سمر دريعي في لوحاتها وتطلعاتها
.. التعبيرالعفوي في حركة اللون والخط
بقلم: أديب مخزوم

                                            سمر دريعي في لوحاتها وتطلعاتها
                                     .. التعبيرالعفوي في حركة اللون والخط


بقلم: أديب مخزوم

تشكل لوحات الفنانة التشكيلية د. سمر دريعي المدخل لالتماس تنويعات وتحولات تجربتها الفنية، التي عرفت كيف تحقق خطوات الانتقال من الصياغة الواقعية، المقروءة في مشاهد الوجوه والأجساد والطبيعة وغيرها، إلى الأداء التعبيري، الذي يحدد روح وجوهر الشكل.

ونشعرونحن نشاهد مجموعة لوحاتها التعبيرية بتداخلات لمساتها العفوية, كما نستشف تجليات الإيقاعات اللونية التي تبرز عبر مزاولتها اليومية للرسم التلقائي، الذي نكتشف فيه حرية في صياغة إيقاعات الشكل وموسيقى اللون. ولقد جاءت إلى الفن التشكيلي والموسيقي والغنائي عبر تأثيرات عائلية، فوالدها الفنان الراحل، كانت لديه مواهب واهتمامات فنية متنوعة، وسرعان ما تحول منزلهم إلى ملتقى لأهل الفن والثقافة، وفي لوحاتها وغنائها وأسلوب حياتها، تظهر متمردة وحالمة، وهي تضع أمامنا علامات استفهام حيال علاقة لوحاتها بمعطيات ثقافة فنون العصر وعلاقة تجربتها بالعفوية اللونية والخطية.

ففي لوحاتها تنطلق من اتجاهات فنية معاصرة تتخذها كإطار تشكيلي وثقافي يجسد الحركة من خلال الخط واللون وتلقائية اللمسة وإيحاءاتها اللونية العاطفية بدفقها الصريح والمباشر. والى جانب الجرأة في استخدام اللون، شاهدنا جرأة أيضا في مجاهرتها بموضوع الجسد العاري، الذي تبحث من خلاله عن مفاصل تعبيرية صعبة في الرسم والتلوين . شاعرية بصرية وتتجه سمر في أكثر أعمالها نحو رسم الموضوع الواحد, مستخدمة في لوحاتها علاقات جمالية وتعبيرية يربطها خيط أسلوبي واحد خاص بها ( رغم تنقلها بين الرسم بقلم الفحم على الورق، والرسم بألوان الأكريليك والزيت على الكانفاس) وهي تأخذنا مرة إلى عمل يقترب من الواقعية التي تحقق عناصر الشاعرية اللونية، ومرة أخرى تدخلنا في جماليات الصياغة التعبيرية العفوية، دون التخلي عن خصوصيات بحثها الأسلوبي، والجو التشكيلي العام. هكذا تقدم سمر دريعي، في مجموعة لوحاتها الواقعية والتعبيرية، التي تتناول الموضوعات الانسانية، علاقات تشكيلية تتداخل بحرية وعفوية، تمكنها من ابتكار نسيج بصري حركي يتخطى الرؤية الواقعية التقليدية, ويفتح أمدية داخل مساحة اللوحة, وباتجاه تأكيد الناحية الاسلوبية، الشيء الذي يزيد من حالات تحسسنا لإيقاعات جمالية حديثة، تعرف كيف تحرك العناصر، وتبرز مشاعرها الانفعالية, حيث يتغلب الطابع التعبيري على الناحية التصويرية التسجيلية.

وهذا يعني انها تطلق العنان لعاطفتها ولغنائيتها اللتين تركتا بصمات واضحة على لوحاتها, المغايرة لمعطيات الواقع المرئي الموجود في الأبعاد الثلاثة. ففي ممارستها الفنية اليومية ترفض ، الانصياع للواقعية التقليدية، وبذلك تطرح الموضوع كقضية جمالية وثقافية، بهدف الوصول إلى جوهر التعبير عن الأحاسيس الإنسانية, وهذا يعطيها المزيد من الحرية في تحريك اللون وصياغة الخطو. والسرعة في التشكيل أحياناً لا تجعل عملا يبرز على حساب آخر. فهي وان كانت تذهب أحيانا إلى لونية مفرطة في داخلتيها وحسيتها عبر تهشيرات خطية وحركات لونية متداخلة بحرية وعفوية, إلا انها تقدم في النهاية لوحة متمكنة من ابتكار نسيج بصري حركي يتخطى الرؤية التقليدية، وأحيانا توشح تلك الأشكال بلمسات بيضاء تعتمد على حركة عفوية تحيط بأقسام من الأشكال أو تخرج عن طورها، فتتحول إلى تخطيطات طيعة في مساحة اللوحة.

ما هو لافت رغبتها الأكيدة في البقاء ضمن حدود الأشكال والواقع،, فهي مهما انفعلت تبقى على صلة بإشارات الموضوع وعناصره الحية، التي تقيم علاقة بين الإحساس والتجريد أو بين الحضور والتلميح الشكلي. كسر المساحات الهندسية وإذا كانت اللونية العامة تتجه إلى الحركة الغنائية البعيدة عن السكونية, فهذا لا يعني إننا لا نستطيع ملاحظة تلك الدراية والحساسية في معالجة تباينات الألوان وتركيبها وحركتها ، التي تطغى عليها درجات اللون الواحد احياناً كالبني . داخل أطار اللوحة، وقد تضيف إلى هذه الإيقاعية ألواناً متوهجة تصل حدود البياض اللوني, وبعض الأحمر والأصفر والأخضر بدرجاتها المخففة. فالرسم السريع هنا هو الحالة والجوهر الذي تطمح الى بلوغه والذي يخلصها من ضغط الصورة الواقعية، ويدفعها نحو عالم لوني غنائي، لا يحافظ على شكل هندسي له إطاره الرياضي الصارم, بقدر ما يتجه إلى كسر التكاوين الهندسية القاسية, فتصبح المساحات اقرب إلى الهندسة اللونية البعيدة عن الرزانة والدقة الرياضية. واللوحة هنا تفسر إحساسها ومزاجها, فإما أن تكون هادئة أثناء انجاز اللوحة, فتأتي حسب إحساسها الداخلي ملطفة ومحققة عناصر الواقعية، وإما أن يكون عكس ذلك في لوحات أخرى فتأتي ألوانها وخطوطها منفعلة وعنيفة وسريعة, ولا يعني ذلك انها لا تدرس المساحات اللونية والأشكال والمادة التي تعمل عليها للوصول إلى درجات من التوازن التكويني والتشكيل اللوني، الذين بدت فيهما أكثر تحكما وثقة في بناء اللوحة. ورغم كل الاهتمام بالصوغ الشكلي واللوني المنظم، والخاضع في أكثر الأحيان للمنطق الواقعي الحديث، نستطيع أن نلمس في خلفيات لوحاتها ( قياسات كبيرة ومتوسطة ) لمسات وبنى تشكيلية، تحقق حالات وجماليات التداخل بين الشكل الواقعي وحالات التجريد اللوني الغنائي أو بين التصريح والتلميح .

هكذا تبدو لوحاتها ، في مظاهرها وإيماءاتها الواقعية ، زاخرة بمشاهدها المحببة، المنفتحة على الاجواء اللونية، بوهجها وبريقها الضوئي، حيث نجد بؤر الضوء الساطع، الذي هو جزء أساسي في لوحاتها، ورموزها وعناصرها . وهذا يعني أنها تقوم بتجسيد حالات من المنظور الحامل مدى ومناخ الفضاء الواقعي الرحب، وتساعدها خبرتها التقنية ، على مضاعفة التأثير المشهدي، المقتطف من حضور تفاصيل المشهد، ولقد كانت تبحث ومنذ بدايات انطلاقتها الفنية، عن حل لتجليات الرجوع إلى ينابيع الواقعية، دون أن تخون مشاعرها الذاتية، التي سرعان ما تتفجر عبر لمساتها العفوية المقروءة في خلفيات لوحاتها . كأن أنغام تقاسيم الإيقاعات اللونية التجريدية في خلفيات لوحاتها، تحمل أيضاً، مثل أشكالها الواقعية، تداعيات من ألوان الواقع ، المرسوم من الداخل والخارج معاً . وهكذا نستشف قدراتها التقنية والتأليفية ، حين تطرح أمام أعيننا، جمالية الأسلوب الواقعي ، الذي يعطي مشاهدها بعداً خيالياً أحياناً، متبعة تجليات الحركة الواقعية والتجريدية في آن واحد.



وعلى هذا تتجاوز سمر دريعي في صياغة خلفيات اللوحة، الأساليب التقليدية أيضاً، حين تقوم بتجسيدها، بلمسة عفوية تصل حدود تداخل الحركات اللونية مع الوجه والمشهد المرسوم، وبذلك تلتقي مع أساليب الفنانين المحدثين، حين تمد اللوحة بثمرات خبرتها التقنية المتحررة للوصول إلى العجائن اللونية الكثيفة، التي تضفي الايقاعات اللونية الغنائية، في خطوات الوصول إلى الهدف الجمالي المطلوب. مواءمة بين الواقع والتجريد لقد ظلت سمر دريعي في اطار الرسم الواقعي ،لأنها آمنت منذ البداية بالقدرة على الرسم أو على التجسيد، تماماً كما تؤمن بالتشكيل الحديث، الذي ينطلق من أجواء تجاوز الفضاء الواقعي، أو تذويبه في جزئيات ألوان اللوحة التجريدية. فهي لا تلغي الأشكال لتصل إلى وتيرة الالتباس بين المؤشرات المحلية ومعطيات الحداثة ، وإنما ترسم لتحقق حالات المواءمة والموازنة بين الواقع والتجريد .

هكذا يمكننا الاقتراب من عوالم لوحات سمر ، وتفهم معاني ودلالات تعابير الوجوه الواجمة والحزينة، والتي تعبر عن فجائعية الواقع الراهن، وتحولات ما بعد التجريدية عبر تنقلها من عقلنة واقعية ضابطة، إلى عفوية لونية متحررة، إلا أنها سرعان ما ترتد إلى لغة الوعي، حين تجسد بلغة تصويرية مفرطة في واقعيتها، حركات إنسانية متنوعة في وضعياتها وتعابيرها. والموضوع الإنساني هو نقطة الارتكاز الأساسية في تجربتها ، تعمل من خلاله للوصول إلى خصوصية. وهي تتجه إلى المباشرة ، مروراً بمحاولتها إضفاء بعض اللمسات الرومانسية والغنائية والإنفعالية على أجواء بعض لوحاتها، التي تشير إلى تصميم صاحبتها على التواصل مع رغبتها في أن تبوح بهواجسها ، بصدق وأمانة ، زاهدة بكل شيء ، وبذلك تريد أن تقول لنا أن الفن هو ضرورة حياتية، وليس مظهراً من مظاهر الترف الثقافي او الحضاري ، وهذا دليل واضح على أنها فنانة تمتلك حساسية بصرية وروحية قبل أي شيء آخر . وتشدنا اللوحة ليس بموضوعها الإنساني المرتبط بعالم اليوم وأزماته المتفاقمة، فحسب، وإنما بمعالجتها التقنية الحديثة، التي تحقق منتهى عملية العفوية، وخاصة في الخلفيات التجريدية، والمصاغة بحرية واثقة، مجسدة بحركات عريضة، وبالتالي فهذه الحركات السريعة، تبدو غنية بتعبيرها ومكثفة بالأحساسيس الصادقة وإيحاءات الغنائية اللونية . هكذا تقدم لوحة فنية حاملة مظاهر الرسم الواقعي، وحين تعالج الوجوه والأطراف، فهي تقنعنا أن الدقة في معاينة المظهر الخارجي، هي من ضمن السبل الهادفة إلى كشف التعابير الإنسانية، في قسمات الوجوه وتعابير العيون، وكل ما تستلزمه اللوحة الواقعية من توازنات في التأليف والتلوين معاً، وهي في تنقلاتها من لوحة إلى أخرى، تتجنب أسلوب القفز أو الانقلابات المفاجئة، إن لجهة معالجة اللون أو لجهة صياغة الخطوط، فاللون في عناصرها الواقعية، متدرج بانسجام، رغم المظاهر البصرية الجامعة بين الدقة والعفوية.

وهي من ناحية أخرى تجمع بين رشاقة وليونة حركة الاشكال الإنسانية، وبين تداعيات العاطفة المتدفقة عبر إيقاعات الرسم العفوي والسريع والمباشر، الذي تعمل من خلاله على إيجاد، روابط وثيقة بين معطيات الرسم الواقعي، والحرية التعبيرية وانفعالية الحركة العفوية للمسة اللونية ، للتأكيد على أهمية الارتباط بإشارات ومظاهر الرسم الواقعي، الحديث في خطوات البحث عن آفاق بصرية جديدة. وحالات الدمج ما بين اللمسة المكثفة واللمسة الرقيقة، وما بين السطوح اللونية الباهرة ولمسات اللون القاتم، وتعدد الخبرات والنتائج، أبرز قدرتها على الحوار اللوني الإيقاعي، أو على تحويل المقطوعة الموسيقية البصرية، إلى رموز تشكيلية تتنوع من لوحة إلى أخرى، دون أن يعني هذا خروجاً عن إطار التواصل مع نقاط ارتكاز أساسية تحقيق الناحية الأسلوبية، ولا تبقى في حدود الصياغة الواقعية العادية. وهذا لا يمنعها كما اشرنا، من الاتجاه في خلفيات لوحاتها، لاختبار طريقة الرسم بلمسات لونية عفوية في خطوات الوصول إلى مناخ تصويري حديث ومعاصر، وهذا يعني أنها تبرز في لوحاتها تحولات وتنقلات، من عقلنة أكاديمية وواقعية ضابطة إلى عفوية لونية متحررة، إلا أنها سرعان ما ترتد إلى لغة الوعي حين تستعيد، بلغة تصويرية مفرطة في واقعيتها مشاهد من الواقع الإنساني المأساوي والمرعب الذي نعيشه .

وفي لوحات البورتريه تميل أكثر فأكثر نحو الأمانة، لدرجة تحقيق الشبه بين الرسم والحقيقة، والإدراك هنا ينبع من الاداء العقلاني المركز والدقيق، وهي حين تدمج الواقع بالتجريد، فهذا يعني أنها تتهيأ لانطلاقة فنية تشكل مدخلاً لمرحلة جديدة، وتبرز كهاجس لتطلعاتها المستقبلية، في صياغة العمل الفني المتحرر من القيود التفصيلية فتجاربها السابقة التي كرست لها مزيداً من الوقت والصبر والجلد ، تشكل الدافع الأول لإيجاد الركائز البديلة في انطلاقتها الجديدة، والوصول الى لوحة فنية لها علاقة متينة مع المناخ الذاتي والحداثة التشكيلية، وتحقيق مواصفات العمل الفني، المميز بحيويته وحركته التعبيرية الحديثة والمعاصرة، والاتجاه دائماً نحو المزيد من الاستقلالية والاسلوبية واضفاء الحرية والابتكار والرؤى المستقبلية.‏‏

سمر دريعي من مواليد مدينة حلب 1977 ، ولقد درست الفن التشكيلي اختصاص رسم في بخارست . وحازت على ماجستير في فلسفة الفن، ودكتوراه بالنقد الفني الفلسفي (تخرجت من دفعة الأوائل في كلية الفنون الجميلة ) … ومنحت تقدير مع أصدقائها ( من معرض للاوائل لمدة 3 أشهر في نقابة الفنانين . ( أقامت معارض في أغلب دول الشرق الاوسط و كرمت في عدة دول منها، كما شاركت في المهرجان الدولي ـ مغرب أكادير كأول فنانة مبدعة، إضافة لمشاركتها في تونس (مدينة المحرس ـ ملتقى للفنون الدولية) وكرّمت في حلب بمهرجان ابداع بلد 2006 كما كرّمت على مستوى رومانيا بالدرجة الثانية في مهرجان رسم مباشر (رسم موديل الجسد ) و شاركت في آمد (ديار بكر) مع نخبة الفن الكردي في تركيا . وأقامت معرض فردي بالمكتبة الدولية في بخارست
دمشق في 8 ـ10ـ 2019