أول معبد اكتشف في حلب القديمة وظهرت أثاره, كان على مرتفع (القلعة) ويعود إلى الألف الثالث قبل الميلاد, وما بقي منها ماثلاً إلى العيان يعود إلى 1100 ق.م.

 

 

روح أسواق (المدينة) بحلب

الدكتور محمود حريتاني

أستاذ محاضر

حلب – سورية

 

 نشأت التجمعات السكنية, منذ أن ترك الإنسان القديم حياة الصيد وجمع الثمار والتنقل, وبدأ بتنظيم مسكنه منذ الألف العاشر قبل الميلاد.

ظهرت هذه التجمعات السكنية حول ساحات وأماكن المنتجات, وفي زمن لا حق ظهر بناء كبير مميز هو المعبد, وليس هذا المعبد لوضع مقدسات الإنسان وتمثال الإله فقط. بل كان المعبد والسدنة فيه هم المتصرفون الفعليون في كل شيء.
أول معبد اكتشف في حلب القديمة وظهرت أثاره, كان على مرتفع (القلعة) ويعود إلى الألف الثالث قبل الميلاد, وما بقي منها ماثلاً إلى العيان يعود إلى 1100 ق.م.

معبد آخر ذُكر في وثيقة موجودة لدينا, يعود إلى الألف الثاني قبل الميلاد, لازال تحت مرتفع حي العقبة بجانب باب انطاكية الأثري. إلى جانب هذين المعبدين, ولا تزال مخططاتهما غير واضحة, وفي أواخر الألف الأول قبل الميلاد, أقام سلوقس نيكاتور قائد الأسكندر الكبير المكدوني مُعَمّرته السلوقية في أواخر القرن الثالث قبل الميلاد, وهي ماثلة أمامنا بطريقها المستقيم (الديكومانوس مكسيموس) يبدأ من باب انطاكية الأثري, وينتهي عند أطراف خندق القلعة, وتتفرع منه فروع متعامدة كثيرة (كاردو) وهذا تخطيط عرف لدى هيبوداموس اليوناني في القرن الخامس قبل الميلاد. في هذين الموقعين من مدينة حلب, تعبق رائحة المعابد القديمة والتاريخ العريق وأوابد الإنسان القديم وأعماله.

في القرن الخامس الميلادي, ومع انتشار الدين المسيحي, بنيت في حلب كاتدرائية كبرى, وقد تكون في ساحة الآغورا – الفوروم في المدينة السلوقية – اليونانية(بيرويا) ولا تزال أثارها قائمة بتسمية جديدة (المدرسة الحلوية) وقد ذكرت المصادر التاريخية, عشرات البيَع في المنطقة, وهكذا كانت الروح الدينية هي المسيطرة على المدينة, تنتشر في جنباتها إلى جانب التجمع البشري للبيع والشراء. (تشابهُ بين ديكومانوس حلب وكاردوافاميا والشارع المعمد في تدمر).

جاء العرب المسلمون في الثلث الأول من القرن السابع الميلادي وبنوا مسجدهم الجامع الكبير إلى جانب الكاتدرائية.

معبد إلى جانب معبد ودين إلى جانب دين, وروح مذهبية, وقد عُرف مثل ذلك في دمشق وغيرها.

أن وجود الجامع الأموي الكبير أوجَدَ بالتالي أسواقاً حوله لبيع المنتجات الثمينة, وكأنّ روح الجامع تفيض على من حولها وتجلب لهم الأمن والطمأنينة وحتى الحماية, حماية ممتلكاتهم النفسية. في القرن العاشر ميلادي(حسب الوثائق المتوفرة) أحيطت المدينة القديمة ومعابدها وقلعتها بأسوار متينة وأبراج قوية, تخترقها أبواب عدة محصنة للدخول إليها بمواعيد منتظمة, فشكلت هذه المدينة بذلك كلاً كاملاً متكاملاً له نكهة خاصة بأسواقه وتجارته ومعابده, مقارنة مع المدن المعاصرة.

إن ما أضيف من أوابد بعد ذلك, لم يخرج عن روح المدينة القديمة, فقد بنى الحكام الزنكيون والأيوبيون والمماليك ثم العثمانيون من بعدهم, مباني كثيرة, سارت على خطى من سبقهم مع فارق عمراني ومعماري, فأكثرها من الأوقاف الدينية الخيرية لصالح وفائدة الجميع, وبعضها أوقاف ذرية لصالح العائلة وقسم منها إلى الخير: مساجد وجوامع وخانات وقيسريات وأسواق وحمامات وبيمارستانات لصحة المجموع…

وهكذا

إن تاريخ مدينة حلب منذ العصور القديمة حتى مطلع العصور الحديثة, يبرز واضحاً في مركزها المديني وفيما يعرف بـ(المدينة) والتي تتوضح روحها في أمور كثيرة نوجزها فيما يلي:

أولاً: وفي مركز المدينة القديمة يسود العنصر الأساسي المهيمن وهو الإنسان, بائعاً أو مشترياً أو متجولاً أو غير ذلك. هنا تغيب الآليات القاتلة والأضواء المفتعلة والدعايات المفهومة وغير المفهومة. يبقى الإنسان وحده بحركته العفوية وبزيّه التقليدي أحياناً وعاداته التي اعتادها من الآباء والأجداد ومن مجتمعه.

ثانياً: تجول مقصود أو غير مقصود, فهنا متاهة لذيذة لا تدوم طويلاً, إذ سرعان ما تبرز معالم رائعة يريدها الإنسان أو هي تريده.. باب السوق أو مدخل الخان أو منفذ إلى جامع وهكذا… يدخلها الإنسان فيستريح فيها ويقضي حاجته ويعود إلى متاهة ثانية, ريثما يخرج منها بحاجته أو بذكريات رائعة عن هذا المجمّع الإنساني الذي ينسجم مع إطاره الطبيعي غير المصطنع. هنا لا يوجد تقاطع طرق سريعة ولا إشارات مرور ولا (نعيق) زمور الآليات, ودخانها السام الذي تنفثته باستمرار.

ثالثاً: هنا تبرز إنسانية الإنسان مع أخيه الإنسان, إن كان هذا الإنسان ماراً أو متجولاً أو بائعاً أو زبوناً أو غير ذلك, يذهب إلى صلاته أو يأتي للإطلاع والفرجة,وهو حر فيما يفعل لا رقيب ولا(كاميرا) تلاحقه أينما تحرك, خاصة وانه يشعر بمتاهة اللذيذة المقبولة, إذ تتشابه الوجوه, وتتشابه الأسواق, وحتى البضائع تتشابه في سوق واحد.

رابعاً: إن أروع ما يشعر به الإنسان في هذا المجمّع الإنساني غير الآلي وغير (المبرمج) هو علاقة البائع والمشتري. إذ يشعر هذا الإنسان صاحب الحاجة لشراء بضاعة ما, أن البائع ينصحه ويناقشه بعد أن يستقبله, وربما يقدم له فنجان القهوة أو كأس الشاي, وليس في الأمر غش أو تدليس, فالمشتري يدخل سوقاً خاصة ببضائع معينة, يعانيها ويسأل عن أسعارها وتصبح لديه بعض الخبرة فيما سيشتريه وإذا رأى ما يحتاجه فلا باس من المناقشة حول السعر والجودة, وحول ما إذا كانت هناك بضاعة أفضل داخل المستودع… وهنا لا يستطيع البائع اللجوء إلى رفع السعر أو الغش في البضاعة, وأمامه معرفة المشتري التي كوّنها إثناء تجوله في السوق الخاصة بهذه البضاعة. المهم هو الاطمئنان الكامل لدى جميع الأطراف وبأسلوب بعيد عن الآلية التي تفرض العلاقة بين المشتري وبين ما يرغب فيه, رقماً أو بطاقة أو غير ذلك.

خامساً: الفرد في أسواق المدينة ينسى فرديته الخاصة, فهو ضمن مجموعة قريبة منه وتحتك به بلطف ولا تراقبه مراقبة الحذر. كلّ في شأنه, وكلّ قريب من الأخر, والجميع كتلة واحدة مرصوصة بلطف وانس ولا يعكر صفوها شيء.

سادساً: يدخل الإنسان هذا المجتمع الإنساني ويشعر بروح خاصة بهذا المجتمع. ففي الأحوال الجوية الغريبة أحياناً من برد وحر ومطر وزوابغ… هنا ينقض الإنسان عن كاهله كل شيء. إذ أن البيئة الرائعة السائدة في (المدينة) وروحها, كفيلة براحته الكاملة. إذ أن المناخ مقبول جداً, فالبرودة سائدة رغم المناخ الحار في الخارج, والرطوبة مقبولة رغم برد الشتاء القارس خارجاً. والغطاء الحجري وسماكة الجدران وحتى كثافة البشر, كل ذلك كفيل بإبعاد كل التقلبات الجوية الخارجية, وكل ذلك جعل من أسواق المدينة مركزاً معروفاً في كل عالم الشرقين الأوسط والأدنى. فهي الأولى في العالم: سعة وعمراناً وعمارة وكثافة وتاريخاً قديماً, والمواقع المعاصرة لها أصبحت متاحف…

سابعاً: وأخيراً كل الفعاليات الإنسانية موجودة هنا, فالأسواق الاختصاصية متعددة, تقرب من السبع وثلاثين سوقاً, وفيها سبع وعشرون خاناً وستة قيسريات,أما الخدمات متوفرة بشكل كامل : مقاهي – مطاعم – مساجد – حمامات واماكن الطهارة , إنها مجمع كامل ومجمع كمل ومتاح للجميع سواسية وبأجر بسيط وأحيانا بلا اجر, مع استقبال لطيف وعشرة طيبة.

استمرت أسواق المدينة كما هي وان توسعت , حيث (الرجل التي تدب في أي مكان تحب ) وقد جرى التوسع في الأزقة المؤدية لها أو المجاورة, فظهرت أسواق ملحقة لكنها لا ترقى إلى أسواق المركز..

إن عبق التاريخ وكيف وصفت هذه الأسواق في ألف ليلية وفي كتب الرحالة. بقي كل ذلك كما هو يدعو الجميع إلى الزيارة وإلى الشراء بالسعر الصحيح والمضمون, فالتاجر هنا يرث تقاليد أبيه وجده ولا يحيد عنها لئلا يكون شاذاَ وينبذه أقارنه وجيرانه.

وقد تغيب هذه الأمور لدى بعض البائعين في معاملتهم مع الغرباء البعيدين عن هذا البلد, فليلجئون إلى أساليب غريبة وهم لايتجرؤن على ذلك لولا حفنة من أبناء البلد المرافقين الذين يسعون إلى الرزق غير الحلال اعتماداً على جهل من معهم: ورغم ذلك فإن هؤلاء الغرباء البعيدون وهم يضيفون لمسة إنسانية إلى هذا المجمع العريق, يعطون هذه الأسواق حيوية متنوعة ومنها الأشياء التذكارية وهي مصنوعة يدويا, وإن أسعارها متفاوتة جدا إذا لا تخضعها الدولة إلى أسعار رسمية وتبقى تحتفظ بنكهة وتقاليد حرفية عريقة.

تبقى كلمة أخيرة. لا تشوه الصورة التي رسمناها، إنسانية روحية هذا المجمع التاريخي.

ولكن مع الحضارة الحديثة تخلت تشوهات قاسية تظهر في التمديدات وأسلاك الهاتف والكهرباء التي تشوه الواجهات الرائعة للمخازن والخانات والقيسريات.

إن سلطات المدينة القديمة لا تضيّع جهدا في وضع المشاريع لإزالتها فضلا عن القيام بأعمال الترميم اللازمة للحفظ والصيانة ودرء المخاطر.

حلب 2/10/2010
تم تقديم هذا البحث في ندوة المدينة القديمة 12/10/2010