يمتاز الفنان السوري زهير حسيب بأنه الأكثر أمانة على مفردات بيئته في الجزيرة العربية، ينهل منها ويسقي أعماله الفنية الأكثر تالقاً والتصاقاً بعالمه الممتد من الطفولة إلى هذا الوقت.

    زهير حسيب …ومفردات بيئته

دمشق ـ عالم نوح ـ شادي نصير:

يمتاز الفنان السوري زهير حسيب بأنه الأكثر أمانة على مفردات بيئته في الجزيرة العربية، ينهل منها ويسقي أعماله الفنية الأكثر تالقاً والتصاقاً بعالمه الممتد من الطفولة إلى هذا الوقت.

يقدم "حسيب" شخوص بيئته وخاصة المرأة الأم والطفلة والفلاحة، ليجعل منهن محورا لأعماله الفنية عبر سنوات تجربته الممتدة على مدى ثلاثة عقود من الزمن استطاع خلالها أن يخلق لنفسه مدرسته الفنية الخاصة وإن اعترف بتأثره بأستاذه الكبير فاتح المدرس.


أقام زهير حسيب العديد من المعرض الفردية والجماعية في سورية والعديد من الدول العربية والأجنبية، وأعماله مقتناة في وزارة الثقافة السورية والمتحف الوطني ودار الأوبرا، إضافة إلى مجموعات خاصة في ألمانيا وسويسرا والسويد وفرنسا، وغيرها من الدول، وكان لعالم نوح معه هذا الحوار…

هناك عدة مجموعات لونية متكررة في معظم لوحاتك، هل تفضل ألوان على أخرى؟

في معرضي الأخير اعتمدت على ثلاثة أو أربعة ألوان تقريبا، وخاصة الألوان الرمادية التي اعتمدت عليها في غرافيك وخلفيات العمل، ونتيجة الخبرة والتجربة والبحث أصبح عندي اختزالات لونية كثيرة، لا أعرف السبب المباشر في هذا الاختيار، ولكن أعتقد أن ذلك نتيجة الفهم الأكثر والوعي والتجربة، وقد تختلف الألوان من معرض لأخر، ولا أتقصد اختيار ألوان معينة، إلا أن لكل مرحلة انعكاسها في التجربة الفنية، فالرماديات طاغية أكثر نتيجة الحزن في التجربة التي عشتها خلال العام الماضي.

 يميز العمل الفني للفنان زهير حسيب بالتكنك، حدثنا عن خلق الحالة الخاصة بلوحتك؟ 

أحاول دائما العمل على التكنيك، ومنذ أربع سنوات أعمل على هذا الموضوع وخاصة الخامات المستخدمة والتي اكتشفتها ووظفتها بطريقة فنية خاصة لا يمكن ملاحظتها في التجارب التشكيلية الأخرى، فهناك بحث متواصل عن معادلات جديدة واكتشافات واتجاهات جديدة، فمرسم الفنان التشكيلي هو مخبر لوني وكيميائي، واللون له طاقات والبحث فيه له طرق مختلفة لامتناهية، ونتيجة البحث والتجريب والحب للون وللوحة يمكن الوصول إلى مرحلة فنية يقتنع فيها الفنان، وقد استخدمت الأتربة مع الأقمشة فكان للرمل طاقاته وجماليته، وشيئا فشيئا توصلت الى استخدام الأقمشة وعالجته بإحساس عالي ومتقن، حتى أن المتلقي لا يعرف أن هناك أقمشة مستخدمة في اللوحة، فأعطيته حس غرافيكي عالي، واستخدمت الكثير من الأقمشة المتنوعة وأغلبها ذات رسم نافر إما مطرز بشكل ناعم أو مقصب أو مشكوك بالخرز الملون، لأن الأقمشة الملساء لا تخدم كثيرا في هذه الحالة.

كما اشتغلت منذ عشر سنوات على موضوع الخشب القديم /الأنتيك/ والبروايز القديمة التي يتجاوز عمرها 100 سنة أو 150 سنة لأن فيه روح الإنسان القديم، وفيه شيء من الذاكرة الإنسانية، فالإنسان هو أساس أي عمل وأي عمل مجبول بحب الإنسان ونبضه.

حدثنا عن المرأة العنصر الأهم والأكثر حضوراً في أعمالك؟

منذ زمن عملت على موضوع المرأة، ومنذ تخرجي من كلية الفنون الجميلة في جامعة دمشق عام 1985 المرأة حاضرة في جميع لوحاتي، فهي امرأة واحدة كالسنديانة في اللوحة وثيمة اللوحة، والأشياء الأخرى كلها ثانوية تدور في فلك المرأة، فيما بعد أصبح هناك مجموعة من البورتريهات، والآن أعمل على موضوع المرأة والطفولة والأسرة، والكثير من العناصر الأخرى المتعلقة بهذه المواضيع، فالمرأة بالنسبة لي كل عطاء الحياة ورموزها، وقد يكون لحنان المرأة دور كبير في ذلك لتعلقي بوالدتي في مرحلة الطفولة كثيرا، خاصة أثناء حصاد محصول القطن، فهذا المخزون الطفولي هو حصادي وزادي ونبعي الذي أغرف منه كل أشيائي، فالإنسان ذاكرة أساسها مرحلة الطفولة التي تبني الشخصية، ولذلك كل الجماليات الموجودة في لوحاتي آتية من زهير حسيب الطفل.

 الألم والحزن يعلوا وجوه شخوصك حدثنا عن ألمهم؟

طبيعة مناخ بيئة الجزيرة قاسية جدا صيفا وشتاء، وطفولتي كان فيها بؤس وشقاء حيث كنت أقضي أياما في البراري ،ومنذ عملي على وجه الانسان وخاصة وجوه الفلاحات ووالدتي، أشعر بأن ذلك كرغيف خبز التنور له رائحة زكية كلما شممته أردت المزيد منه، وكلما أكلت منه لا أشبع منه، فالحس الإنساني موجود بطبعي، وأؤمن بالحب والجمال والأخلاق والعدالة والطبيعة، وعندما أصنع لوحة اتوازن مع نفسي ومع الحياة، والألم دائما أجبله مع اللون، لأني عشت الألم وحولته إلى طاقة إبداعية.

هناك تأثير واضح لبيئتك الأولى، فما هي عناصر هذا التأثير؟

في بداياتي تأثرت بثلاثة أمور رئيسية في منطقة الجزيرة، أولها الطبيعة حيث مساحات حقول القمح الشاسعة وتأثير ضوء الشمس على السنابل، ولهذا يبدو اللون الأصفر حاضرا في معظم اللوحات، وكذلك بياض القطن مع اللون الأخضر، والمساحات اللامتناهية، وشروق الشمس وغروبها، ومنظر النجوم في السماء في ليالي الصيف حيث كنا نمضي ساعات طويلة في تعدادها، واصطيادنا للسمك في نهري خابور وجغجغ، وذهابي مع اخوتي ووالدتي الى حصاد القمح حيث ينشدون مواويلهم الحزينة، وكنت أتأمل المنظر الرائع للحقول وكأنها سبيكة ذهبية يتحرك ضمنها الفلاحون والفلاحات كأحجار كريمة ملونة وخاصة الفلاحات في بيئة الجزيرة اللواتي يتميزن بلباسهن وزيهن الملون بألوان صريحة وكأنها سمفونية لونية ضمن سبيكة ذهبية، وكأن هذا المنظر لوحة تجريدية لا أجمل ولا أحلى منه.

أضف إلى ذلك تأثري بأخي الفنان عمر حسيب، فكنت ادخل مرسمه لأرسم بالألوان والأحبار وأحيانا كنت أفسد له لوحاته نتيجة عبثي ولعبي بالألوان، كما أن والدي كان نحاتا يصنع أدوات الفلاحة والمحراث، والآن أقوم  بالرسم على سكة المحراث رغم أنه شكل حديدي، لكن عندما أتأمله أجده قناعا، ولهذا رسمت شخوصي على هذا القناع.     

هل ترى ان على الفنان أن ينطلق من بيئته ليكوّن لنفسه سمة خاصة به؟

أعتقد ذلك، وليس من السهل فعل ذلك، فلقد نحت بالصخر، وكان مشروع تخرجي من كلية الفنون الجميلة /الحصاد في شمال شرق سورية/ الجزيرة/ ولذلك أرى بأنه ينبغي على الفنان أن يتمسك بهويته وجغرافيته وثقافته وجذوره، فشجرة الزيتون لا تنبت في الصحراء، ولكل بيئة خصائصها، ولذلك ينبغي أن نغرف من النبع الأول ضمن الثقافة والدائرة الكبيرة مع الاحتفاظ بالجزئيات الصغيرة والانطلاق منها، وهذه الجزئيات هي التي تكوّن الثقل الفني مثل أي مساحات شاسعة يمكن ان تعادل كتلة حجرية، فالعمل على التفاصيل والجزئيات الصغيرة و الجغرافيا يجعل الفنان يحس بنفسه مجبولا بهذا التراث، وعندما يتغرب عن بيئته وجغرافيته يتألم ويحزن ويمكن أن يموت بعيدا دون ان يحس أو يشعر به احد، فالحمام يطير مع الحمام، والعصافير مع العصافير، ولا أقصد بذلك الحالة الشوفينية، وإنما كحالة إنسانية نربطها بالحس الإنساني الكوني، فكل الكتاب والفنانيين أخذوا من هذا المعين كالمخرج الكردي التركي يلماز غونيه الذي كانت كل أفلامه من جغرافيته وبيئته، وكذلك الكتاب الذين حازوا جوائز النوبل غرفوا من هذا المنهل كنجيب محفوظ والافريقي وول سوينكا، ولذلك ينبغي أخذ التراث والبيئة كما هو بشكل جميل ومعاصر، فالتراث شيء مستمر فينا وليس تابوتا ميتا.


ولذلك أعتقد أن فناني الجزيرة لهم جماليتهم ولهم ثمتهم الخاصة برموزهم والوانهم وكلهم متمكنين بأدواتهم وجميعهم متفوقون في كلية الفنون الجميلة، فقد أتوا من مسافات بعيدة لحبهم للفن، ودائما هم في بحث عن الجمال، ودائما الألم الموجود فينا يجعلنا نبحث عن الجمال سواء آكان في الكتابة أو في اللون أو الموسيقى.