في صحبة أنيس منصور كانت لي أيام … بقلم الصحفي عبد الواحد محمد: لم يرحل الأستاذ أنيس منصور لأن إبداعاته جسر لعبور كل من يبحث عن تاريخ مصر الثقافي ورؤية عالم مختلف من روائع كل زمن اختلفنا أو اتفقنا لأنها تجربة أديب كبير ورؤية لها نقد

في صحبة أنيس منصور .. كانت لي أيام!

يفيض بكثير من الذكريات الشخصية في عالم الأدب والفن والصحافة والسياسة من خلال قربه وصداقته بالرئيس أنور السادات.

بقلم: عبد الواحد محمد

إبداعات لم تكتشف بعد

لم ينسدل الستار برحيل الأديب الكبير أنيس منصور عن عالمنا الجمعة 21/10/2011 لكونه متغلغلا في حياتنا الثقافية بإبداعاته المتعددة والتي تعد صوت من لا صوت له وحكمة من يفكر دائما عن حلول لقضايانا الإجتماعية مهما اختلف الخطاب السياسي لرؤيته الماضوية والمستقبلية المبنية على وعي وخبرات تراكمية والتي كانت سمة الحوار القدري معه عند أول لقاء جمعني بالكاتب الكبير في صومعته بالطابق الرابع في مبني الأهرام ذات يوم من أيام شهر سيتمبر/أيلول من عام 1996 لإجراء حوار صحفي لم أعده مسبقا، ولم أفكر فيه بل كان وليد اللحظة ومن باب لم يغلق (المنصورة) التي شهدت مولده وعبر هذا الرباط الملهم بصفتي أحد ابنائها الذين بهرهم عمنا أنيس منصور صغيرا وشابا يافعا.
كان اللقاء الحلم أشبه بالمستحيل والذي تمثلت في ذاكراتي كل روائعه وكل روائع من سكن إليهم في رحلة الصعود نحو قمة الهرم الثقافي بكل تحد وكبرياء من وهب نفسه للبحث والتنقيب عن عالم الإنسان إنه شمس الحقيقة التي لا تغيب.

مرت الدقائق مع نبضات قلبي الذي يهتز بين حلم وواقع عندما وجدت نفسي واقفا أمام مدير مكتبه نبيل عتمان في الطابق الرابع من مبني الأهرام الكائن موقعه في شارع الجلاء والمطل على معهد الموسيقى العربية والقريب من شارع الصحافة الذي يضم مبني صحيفة الأخبار التي اسسها مصطفي وعلي أمين عام 1944 مرتجفا مع عرق غزير ينهمر من وجهي الخمري كأنني غير مصدق بما قطعته من ساعات من مدينة المنصورة حتى وصلت إليه في مبنى الأهرام العريق (أمتحان عسير) وكأن مدير مكتبه أبن الشرقية نبيل عتمان على علم بقدومي هكذا بدا لي وظننت منذ الوهلة الأولى بعدما رحب بي ترحيبا حارا لم أكن أتوقعه عندما علم أنني بلديات الاستاذ أنيس منصور، وجلست وسط حفاوة كبيرة من مدير مكتبه أنستني الشعور بالرهبة التي سيطرت على كل مشاعري التي تترقب لقاءه التاريخي باعتباره أحد فرسان ثقافتنا العربية مع جيل العمالقة محمد حسنين هيكل .. يوسف السباعي .. طه حسين .. توفيق الحكيم .. نعمان عاشور.. يوسف أدريس . .. محمود حسن اسماعيل .. أم كلثوم .. صلاح جاهين .. مفيد فوزي .. مصطفي أمين .. نجيب محفوظ .. وكبير مصوري الاهرام محمد يوسف .. عبدالحليم حافظ .. وغيرهم من ذكريات مرت بين دفتر لا يقرأ إلا من باب داخلي؟

صوت مدير مكتبه يقطع حبل أفكاري بالسماح لي بالدخول إلى صومعة الاستاذ أنيس منصور أتفضل (استاذ عبدالواحد) نهضت على عجل شاكرا حتى أحظى بشرف اللقاء ودلفت من الباب الأمامي لمكتب مدير مكتبه دمث الخلق متجها إليه بشوق وحنين، وهو الواقف بدمه ولحمه وشحمه لكي يستقبلني باسما ومرحبا بدرجة أزالت كل شعور بالرهبة وكأنني أمام شخص أعرفه منذ زمن.

يمد يده لي مصافحا في مودة وتواضع وكبرياء المثقف الذي يدرك دوره المؤثر في حياة الشباب.

وجلست في الكرسي الذي يتوسطه منضدة دائرية مطلا على مكتب الاستاذ أسود الشكل وبجواره شماعة عليها جاكته الصيفي الشخصي الأبيض المقلم بلون رصاصي وبدون رابطة عنق لكونه لا يفضلها، يضيق بها، كما يضيق بالشتاء وبرودته التي كانت سببا في البحث الدائم عن علة لمرضة التنفسي والحاجة الدائمة للغطاء الوفير، فكما كان يقول تجدني ملتحفا بمرتبة السرير والبطاطين؟

حائرا بين شك ويقين هل أن حقا في صحبة أنيس منصور الذي تتلمذت على يديه أديبا ناشئا التهم روائعه التي مازالت كنزا ثريا لكل قراء الضاد في أوطاننا العربية ومنها "الذين هبطوا من السماء. مذكرات شاب غاضب. مذكرات شابه غاضبة. عبدالناصر المفتري عليه والمفتري علينا. الخالدون مائة أعظمهم محمد رسول الله. 200 يوم حول العالم. الحائط الرابع. وحدي مع الآخرين. نيتشه فيلسوف الوجودية. حلمك ياشيخ علام. أوراق وأشجار". وعموده اليومي المعروف (مواقف) في الأهرام والذي يضم كثيرا وكثيرا من صور اجتماعية تنم عن مدى التحامه بقضايا العصر مبدعا وناقدا لعالم المرأة بكل أطوارها زوجة وحبيبة وأم لها حقوق وعليها واجبات من خلال فلسفته التي جعلته في قلبها نموذجا للمتمرد العاشق دائما وأحيانا مشاكسا بدرجة تثير حوله العديد من الأقاويل والظنون ربما أكثر من توفيق الحكيم!

وتذكرت رحلته الأولى على سطح أحد المراكب في جولة لأوروبا والتي كانت تضم النجمة السينمائية الجميلة والفاتنة لبني عبدالعزيز خريجة الجامعة الاميركية، وصديقه كمال الملاخ مكتشف مركب الشمس لأسطورة كل عصر (الهرم) الأكبر فعرف مبكرا كيف يجمع بين نقيضين من الجمال والصداقة وعلاقة الرجل بالمرأة وكان الشعر بينهما لسان حاله وهو يترنم ببعض ابيات الشاعر الكبير محمود حسن اسماعيل في رائعته "الكوخ"، حقا كانت جعبتي حبلى وتضم كثيرا من ذكريات طالعتها صغيرا علي صفحات الجرائد والمجلات وخاصة مجلة الشباب ومجلة اكتوبر التي رأس مجلس إدارتها وكانت تجسد فلسفة صحفية جديدة واكب بها عصر الاعلام المقروء لتضم ابناءه الروحيين ومنهم الاديبة والصحفية الشابة في ذاك الوقت منى رجب مدير تحرير الاهرام حاليا، ماهر فهمي، اسماعيل منتصر رئيس مجلس إدارة أكتوبر حاليا، وغيرهم من طاقات صنعت تاريخا صحفيا بلا قيود عبر مؤسسات الصحافة والإعلام والتليفزيون والإذاعة بمفهوم قائم على المعاصرة وبتشجبع من الأستاذ الكبير أنيس منصور الفيسلوف المبدع.

هكذا تذكرت صفحات منصورية قبل حواري معه والذي تولدت فيه تلك الملامح بعدما اكتشفت أنني مع أنيس منصور (المنصورة) والإنسان الذي لا تشعر معه إلا بصداقة سريعة تنبيء بمستقبل يحمل ملامح غير واضحة لمن لم يقترب منه!

يعرف الكثير والكثير بدون إثارة هكذا تخرج منه الكلمات من القلب بخلاف السطور التي ربما فتحت عليه النار لكونه مؤيدا لسياسة كامب دافيد وأحد المقربين من الرئيس السادات ونظامه!

وهو يفيض لك بكثير من تلك الذكريات الشخصية في عالم الأدب والفن والصحافة والسياسة من خلال قربه وصداقته بالرئيس المصري أنور السادات الذي كان يصفه بالمعلم رغم تحفظاتي الشخصية على من صنع السلام مع إسرائيل التي اغتصبت القدس، وشردت وطنا بالزيف وعبر الأدعاءات العبرية الصهيونية التي لم تجد رواجا مقنعا لدى طفل عربي صغير؟

ورغم كل الصخب الإعلامي العالمي بين كارتر والسادات ومناحم بيجن الدموي في مرحلة تمزيق الجسد العربي التي لوثت كثيرا من تاريخ نأمل أن نستعيده مع من تبقى من حلم في ظل عولمة وثورات الربيع العربي الذي لها ألف سؤال!

بين حيرة في ملامح مستقبلية تدعو لقراءة تلك الثورات من باب حيادي لأننا جمعيا سئمنا من اغتصاب السلطة في اوطاننا العربية وتخلفنا المتعمد رغم وجود العديد والعديد من الهامات والعلماء المبدعين الذين غيروا وجه الحياة في أوروبا واميركا بمكون معرفي وعلمي جعلهم في صدارة المشهد السياسي ونحن من ورائهم نبدو مبتوري الأقدام وخرس الألسنة؟

كان السادات في أكتوبر 1973غير السادات الذي صافح أعداء الأمة العربية في ذاكرتي الشابة من أجل فرقة دفعنا ثمنها جميعا كمصريين وعرب؟ ونحن نبحث عن حلم يعيد لنا شمس الحقيقة الغائبة، ليبقي السادات في ذاكرتي مغتصبا للحلم مقابل سلام هلامي، وهذا ما اختلفت بسببه مع الأستاذ أنيس منصور وتركت الزمن يرد عليه وعلى من كانوا يؤيدون صانع الوهم؟!

لكن كان ما أبهجني حقيقة هو دأبه ووعيه بكل قضايا عصره من خلال ثنائه على نجم كرة القدم المعروف وابن الدقهلية شفاه الله واعاده سالما من رحلة علاجه بالمانيا محمود الخطيبب دمث الخلق والموهبة.

والدكتور محمد غنيم رائد زراعة الكلي في العالم العربي، والعالم الفذ فاروق الباز، والسياسي الداهية شقيقه اسامه الباز، وكروان الإذاعة المصرية محمد فتحي، وبلبل الالحان رياض السنباطي، والنجمة السينمائية فاتن حمامة، ونائب رئيس الجمهورية في عصر الرئيس جمال عبدالناصر الطيار عبداللطيف البغدادي، وكوكب الشرق أم كلثوم. ثم عاد من رحلته المنصورية ليفتح قلبه على عالمنا الكبير بعدما أخرجت من حقيبتي الجلدية المتواضعة مجلة (عيون الدقهلية) وكاسيت صغيرا، والمثير حقا أن مجلة "عيون الدقهلية" بهرته كطفل صغير تعلق بملابس العيد الجديدة التي أهدته له أمه.

لدرجة أخذت منه وقتا في تصفح أبوابها مما أشعرني بالسعادة الغامرة لاهتمامه بهذه المجلة الإقليمية! والتي كنت اراها في داخلي مجرد صحافة لكل مبتدئ مثلي ولن تجد الاهتمام الكبير من شخص بحجم أنيس منصور الذي جال وصال في العالم مرات ومرات وعيناه تلتهمان موضوعاتها، وكان من بين تلك الموضوعات حوار صحفي لزميل مع ابن الدقهلية العالم الكبير وشيخ الأزهر الراحل جاد الحق علي جاد في تلك الآونة كما كان يقدم فضيلته مقالا في كل عدد جديد يصدر لارتباطه هو الآخر بكل ماهو دقهلاوي.
كما كانت من بين كلمات الشيخ جاد الحق علي جاد هو حرصة على وحدة المسلمين، فالاختلاف المذهبي يثري العقل لا يضعفه؟

ربما كانت هذه سمة رجال عشقوا المنصورة وتصدروا المشهد المصري والعربي من خلال كعبة الثقافة (المنصورة) التي كانت دوما الملاذ لكل ما هو إبداعي وريادي ومن خلال مشاهدات حية لعالم أنيس منصور مع حوار حميمي وحماسي فيه متعة البحث والتنقيب عن عالم مجهول لشاب مثلي حديث العهد بالصحافة وعالمها ودهاليزها، فجلست في صومعته اسجل كل ما يقذف به عقله المكوكي ليكون هو حواري الصحفي الاحترافي الأول معه على صفحات مجلة "عيون الدقهلية" مع ثقة بالنفس واعتزاز بهذا الكيان الكبير عمنا انيس منصور الذي فتح قلبه وعقله بلا حواجز أمامي وهو يكشف كثير من اسرار ودهاليز السياسة العربية والعالمية بعدما أمرني بلهجة أبوية بغلق الكاسيت الصغير الذي كنت اسجل عليه هذا الحوار غير المرتب؟ لأن ما اسمعه منه ليس كله للنشر بل هو فضفضة أبوية ودروس للتعلم والمثابرة على المحن والشدائد. والذي هو ليس بحوار صحفي عادي وغير عادي بل برحلة لعالم أنيس منصور الإنسان والأديب والفيلسوف والسياسي والكاتب والباحث عن وطن. والذي كان حقا رحلة في صومعته التي تناسل فيها بعض من اصدقائه ومبدعي مصر الكبار الذي تفتح لهم دون أذن ومنهم الشاعر الكبير فاروق جويدة، والشاعر مصطفي الضمراني، ومدير مكتب الاهرام في موسكو في ذاك الوقت الصحفي حسن فؤاد، وابنته الروحية منى رجب، فوجدته على الفور يقدمني لهم بأنني بلدياته وأحد اقربائه فشعرت بفرحة غامرة لم اتذوق حلاوتها في رحلتي كثيرا وسط هؤلاء العمالقة الذين يمدون يدهم لمصافحتي بكل مودة وتركوا لي الحوار سجالا بيني وبين الاستاذ أنيس منصور، وهم يتبادلون بعض قضايا الساعة فيما بينهم بصوت منخفض. وكاتبنا الكبير يفيض شجونا وأنا بحماس الشباب أدلي في بعض من هذه القضايا ومنها قضية السلام مع إسرائيل ولماذا لا يتراجع فيها الرئيس السابق محمد حسني مبارك لأنها أضعفت الروح القومية وخاصة بعدما سقطت روسيا الشيوعية وحققت معاهدة (ماسترخيت) عام 1991 الوحدة الاوربية.

رغم كل الاختلافات المذهبية والطائفية واللغة لدول الوحدة الأوروبية كنت متحمسا حتى الثمالة أمام الاستاذ بحاجتي لمثل هذه الوحدة التي هي أملنا جميعا في عالمنا العربي.

أن أرى الحواجز قد سقطت بين ربوع الوطن العربي الكبير بإرادة شعبية وليست بإرادة الحكام التي لن تأتي مهما كانت شعاراتهم. لذا جاءت ثورات الربيع العربي بعد خمسة عشر عاما من حواري الصحفي معه ومن بطش وجبروت على أجساد وعقول أبنائهم الذين هم ثروتهم الحقيقية في البقاء أو الرحيل بلا جنازات مهيبة وبدون شمس وقنوات فضائية تزفهم لقبورهم الملكية.

وحدثت الاستاذ عن ابن بطوطة لو أنه اليوم في عصرنا ما استطاع التعرف على بلدان العالم العربي بسبب وجود عراقيل متنوعة ومتعددة أمام كل مغامر ورحالة فلماذا لا نستفيد من صناع الوحدة الأوروبية؟ أم سنظل كسالى في مراحلنا ولا نقدم سوى شعارات جوفاء، وهذا كان أحد مقالاتي الحماسية والشبابية التي كتبتها علي صفحات "عيون الدقهلية" بعنوان "بعيدا عن بيوقراطية جوفاء". والاستاذ يديم النظر لملامح وجهي وكأنه هو الآخر يستعيد صفحات مجهولة من عالم السياسة ربما كان مقتنعا بوجهة نظر شاب مثلي لكن للظروف أحكام!

وحاولت بعدما هدأ حماسي البعد عما يسبب حرجا للأستاذ من فرط حماستي الزائدة التي ربما لفتت نظر أصدقائه وتلاميذه ممن كانوا في صومعة عمنا أنيس منصور وجاءت كلماته كفيلسوف عندما طرق على رأسي بأنامله الحانية وبكلماته نحن كوطن كسالى نريد تحقيق الاماني دون جهد وعمل فالمقاهي سلوتنا وهي التي تمنحنا الإبداع فقط هكذا يظن كثيرون؟ وضرب لي عشرات الأمثال من قصص مفادها أن كثيرين يطمعون في تحقيق مناصب دون أن يستحقوها كذلك الدول الخ.

فالأستاذ معروف بدأبه منذ طفولته وتفوقه وهو الألفة (الأول) على المملكة المصرية في تلك الحقبة التي كانت مصر فيها ملكية وليس الفصل المدرسي أو المحافظة فكرمه وزراء العهد الملكي ومنحوه جوائز مادية ثمينة ؟

أتعبته حقا وهو لم يشعرني بذلك بل كان حنونا وحدثني عن العقاد عندما ذكرت كتابه القيم والموسوعي عنه "في صالون العقاد كانت لنا أيام" فلم يكن كتابا بل كان تاريخا لعمالقة الإبداع والفن والسياسة والدبلوماسية، فذكرت له بعضا من هؤلاء الذين جاءوا وولدوا عبر صالون العقاد للعالم العربي والعالم ومنهم .. الدكتور عبدالرحمن بدوي .. الدكتور الفيسلوف زكي نجيب محمود .. توفيق الحكيم .. الدكتور عبدالمنعم تليمة .. الفنان التشكيلي صلاح طاهر .. الروائي العالمي نجيب محفوظ .. السياسي الأخواني سيد قطب .. الشاعر الكبير محمود حسن اسماعيل .. الفنانة مديحة يسري .. زكريا الحجاوي .. احمد عبدالمعطي حجازي .. احسان عبدالقدوس .. الإعلامية الكبيرة ليلي رستم .. صلاح جاهين .. الموسيقار أحمد الحفناوي .. الأديب عبدالوهاب مطاوع , ومبدعي الضاد في الوطن العربي وآخرين من كواكب عصر وزمن جميل والاستاذ يوضح لي بعض النقاط في شخصية العقاد التي كنت مفتونا بها أنا الآخر بفضل عصاميته في بناء ثقافة جديرة بالوقوف عندها (كالأهرامات الثلاثة) عبر تتطور الأزمنة ومهما تعولم الفكر والعقل فسيظل العقاد الرمز في حياة كل مثقف عربي، وهكذا كان الاستاذ أنيس الشارح الأكبر لفكر العقاد يوما ما قبله تمرده على هذا الدور الفلسفلي في حياته.

وكان العقاد في سطور أنيس منصور كما وصفه أشبه بالحاوي الماهر فلم يكن إذا العقاد أديبا فقط بل كان طبيبا أيضا يستطيع أن يصف لك روشتة الدواء بمهارة طبيب عالمي كما كان ماهرا في كتبه "العبقريات" بلغة أهل التراث والمعاصرة والتي كان لها السبق في تغيير إيديولوجيات البعض من المفكرين حول الصحابة ومنهم عمر بن الخطاب .. عثمان بن عفان .. علي بن إبي طالب .. خالد بن الوليد .. أبو بكر الصديق .. وكان المسيح رحلة أخرى من تلك الرحلات العقادية ومرورا بالرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم، فكنت حاسدا لمن عاش في كنف الصالون العقادي. وكنت متيما بعبقرية الرسول عليه الصلاة والسلام والفدائي الأول للرسالة الإسلامية علي بن أبي طالب، وكيف كان السبب في نجاة الرسول من شرور أعداء الدين.

وكم تمنيت أن يكون لي من القدوة من هم في وزن الاستاذ العقاد، وكم وشعرت بمدى القدرة على تحقيقها في صالون أنيس منصور، ولو لساعات قلائل والتي كانت لي أيام في صحبته رغم أعبائه وسفرياته الكثيرة خارج مصر، فكان حقا أستاذي الذي اقتربت منه وفتح لي باب صومعته على مصراعيها بكل تواضع جم وفي عينيه ومضات منصورية تكشف عن أصالة زمن يكتب حروفه على كل لقاء جمعني به فيما بعد مرات عديدة. ومن الممتع حقا نوادره التي أتذكرها منه حول (العقاد) العظيم عندما فاز بجائزة الدولة التقديرية في عام 1960 من القرن الماضي إبان عهد الزعيم جمال عبدالناصر وتوجه لمنزل الاستاذ العقاد في منزله بمصر الجديدة لكي يكون له كلمة أمام الزعيم العربي الكبير يوم الحفل الذي سوف يشرفه رئيس الجمهورية وأعد الكلمة الاستاذ العقاد دون ذكر أي عبارة فيها ثناء على شخص الرئيس جمال عبدالناصر، ورفض العقاد أضافة أي سطر لا يقتنع به مما ترتب علي ذلك توجه الاستاذ أنيس منصور لوزير الإعلام آن ذاك الكاتب والأديب وعضو مجلس قيادة الثورة ثروت عكاشة، وتفهم الأمر الوزير وساعة الحفل الذي شرفه الرئيس وأثناء توجه العقاد لإلقاء كلمته المكتوبة قطع التيار الكهربائي عن (الميكرفون) دون أن يشعر بذلك الاستاذ العقاد فلم يسمع أحد من الحضور كلمة العقاد، وبعدما فرغ العقاد من إلقاء كلمته توجه له صديق وقال له يا أستاذ لم نسمع منك شيئا، وأدرك العقاد المقلب الذي صنعه له أنيس منصور وثروت عكاشة وقال لصديقه فعلها ولاد الآبالسة!

ووجدت نفسي غارقا في الضحك والاستاذ أنيس منصور كذلك فكان العقاد جامعة لكاتبنا الكبير أنيس منصور منذ أن غادر المنصورة متوجها للقاهرة للدراسة بها في جامعتها بقسم الفلسفة في المدرج 78 والذي كان يضم عددا لايتجاوز سبعة طلاب في هذه الآوانة من زملاء أنيس منصور الطالب في جامعة القاهرة وكان عميد الجامعة آنذاك عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين الذي لعب دورا محوريا في حياته فيما بعد، بعدما اكتشف أبوته فكان محظوظا لأنه جمع بين عملاقين في فترة تكوينه الفكري والثقافي في تلك الحقبة الثرية من تاريخ مصر، كما كان الأستاذ شغوفا بالغناء مع رفيق رحلته الدكتور مصطفى محمود، فكثيرا ما اشتركوا في الغناء سويا في أفراح أحد الجيران فوق السطوح وكان نصيب كل منهم في إحدي تلك الحفلات ربع جنيه مصري لكل منهما في ذاك الوقت والطريف أن العروس بنت بواب العمارة.
في تلك الأيام الخوالي من ذكريات حبلى بالتاريخ، مضى الحوار الصحفي غير المعد والمرتب مرورا ممتعا مع وعد بلقاء آخر بعدما أقنعني الأستاذ منصور بمساعدتي في الحصول على فرصة عمل بالصحافة في القاهرة ومن تلقاء نفسه ودون أن أفاتحه في ذاك فكان أقصي حلم لي هو رؤية الاستاذ أنيس منصور ومصافحته لا غير، وبعدما عرف بأنني أديب وروائي لي عمل بعنوان "من تأتي الشمس" لم ينشر بعد، خاطبني: معك العمل الأدبي؟ فقلت له لا فقال في زيارتي الأخرى أحضر الرواية وسوف أخبر الدكتور سمير سرحان رئيس الهيئة العامة للكتاب بإنك بلدياتي لكي ينشره لك ضمن مشروع إبداعات الشباب؟ كان كريما وثري القول والفعل!

ومن باب لا يغلق كان الاستاذ متواضعا جدا في حرصه على أن يسجل هذا اللقاء الأول بالكاميرا من خلال صور تذكارية تجمعه بشخصي المتواضع مازالت لها صدى في حياتي لتتصدر مكتبي في غرفتي الشخصية قبل زواجي وبعد زواجي ليضفي لقائي الأول به شحنة عميقة من مشاعر لعبت دورا قدريا وفاعلا في حياتي الثقافية والصحفية فيما بعد بعقلية من يبحث عن نصفه الآخر حتى هذه اللحظة ليصبح أنيس منصور قلبا أبويا لي في قاهرة المعز لدين الله الفاطمي بعدما أصبحت متيما بعالمه الأدبي ونوادره باعتباره من ظرفاء عصر.

لم يرحل الأستاذ أنيس منصور لأن إبداعاته جسر لعبور كل من يبحث عن تاريخ مصر الثقافي ورؤية عالم مختلف من روائع كل زمن اختلفنا أو اتفقنا لأنها تجربة أديب كبير ورؤية لها نقد ومراجعات تحتاج لوقت ليس باليسير دوما في عالم كل يوم تمنحك برودته القارصة غربة، وألفيته الثالثة مفاجآت لم يسبق لها مثيل في عمر البشرية وللحديث بقية مع الراحل الكبير ومع إبداعات لم تكتشف بعد!


عبدالواحد محمد ـ كاتب وصحفي مصري
abdelwahedmohaned@yahoo.com