قصص جوزيف حنا يشوع الشارقة
- مارس 5, 2015
- 0
قصص مشاركة في ملتقى حلب التاسع للقصَّة القصيرة جدًّا
الكاتب جوزيف حنا يشوع
دورة الوفاء إلى حلب من الشارقة عاصمة الثقافة الإسلامية
الساعة السابعة مساء أيام (19-20-21-22 /2015/2)
قصص مشاركة في ملتقى حلب التاسع للقصَّة القصيرة جدًّا
الكاتب جوزيف حنا يشوع
دورة الوفاء إلى حلب من الشارقة عاصمة الثقافة الإسلامية
الساعة السابعة مساء أيام (19-20-21-22 /2015/2)
جوزيف حنا يشوع
الرأس
إمتلأ حنْقاً وهو يبحث عنه في جحور المنزل.. وزواياه، لم يكن في خزانة الأحذية حيث وجده بالأمس.. كما لم يكن في أواقي الحبوب خلف باب المطبخ حيث كان أول أمس.. ولا كان في المرحاض، إذْ عثر عليه صدفةْ في الأسبوع الماضي.
– أين يا ترى، أكون قد أضعتُ رأسي اللعين؟!!
تمْتَم لنفسه وهو منهمك في البحث، لم يتمكن من الإحساس بالوقت، ولأن أصبع قدمه الكبيرة أخبرته بأنّ موعد العمل قد حان.. فقد قرر أنْ يخرج بدونه، فذلك في كل الأحوال،أفضل من الاستماع إلى تحية المدير الصباحية، التي يتوجب عليه احتمالها في كل مرة يتأخر فيها عن العمل.
صديقته ـ على المنضدة المجاورة ـ أخبرته أنه أكثر أناقة ومنطقية بلا رأس. ولم يزبد مديره في وجهه كما في كل يوم، ذلك أنه لم يكن هناك (منخراك الممتدان إلى الهند) وحين حلّت الحادية عشرة صباحاً لم يفتك به الصداع، إذ لا يعقل أن يصيبه الصداع في عجيزته مثلاً!!
غمره ارتياح وهو يدلف المنزل، وقد فوجئ وهو يطأ غرفة نومه برأسه على السرير، عند القدمين. عندها اكتشف أنه (لابد تدحرج أثناء الحلم).
لم يبحث عن رأسه في صباح اليوم التالي، فمن حيث انه ليس من الضرورة بمكان أن يكون لجميع الناس رؤوس، فقد قرر عدم ارتدائه بعد اليوم مطلقاً!!.
النافذة
كان المطر يتساقط حزيناً مبللاً باحة المنزل، معانقاً زجاج النوافذ بهدوء ومودة. ثمة ضوء خفيف كان يزيل العتمة والغموض عن أجزاء المنزل الداخلية.. واكتستْ الحديقة والسور الخارجي وكل الأشياء لوناً رمادياً بفعل المطر.. واتشح كل شيء بحزن وقور بفعل عتمة الغمام.. من خلف الزجاج، كانت تبين وهي تخلع عنها سترتها ببطء شيخ أثقلتْ كاهله السنون.. كانت تتطلع إلى اللاشيء، وعيناها تدوران في متاهة لا تقوى على التقاطهما منها. قذفت السترة على حافة السرير الخلفية بتعب ولا مبالاة. ومدتْ يديها لتنزع عنها بلوزتها.. رفعتها حتى أعلى الخصر بقليل وسرعان ما تخلتْ عن الفكرة، لقد بدت البلوزة وكأنها منسوجة من خيوط فولاذية وتزن مئات الأطنان وثقيلة حد عدم الرغبة في بذل كل ذلك الجهد لخلعها.
ارتمت على حافة السرير واستمرت بالتحديق إلى اللامكان.. في اللازمان، وكانت غيمة كآبة تعربد على محياها الرقيق.. كنرجسة..، الشفاف.. كعصير الورود. وقبل أنْ تقاوم ثقل أحزانها وتنهض كانت لؤلؤة ساخنة تكونت لتوهها قد انحدرتْ من إحدى مقلتيها على حقل وجهها تشُريني التعابير.
لَمْلَمتها بسبابتها وانطلقتْ إلى المطبخ.. كان لابد من فنجان قهوة كبير يعيد لرأسها الصغير الصواب، رأسها الذي كان لا يزال يحتضر من ذكرى حديثه الدافئ – كدم الأحرار- ـ.
بدت تحركاتها واضحة من خلف الزجاج لأن الأنوار كانت قد غزت كل أجزاء المنزل تقريباً.
انطرحت على الأريكة ورشفتْ جرعة من العلقم الذي أعدته لتوها.. عاودت عيناها الدوران في اللامكان، واللازمان. سرت مرارة الرشفة الأولى في بلعومها ومعها برقت أول ومضة رضىً في رأسها "إنه، بالتأكيد يستحق كل مرارات الكون".. ما تزال حقول مخيلتها تطفح بملامحه القوية، الجادة، اللذيذة.. تلك التي ميزته عن كل المهرجين الذين تقافزوا حولها. لا زالت تيارات صوته الحادة تخترق طبلتيها، صوته الدافئ، المحب، رغم كل خشونة الرجال فيه.. وكلماته المؤلمة. المتألمة. تستعمر مدن الحب والذكرى بداخلها. وكان سؤال لا يزال يدور في ذهنها المجهد يمزقه بهدوء وقور. "هل سيظلّ ـ كما وعد. يحبني إلى الأبد؟".
تسللت إحدى القطرات الباردة التي ضاعفت من وزن ملابسه إلى ظهره.. وبعد قليل ازدادت حشود قطرات المطر مكتسحةً ثيابه الخفيفة وجسده المتعب.. وأصبح غير مكترث بها ولا بالبرد الذي صاحبها.. سمّر عينيه إلى حيث كانتا، فقد كان ما يزال واقفاً يتلصّص من خلف السياج، يراقب بألم عينيها التائهين في اللامكان، واللازمان، من خلف زجاج النافذة.
أدومي "*"
عند الغبش.. انقشع جفنا (أدومي) عن مقلتيه، مرر عينيه يَمْنةً ويَسْرة وشعر بلذة من الدفء الهادىء الذي كوّره حوله وحول أخته الصغرى حضن ماما الملوكي وذراعا بابا الأليفان.. فقرر البقاء ساكناً كي لا يزيل ما علق به من هذا الدفء الناعس.. فعاد.. وأنزل جفنيه.. ونام متكوماً مع ماما وبابا وأخته الصغرى على الفِراش الصغير.
عند المساء مات (أدومي) وظلت ماما تقبض بقوة على خيط الطائرة الورقية التي حملت (أدومي) إلى أعلى.. ظلت تشد الخيط إلى صدرها وتصرخ بالصغير (تعال يا حبيبي.. تعال لأُطعمك فقد ينال منك الجوع) وظلت الطائرة تبتعد.. وظلت ماما تشد.. ثم.. وبعد أن نكأها التعب صاحت على (بابا عدي) ليعينها ويشد (شُدَّ يا عدي… شد يا حبيبي هيا يا عدي.. شدّ.. أدومي يروح بعيداً).. وازداد صراخ ماما بيمينها تشدّ وبيسارها تضرب جسد (بابا عدي).. (شدّ يا عدي.. أدومي يروح).
وظلّ (أدومي) من علٍ يحملق واجماً في ماما الغارقة بدماء (بابا عدي).
ادومي "*": الطفل آدم عدي عرب الذي استشهد وأبيه في كنيسة سيدة النجاة.
في المرة القادمة
من بعيد.. شد نظرهُ على البؤرة المتوسطة تماماً مركز العدسة المُقربة المُثبتَة على متن قنّاصه.. سحب أنامله الضاغطة على الزناد ومدها إلى أعلى وشدَّ خوذته على رأسه.. ثم أعادها إلى الزناد وبنفس الثبات.
العدسة المصنوعة لتقريب الأهداف البعيدة كانت تقرّب له رجلاً أربعينياً يرصُّ أشياءه على (بسطة) منتصبةٍ على الرصيف. انحنى الأربعينيُّ على البسطة.. فانحنت العدسة المقربة محافظة عليه في المركز. رفع رأسه فارتفعتْ معه.. ثم حط رأسه إلى الأسفل منكباً على كيس يستل منه علب كارتونية صغيرة. رفع الأربعيني رأسه لينظر صوتاً يناديه من ناحية الشارع الأُخرى.. أنقضتْ العدسة المقربة.. وهوى أرضاً فارتفعت العدسة المقربة إلى أعلى في السماء مزهوةً بالنصر الجديد وانطلق صوت بالعامية الإنكليزية من اللاسلكي المعلق على صدر القناص (ألغ العملية.. البيانات المرسلة تنقصها الدقة.. ألغ العملية)
يجيب القناص:
– حسناً.. سأفعل ذلك في المرّة القادمة.