الأبيض مثلاً” لاأستطيع أن أراه إلا بعد أن أبدأ بالوشم على جلده وحين أحاور هذا الوشم يخرج من رحم السواد كل أطياف الضوء التي هي ولدته بامتياز… محمد حمدان وحوار مع شادي نصير

" فن الحفر مع الفنان محمد بدر حمدان "
ويستضيف موقع عالم نوح احد أهم أسماء الحركة التشكيلية السورية والعربية فنان تشكيلي أثبت حضوره القوي في فن الحفر، إنه الفنان (محمد بدر حمدان) الغني عن التعريف استضافنا في مرسمه الجميل جداً وكان لنا معه الحوار التالي: بداية رحب بنا وبدئنا حديثنا معه.

لماذا دائماً اللوحة الفنية التي تستهلك جهداً كبيراً في الحفر لا تقارن باللوحة الزيتية:

أجابنا الفنان: بأن الفن بشكل عام لم يكتسب شرعية في العالم العربي وليس أسلوب الحفر وأنا لا أسميه فن الحفر بل هو أسلوب الحفر.. وأسلوب الزيتي أي هي مادة للتعبير والجهل بهذا الفن هو السبب رغم أنه الأكثر انتشاراً لكن الناس لا يعلمون بأن الجريدة المطبوعة هي فن الحفر والإعلان والملصق أيضاً وألخ…..وآخر تقنيات فن الحفر الحديثة نستطيع أن نسميها الكمبيوغرافيك حين بدأنا نستفيد من برامج الكمبيوتر والديزاين وما شابه فن الحفر الواسع الانتشار، وجهل الناس بأن هذا فن الحفر.. مثلاً: قلم الرصاص هو مادة جميلة جداً لفن الحفر وكذلك قلم الحبر وقلم الفحم لكن نجد أننا لانعير اهتماماً لهذا الأسلوب ولا أدري لماذا؟ ولكن بشكل عام أعود إلى ما بدأت قوله بأن الفن بشكل عام مظلوم جداً في العالم العربي من الناحية الإعلانية والمتابعة والدراسات والنقد وكل ما يمت لهذا الفن بصلة، مثلاً في أي بلد عربي تجد ربما بعض مواد هذا الفن في عاصمة البلد لكن في المدن البعيدة لا تجد أي مادة لكي تتعامل معها وهذه الإشكالية تجارية وهناك خلط بالتسميات أي لا توجد تسميات دقيقة.. مثلاً الشاشة التلفزيونية التي يحفر عليها لوغو القناة تسمى شاشة حفر..

فن الحفر: هو فن ( الكليشيه المطبوعة ) بشكل عام حتى ورقة النعي هي فن حفر لكن من يعلم هذا… هذا الشيء لا يدرس بالمدارس هناك تقصير في العالم العربي حسب معرفتي لهذه المسائل ولايتم تغطيتها من خلال وسائل الإعلام.

وبملامح فيها بعض الحزن قال: أنا أسف جداً إن قلت حتى عندما تغطيه وسائل الإعلام لاتغطيه كما يجب أن يغطى….

اليوم نرى انك تؤسس لجيل من الشباب يسعى لتكريس الفن كقيمة جمالية ماذا تقول لهؤلاء الشباب كفنان كي يستطيعوا أن يؤسسوا لمراحل مستقبلية..

حدثنا وهو يبتسم قائلاً: في إحدى المرات سألني أحد الطلاب وأنا لا أحب هذه الكلمة (طلاب) كيف سأصبح فناناً اختصرت الإجابة كثيراً وكان هذا الاختصار موفق قلت له أن تكون فناناً يعني أن تكون أنت..

الموهبة الشابة ليست كاملة… الموهبة: بحاجة إلى تقنية لسبب واحد بسيط جداً وهو أن التقنية تجعل من الفنان فنان حر لأنه يستطيع أن يستكشف (الجمال) الذي هو الحياة أنا لا اعتقد أن هناك حياة دون مقولة (الجمال)..

نحن نسفنا قليلاً بهذه المقولة وقلنا أن هناك بشاعة بمعنى تضاد مع الجمال…. في الواقع هذا الكلام غير صحيح "البشاعة" إن صح التعبير هي درجة من درجات الجمال وبالتالي لا بد أن يسعى الإنسان كي تكتمل إنسانيته الذهنية الفكرية لا بد أن يسعى إلى إنتاج الجمال… وإذا بدأ شاباً بهذه المسألة سوف تزداد خبرته بسرعة كبيرة هذا ما أعمل لأجله وأرغب به بشكل دائم..وهذا الذي يأخذ معظم وقتي أيضاً بشكل دائم،لكن تبقى هناك مسألة لابد أن نشير إليها بأن قلة الثقافة الفنية قلة الوعي تذهب بكثير من الجهد سداً…. وهذه أيضاً واحدة من المسائل الإشكالية بأن الجو العام لا يهتم بالثقافة المنتجة يهتم بالثقافة الجاهزة مثل الطعام الجاهز هي ثقافة استهلاك…………

في مهرجان ملامح آوغاريتية الذي أسسته قبل أعوام طويلة لوجود ورشات عمل للشباب الموهوبين إضافة للمعرض الرسمي ليكونوا متساويين هل ترى أن هؤلاء الشباب من خلال وجودهم بهكذا ورشات يستطيعون أن يحققوا حالة فنية فردية مع الوقت….

بنظرة ساهية أجاب: الآن أنا بصدد بتكليف من "السيد وزير الثقافة والسيد مديرعام الآثار" مكلف برسم وتوثيق أثار اللاذقية في بداياتها وأنا أحببت من خلال هذه المناسبة أن أدعوا كل من يريد لورشة عمل كي أصل مع المجموعة إلى شيء جميل.. رغم أنني استطيع الاحتفاظ بهذه المسألة لنفسي كما يفعل الجميع وليس البعض.

ورشات العمل… هي محفز ودافع قوي كي تجد قدرات في المسألة المباشرة حين تحاور الجمال بشكل مباشر لابد أن تعطي قيمة جمالية ولابد أن تتعلم جمالياً…. الذهن لا يعلم الجمال "البصر" هو الذي يعلم الجمال نحن نرى بأذهاننا وبالتالي نحن لا نرى. ومن خلال هذا الحوار الفني المباشر بيني وبينهم ألاحظ تفوقهم اليومي في كل ما يتعلق بمسائل انتاج العمل الفني وأيضا انتاجهم الحواري لثقافة الجمال.

يقال أن الفنان لديه عدسة خاصة في عينيه لالتقاط الرؤية الجمالية كيف يستطيع فناننا من خلال عينيه التقاط هذه اللقطات وكيف يحولها إلى رؤية جمالية خاصة به تميزه عن بعض الفنانين؟
قال الفنان بطريقة فلسفية: دعنا نفلسف هذا الأمر لابد من تثقيف العين كما لابد من تثقيف النطق والأذن واللمس أنا أستطيع أن أرى بأصابعي…. في الواقع نحن أيضاً نفتقد إلى هذه الخطوات الضرورية في الحياة.

العين المثقفة بشكل عام… ترى الجمال بزاوية جميلة والعين التي تصبح فيما بعد متخصصة لا تستطيع أن ترى إلا هذه القيمة الجمالية وهي عين الفنان وبصمته وإذا كانت ترافقها تقنية سوف نصل إلى لوحة غير مكررة في الزمان وأعتقد نحن بحاجة له كما نحتاج إلى الخبز..

كيف استطعت أن تنقل الماضي والحاضر ومزجهم مع بعضهم البعض برؤيتك الخاصة؟ الإنسان هو أحد عناصر المكان الهامة جداً…..حتى يكاد أن يكون هو المكان هناك مثل شعبي يقول ( الجنة من غير ناس ما بتنداس) أنا اعمل على الإنسان كقيمة جمالية ممزوجة بالضوء مسحوبة من تحت السواد الذي يؤرقها ويقلقها فتختلط الوجوه بالمكان ويختلط المكان بالأعصاب وترى نفسك أمام اللوحة كأنك أمام التاريخ.

كيف استطعت أن تمزج وتنتج حالة شفافة جداً مابين اللون و قوة الخط لأن اللون الشفاف جميل جداً له رؤية الضوء أما الخط فهو قاسي جداً يشبه حد الحواف القاسية؟
"السواد هو الرحم الرائع للأشكال" لأن الليل يحوي كل الأشكال كما النهار……. في مرة من المرات قلت (أنت ترى حين لاترى) لاأجد أن هناك أي نوع من الإشكالية البصرية مابين مزج هذا اللون مع ذاك لأن هناك معادلة بسيطة جداً..

الأبيض مثلاً " لاأستطيع أن أراه إلا بعد أن أبدأ بالوشم على جلده وحين أحاور هذا الوشم يخرج من رحم السواد كل أطياف الضوء التي هي ولدته بامتياز(أقصد السواد) أنا أعتقد من وجهة نظري بأن الأبيض ليس لون والأسود ليس لون وأنا أعمل على هذين اللونين منذ زمن، فضحك وقال: دعني آخذ نفس يا شادي وطبعاً هذا الحوار المطول أتى من محبة شادي وتمتعه بالحوار مع الفنان محمد.

اليوم توثق الحجر والبشر في مدينة اوغاريت هذا المشروع الذي بدأته له أصداء عالمية في اسبانيا وفي فرنسا وأمريكا أين هو اليوم؟
وكما قلت في السابق في وسط هذه المعمعة أنا اليوم أعمل على التوثيق بصرياً بأسلوبي وقلت أكثر من مرة أن آوغاريت ليست جميلة كآثار بالعكس..هي متعبة ولكن الجميل فيها أنها مازالت بيننا ثقافة حتى هذه اللحظة… وبأنها لم تكن الأبجدية الأولى منها ولكن الأبجدية التي حملت فكراً ذهنياً رغم أن الأبجدية كانت اختراع تجاري وليس اختراع ثقافي… رغم أنني أميل إلى لغة الصورة حين حاورت الأبجدية بشكل بصري قرأت فيها مالم يقرأه مختصوا الآثار؟ لأن القراءة التشكيلية تختلف والناس في اللاذقية يقولون أسماء ولهجات وألفاظ هي آوغاريتية بامتياز رغم كل هذا الغياب الذي دام آلاف السنين لم تغب آوغاريت ثقافة وطقساً….

وما هو الطقس؟ الطقس هو الفن يعني أنا أستطيع أنا أؤكد لك طريقة الأفراح وطريقة الموالد والاحتفاليات وطقس الموت مازال فيها أصداء من تلك الأزمنة… ولكن أهم ما أعانني على هذه الحكاية: هو أنني لم أذهب إلى التاريخ لأعود إلى الحاضر بل بدأت من الحاضر عائداً إلى التاريخ…

كلمات مازالت متداولة، مثلاً كلمة (محراث) باللغة العربية اسمها (صمد) في آوغاريت وكانت وحدة قياس أيضاً ولازالت في قريتي التي نحن فيها الآن، وحين يقول الفلاح انه سيفلح يعطي معنى يشبه كلمة صمد ومازالت في أدبياتنا ما يسمى "بأرض بعل" وهي الأرض غير المروية ،ويوجد نموذج جميل جداً أيضاً هو ذو أصل آرامي لكن قريب من تلك المرحلة أي عندما اسمع خبر يثير الدهشة أقول (أيلي) وتعني بالعربية يا إلهي وإله البحر (اليم)اسم البحر.

لكل مشروع له مشجعون هل كان هناك آخرين معارضين له وتختلف نظرتهم عن نظرة المشروع ككل؟

في الواقع أنا أطرح مشروع موجود في كل ثقافات العالم الذين يشجعوه كثر جداً حتى الفنان الذي يشركه في ورشة العمل تجد أنه يندفع بشكل جميل…الذين يعارضون هذه المقولات الثقافية الفنية في الواقع هم يعارضون كل شيء ولا يعارضون فقط مشروعي وأكمل ضاحكاً: هؤلاء عندهم عقدة ما لن أشارك في حلها

المشروع: هو لوحة للمكان الذي ولدت فيه وهذه اللوحة أتمنى أن تذهب إلى أنحاء العالم.

في فن الحفر هل يحق للفنان أن يقدم للوحة نفسها أكثر من مشروع؟

نحن قلنا فن الحفر:هو فن الكليشة المطبوعة دعني أقربها لك قليلاً:مثل نجاتيف الصورة الفوتوغرافية إذا أردت صورة ضوئية بمعنى لوحة لا بد أن تطبع منها وتقوم بترقيم عدد النسخ على جانب الورقة وهذا المشروع فني ولكن يجب أن تحتفظ بالنغاتيف ولا تعيد طباعته, حين تطبع 12 عمل يجب أن تحتفظ بالنغاتيف ولا تطبع 13 يصبح العدد مزور وهذا مهم جداً…في كليشه الحفر تستطيع أن تطبع عدد من الأعمال لكن أيضاً يجب أن تحتفظ في الكليشة جانباً إذا قلنا أنت تطبع5/1 يجب أن تنتهي بكسر5/5 لأن5/6 يصبح مرفوض…أنا عملت بأسلوب الحفر ولكن ليس بطريقة الكليشة المطبوعة وبالتالي حافظت على اللوحة الواحدة. وهذا برأي النقاد وإحساسي الشخصي يحمل قيمة عالية جداً, اللوحة أرسمها لمرة واحدة ولا أطبع نسخة أخرى.. وحين بدأنا كما أسلفت الاستفادة من الكمبيوغرافيك وهذه المسائل، أكون حريصاً على تواجد اللوحة في مؤسسات فقط حتى الآن… وربما نحن بحاجة إلى هذه الثقافة أيضاً لأن الثقافة لها علاقة بالعرض ونحن لا يوجد لدينا صالات عرض…. بل يوجد لدينا دكاكين لبيع العمل الفني مثل البطاطا؟

حدثنا عن المعارض التي أقمتها في باريس وفي أكثر من مدينة في اسبانيا والأصداء التي حصلت عليها وأسباب إقامتك المعارض في أوروبا….

الرحلة الأولى كانت للمشاركة في سمبوزيوم أمويو دمشق وقرطبة الذي أقمناه في الأندلس في مدينة المونيكار(المنكب) بالعربية… وأقمنا نحن الفنانون السوريون (حدائق سورية)في الواقع وجدت الأعمال بشكل عام منحى حواري رائع مع الناس هناك واهتموا بثقافتنا بشكل جميل جداً….وهذا ما أركز عليه جداً بأن حوار الثقافات هو الحوار الحقيقي . بالنسبة لأعمالي تقبلها الناس بشكل لفت انتباهي وسألوا بإلحاح عني و من أكون وماهو مصدر ثقافتي ومن أي بلد أنا…. وهناك أعمال في الواقع أثارت الكثير من الإعجاب مثل لوحة الزمن – لوحة أعين المدينة التي تم طباعتها روزنامة وزعت في العام2008 في اسبانيا على الأقل حسب معلوماتي… في فرنسا ذهبنا وأقمنا ورشة عمل (رايات السلام في العالم) والمعرض مازال مستمراً ويتجول في مدن العالم،كان الفنانون من كل أنحاء العالم و كنت أمثل سوريا وأيضاً تفاعل الناس بشكل رائع مع الأعمال أكاد أقول بأن ما أرغب بإيصاله قد وصل أو هو في طريقه للوصول ….

المشروع المستقبلي للفنان محمد بدر حمدان على صعيد الكلمة لأنه يكتب الشعر وعلى صعيد اللوحة التشكيلية؟
بطريقة مهضومة جداً قال: والنساء لماذا لا تسألني على النساء لم أعد أريد أن أكمل الحوار أنت إنسان حاقد على النساء يا (شادي)…..

أنت تجلس معي الآن في المكان الذي ولدت فيه وبدأت اللعب فيه ووجدت نفسي ألعب على جدرانه وأرغب أن استمر في اللعب بين أحضانه…الكتابة شيء آخر منفصل عن الرسم وتحمل مدلولات أخرى ومعاني أخرى حتى شكل القصيدة،في عدة مرات حاولت أن أكتب قصيدة ممزوجة باللوحة وليس عن اللوحة أي اللوحة تتمة للقصيدة والقصيدة تتمة للوحة لكن دعاة الحداثة حاربوا المشروع…! أنا دائم الكتابة أكتب وأكون في غاية من المتعة حين استكشف وأصنع الحلم وألقيه في كل الاتجاهات وأسافر في كل الاتجاهات وأولد ربما كل يوم…

حوار : شادي نصير

تحرير: رنا ماردينلي