حامد بدرخان وقراءة أخرى لأغيد شيخو
- أكتوبر 25, 2012
- 0
يعتبر الشاعر “حامد بدرخان” من الشعراء المهمين في القرن العشرين في الوسط الكردي، ليس فقط من حيث النتاج الذاخر الذي تركه وإنما أيضاً من ناحية
حامد بدرخان قراءة في ثلاث دواوين
يعتبر الشاعر "حامد بدرخان" من الشعراء المهمين في القرن العشرين في الوسط الكردي، ليس فقط من حيث النتاج الذاخر الذي تركه وإنما أيضاً من ناحية المواضيع التي تناولها في كتاباته، فكان إنسانياً بامتياز في أغلب ما كتب.
إنّ "حامد بدرخان" على الرغم من رفضه للواقع الذي كان يعيش فيه إلاّ أنه لم يستطع الانسلاخ عنه بتاتاً، بل كان هذا الواقع هو المحرّض الرئيسي لثورة الشاعر ونتاجه الأدبي، لذلك فقد ذخر نتاجه بوصف هذا الواقع وجماليته حيناً والثورة عليه أحياناً أخرى، فكان متفائلاً حالماً بغد أفضل ومستقبل مشرق لا بدّ أن يظهر قريباً:
لقد سقطت الكؤوس على الصخور
بوادر ضياء الفجر في بلدي وفي جميع البلدان.
ويتابع في قصيدته هذه "صرخة رقم 2" ليصل إلى التمرّد الذي لا بدّ منه لأجل مستقبل ناجح مليء بالحياة وهو مدرك في الوقت ذاته أن التمرّد وحده لا يكفي لبناء مجتمع جديد:
لم أنطو على نفسي…
بعدما رافقت مغستوفليس
تعلّمت منه التمرّد.. ولكن لن أكتفي بهذا
ولذا.. تعلمت خطوط البناء
في المجتمع الجديد كيف تكون..
فالثورة لديه تأخذ طابعاً عقلانياً وإنسانياً أكثر من تأخذ شكل الدماء والخراب والحروب، والتمرد لديه هو ثورة على كلّ ما رسبته الحياة في ذهن المجتمع من تقاليد وعادات بالية لم تنجب لهم سوى المزيد من الآلام والمزيد من الرضوخ، فيأخذ تمرده في بعض الأحيان شكل التحرر من كل تلك القيود التي كانت سبباً فيما آلت إليه الأحوال:
يجب أن نتحرر
من الأسطر المحفورة على الجدار..
من العادات التي تكبّل عقولنا وأيادينا
فنلاحظ هنا إحساساً واضحاً وصراحة مطلقة فيما يبتغيه من أفكار ورؤى لمجتمع أفضل، ولعلّ ذكر كلمة "الجدار" هنا تعبير ضمني على الصورة التي كان فيها البشر سابقاً من رسم وحفر على الجدران لتسجيل حوادثهم وحياتهم، كما أن مفردة "الجدار" تنتسب إلى حقل دلالي يحتوي على معاني الحماية والأمان، فإذا بهذه الجدران تبقى محافظة على كلّ ما تمّ نقشه عليها وأصبح من الصعب التخلص من كل تلك الرواسب التي اجتمعت على مر السنين كما يقول الدكتور صلاح السروى.
لذا فهو يدعو إلى قراءة هذه الرسم والنقوش والأرقام المحفورة على الجدران دون أن نسلّم بها كما هي، بل يجب أن يكون تسليمنا بها منطقياً مستنداً على حجج وبراهين وأدلّة وإلا فلا بدّ من الثورة عليها:
وبدقّة المخابر
ولنقرأ ماهو مكتوب
على ملامح الإنسان..في أرضنا
لرؤية تعابير جديدة وعميقة
مثل الينابيع.. مثل الزهور..
مثل اللانهاية..
وهو وإن لم يستطع أن يوصل رسالته إلى المجتمع ويخرجه من الحالة التي هو فيها، إلاّ أنه متيقّن بأن هناك جيلاً جديداً سيظهر ليتابع هذه المسيرة ويكون حاملاً لشعلة الخلاص وغناء النشيد، لأن تحرر وخلاص مجتمع بكامله لا يمكن أن يكون نتيجة جهود فردية فقط وإنما لا بدّ من تكاتف الجماعة، وهذا ما يدّل عليه تكراره لكلمة "ملايين" في قوله:
الرفاق سوف يكملون النشيد
والعيد قادم
مع النصر
بجهد الملايين…
الملايين..
وبالإضافة إلى هذا فإن للمكان في ديوانه "رسائل من دمشق إلى ميريا" أبعاد أكثر من ديوانيه "تامارا والشمس لن تغيب"، ففي حين كان الأول زاخراً بالطبيعة العذراء التي كانت له الأم والحبيبة والوطن، نجد أن هذه المعاني قد أخذت أبعاداً أكثر عمقاً في الثاني من خلال ذكره لكثير من الأماكن كدمشق وتونس وغيرهما، إلاّ أنها على الرغم من كل ما تتمتّع به هذه البلدان من مقومات ومزايا تجعلها أفضل من قريته المنفية في أقصى البلاد لكنها لم تستطع أن تخرج الشاعر منها ولو للحظة، ونرى هذا التساوي بين كل الأماكن وقريته واضحاً في قوله:
من بساتين دمشق
من قلب ثوار ظفار
من معتقلات تونس الخضراء
من "صومعة الفكر"..
من صفوف المقاتلين
من اريتريا
من أنقولا وسيناء
مصيرك مرتبط بمصيرنا جميعاً
بمصير الحرية..
فيحتل بذلك مسقط رأسه "شيخ الحديد" التي سماها "صومعة الفكر" مجداً مساوياً لمجد أي دولة وأي مكان في العالم، فالمصير واحد والرؤيا واحدة وما يعانونه لا يختلف كثيراً بين هنا وهناك.
وبالإضافة على ذلك فهو في معظم نتاجه كان مدركاً لضرورة تواجد المرأة في المجتمع وإسهامها في رسم وبناء تفاصيل المكان والحضارة التي لا يمكن أن تزدهر دونها ودون قوتها:
وبهذا الجيش العرمرم
من النساء والأطفال
نبني الحضارة الجديدة
على شطآن كبيرة
وإن كان المكان قد أخذ أبعاداً أكثر في ديوانه "رسائل من دمشق إلى ميريا" ليتسع ويشمل العالم أجمع إلاّ أن تفاصيله لم تختلف كثيراً عن ديوان "تامارا"، فنجد في كلا الديوانين أنثى تكون له صديقةً وأماً رؤوماً أو أرضاً معطاء ذاخرة بالكلام، وكأن المكان لا يكتمل إلاّ بها.
وفي حين أخذت هذه الصفات في ديوان "تامارا" شخصية "تامارا" التي أفرد لها ديواناً كاملاً ، فإنها أخذت شخصية "ميريا" في ديوانه "رسائل من دمشق إلى ميريا" ، وفي كلا الديوانين نجد أن الشاعر لا يملك حضناً سواها وليس هنالك من أنيس وخليلٍ أكثر منها، حتى أنهما "ميريا وتامارا" تشتركان في نهاية مصيرية واحدة، ففي حين يقول في "تامارا":
وكيف أبحث عنك..؟
وبإمكاني أن أستوردك كما نستورد البضاعات
هل أنت سلعة يا تامارا…؟
فلأبحث عن كلمات أخرى..
فيلدا..
أنتظرتك..منذ مئات السنين..
لتطفئي بداخلي أشواقي وأحزاني..
إلى نهاية القصيدة، وكذلك نجد النموذج نفسه في ديوانه "رسائل من دمشق إلى ميريا"، ففي حين كان يقول لها في رسالته العاشرة:
تعالي..
لنقف هنيهة في الشواطئ الرملية
ولنسمع إلى مقطع من قصيدة رائعة
مسماة الحب..
نجده قد تحول عن كل هذا في رسالته الحادية عشر، فيهب كل هذا الحب إلى أنثى جديدة وعالم جديد:
كنت إنساناً وقلت لك
صخرة أنا..جزيرة أنتِ
ولكن آسيا
ينبوع…ومزار
جزيرة بعيدة…وزهرة في القلب
صريح أنا… يا ميريا
أقول لك:
وداعاً يا ميريا
وهذان الديوانان على الرغم من تشابههما الكثيف في طريقة الطرح والقصة النثرية التي يسردها الشاعر إلاّ أنهما يختلفان في نقطة واحدة، ففي حين يمهّد الشاعر لميريا دخول أنثى جديدة إلى حياته وهي "آسيا" نجد أن القصة قد حدثت دون تمهيد أو سابق إنذار في ديوانه "تامارا"، وبذلك يتغير المكان لدى الشاعر "حامد بدرخان" بتطوّر رؤاه ولكن تبقى شيخ الحديد في ذاكرته كما كانت وتبقى الأنثى كما هي وإن استعارت أسماء كثيرة كتامارا، ميريا، آسيا أو فيلدا أو غيرها من الأسماء…
أغيد شيخو_ عالم نوح