حوار مع الفنان محمود شاهين
- يناير 11, 2016
- 0
حوار مع الفنان والناقد والباحث التشكيلي محمود شاهين
عن تحولات ومراحل التجربة وإشكاليات الفن والنقد
حاوره: أديب مخزوم
حوار مع الفنان والناقد والباحث التشكيلي محمود شاهين
عن تحولات ومراحل التجربة وإشكاليات الفن والنقد
_____________ حاوره: أديب مخزوم _______
من يعرف جوانب ومسارات وهواجس وتطلعات الفنان والباحث والناقد التشكيلي د. محمود شاهين ( مسيرة حوالي نصف قرن من إنتاج وعرض المنحوتة وانجاز الأعمال النصبيّة، والتفاعل مع المعارض الفنيّة في كتاباته النقديّة والتحليليّة، المنشورة في كتبه وفي الإعلام المقروء والمرئي والمسموع ) يشعر كما لو أنه يلامس الحقائق المفتوحة على ألوان الحياة وحركتها، فلغته التشكيليّة النحتية آتية من ثمرة وخلاصة الصراع الثقافي، بين المنحوتة التقليدية والمنحوتة الحديثة، ولهذا كانت تجاربه في تنوعاتها وتحولاتها وانعطافاتها التشكيليّة والتقنية، قادرة على إعطاء الحياة الفنيّة والثقافيّة شيئاً من جماليات ثقافة فنون العصر، في تشعباتها وتداخلاتها وتفرعاتها، وهي في معظمها منحوتات متفاعلة مع الإيقاع التعبيري المنساب في حركة جسد المرأة، والمجسد كحالات إيمائيّة اختزاليّة مشبعة بعنف التوتر الدرامي، المتعاقب في عمق حياتنا اليومية كحدث صدامي أو كحركة دراميّة معبرة عن مشاعر القلق والتوتر والاختناق، الأتي من معايشة حدة فصول الأحداث الدرامية المتعاقبة دون توقف أو نهاية . هذا إلى جانب كونه من الأساتذة المخضرمين في كلية الفنون الجميلة – قسم النحت، قبل أن يتبوأ مركز عميد كلية الفنون الجميلة في جامعة دمشق مرتين ، وهو يشغل رئيس تحرير مجلة الحياة التشكيليّة الفصليّة، التي تصدر، منذ عام 1980 عن مديرية الفنون الجميلة في وزارة الثقافة، دون توقف أو انقطاع، بعد أن توقفت مجمل المجلات العربيّة المتخصصة بالفن التشكيلي .
لإلقاء المزيد من الأضواء حول تجارب وهواجس محمود شاهين، في التشكيل النحتي الحديث والنقد الفني التشكيلي ، التقيته في مكتبه ، وكان الحوار التالي، الذي شمل بداياته ومواقفه وتطلعاته .
*-الملاحظ أن مجمل منحوتاتك تنطلق من أساس واقعي وتعبيري، يبقى في حدود الشكل، في وقت نجد فيه إن هناك نسبة كبيرة من الفنانين الذين يمارسون الاتجاهات التعبيريّة والتجريديّة والحديثة بشكل عام، لا يتقنون النحت أو الرسم الأكاديمي الصحيح. هل الأساس الأكاديمي الصحيح مقياساً للإبداع الفني التشكيلي؟
** بداية، أوافقك القول أن منحوتاتي تنطلق من أساس واقعي تعبيري، لكنه لا يبقى في حدود الشكل، وإنما يتواكب فيها الشكل والمضمون، فالحالة التعبيريّة التي تتلبس شخصيات منحوتاتي، تتساوق مع صياغتها التشكيليّة، وتنعكس بوضوح على كتلتها، ووضعيتها، وطريقة بنائها، وملامس سطوحها، وهي بشكل عام تلتزم الواقعيّة الأكاديميّة، وتتحلل منها في آنٍ معاً. بمعنى أنها مبنيّة على النسب التشريحيّة الصحيحة والسليمة، لكنها مُختزلة وخالية من الثرثرة الشكليّة المُعيقة للتعبير ومتانة البنيّة النحتيّة التي يجب أن تأخذ حضورها الراسخ في الفراغ، ضمن تكوين معماري مستقر ومدروس من واجهاته الست. أما أن يكون الأساس الأكاديمي الصحيح مقياساً للإبداع الفني التشكيلي، فنظريّة مشكوك في صوابيتها، بدليل وجود عدد كبير من الفنانين التشكيليين المبدعين غير الدارسين أكاديمياً للفن، ومن هؤلاء البدائيين والسذج والتلقائيين والشعبيين والفطريين، وبعض إبداعات هؤلاء، تتبوأ مراكز متقدمة في فنون العالم وحضارته.
*- كيف كانت أعمالك في مرحلة ما قبل الدراسة الأكاديميّة في كلية الفنون الجميلة بجامعة دمشق، وماذا عن مشروع تخرجك؟
** أخذت أعمالي السابقة على مرحلة الدراسة الأكاديميّة، شكل تكوينات فراغيّة تلقائيّة، قمت بتشكيلها من طمي السواقي في كرومنا بمدينة مصياف، خلال مدارج الطفولة الأولى، حاولت من خلالها، مقاربة الواقع المحيط وتمثله، ثم اتجهت خلال مرحلة الدراسة الإعداديّة والثانويّة إلى إنتاج اللوحة الزيتيّة التي نقلتها، في البداية، عن كبار المصورين العالميين، ثم أخذت بالتدريج، منحىً تعبيرياً خاصاً أشبه بالموتيفات، أو الترجمات البصريّة للرؤى التي حملتها الخواطر، والقصة القصيرة، والشعر المنثور، والخواطر، التي كنت أكتبها وأنشرها آنذاك، في بعض الصحف والمجلات السوريّة واللبنانيّة. أقمت خلال هذه المرحلة، ثلاثة معارض شخصيّة في المركز الثقافي العربي بمصياف، وبعد حصولي على شهادة الدراسة الثانويّة عام 1968 انتسبت إلى كلية الفنون الجميلة بدمشق التي تخرجت من محترفات قسم النحت فيها العام 1972 بمشروع تخرج حمل عنوان (النشوة) وتألف من مجموعة أعمال مجسمة (كتلة في فراغ) ولوحات نحت نافر، حاولت من خلالها التعبير عن حالة النشوة التي تنتاب المرأة أثناء سطوة هذه الحالة عليها، مستخدماً للتعبير عن ذلك، وضعيات وحركات تترافق وهذه الحالة، بأسلوب واقعي مبسّط، خالي من أي ثرثرة شكليّة، وتفاصيل معيقة لانزلاق الضوء فوق السطوح النحتيّة الملفوفة بإحكام، وهذه الصياغة الفنيّة، تتماهى فيها خصائص السطح الخزفي بالسطح النحتي المبسط الذي حملته المنحوتات المصريّة القديمة، والهنديّة، والمكسيكيّة، والآشوريّة، واستفاد من خصائصها وقيمها الفنيّة، إلى حد كبير، النحات الإنكليزي المعروف (هنري مور). هذه الصياغة النحتيّة المترابطة السطوح والمختزلة، كانت تكتنز على إحساس طاغٍ بالتكعيب، يأتي من داخل المنحوتة، وليس من خارجها، وهذه الخصائص والمقومات الفنيّة مجتمعة، تُشكّل خلاصة قيم النحت العالمي، قديمه وحديثه.
*- ماذا قدمت لك مرحلة الدراسة الأكاديميّة في ألمانيا على الصعيد التشكيلي والتقاني؟
** من المؤكد أن ما زودني به محترف قسم النحت بكلية الفنون الجميلة بدمشق، بوجود النحات المصري الكبير أحمد أمين عاصم فيه، يختزل المعارف والتقانات والروائز والقيم النحتيّة السائدة في أكاديميات الفنون الجميلة العالميّة ويتساوق معها. من هنا فإن ما أضافته لي محترفات المدرسة العليا للفنون التشكيليّة في دريسدن يمكن حصره بالجوانب التقانيّة المتطورة لعملية معالجة المنحوتة وقولبتها وصبها، والتعرف بشكل أوسع على موادها الجديدة، لاسيّما مادة الاسمنت التي وجدت أستاذي (كرد ييكر) ينفذ غالبية منحوتاته منها، إضافة إلى خامة الخشب التي أحببني بها المشرف الأول على دراستي الأستاذ (فالتر أرنولد) الذي كان في طليعة النحاتين الألمان الذي استعملوها في إنجاز أعمالهم. وقبل هذا وذاك، وفر لي وجودي في ألمانيا أفقاً واسعاً ورحباً للإطلاع على محتويات المتاحف وصالات العرض، في العديد من الدول الأوروبيّة، والاحتكاك بمجتمعات وثقافات جديدة، وفي هذا الجانب تحديداً، تكمن أبرز وأهم فوائد الدراسة في الخارج.
*- ما التحولات والتقانات التي استخدمتها منذ بداياتك، وهل ثمة مراحل مررت بها، وما خصائص وميزات كل مرحلة وتواريخها؟
** يمكن ربط ذلك بنوع العمل النحتي وحجمه ووظيفته. فالأعمال الصالونيّة أو الحُجريّة الصغيرة الحجم التي بدأتها منتصف سبعينيات القرن الماضي، ولا زلت أشتغل عليها حتى الآن، تختلف في تحولاتها وتقاناتها عن الأعمال النصبيّة الكبيرة الحجم التي اشتغلت عليها مابين عامي 1984 2005 . ففي حين قمت بتنفيذ أعمالي النحتيّة الصغيرة الحجم، من الرخام والحجر والخشب والاسمنت والبرونز والجبس والبوليستر، ونوّعت في صياغاتها وأساليبها، وأخضعتها لعملية بحث وتجريب مفتوحة، فرضت عليَّ الأعمال النصبيّة الكبيرة الحجم، معالجات وتقانات ومواد خاصة، تتطلبها جملة من الشروط والمقومات الموضوعيّة، كالمكان والمناخ والوظيفة المناطة بهذه الأعمال، إضافة إلى تواجدها الدائم بين الناس، ما يتطلب أن تكون مفهومة ومقروءة من قبلهم، ليتم التفاعل المطلوب بينهم وبين مضامينها ورموزها.
وفي حين يمكن للنحات إنجاز منحوتته الصغيرة الحجم بمفرده، يحتاج لإنجاز عمله النصبي الكبير إلى مشاركة ورشات عمل، وربما شركات كبيرة، وهذا ما حدث معي أثناء قيامي بتنفيذ الأعمال النصبيّة الكبيرة، حيث استعنت بمواد وتقانات وخبرات زملاء ومهندسين وشركات لإنجازها.
*- لمحة عن أعمالك النحتيّة النصبيّة وأماكن تواجدها؟
** أولى أعمالي النصبيّة نفذتها في ملتقى عالمي للنحت على الحجر في مدينة دريسدن بألمانيا عام 1979، ويمثل امرأة شرقيّة ترتدي ملاءة، في وضعيّة الاستلقاء، موجودة اليوم في إحدى حدائق هذه المدينة. بقية الأعمال النصبيّة الأخرى المنفذة من الاسمنت والحجر والرخام، موزعة في دمشق ودير عطيّة واللاذقيّة ومصياف وعدة بلدات في محافظة طرطوس.
*- كنت أحد القلائل الذين جمعوا بين إنتاج المنحوتة والعمل النصبي والكتابة النقديّة التشكيليّة. ما أوجه العلاقة المتبادلة والمتداخلة بينهما؟ وما هي أبرز العوائق التي واجهتك كنحات وناقد؟
** الفن بشكل عام، هو موهبة أو استعداد فطري، تُنضجه وتُنمّيه وتُبلوره، جملة من المعارف النظريّة، والخبرات العملية، تتكامل وتتعاضد وتتساوق، لتشكل في النهاية، شخصيّة الفنان المحتاج دوماً، للمزيد من الثقافة البصريّة والفكريّة، لتغذية منتجه الفني بالجديد شكلاً ومضموناً، وميزة الفنان – الناقد أن مهمته النقديّة، تحرضه وتدفعه لمتابعة نتاجات الفنانين، ودراستها وتحليلها للكتابة عنها، إضافة لمتابعته لكل ما يصدر من دراسات وكتب فنيّة محليّة وعالميّة، وهذا يُشكّل روافد تُغذي ثقافته النظريّة والبصريّة، بشكل دائم، وتجعله على تماس مباشر، مع حركة الحياة التي يجب على الفن أن يبقى لصيقاً بها، ودائم التواجد في محرقها، وإلا تحوّل إلى حرفي، محكوم بالتكرار والاجترار والجمود. الإشكاليّة الوحيدة التي تجابه الفنان – الناقد، هي كيف يطبق الروائز التي قاس بها أعمال الآخرين، على أعماله، بنفس الموضوعيّة والتجرد ؟!. هنا عليه أن يوازن بدقة بين (شخصيّة الناقد) و (شخصيّة الفنان) فيه. شخصياً، أقوم بتغييب شخصيّة الناقد فيَّ أثناء قيامي بإنجاز العمل الفني، واستحضرها بعد انتهائي منه، لتمارس دورها في تقييم الشخصيّة الأخرى التي عليها أن تماهي بين الموهبة والخبرة والعفويّة، لأن العمل الفني بدون العفويّة والإحساس والخيال، يتحوّل إلى معادلة رياضيّة !
*- ثمة مشكلة متعاظمة تظهر في أعمال طلاب كلية الفنون، وتكمن في أن معظمهم يحاولون تخطي الزمن الفني، وتجاوز المراحل أو حرقها، والوصول إلى أقصى حالات التجريد والتبسيط التعبيري والسطحي والعبثي، في الرسم والنحت والحفر وغيرها. كيف تنظر إلى هذه المشكلة كأستاذ وعميد لكلية الفنون الجميلة بجامعة دمشق، وأين هؤلاء الدخلاء من عبارة (رودان) التي قال فيها: أنا أختار الحالات التي لا تتكرر، لذلك على الفنان أن يختار فكرة أو حركة نادرة ؟.
** هذه مشكلة قديمة – جديدة في كلية الفنون الجميلة بدمشق. ظهرت بشكل فج وصارخ، مع قدوم الفنان الإيطالي (لارجينا) للتدريس في الكليّة أواسط وأواخر ستينيات القرن الماضي، حيث كان يتبنى التوجهات الفنيّة الغربيّة الحديثة (لاسيّما التجريديّة منها) وقد أثّر وجوده على الطلاب والأساتذة يومها، مشكلاً بذلك انعطافة عميقة في المحترف السوري الأكاديمي، لا زالت تداعياتها قائمة فيه حتى اليوم. فثمة العديد من أعضاء الهيئة التدريسيّة في الكلية، يدفعون طلابهم للعمل على هذه الاتجاهات، خاصة في مشاريع تخرجهم من الكليّة، لأسباب كثيرة، ويحرصون على منحهم درجات عاليّة، بهدف تكريس وتعميم هذه التوجهات، تماماً كما كان يفعل (لارجينا). شخصياً كنت ولا زلت مع اعتماد المعايير الأكاديميّة الكلاسيكيّة والواقعيّة والسليمة، في عملية تأهيل طالب الفنون الجميلة، لكي يؤسس لتجربته الفنيّة منصة: قوية، ثابتة، راسخة، وصحيحة، كما تفعل كليات وأكاديميات الفنون في العالم. بعد مغادرتهم المحترفات الأكاديميّة، وانطلاقهم في مدارج مدن الفن وآفاقه الواسعة، يمكنهم تبني ما يشاءون من الاتجاهات، حيث ينتفي الخوف عليهم من الضياع، بامتلاكهم للأسس الفنيّة الأكاديميّة القوية والسليمة. هذه الأسس التي تحصنهم من الوقوع في أفخاخ الاتجاهات العابثة والمفلوشة، الضائعة والمضيّعة للفن وقيمه ودوره، في خدمة الإنسان والحياة، والتي تنصبها لهم، الإرساليات والمراكز الثقافيّة الأجنبيّة، وصالات عرضها المباشرة أو المقنعة، وجوقتهم من الفنانين المحليين، الموزعين في أكثر من مرفق ومفصل، في الحياة التشكيليّة السوريّة، بهدف استدراجهم إلى شرك العولمة الثقافيّة، وسلخهم عن مجتمعاتهم وموروث بلادهم.
التجريد حالة فنيّة متقدمة، تحتاج إلى أساس واقعي أكاديمي راسخ، وتجارب طويلة، وبحث متواصل، وولوج طالب الفنون إليه باكراً، سيُضيّعه، ويُعطب موهبته، ويُحوّله إلى مجرد ناسخ ومتلقي سلبي، لكل ما يفرزه الغرب من ركام فني عابث، أقرب إلى البهلوانيّات الاستعراضيّة المجانيّة السطحيّة الخالية من الإبداع، منه إلى الفن الحقيقي المتوضع قرب جذر الحياة، الساعي لتجميلها، وتقديم أسباب جديدة للاستمرار فيها، لا تشويهها وتخريبها، وتكريس قرفها وبشاعتها.
*- أنت تعتبر في كتاباتك السابقة، أن التجريد وصل إلى طريق مسدود، وأن هناك عودة إلى الصياغات الواقعيّة والتشخيصيّة بشكل عام. ألا ترى معي أن التجريد يمكن أن يتغذى من الإمكانات اللا محدودة لمعطيات اللون العفوي، ولمفاهيم الكتلة والفراغ والتوازن والمادة والموضوع والمؤثرات البصريّة اللا متناهية؟
** وصول التجريد والعبث الفني وبهلوانيات الدادائيين إلى طريق مسدود، حالة قائمة وملموسة في التشكيل العالمي المعاصر، بدليل شبه غيابها عنه، والعودة المظفرة للواقعيّة والكلاسيكيّة إليه، وهو ما تلقفه الفنان المعاصر ووجه إنتاجه إليه، بينما نجد البضاعة الأخرى الكاسدة اليوم في الغرب، تأخذ طريقها إلى حيواتنا التشكيليّة العربيّة، لاسيّما العاطل والمتطرف والعابث. أما بالنسبة للشق الثاني من السؤال، فاعتقادي الراسخ، أن في التجريد قيم فنيّة رفيعة ومهمة، يمن الاستفادة منها وتوظيفها في البنيّة التشكيليّة للعمل الفني، بل من الضروري إقدام الفنان المعاصر على ذلك، خاصةً بعد منافسة وسائل تعبير جديدة، ولدت من رحم الكاميرا، للغة الفن التشكيلي، على الكثير من المهام التي كان يؤديها في السابق، ما جعله يرتد إلى لغته البصريّة، ومحاولة تطويرها وتكثيفها وتجريدها وترميزها، ورفدها بتقانات جديدة. لذلك شهدنا انهياراً ملحوظاً للحدود الفاصلة بين أجناس الفنون المختلفة، وتوجه الفنان للاشتغال على وسائل تعبيره، أكثر من اهتمامه بما تقدم هذه الوسائل من أفكار ومضامين.
*- ألا ترى معي أن اللوحة تفوقت على المنحوتة في التشكيل السوري، منذ مرحلة التأسيس، وبأن هناك إيقاع واحد يتكرر عند بعض الأسماء المعروفة في مجال النحت السوري. ثم ما هي أسباب كثرة المصورين قياساً إلى النحاتين من وجهة نظرك، وما مدى العلاقة المتبادلة بين الرسم والنحت، لاسيّما وأن معظم النحاتين لا يجيدون الرسم الصحيح، ولماذا اخترت النحت؟
**- هذه الحالة لا تطال التشكيل السوري المعاصر فقط، وإنما تنسحب على التشكيل العربي والعالمي، لأسباب كثيرة أهمها أن النحت يتطلب موهبة بارزة، وقدرات جسديّة، وخامات ومواد وأدوات وعُدد، إضافة للمكان المناسب المجهز بمتطلبات إنجاز المنحوتة، وهي مكلفة الثمن، وليس بمقدور غالبية النحاتين تأمينها، ما يجعلهم يشيحون عن النحت، ويتوجهون إلى ممارسة فنون أخرى، أقل تكلفة، وفي مقدمتها اللوحة الثرية بالألوان، المطلوبة والمرغوبة من قبل العين العربيّة، خلافاً للتمثال أو المنحوتة، ذات اللون الواحد والكامد (كما في البرونز). يُضاف إلى ذلك استمرار مفهوم (الصنم) الذي حرّمه الدين الإسلامي في بداياته الأولى، لكي ينساه المسلم، لكن بعد مضي كل هذا الزمن، أعتقد أن مبررات التحريم انتفت تماماً. مع ذلك، هناك من يُصرّ على الربط بين (فن النحت) وبين (الصنم) لتكريس التخلف، وسيادة الجهل بين الناس، وبالتالي سيادتهم هم على الناس. أما بالنسبة للشق الثاني من السؤال، فيمكن التأكيد على أن العلاقة بين الرسم والنحت قديمة جداً، إذ على النحات الجيد أن يكون رساماً جيداً أيضاً، والرسم هو مدخل لغالبية أجناس الفنون البصريّة، بما في ذلك النحت، وأنا شخصياً اخترت النحت لسببين اثنين: الأول شغفي بالتعبير بالحجم الذي ترسخ في ذاكرتي البصريّة منذ سنوات طفولتي الأولى، حيث أغراني الطمي المتجمع على ضفاف سواقي كرومنا في مصياف، باللعب فيه، واستنهاض تكوينات فراغيّة منه، بعد تسليحها بأغصان الدفلى وقرونه. والسبب الثاني، وجود نحات عربي مصري كبير في قسم النحت بكلية الفنون الجميلة بجامعة دمشق، أثناء دراستي فيها هو (أحمد أمين عاصم) الذي حببني بهذا الفن، ودفعني للتخصص فيه.
*- قلت بأن معظم الأعمال النحتيّة النصبيّة التي أنجزت في ملتقيات النحت، طغت عليها الصياغة الهندسيّة الباردة. ألا توجد حالات استثنائيّة، وهل يمكن ذكر بعضها، وما هو السبيل للارتقاء بسوية ما يقدم في الملتقيات؟
**- الحالات الاستثنائيّة قليلة، وهي في أحسن حالاتها، تقارب الصياغة الواقعيّة، قد يكون مرد ذلك طبيعة الخامة التي يشتغل عليها النحات، كالحجر الهش الذي لا يتجاوب مع التفاصيل الواقعيّة الصغيرة، أو قد يعود ذلك لإمكانيات وخبرات النحات المتواضعة في التعامل مع الشكل الواقعي. من جانب آخر، تحتاج الصياغة الواقعيّة وقتاً أطول في التنفيذ، قد لا توفره الملتقيات العجلى في كل شيء، لذلك يلجأ غالبية النحاتين المشاركين في هذه الملتقيات، إلى اعتماد الصياغة الهندسيّة، أو الواقعيّة المختزلة وشبه المجردة، حتى لتبدو بعض الأعمال أشبه ما تكون بالعدد الصناعيّة الباردة خامةً وشكلاً، وهذه باعتقادي ليست مهمة الفن في عصرنا المحاصر بالتكنولوجيا، والمحكوم من قبل الآلة، إنما على الفن البحث عن جماليات الطبيعة والإنسان، لإبرازها والتأكيد عليها، للتخفيف قدر الإمكان من حدة الميكنة المسيطرة على جسد الإنسان وروحه. من هنا يجب التوقف مطولاً عند الأعمال التي ستنفذ في الملتقيات، سواء من قبل النحات، أو من قبل المشرفين والداعين والممولين لها.
*- ألا ترى أن نسبة الذين يعتبرون النحت من المحرمات، ليست قليلة، وكيف نتصدى لهذه النظرة الخاطئة التي وقفت عائقاً في وجه تطوره؟
**- ما ذهبت إليه صحيح، والتصدي لهذه النظرة الخاطئة، يحتاج إلى جهود مجتمعيّة واسعة، تساهم فيها جهات عدة، شعبيّة ورسميّة، لاسيّما وأن هذه النظرة لم تعد معقولة ولا مقبولة، ونحن في رحاب الألفيّة الثالثة، حيث من المفروض أن يكون الوعي قد وصل إلى عقول الناس جميعاً، وتبدلت هذه النظرة القاصرة إلى (التمثال) على أنه (صنم) إلا إذا كان هناك من يستفيد، من الإبقاء على التخلف والجهل سائدين في مجتمعاتنا المسلمة، لكي يتسنى له تحقيق مآرب شخصيّة، في السيطرة، والاستغلال، والابتزاز، والاستثمار البشع، لعملية تغييب الوعي، عن عقول البسطاء والعامة من الناس، من خلال التمسك بمقولات كان لها ما يبررها يوم أُطلقت، أما بعد هذه المرحلة الهائلة من الوعي الإنساني، فمن المفترض أن تتهاوى وتندثر!!.
*- المعروف أن ملتقيات النحت خضعت وتخضع للشلليّة، وغالباً ما يتم استبعاد النحاتين المخضرمين والمتمرسين والمحترفين، والإتيان بأسماء لا تزال في بداية طريق تعاملها مع الكتل الحجريّة والخشبيّة الكبيرة. كيف نتصدى لهذه المشاكل؟
**- هذه الحالة قائمة فعلاً، وهي ليست صحيّة ولا صحيحة، ولا تؤسس لقيام حركة نحتيّة سليمة، كما أن لملتقيات النحت شروطها وأسسها التي يجب أ تُراعى، عند الدعوة إليها، من ذلك ما فعلناه في الملتقى الدولي الأول للنحت على الحجر ضمن فعاليات مهرجان المحبة في اللاذقيّة عام 1998، حيث قمنا بإجراء مسابقة عامة بين النحاتين السوريين، لتقديم نماذج مصغرة لمنحوتات تتلاءم وتنسجم مع خامة الحجر، وقد تم اختيار المناسب منها، ودعونا أصحابها للقيام بتنفيذها في المكان المناسب، ثم تم توزيعا في المكان المناسب أيضاً، من المدينة الرياضيّة في اللاذقية، بعد اختيار قواعد قادرة على إبراز قيمها الفنيّة والجماليّة، وهذه الآليّة الأفضل، للحصول على أعمال نحتيّة نصبيّة اعتباريّة وتزيينيّة، تتوافق مع الخامة والمكان وذائقة الناس.
*- أيضاً لا تزال أعمال الملتقيات توزع بشكل عشوائي، ويجب أن تدرس المساحة التي ستحيط بالعمل من قبل النحات سلفاً. علاقة الكتلة بالفراغ للوصول إلى التوازن البصري المطلوب. ماذا تُضيف؟
**- على هذا الصعيد كانت لنا تجربة مهمة، لكنها لم ترَ النور، حيث خططنا بتكليف من وزارة الثقافة، لتزيين شواطئ مدينة اللاذقيّة بالأعمال النحتيّة التي تتحدث عن البحر ورموزه. دعينا في البداية النحاتين السوريين لتقديم نموذج مصغر عن العمل، ثم قامت لجنة مختصة باختيار الأعمال التي حققت الشروط المطلوبة، ودعونا أصحابها لاختيار المكان المناسب لها في أرض الواقع، من أجل تنفيذ العمل مباشرة فيه، وهذا ما يجب أن يتم، إذا أردنا أن تتوافق الكتلة النحتيّة والفراغ المحيط بها، وتنسجم مع محيطها، عمارة كانت ، أم طبيعة.
*- ومع ذلك الملتقيات حرّكت المياه الراكدة، وأنتجت تظاهرات ثقافيّة، ومنحوتات نصبيّة لم تكن موجودة سابقاً، وهي رغم سلبياتها تساهم في الحد من النظرة المتخلفة للنحت، والتي تعتبر أنه من المحرمات؟
**- هذا صحيح، لكن بقليل من التنظيم، نستطيع الحصول على أعمال أفضل شكلاً ومضموناً، تحمل مبررات وجودها: زمنياً ومكانياً وفنياً، من هذه الملتقيات التي بدأت تتكاثر بشكل لافت.
*- من خلال تأملاتي، وجدت أن النحت القديم، كان في بعض جوانبه، عبارة عن مهنة أو حرفة، ولاسيّما أن الناحية التزيينيّة واضحة، وخاصة على تيجان الأعمدة والبوابات وغيرها، حيث نلاحظ أن هناك إيقاعات متشابهة ومتناظرة تتكرر؟
**-كان للفن عموماً، وفن النحت خصوصاً، دوراً وظيفياً في العمارة وتنظيم المدن، فالنحت في الأساس، أبن العمارة. أخذ منها العديد من قيمه الفنيّة الرفيعة، وأعطاها بالمقابل، كثيراً من قيمه الفنيّة والجماليّة، غير أن السمة الوظيفيّة، طغت عليه في العديد من الحضارات القديمة، ما حوّله إلى حرفة، أو صنعة، لاسيّما في حال تكرار النسخة الواحدة من المنحوتة، لتؤطر سياج، أو تنوب عن عمود، أو عضاضة، أو إفريز، أو شاهدة قبر، أو مصدر ماء، أو رمزاً دينياً، أو أية وظيفة أخرى في المنشأة المعماريّة. هذه الاستعمالات، أضعفت قيمه التعبيريّة والجماليّة، وأبرزت قيمه الوظيفيّة التزيينيّة أو الحرفيّة.
*- قلت أن العبث المجاني الموجود في النحت والرسم السوري الحديث، قد أبعد الناس مسافات عن جماليات اللوحة والمنحوتة، هل من إضافات؟
**- الإمعان في الغموض، والعبث، والتجريد الشكلاني، يُحوّل العمل الفني إلى نوع من الطلاسم، لا يُدرك معناها سوى صاحبها (هذا إذا كان فيها معنى في الأساس) ما يحوّلها إلى نوع من المذكرات الشخصيّة التي يجب أن تبقى بين جدران محترف صاحبها. الفن الذي يخرج للناس، يجب أن يكون للناس علاقة به، سواء في شكله، أو مضمونه، وإلا كانت له انعكاسات سلبيّة، على الناس، وعلى الفن نفسه.
*- أنا أرى المشكلة ليست في التجريد أو التحديث أو الابتعاد عن الصياغة الواقعيّة المفهومة والواضحة من قبل الناس جميعاً، وذلك لأن الجمهور يعجب بأية لوحة تسجيليّة أو منحوتة منسوخة بطريقة سطحيّة، أكثر من إعجابه بكل لوحات ومنحوتات الفن الحديث. كذلك يعجب بأية أغنية شعبيّة، قد تكون ساقطة، أكثر مما يُعجب بكل سمفونيات بيتهوفن وغيره من عباقرة الموسيقى الأفذاذ؟
**- هذا ليس مُبرراً، لأن نقحم على هذا الجمهور الواسع والعريض، ما لا يرغب ويريد، وإنما علينا استدراجه إلى الحداثة، لأنه مُشبع بثقافة البيئة المحيطة به، وهي ثقافة ليست دونيّة، وإنما تكتنز على الكثير من القيم الفنيّة والفكريّة والبصريّة الحقيقيّة والمفعمة بالصدق والنقاء الإنساني، يمكن الاستفادة منها، في فنونا المعاصرة، ومن ثم إعادة إنتاجها فيها، بشكل جديد.
*- الشريحة الكبرى من الناس، لا يعيرون اللوحة أو المنحوتة الفنيّة الجيدة شيئاً من اهتمامهم. والعمل التشكيلي الرديء كما تعلم، كرّسته بعض الصالات الخاصة، التي يهمها التسويق أكثر مما تعنيها القيم الفنيّة والثقافيّة، رغم وجود بعض الاستثناءات، ويقع على المؤسسات الراعية للحركة الفنيّة، الوقوف في وجه هذه الصالات التي فرضت على بعض الفنانين، صياغات تشكيليّة مسبقة ومتكررة؟
**- هذا موضوع شائك ومتشعب، فمنذ أخذت ثمار المخيّلة الفنيّة المبدعة طريقها إلى مادة بصريّة وهي رهينة المسؤول- الموثر، والسمسار- المسوّق، وصالة العرض- الوسيطة، ولا زالت هذه الحالة قائمة حتى يومنا هذا، بل ازدادت ضراوة، مع اختلاف بسيط في المسميات والمصطلحات، وأمكنة وأشكال البازار. أما من حيث الجوهر، فلم يتبدل شيء، وظلت المعادة قائمة على طرفين أساسيين هما (المبدع) و(كيس النقود)، بغض النظر عمن يقبض على هذا الكيس، وهنا تحديداً تكمن المشكلة الحقيقيّة عند الفنان التشكيلي المعاصر، التي لازال يعاني منها. يمكن للجهات الوصائيّة الراعية للفن، وذات الأهداف النبيلة، أن تحمل هي (هذا الكيس) وتوفر الشروط الصحيحة للمبدع، لممارسة إبداعه، بعيداً عن أي نوع من الاستغلال والابتزاز المادي أو الفكري.
*- كلمة أخيرة يجب أن تصل إلى الفنانين والنقاد والمتابعين؟ **
**- عليهم أن يعملوا جميعاً من أجل تكريس الجانب الخيّر من الحياة، بالانتصار للجمال من خلال الفن والنقد، وبالتالي التعاون لإزالة البشاعة من حياتنا، والوقوف في وجه الدمار والخراب والاستغلال بأنواعه وأشكاله كافةً، والعمل على تقديم أسباب دائمة للناس، من أجل حب الحياة، وصونها، والاستمرار فيها، سواء من خلال الكتابة، أو من خلال الفن.