ذكرى من قلب الصفيح ـ عبدالعالي الوالي ميسور
- مايو 22, 2013
- 0
ذكرى من قلب الصفيح ـ عبدالعالي الوالي ميسور،
في جوف الليل مهد السبات لدى الأنام، احتواني فراشي وضمتني سيّدة ليلي، التي تؤنسني في وحدتي
ذكرى من قلب الصفيح ـ عبدالعالي الوالي ميسور
في جوف الليل مهد السبات لدى الأنام، احتواني فراشي وضمتني سيّدة ليلي، التي تؤنسني في وحدتي. وتملا علي الفراغ الموحش داخل الغرفة القديمة، والتي تمركزت وسط حي من مخلفات البناء العشوائي كما سنت قوانينهم. حي رصصت جدران بيوته من القصدير. فمند زمن بعيد كان الناس يعيشون داخل بيوت من الطين وأخرى من القش والقصب أو ما يسمى "بالنوالة ".
كان التاريخ يعيد نفسه، ها نحن في زمن الحضارة والتطور الاقتصادي والمعماري ولازلنا نعيش نفس الوضع الذي عاشه أجدادنا في زمن لم تعرف فيه الحضارة تطورا كالذي نشهده اليوم. حي يعيش بين ثناياه شعب من المنكوبين. سمحوا لأنفسهم باختراق القانون، ولأجل ماذا؟! ليسكنوا ما قد سمي مجازا بيوتا. حلم نعيش على أمل الحصول عليه لنغيث أنفسنا وننقدها من حكم غير عادل أصدر حقها جبرا وظلما. حكم بالانقضاء داخل دوامة الحرمان، طاعون نسج أعشاشه كالعنكبوت بدواخلنا ،سوء العيش … انعدام الأمن والقمع… صور من ضرب الواقع نعيشها في حياتنا حقيقة …، حقيقة أكثر مرارة من العلقم. نعم غرفة مليئة بالخوف الرهيب وجبروت الفقر، والحاجة التي باتت تشق طريقها نحو الأمل ،لكن سرعان ما غالبها اليأس وأوهنها فغرزت، لم تعد تريد شيئا وقد اقتنعت بعدم تحقيقها للأي شيء، وتبين عجزها داخل مجتمع اللا مبالاة. غرفة تحمل في طياتها أبشع الصور .. صور الماضي الأليم التي تطاردني في كل وقت وحين كالكوابيس. لازلت أذكر والذكرى تدمي القلب، وتلبسني ثوب الغضب، إحساس تربى في كياني يستيقظ هوله كلما عاودتني الذكرى الأليمة.
كان يوما أسود المحيى لم تشرق شمسه لتغرب. خرجت فيه كعادتي بعد أن منيت بدعاء الأم الحنونة ،التي عشت تحت ظلها وإخوتي الصغار. فهي من بقي لنا بعد وفاة والدي الحبيب رحمة الله عليه. ملأت علينا البيت وحفتنا بحنانها بل وكانت رمز الكفاح والمثابرة ومجابهة الحياة القاسية، كانت قدوة للحب والصبر، واقعية لا تستسلم لليأس. حاولت بكل جهدها أن تصنع لنا حياة هنيئة وتوفر لنا لوازم العيش بكل عناد وتحد. ضحت بكل غال ونفيس لأجل راحتنا. تسللت دعواتها إلى صدري تملأه بالدفء والعزيمة التي تصنع في النفس تحديا لكل المصاعب. ثم انصرفت حاملا على كتفي "بالتي " القديمة، فهي التي ترافقني وتساعدني على قهر الزمان وتسعى معي إلى الحصول على رغيف العيش. خاصة وقد صرت المسؤول الأول عن البيت، كانت تساعدني أمي بعملها في البيوت، لكنها ضعفت ولم تعد تقوى على العمل. فكان علي أن أبذل أكثر من جهدي حتى لا أحرم إخوتي من التعليم وكي لا أترك الحرمان يخترق دواخلهم ويزيدهم هما على هم. يكفي أن أن أعاني وحدي على أن أصنع منهم ثورة الغد، ومستقبلي الذي كان يراودني في الحلم . اتجهت نحو سوق العمل "الموقف"كغيري من أفراد الشعب المنكوب والذين ختمت الأعمال الشاقة على أيديهم بوشم يميزهم عن غيرهم من طبقات مجتمع أصابه الشتات. ننتظر أن تأتي فرصة عمل نقضي بأجرتها البخسة بعض حاجتنا اليومية.
مضى وقت من الزمن ونحن نداعب صولة الانتظار الذي غزى برودتنا وأشعل فيها نيران الشغف وترقب نور يضيء يومنا المظلم. وإذ بسيارة فخمة تبدو من أول الطريق لتتجه الأنظار نحوها كأنها لقمة العيش التي نسعى لأجلها. كثر ت أسئلتنا خاصة بعد طول انتظار عن إمكانية الحصول على عمل .غريب أمرنا ونحن في حالة لا نحسد عليها .حتى عمل من النوع الذي يكلفنا الكثير وينهك قوانا لا نستطيع الحصول عليه ببساطة ،أمر موغل في الغرابة ويدعو للسؤال.وها هم الفرج يأتي بعد سماع كلاكسات شاحنة قادمة نحونا، إنها تتبع السيارة الفخمة التي فتحت إحدى نوافذها الخلفية وأقبلت علينا نظرات من عينين جذابتين عليهما سواد يغري النفس …وأي نفس هي التي تعيش في كينونتنا ؟ غطتها طبائع الحرمان. خرجت من النافدة يد كريمة تلوح نحونا لكن أحدا لم يجب، الكل أصيب بدهشة خاطفة أصمت الألسن وأذابت الكلمات في رماق الحناجر. نطقت السيدة من داخل السيارة "من المسؤول هنا" كان على أحدنا أن يجيب وإلا ستضيع الفرصة منا. فأسرعت مجيبا،
– معذرة سيدتي لا أحد فكل واحد مسؤول عن نفسه
– لكن هذا يخل بالنظام
بدت على شفتاي ابتسامة ساخرة
– ليس كما تظنين أيتها السيدة فالأمر لا يحتاج، فهل نضع حتى لشقائنا نظاما؟ !
– لا أعني دلك أيها الشاب لكني أريد عمالا في مزرعتي ولا أعرف من يأتي عليه الدور.
– لك أن تختاري من شئت للعمل عندك.
– هلا تكرمت وتكلفت بمهمة الإختيار .
لم يكن بوسعي أن أن أرفض .. لبيت طلبها ورحنا نصعد فوق الشاحنة متجهين نحو المزرعة. بت أحلم في وضح النهار بالسعد الذي حل علينا فرصة عمل لا تعوض ومع سيدة طيبة الخلق. وبينما نحن في الطريق إلى مكان العمل وقعت الفاجعة وكان القدر أقوى لم أشعر حينها بشيء إلى أن وجدت نفسي على سرير قديم داخل غرفة تلونت جدرانها بالأوساخ. لم أعرف سر المصاب. دخلت علي فتاة ترتدي وزرة بيضاء وقبعة أيضا بيضاء تلك هي الممرضة. حينها فقط علمت بأنني داخل مستشفى فسألتها:
من فضلك هل يمكن أن أعرف ما الدي وقع ؟
حادثة سير في الطريق نجوتم فيها بأعجوبة.
أه ضاع كل شيء بل احترق ما كان باقيا من بصيص الأمل في زمرتنا. ضمضت جراحنا الخارجية، لكن الداخلية زادت حدتها وأصبحت مزمنة. أصبت بكسر في يدي لكنه في الحقيقة كسر في حياتي.
أمضيت اليوم كله في المستشفى وعند المساء جاء قرار خروجي. عدت خائبا إلى البيت لألقى إخوتي بيد مكسورة بدلا عن القوت اليومي الذي ينتظرونه. وجدت الأم الحنونة تترقب عودتي على مشارف القصر العظيم .تأخرت كثيرا وهذا ليس من عادتي. ما أن لمحتني عيناها حتى صرخت بأعلى صوتها "ولدي " ثم راحت في إغماءة وسقطت أرضا. خرج سكان إقامة الصفيح ليشهدوا الحدث. ظننت أنها إغماءة وتستفيق بعدها وانتهى الأمر. لكن من الارض إلى فراش المرض. كانت تعاني من ضعف في نبض القلب جعلها تلزم الفراش. لم تكن لدي النقود لأشتري لها الأدوية التي أمر بها الطبيب. رحت للمستشفى العمومي لمدينتنا على أمل أن أجد عفوا أحصل على دواء. لكن وكما هو معهود الدواء غير موجود إن احتجناه نحن ،…؟ أما لغيرنا ممن لهم سطوتهم داخل المجتمع أو لهم علاقة حميمية مع أحد الممرضين وغيرهم، طبعا وجوده ضروري. عدت خائبا منهك القوى، جلست بالقرب من أمي أداعبها بكلمات رقيقة وقد بدت على وجهي ابتسامة كاذبة، علّني أدخل الطمأنينة إلى قلبها وأخفف عن إخوتي هول المصاب. استمر الأمر على ما هو عليه ولم تستطع صبرا زادت حدة مرضها لتمضي نحو نهايتها المؤلمة. كنت أركن إلى جانبها ليل نهار لانني حصلت على إجازة من" تمارة " بسبب الكسر الذي أصابني وكانت فرصة لأكون في استقبال من يأتي لزيارتها اطمئنانا على صحتها.
عجزت عن فعل أي شيء، استسلمت للهزيمة، أما إخوتي فهم صغار لا حول لهم ولا قوة، الجوع يطاردهم من جهة، والحزن على أمهم يقتل كل جميل بدواخلهم. فجاء الوقت الموعود ونزل ملك الموت بأمر الله تعالى ليأخد الروح الطيبة عنا ويرحل. إنا لله وإنا إليه راجعون كانت نهاية مؤلمة نهاية لتاريخ الحب والحنان، الذي عشناه في أحضان حارة. جف النبع وانقضى وا رباه … نكبتين مرة واحدة، كان رحيلا من نوع آخر .عشت وإخوتي الأمرين ومازلنا كغيرنا ممن لا يملكون قوة ولا حولا. لكن إلى متى …؟ إلى متى سيظل الجرح ينزف؟ هكذا أرادت لنا أيادي الذل والمهانة أن نكون. زرعت في أعماقنا بذور الحرمان التي تربت فينا وها نحن نحصد ما زرعوه … إنها فعلا ذكرى أليمة خاصة وأني الآن أعيشها لوحدي بعدما هجر كل إخوتي البيت ولا أجد لنفسي أنيسا في وحدتها سوى سيّدة ليلي .. وسادتي الزرقاء …
عبدالعالي الوالي ميسور