علامة حلب الأكبر خير الدين الأسدي 1900ـ 1971م
لا يكاد يوجد كاتب في العالم أرخ لمدينته « بظروفه » ، بهذا الكم الهائل من المعلومات ، وبعمل منفرد ، ويد واحدة وبفقر مدقع على مدى خمسين عاماً

 

 

      علامة حلب الأكبر خير الدين الأسدي 1900ـ 1971م
     عاش فقيرا ومات فقيرا ، ودفن دون أي مراسم تذكر .
     قال خير الدين الأسدي علاَّمة حلب وأحد رموز حلب :
    « كل ما أملك تقدمة إلى مدينتي حلب ، التي أحببتها وعقتني ، وخلّدتها ونفتني ».


بقلم عامر رشيد مبيض ، مؤرخ حلب عالم آثار Aleppo

صقر المؤرخين ونسر العلماء في اختصاصه ، معه تتسلق أعلى القمم ، وعلى جناح عبارته تجوب تاريخ حلب القديم والحديث بغير ما كلفة أو تعب . كانت حياته موزعة على مراحل ، كما توزع حياة القمر في منازل . كان بحق دائرة معارف تاريخية ولغوية وحضارية وهو من القلائل الذين يستحقون لقب العلاَّمة .

ـ وهب حياته لوضع رموز النطق للهجة الحلبية ، كان منهجه التوثيقي يقوم على اللقاءات المباشرة ، وكان دائماً يهرول نحو ذاكرة يقبس منها التأريخ . لم ينل في حياته منصباً ، ولم يجن ثروة من مال ، فقد تحولت إلى كتب ، وظلَّ كذلك إلى آخر أيام حياته . كان باراً بمدينته ، لم يفكر أن يجلس في مكتب أرستقراطي ، بل تجول في المدينة ، ظاهرها وباطنها ، باحثاً عن كنوزها وجواهرها ، فتحصل على معلومات كان يمكن أن تذهب في عالم النسيان .

ـ كان أستاذاً من الجهابذة الكبار ، ذا وجدان مسلكي رفيع . أحب حلب حباً عظيماً استحوذ على جوانب نفسه ، مما جعله يهتم بكل ما يمت إلى حلب ، في التاريخ والجغرافيا والأدب ، وفروع المعرفة المختلفة كافة . سمى نفسه « حافظ القرن العشرين » فقد كان من رواد الشعر المنثور ، متأثراً في ذلك بالشاعر الفارسي « حافظ الشيرازي » .

ـ إن الأسدي لم يزعم أنه كتب ما سمي فيما بعد بقصيدة النثر ، وإنما زعم أنه كتب شعراً منثوراً ، والفرق واضح ، فقد كان يعلم أنه نثر توشيه الأخيلة والصور والومضات الروحية ، ولهذا لم يجرؤ على تسمية كتابه « أغاني القبة » باسم ديوان ، لأنه كان يعرف الحدود الفاصلة بين الشعر والنثر ، ولكنه مع ذلك إنما أراد أن يثبت لأقطاب الشعر في عصره أن هناك نثراً لا يقل عن الشعر بهاء وجمالاً . « من مقابلة مع الشاعر محمد كمال نشرت في جريدة الأسبوع الأدبي في 28 / 9 / 2002 العدد 826 » .

ـ آراؤه رائدة ، وثقافته تكاد تقتصر على الأفراد القلائل في الوطن العربي والذين يعد كل واحد منهم « أمة وحده » .

ـ بحاثة لغوي انقطع إلى العلم ، فزهد في الحياة والزواج ، حتى بلغ ما أنجزه من مطبوع ومخطوط حداً يكاد يكون معجزاً .

ـ إنه أول من نادى بنظرية الصرف المقارن بين اللغة العربية وأخواتها اللغات العربية القديمة كالكنعانية ، وغيرها . وألف في تطبيق هذه النظرية كتاباً يتناول فيه « فعلي العدم والوجود » « أيس وليس » . إنه من أوائل الذين كتبوا الشعر المنثور ، في وقت كانت الكلاسيكية الجديدة ، ما تزال تهيمن على عالم الأدب ، وكانت محاولات التجديد في الشعر لم تزل تحبو وئيدة متوجِّسة ، وله في ذلك كتاب يضم خواطر روحية قريبة من الشعر الصوفي بعنوان « أغاني القبة » . كانت داره متحفاً ومعرضاً للفنون الجميلة ، بما فيها من لوحات وتحف أثرية وفنية . موسوعته بلغت بعد طباعتها سبعة مجلدات ، ولم يتخل عنها ، حتى في أحلك ظروف حياته الصحية والمعيشية .


ـ من أقواله :
« كل ما أملك تقدمة إلى مدينتي حلب ، التي أحببتها وعقتني ، وخلّدتها ونفتني » .
وقال : « أتناول كسرة من الخبز من مائدتي ، مبللة بدموعي ، ولكم دعوت « جبريل » إليها فلبَّى ، ولزَّنا دفء الوداد » . أطلق مجلس مدينة حلب اسمه على أطول شارع في حلب من جسر الحريري حتى جسر الرازي « ذهاباً وإياباً » .

ـ ولد محمد خير الدين الأسدي عام 1900 في حلب ، بحي الجلُّوم لأبوين حلبيين، كان والده عمر أرسلان ، وأمه أسماء شماع . كان والده رجل علم وعبادة وزهد ، وقد غيَّر كنيته إلى أسدي تعصباً لعروبته ، لأن « أرسلان » التركية تعني أسداً ، وكانت أمه من عامة الناس ، رأسها محشو بالأمثال والخرافات، وقصص الجان . نشأ الأسدي في بيت غير متجانس ، تحكمه الخلافات ، ودرس المرحلة الابتدائية في مدرسة « شمس المعارف » ثم انتقل إلى المدرسة العثمانية ، التي كان والده يُعلِّم فيها . انخرط في سلك التعليم عام 1920 . كان مضطراً للعمل كمعلِّم حتى آخر يوم من حياته وذلك لضيق ذات يده ، ولما كان ينفق من أجل سياحاته بل من أجل البحث والمعرفة .

ظهرت موسوعته ، وهي بعنوان » موسوعة حلب المقارنة «عام 1981. عمل على تحقيق الموسوعة مرتين العلامة الكبير الشاعر محمد كمال وبجهود فردية جبارة ، المرة الثانية النسخة الألكترونية .

ـ الظروف الاجتماعية والسياسية والفكرية التي عاش فيها الأسدي . عاش الأسدي العشرين سنة الأولى من حياته إبان الحكم العثماني ، تلا ذلك ربع قرن في ظل الاحتلال الفرنسي ، ثم ربع قرن آخر في ظل الحكم الوطني بعد الجلاء . كان الأسدي من طبقة المثقفين ، الذين نادوا بإصلاح نظام التعليم ، فقد بدأ دراسته في إحدى المدارس الخاصة « شمس المعارف » ولكن والده أراد له أن يتابع تعليمه الثانوي في المدرسة الدينية التقليدية ، فألحقه بالمدرسة العثمانية حيث كان يعمل . بدأ حياته التدريسية معلماً للغة العربية ، وألف كتابه المدرسي « قواعد الكتابة العربية » عام 1922 . كان المجتمع السلطاني ركودياً لا يتأثر بمرور الزمن ، وكأنه يعيش خارج التاريخ ، وكان حظ البلاد في فترة الانتداب عاثراً ، إذ لم تتحسن أحوال الناس المعيشية ولا الثقافية ، ولم يتسع العمران، وهذا أمر طبيعي . وفي فترة لاحقة انتشر بين المثقفين هاجس التجديد ، وظهر أثر هذا التحول في الأدب والشعر ، فقلد الأدباء المدارس الغربية . وظهرت المدرسة الكلاسيكية الجديدة ، كما ظهرت المدرسة الرومانسية ، التي سعت إلى التملص من الحياة وضجيجها ، بالانكفاء على الذات ، والهروب إلى الداخل ، وتمجيد الأحزان ، والاهتمام بالمسائل الإنسانية أكثر من الاهتمام بالإنسان ، وبالشاعرية أكثر من الشعر ، ولم تكن الصوفية في تلك الفترة أكثر من نزعة رومانسية محلية تشجعها السلطة . وقد تأثر الأسدي بهذا الجو الفكري ، وكان تصوفه نوعاً من الرومانسية المفرطة ، ودخل في دوامة الشك والإيمان ، والثورة على التقاليد ، وامتنع فترة عن أكل اللحوم ، ولكنه ظلَّ في بعض كتاباته وأبحاثه متأثراً بالمنهج العلمي ، الذي كان سائداً في الغرب ، ولا سيما في موسوعته ، غير أنَّ منهجه العلمي ظلَّ وصفياً في معظمه لا يربط الحوادث بأسبابها وجذورها الاجتماعية والاقتصادية . كان الأسدي في فترة الانتداب الفرنسي من أوائل معلمي اللغة العربية ، درَّس خلالها في الكلية العلمانية ، وبعض المدارس الأجنبية ، وفقد عمله عام 1946 وفي هذه الفترة كتب « البيان والبديع » وترجم بتصرف « عروج أبي العلاء » .

ـ شخصية الأسدي :
كتب الأسدي يصف نفسه : « وديع ، سمح الأخلاق ، حلو المعاش ، حبيب إلى كل القلوب ، نظامي ، دقيق ، قليل الكلام ، متأن ، عاشق للجمال ، تأسره الكلمة اللطيفة ، شيخ طفل ، سريع الغضب ، سريع الرضا ، ذو عزيمة وإصرار ، معتز برأيه عن ثقة واطلاع لا عن تعصب ، نظيف على الرغم من فقده ليده وتوحُّده ، صبورٌ على الألم ، ذو شخصية قوية ، شديد الهيبة في شبابه ، جليل القدر في شيخوخته ، لا يقبل منة أحد » . وهذا نص من أغاني القبة من « سورة الحكمة » : وهو شعر منثور له خصوصيته الفنَّية والروحيَّة يلقي الضوء على أدب الأسدي . يقول :
« لا تَشْكُ دهرك ، لقد طبعت على غير سننه ، وحسبك عنده ، منار العلم وعطر النبل ، جريرة وذنبا ، سأرفع رأسي عن دنيا الوضيع ، في شمم وكبرياء ، وسأكون في شممي وكبريائي مجيداً في جنة نفسي ، هدية الروح من يد الطهر ، تسلمتها ، وسأردها نقية ، لا رين ، كلا ولا تأثيم . أتناول كسرة من الخبز من مائدتي مبللة بدموعي ، ولكم دعوت جبريل إليها فلبى ، ولزَّنا دفء الوداد » . من قراءة هذه السطور نستنتج أن الأسدي كان يعتد بنفسه ويزهو بها زهواً كبيراً ، مما يقربه من الشخصية النمطية المعروفة بالشخصية النرجسية . ومن أهم مكوِّنات هذه الشخصية هو الظلم الاجتماعي ، والطفولة القلقة البائسة في أسرة مفككة ، وكان حظ الأسدي من هذين العاملين كبيراً.

ـ لم يتزوج الأسدي ، إذ عاش كل حياته متوحداً عزباً ، مارس الجنس ممارسة رمزية وفي الخيال ، وصور أغاني القبة تشهد على ذلك . تأثر الأسدي إلى حد التماهي ، بشخصية الشاعر الفارسي حافظ الشيرازي ، وفي هذا التأثر يكمن مفتاح شعر الأسدي ، وكان الشيرازي شاعر العرفان والرندية . يقول حافظ : إنني لم اسمع أجمل من صدى العشق ، صوتاً تحت هذه الخيمة المدورة = الرند كلمة فارسية لها مدلول واسع وفق العاشق اللامبالي المتحرر من كل القيود ، ومع الأيام أصبحت الرندية مقاماً للعشق الإلهي غير المحدود .


ـ خير الدين الأسدي :
كان به ميل إلى المسرح والتمثيل ، ففي عام 1923 أخرج لطلابه مسرحية « استقلال أمريكا » وفي ليلة العرض انفجرت كمية من البارود في يده اليسرى ، مما أدى إلى بتر كفه ، فأمضى حياته يعاني من مشقة العيش والكتابة بيد واحدة. كان شديد الولع بالآثار، كما ضمت خزائنه مجموعة من الصور الأثرية الفريدة يربو عددها على أربعين ألف صورة . ولذلك كان من أبرز العاملين على تنشيط النهضة الأثرية في حلب حتى انتخب عام 1950 أميناً للسر في جمعية العاديات، كان يجيد اللغات التركية والسريانية ويلم بالفرنسية ، وبلغات أخرى .

آثاره ومطبوعاته :
1ـ البيان والبديع 1936. 2ـ عروج أبي العلاء 1940 . 3ـ قواعد الكتابة العربية ،4ـ الجانب اللغوي من الكلمة 1951 . 5ـ أغاني القبة ، 6ـ يا ليل . 7ـ أحياء حلب وأسواقها 1957 .
ـ مؤلفاته المخطوطة :
1ـ الله ، 2ـ أيس وليس ، 3ـ الألف ، 4ـ الموسوعة في النحو ، 5 ـ تاريخ القلم العربي . هذا فضلاً عن العديد من المقالات اللغوية والأدبية، التي نشرت في بعض المجلات ، وله أحاديث أذيعت من إذاعة حلب .
ـ الموسوعة « موسوعة حلب المقارنة » : كان للأسدي فضل الريادة في وضع رموز النطق لهذه اللهجة الحلبية ، وهي لا تعدو أن تكون رديفاً للحركات المعروفة في الفصحى ، جمع المؤلف كل ما يتصل بلهجة حلب المحلية ، وما تشتمل عليه من تشبيهات واستعارات وكنايات ومجازات ، ووسائل تعبير أخرى ، كما ضمت كل ما يمتُّ إلى أهل حلب من معتقدات وخرافات وحكايات وما يدور على ألسنتهم من أناشيد وأشعار وأغنيات ، ثم ما كانت عليه ملابسهم ومطابخهم ، وما كان حول حلب من بواد وقرى ، ولم يغفل ذكر أحيائها وبعض الأسر المعروفة فيها ، إلى جانب ما يطالع القارىء من نوادر أهل حلب وأهازيجهم وعاداتهم وأمثالهم وحكمهم مما كان شائعاً ومايزال ، كل ذلك معروض بأسلوب العالم المحقق والباحث المجرب ، فلا عجب إذا علمنا أن الموسوعة قد نالت من عمر المؤلف أكثر من خمسين عاماً . والموسوعة هي كتاب كبير جداً ، وعمل لا مثيل له في العالم ، بل إنه لا يكاد يوجد كاتب في العالم أرخ لمدينته « بظروفه » ، بهذا الكم الهائل من المعلومات ، وبعمل منفرد ، ويد واحدة وبفقر مدقع على مدى خمسين عاماً . مع أنه كان يدافع عن الفصحى وينفر من العامية .

ـ اشتد به المرض ، فاستقر في مشفى المبرة « دار العجزة » حيث توفي عام 1971 ودفن دون أي مراسم تذكر ، في مقبرة الصالحين ، ونبش قبره ، ودفن فيه شخص آخر ، ولا يوجد شخص واحد في حلب يعلم في أي قبر دفن فيه ، كما علمت مؤخراً حتى لو تكهن البعض بمعرفة القبر .