب على كاهله، و ما تجتاز الفتاة أعوامها العشرة حتى يستعد الأب لإلقاء حمله على أول خاطب يجد أنه يستطيع أن يحمله، يبني قبوله على أمور يحددها و يرضاها دون أن ينظر لأحاسيس ابنته و مشاعرها، تنحصر نظرته في حاجاتها من سكن و طعام و شراب، أما يكفيها هذا؟
هذا الفكر مازال يعيش بيننا بصور شتى. أحياناً مختبئاً داخل العقول و أخرى مجسداً بيننا على أرض الواقع.
دبت في البيت حركة تناسب الحدث و بدأت التحضيرات و استدعيت (الداية) اجتمعت نساء البيت في الغرفة إلى جانب الجدة، و تحت الإضاءة المتواضعة التي يرسلها مصباح الكيروسين جلسن يتهامسن ببعض الحديث، عندما يجف الموضوع، تطلق إحداهن الدعوات للأم و للجنين بجهر فتردد النساء الأخريات: آمين. و يعدن إلى التمتمة ، كانت (الداية) تشرف على هذه العملية ببراعة لا بأس بها، فهي قد تعلمت من والدتها، رافقتها و من ثم حلت محلها، اشتد صوت الجدة و تقاربت الصرخات، بعد ساعات من الصراع شق صمت الليل صراخ القادم، وضعت إحداهن يدها على فمها و أطلقت زغرودة لم تكتمل إذ قطعتها (الداية) بكلمة: بنت. فعاد سكون الليل ليلف المكان………… هكذا ولدت جدتي.
أستاذة منى تاجو بعد إحدى الأماسي القصصية التي اشتركب بها في مديرية الثقافبة بحلب 8-11-2014 وإلى يمينها الأستاذ عبد القادر بدور رئيس الجمعية العربية المتحدة للآداب والفنون والسيدة حرمه