في هذه الصفحة ولأول مرة معنا الكاتبة والفنانة التشكيلية سمر المحمود، تعرفنا فيها عن نفسها وتقدم لنا قصة زهرة على جثة الوقت مع لوحات من وحي القصة. آملين المزيد من النجاح لسمر ومنتظرين تواصلكم معنا

 

 

 في هذه الصفحة ولأول مرة معنا الكاتبة والفنانة التشكيلية سمر المحمود، تعرفنا فيها عن نفسها وتقدم لنا قصة زهرة على جثة الوقت مع لوحات من وحي القصة. آملين المزيد من النجاح لسمر ومنتظرين تواصلكم معنا…

 

 

 

 

تقدم لنا الكاتبة والفنانة التشكيلية سمر المحمود نفسها:

أنا فنانة تشكيلية من سورية الحبيبة

مواليد 1976

شاركت ببعض المعارض الجماعية ومعرض فردي، لم أدرس الفن دراسة أكاديمية

أكتب القصة والنثر الحديث وأشارك حاليا بكتاباتي بعدد من المجلات الإلكترونية

 

وهذه قصتها مع لوحات من وحي القصة

زهرة على جثة الوقت

بقلم

 سمر المحمود

 

ألصقت زهرة جبينها بزجاح النافذة المطلة على الشارع ..كان النهار في الخارج كطفل ذهبي الشعر والملامح، نسمة عليلة مرت احتالت على الحر لتزيد ارتعاش الذكرى في مفاصل زهرة وشهوتها نحو الحبيب الذي يفصله عن مضاجعتها عدة شوارع تلتف كأفعوان يكاد يخنقها.

 أخذت تحدق في المرور الكئيب للناس تحت وطأة الحر بينما تتساءل: هل سيأتي الليلة ؟ لتزيد الكآبة من تجاويف وجهها المتغضن وعينيها الغائرتين كقدحي قهوة، كانت ساهمة كمحارب عتيق أفنى حياته في معركة خرج منها بقدم واحدة وعدة رصاصات محنطة في صدره، لكن معركتها أشد ضراوة أدخلت فيها حلفائها اللامرئيين من العالم السفلي، تعاويذ العرافات والمشعوذين …مع مئات الخنادق والفناجين … شجرات السنديان والصفصاف ..حتى الريح أشركتها للهبوب بورقة ما حتى قدمي العدو الحبيب .. معركة راهنت عليها بصباها وعذريتها وذخيرتها .. وهاهي تنكمش ككرة رثة من الصوف تترقب بهلع الفلول الأخير لحقبتها الذهبية.

 ضغطت برأسها على الزجاج بقوة كأنما تحاول اختراقه حين لمحت صبية الحي يتراكضون في الساحة، لملمت ثوبها بيد واحدة تنتفض فيها شرايين نافرة كأنها تقاطع سكك حديدية وهرولت مسرعة باتجاه الباب منادية بصوت مرتفع وملوحة باليد الأخرى – ايه يا يوسف يا علاء .. يا سعد – أنها زهرة ككل مرة.. تمتم أحدهم وهرعوا مسرعين نحوها .. صاح يوسف بصوت أرعن والماء يسيل من أنفه: كم ستعطينا اليوم فأجابت زهرة بنزق : إحرقوا هذه الورقة قبالة دكانه وسأعطيكم النقود عند عودتكم …هيا.

شرعت ترقبهم وهم يحثّون خطاهم مبتعدين حتى اختفوا خلف دوامة الغبار في الشارع، تجسدت في مخيلتها صورة حبيبها نائماً في أحضان زوجته تسرق قبله ومداعباته فانتفضت مذعورة كأنما استيقظت من كابوس، فتلك الرؤيا كفيلة بأن تسحق قلبها .. لكنها انتظرته منذ زمن بعيد قبل أن يتدلى ثدييها ويعلو بطنها كمنطاد ..قبل أن يحدودب ظهرها وتتباعد ساقيها .. أنه لها.

وأخذت تجيل ببصرها أنحاء الغرفة تبحث عن شيء يرحم هزيمتها فتوقفت عيناها على صورتها المعلقة على الحائط رمقتها بحزن مستذكرة شعرها الأسود المفروق الذي كانت تجمعه والدتها في جديلتين جانبي رأسها والمعطف الشتوي الذي اشتراه لها والدها، ذلك المعطف الذي شهد انقضاء عذريتها في مساء كانوني بارد حين دخلا خلسة تحت عريشة العنب بجوار دارها، غمغمت بحزن يلعن ذاك اليوم .. مستذكرة كيف نزعت عنها معطفها ليجلسا عليه.. كيف تلاقت عيناهما بخجل تارة واقتحام جريء تارة أخرى .. لم يصدقا أنهما يلتقطان الهواء ذاته جنيا إلى جنب وكتفه يلاصق كتفها تحدثا قليلا ثم تسمرا بانتظار الدفع الخلاق لرغبتهما، تتذكر كيف مد يديه بهدوء متسللاً، فرد جديلتيها لينهار شعرها كشلال، حينها عانقها بقوة ثم قبلها على شفتيها قبلة ابتلعت أنفاسها وشعرت بروحها قد تلاشت كغمام، ثم مرر شفتيه على عنقها كالنسيم وأصابعه تسبر جسدها لتصل أماكن لم تدرك قبلا أنها تخفي كل تلك المتعة .. واستسلمت له بكل عذوبة .. ثم تقلبا بلا هوادة على المعطف الملطخ بالدم والتراب وانطلقت بنشوتها مخترقة حياها لتصل بكل الطرق ذروة الحب/ ثم تتذكر كيف أصبحت تختلق الذرائع للخروج من المنزل ووالدتها المسكينة لم تبح بشيء من شكوكها مصلية أن يكون جموح وحيدتها عابرا لا يترك أثرا فهي مازالت في السابعة عشرة من عمرها – أه السابعة عشرة .. قالتها وزفرت بعمق إنها الآن على أبواب الخمسين ومازالت عيناها على الطريق في ترقّب ومازال قلبها دؤوبا على الحب الذي أسرفت عليه كل ما ورثته عن عائلتها حتى منزل العائلة وكرم العنب لتنتهي في غرفة محشورة بين الأبنية الخانقة وضجيج السيارات والمارة .. لم ترد أكثر من حبه دون شروط مستلذة بتفانيها (إنها راضية .. أجل راضية ) رددت بصوت مرتفع لتغذي أملها بعناد .. فهو رغم شيخوخته وزواجه من أخرى رغم خفوت ثورات التأجج والاضطرام مازال يتردد عليها .. مقتنعة بأن الجن من العالم السفلي وأحجيات العرافات لهم الفضل الأكبر بإرجاعه كلما طال غيابه وإلا لماذا هدرت كل مالها في صب اهتمامها بمزاولات السحرة ومطاردتهم حتى الأقاصي وكل شيء في المحصلة لا يهم مقابل إغفاءة على صدره ..كل شيء من المال والتعب والعمل و….. و أجزاء سخيفة من الوقت ووجوده بجوارها عبورا لا مباليا على جثته هكذا تبرر دائما سقوطها في المطب السحيق للوحدة والخيبة .. وفجأة وصلها صوت الأولاد ليقطع عليها استحضار ذكرياتها ظهر يوسف يطارده سعد وعلاء الذي توقف لاهثا محاولا التقاط أنفاسه وقال بصوت متقطع : لقد حرقناها ولم يشاهدنا، لقد كان رأسه غارقا تحت طاولة الدكان ثم مد يديه كمتسول: والآن أعطنا النقود .. فمدت زهرة يدها إلى صدرها وانتزعت منديل أخرجت منه قطعة نقدية وتمتمت : اقسموها فيما بينكم .. هيا .. اغربوا عن وجهي وعاد الصغار يتحلّقون في الساحة، حينها قال يوسف بخبث محدثا رفاقه : لقد خبأت الورقة في جيبي .. لقد ضحكنا على المجنونة .. وتابع هيّا نقرأها لكن عبثا تمكنوا من فك رموزها فالكلمات مقلوبة وجملها غريبة مفككة لا يطفو على العين حرف مجرد، أنتزع سعد الورقة منه، مضغها بيديه على عجل ثم رماها بعيداً قائلا بانفعال ووجهه محمر كالطماطم: هيا لنشتري الحلوى.

عند هبوط الليل فتحت زهرة باب غرفتها وشرعت تجول ببصرها يمنة ويسرة تتأكد من خلو الشارع ثم أخذت تسكب الماء على العتبة ركنت قليلا حتى أطل شبح الحبيب، دلف داخل الغرفة كمختلس ليلي ثم أنطفأ الضوء، وقت قليل مضى حتى ودعها ومضى مبتعدا.

دست زهرة جسدها تحت الغطاء بتكاسل شعرت كأنها غمامة سوداء جافة لعقت شفتيها بلسانها وأطبقت جفنيها محاولة النوم. حشرت أنفها تشمّ ما تبقى من رائحته فاندفعت بالنحيب حتى أثقل عليها النعاس وأسلمت للنوم.

كانت الصباحات تشبه بعضها والمساءات تتكرر بنفس الوتيرة إلا في حال تغيب الحبيب عن زيارتها، كانت تثور ثائرتها تنقب عنه في كل مكان تتجه رأسا إلى أقرب هاتف تحاول الاستقصاء عنه .. تسمع صوته ثم تغلق السماعة .. ويمضي ليلها كحقل محترق لا تبتلع فيه شهيقا إلا وتردد اسمه ولا تطلق زفيرا إلا و تشتمّه .. حتى أنها قد تستقل أية سيارة في منتصف الليل لتقصد الشيخ مبروك وتخبره أن تعويذته لم تنفع وأن عليه معاودة الكرة واستخدام سلطته على هؤلاء .. وتعود مضرجة بالأمل مع بعض الأوراق المجففة وحبتي ثوم وبيضة لتنجز طبخة الهلاك متمتمة : سيرتمي عند قدمي .. ابن … وتقضي ليلها جيئة وذهابا من النافذة للشباك ومن الشباك للنافذة تحمل قدرا من البخور المشتعل مرددة : سيأتي اليوم … لا لن يأتي … متأكدة انه سيأتي… قد يأتي .. ربما … ………………………………………………………………………………

سمر المحمود