كل حضارة تتعلم مما سبقها، ولا شك أن السوريين تعلموا من خلال رؤيتهم لوسائل الإعلام، أن الأساس هو البلد وليس الطائفة، والدولة وليس الحزب، والرئيس وليس صفة سياسية له، وفي هذا المنطق، لا بد أن أقف محترما القرار السوري ورئيسه والدولة التي يمثلها، كما أحترم اللبناني الذي يسعى إلى بناء البلد من خلال مؤسساته الرسمية أو منظماته الشعبية أو أية جهة تمثل قيمه وأخلاقه.

ومشاركة مع موقع عالم بلا حدود نقدم هذه المقالة الأخوية

سوريا ولبنان ومودة ذي القربى بقلم المهندس باسل قس نصر الله

 


تعود بي الذاكرة، إلى يوم مررت بالقرب من ساحة سعد الله الجابري، في مدينة حلب، وهي مركز – منذ سنوات كثيرة – لكل المسيرات الكبيرة والصغيرة، وهناك رأيت الكثير ممن يرفعون العلم السوري، وتعلوا أصواتهم منددة ومؤيدة، مرة منددة بالقرار الأممي 1559 ( وبالطبع لم يكونوا بعد قد سمعوا باسم ميليتس)، ومرة مؤيدة مواقف الرئيس السوري بشار الأسد.

وكعادتنا في أكثرية المسيرات العربية ( لكي لا أقول كل المسيرات )، نعتمد على العدد الهائل لإقناع من يتوجب إقناعه بأننا على صواب، والطرف الآخر مخطئ، إلا أنه لفت نظري بأن كل الأعلام التي تم رفعها هي علم الجمهورية العربية السورية، وهو ما شجعني، وأهاب بي الوقوف، فالمسيرة هي من أجل الدولة، وليس لأجل طائفة أو فئة، مهما كنت أكن لها الاحترام، والتأييد لشخص رئيس الجمهورية، بصفته رئيسا وليس بصفة أخرى) .
لا شك أن هذا الحدث مرتبط بما سبقه من أحداث سياسية في المنطقة، ولن أناقش عفويته من عدمها، إلا أنني عدت قليلا إلى الوراء، حيث تم رفع أعلام دولة أوكرانيا خلال ثورتها البرتقالية، وحينها قام الجميع بوضع وشاح برتقالي نسبة لهذه الثورة، ولن أنكر، بل أحترم الاعتصام القرمزي (نسبة لدم لون رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري رحمه الله)، وفي هذا الاعتصام كانت الحشود تضع وشاحا باللونين الأبيض والأحمر نسبة لعلم لبنان، ولم يتم رفع أعلامٍ، سوى العلم اللبناني، واليوم في سورية يتم رفع الأعلام السورية وليس الحزبية، ويتم رفع صور الرئيس السوري بصفته رئيسا وليس بصفة حزبية.

كل حضارة تتعلم مما سبقتها، ولا شك أن السوريين تعلموا من خلال رؤيتهم لوسائل الإعلام، أن الأساس هو البلد وليس الطائفة، والدولة وليس الحزب، والرئيس وليس صفة سياسية له، وفي هذا المنطق، لا بد أن أقف محترما القرار السوري ورئيسه والدولة التي يمثلها، كما أحترم اللبناني الذي يسعى إلى بناء البلد من خلال مؤسساته الرسمية أو منظماته الشعبية أو أية جهة تمثل قيمه وأخلاقه.

في مقولة قرأتها تقول " إن الوطني الصادق يتألم لدخول أية قوة غريبة إلى أراضيه، ولكن الأمر في لبنان وصل إلى حد أصبح فيه تدخل قوة صديقة أمرا ضروريا لإعادة الأمن إليه "

هذا الكلام صدر عن السيد بيار الجميل (رحمه الله – رئيس حزب الكتائب اللبناني وقتها ووالد الرئيس اللبناني السابق أمين الجميل) بعد اجتماع عقدته الجبهة اللبنانية في زوق مكايل يوم 5 حزيران 1976 تأييدا للمبادرة السورية حينها في دخول لبنان لوقف الاقتتال الطائفي. ولا أعتقد أنه كان يقصد قوى صديقة من بلاد الواق الوق طبعا.

كما أنه خلال هذه الفترة كنت أواظب على الاستماع لإذاعة صوت لبنان، فسمعت ما حرفيته المطبوعة في ذهني " لولا سورية، لولا سورية، لولا سورية، لكنا كفرنا بالعرب والعروبة والعربان" وكان هذا الكلام بعد دخول القوات السورية لوقف الاقتتال في لبنان، وما تلاها من أحداث في تل الزعتر وغيرها الكثير. وفي هذا الوقت سمح الرئيس السوري السابق حافظ الأسد (رحمه الله) للبنانيين، بالعمل في سورية وسمح لسياراتهم الخاصة بالعمل كسيارات أجرة وسرفيس، وكنت حينها – طالباً في الجامعة – أتعمد الصعود في السيارات اللبنانية، للاستماع منهم عن الأهوال التي تعرضوا لها، وكم سمعت منهم الشكر للرئيس السوري حافظ الأسد الذي ببصيرته ومواقفه يحاول إيقاف الاقتتال بينهم. وهذا يعني أن مقولة وقف الاقتتال بين الفرقاء في لبنان، ليس بدعة سياسية بقدر ما هو حقيقة واقعة.

لا يجب مطلقا أن يتم الاعتقاد بأنني من متزلفي السلطة أو أنني منتمي الى حزب ما، فأنا خارج الأحزاب السياسية مع علاقاتي الممتازة بهم، ولست، ولن أكون متسلقا أو طامعا في منصب، إنما كل ما أبغيه، هو توضيح الرؤيا ليس للشعب اللبناني فقط ، بل للشعب السوري.

اليوم تغير ديكور المسرح السياسي، وتغير الممثلون، لا بل تغيرت المسرحية بحد ذاتها، فاسمع اليوم أن الدخول السوري إلى لبنان كان بتفويض أميركي وأن هذا التفويض انتهى، لينسى الكثير من السياسيين، أن مؤتمر القمة العربي المنعقد في تشرين الأول 1976، قام بتشكيل قوات الردع العربية ذات الهدف الواضح لوقف الاقتتال في لبنان، وقد شهد المؤتمر تجاذبا حول تكوين هذه القوات، فقد أبدى الرئيس حافظ الأسد آنذاك، استعداد سورية للتخلي عن المساهمة في القوات المقترحة إذا ما تقدمت سائر الدول العربية بمشاركة من جندها، توفير كامل العدد المطلوب أي ثلاثين ألفا أو تقديم العدد المطلوب بكامله من قبل الجيش السوري إذا أعرضت سائر الدول العربية عن المساهمة في تلك القوات، وكلنا نعرف أن قوات الردع تشكلت بغالبيتها من القوات السورية بعدما أعرضت كل الدول العربية عن المساهمة الفعلية في هذه القوات، واكتفت بتمثيل بسيط لها. ودون أن ننسى أن هذه القوات تم التوافق عليها من عدة جهات عالمية .

لا شك أن دخول قوات الردع العربية بغالبية سورية، كان لها صدى ايجابي في شارع واستنكاري في شارع سياسي آخر ومعارض عنيف في شارع ثالث ، ولا شك أن الدخول إلى لبنان، إذا كان باعتقاد البعض، أنه يصب في مصلحتهم ، فقد كان باعتقاد الآخرين أنه ضد توجهاتهم ، وهكذا…، إلا أن الكثير من العقول السياسية ، لم تعط أهمية للمعادلة والموافقة السورية في الدخول وتحمل الأعباء، فكان كل طرف – وما أكثرها في الحرب اللبنانية – يغني على ليلاه ، فمن يريد من القوات السورية العاملة في قوات الردع أن تدافع عن فريق، كان الطرف الآخر يريد أن تضرب هذا الفريق، ولم يفكر أحد بمصلحة لبنان، معتقدا أن مصلحته الشخصية هي من مصلحة لبنان، مرددا قول روكفلر عندما سأله مجلس الشيوخ الأميركي عن كيفية اختياره بين مصلحة شركة جنرال موتورز التي يرأس مجلس إدارتها وبين مصلحة الولايات المتحدة الأميركية التي سيتسلم منصب نائب رئيسها، فأجاب بكل هدوء، بأن مصلحة أميركا هي من مصلحة شركة جنرال موتورز.

إن الغالبية التي قرأت تاريخ لبنان، تعلم كيفية نشوء دولة لبنان، والمخاضات العسيرة التي رافقتها، بدءا من ضم الأقضية الأربعة مرورا بتشكيل المجلس النيابي ووصولا إلى هوية الرئيس. وكلنا يعلم كيف استقر الوضع على أن يكون رئيس لبنان مسيحيا بهدف حماية المسيحيين في لبنان ففي برقية أرسلها من لندن إلى الجنرال كاترو في بيروت في 28/10/1941 أكد الجنرال ديغول فيها موافقته على تثبيت الرئيس الفرد نقاش رئيسا للجمهورية طالبا منه حماية المسيحيين " فعلينا قبل كل شيء وبصورة خاصة أن نحتفظ لفرنسا بالوسائل التي تكفل لها بصورة دائمة وفعالة حماية المسيحيين في لبنان "

ولا ننكر أن فكرة الوطن المسيحي – وأنا هنا لا أقصد إثارة ما بقدر ما أقصد توضيح الملابسات – أقول أن فكرة الوطن القومي المسيحي كانت تدغدغ مشاعر بعض رجالات الدين ، فمطران بيروت اغناطيوس مبارك، وفي 5 آب 1947، بعث برسالة إلى هيئة جنيف الدولية المكلفة بدرس المسألة الفلسطينية، داعيا بقوة لإقامة وطن يهودي في فلسطين ووطن مسيحي في لبنان، فاستاء الفاتيكان من ذلك، لتمسكه بالصيغة الإسلامية- المسيحية، وأعلن بطلان ما دعا إليه المطران مبارك (الذي كان في عام 1943 من اشد أنصار الاستقلال اللبناني)

أنا لا أكتب هذا الكلام – مكررا – بغية الإثارة اللحظية أو الدفاع الغوغائي، بقدر ما هو وضع النقاط على الحروف، ولأجل ذلك أقول أن القوات السورية التي دخلت إلى لبنان في مرحلة ما، لم يكن هدفها السيطرة أو الضم أو القضم وغيرها من المصطلحات والتعريفات الموجودة في القاموس السياسي، إلا أنه حدثت تجاوزات من البعض، ولا يجب أن ننكر أنها تجاوزات كبيرة، لكن هذه التجاوزات تفاعلت مع ضعاف النفوس من الطرفين السوري واللبناني، فجعلت المصالح الشخصية تتقدم على المصلحة العامة، وكثرت الخيانات والتزلفات للأقوى وقد قلت ذلك أمام البطريرك الماروني مار نصر الله بطرس صفير في 12/8/2004 عن " أولئك الذين اتفقوا على العمالة واختلفوا على العمولة ".

كثيرون – ومن كل الفئات والقوميات – الذين تبرعوا بإيصال الرسائل بين سورية وبين كل المناطق اللبنانية وبالعكس، كانت تحدوهم الرغبة في لعب دور ما يعطيهم اللمعان اللازم لارتقاء المناصب، وقد كانت مصالحهم الضيقة تسير بهم، وليس مصلحة لبنان أو مصلحة سورية ، وقد كانوا بغالبيتهم يتكلمون حول الوحدة الوطنية والمصلحة العليا والكلمات الأخرى الكبيرة التي نستخدمها حسب الظروف السياسية، دون أن يعالجوا الأسباب المتعددة الحقيقية المتخفية وراء صراع بدأ قبل الاستقلالين اللبناني والسوري ولم ينته بعد، ومن هذه الأسباب كان بعضها لا تتم المجاهرة به والبعض الآخر لا تتم معالجته بصدق، بل نعالج الكثير من هذه الأسباب بالتخدير فقط دون إزالة مسببات الألم.

هل سنبقى نخاف من المجاهرة علنا بما يتأجج في الصدور، أليس هناك خوف مسيحي في لبنان وسورية معا، من الهجرة المتزايدة بينهم وتراجع النسبة العددية لهم في لبنان، بعد أن أصبحت النسبة العددية للمسيحيين في سورية تتراوح بين 6 – 7 % ، كما أنه بالمقابل أليس هناك شك إسلامي بوطنية المسيحي وعدم ارتباطه بجهات غربية، ولا ننسى البيان الختامي للمؤتمر الأول للبطاركة والأساقفة الكاثوليك في الشرق الأوسط الذي عقد في أيار 1999 وكان من بياناته " يتحمل المسلمون مسؤولية كبرى لأنهم الأكثرية، في طمأنة المسيحيين باعتبارهم جزءا لا يتجزأ من الجماعة الوطنية، بكل ما لهذه الجماعة من حقوق وواجبات" إضافة إلى الشك المسيحي من المسلمين لتضامنهم مع كل المسلمين في العالم على حساب تضامنهم مع مسيحيي الوطن، وعدم اطمئنانهم من بعضهم البعض حول مفهوم المواطنة لدى كل فئة.

هذا بعض يسير من الأسباب الفعلية التي تعتمر في صدور كل طرف لبناني ، وهي نفسها تعتمر الى حين في الأطراف الأخرى فماذا تم تجاهها، غير البروتوكولات الشكلية التي تندرج ضمن الزيارات الرسمية والولائم والقبلات التي لا شك أنها ضرورية في مرحلة ما ولكنها بالتأكيد لا تبني أوطاناً، وخاصة بوجود شريحة واسعة من الفاسدين والمفسدين والمتسلقين الذين صنعتهم مصالحهم الشخصية، هذه المصالح التي أفسدت العلاقة بين دولتين جارتين مثل سورية ولبنان، والتي قد تكون بالأساس – بالمعنى الدبلوماسي – علاقة غير موضحة المعالم تماما، وتحول نتيجة ذلك دخول القوات السورية العاملة ضمن قوات الردع العربية من قوات ذات هدف واضح لوقف الاقتتال الطائفي، إلى قوات حاول الكثر استخدامها للتسلق السياسي والمادي في لبنان وسورية، ولم يكن هذا في فكر الرئيس السوري حافظ الأسد، بل لقد تم امتداحه في بدايات الأزمة اللبنانية وهو لم يطلب ذلك، فقد قام وفد من الجبهة اللبنانية قوامه الرئيس سليمان فرنجية والشيخ بيار الجميل بزيارة دمشق في 18/1/1977 حيث التقى الرئيس الأسد ولدى عودته إلى بيروت صرح الشيخ بيار الجميل قائلا :"كلما تعرفنا إلى الرئيس الأسد، أحببناه واحترمناه . هناك أناس تحبهم ولا تحترمهم وهناك أناس تحترمهم ولا تحبهم وهناك أناس تحبهم وتحترمهم في آن واحد الرئيس حافظ الأسد نحبه ونحترمه"

ما الذي تغير سوى تضارب المصالح الذي بدأ بعد ذلك الوقت؟ لا ولكنني أستطيع فهم العتب السوري على اللبنانيين، وأنا بالتأكيد لست من محللي السياسة السورية تجاه لبنان أو سياسة لبنان تجاه سورية، لكن القليل من جولات الأفق تنفع، والمصارحة الحقيقية تحل العقد قليلا، فلقد اعتقد المسيحيون في لبنان أن سورية هي لمصلحتهم، كما اعتقد المسلمون أن القوات السورية أتت فقط لحماية المسلمين، لا بل أن الترحاب المسيحي بالعلاقة مع سورية، حسب مقالة قرأتها في جريدة النهار يوم 18 تموز 2004 ولم أقرأ نفيا لها ، كانت إلى مرحلة إطلاق بيار الجميل عبارة " سورية الأسد " واقتراح الرئيس كميل شمعون سنة 1977 كونفيديرالية لبنانية – سورية وفق حديث للرئيس حافظ الأسد في 28/12/1985 لدى استقباله وفدا لبنانيا كان كاتب المقالة السابقة في جريدة النهار ضمن أعضائه .

لا شك أن الأخطاء كانت كبيرة، ولا شك أن بعض اللبنانيين، مدفوعين من أطراف لها مصالح في تشويه العلاقة بين الشعبين وليس بين الحكومتين، أقدمت على ردات فعل، ولكن ألا نرى أن ردات الفعل هذه لا ولن تعبر عن محبة المواطنين اللبناني والسوري لبعضهما البعض .

كلنا نطالب بكشف الحقيقة حول مقتل – ليس فقط الرئيس الحريري – بل كل الأشخاص الذين تم قتلهم دون معرفة الجناة، وكلنا نطالب بتصحيح كل الخلل أينما وجد، في كل مرافق الدولة اللبنانية والسورية، ولا أنكر، أنني أتكلم عن التجاوزات التي يقوم بها أفراد لمصالحهم الشخصية، تحت ستار مناصبهم، ولكنني لا أقبل بأن يتم الخلط بين أفراد بمصالح شخصية يتخفون تحت ستار دولة وبين دولة ورئيس على الأقل حاولت – صادقة – منع اقتتال بدأ فعليا منذ زمن بعيد.

اللهم اشهد أني بلغت