قصص مهرجان لقاء الأجيال
- أكتوبر 20, 2010
- 0
ونقدم القصص الفائزة في مهرجان لقاء الأجيال الأدبي الأول للشعر والقصة القصيرة. ولا بد هنا أن نشكر الأستاذ غالب البرهودي على ثقته بموقعنا.
وقد قام السادة رعاة الحفل بتسليم الفائزين جوائزهم متمنين لهم المزيد من النجاح والعطاء.
الجيل الأول ـ الجائزة الأولى
عدنان كزارة ـ فتاة المتحف
فتاة المتحف
يعرفها الناس باسمها المكون من ثلاثة أحرف و يشاهدها أهل الحي كل يوم متوجهة إلى عملها برأس مرفوع ثابتة و كرسي متحرك يحمل جسدها الصغير , و حين كان الأهل يلحون على دعد أن تستقيل من العمل الذي يرهقها و يستدر نظرات الإشفاق و الفضول المتكررة الجارحة لكبريائها كانت تنظر إليهم باستنكار أقرب إلى التحدي و تومى برأسها علامة الممانعة لأنها تعرف نفسها ولا تسمح لأحد مهما كان أن يعرفها أكثر منها . و هكذا كانت دعد ترسم بالحرفين المتشابهين من اسمها و حرف الحلق المطمئن بينهما غصة في حلوق الأهل كلما أتوا على ذكرها لا يفوق تلك الغصة إلا حزنهم على رجلين ميؤوس ن شفائهما و عقل ميؤوس من مرونته .
لماذا لا يدعونني و شأني ؟ أنا لم أخلق لأحبس في بيت أذوي فيه كشجرة لا تتعرض للشمس و الهواء , بل خلقت أميرة ذاتي و لن أتصرف إلا بما يمليه علي عقلي نعم الكرسي ذو العجلات بصحبة دعد منذ أن فقدت قدرتها على المشي إثر حادث لم يعد أحد يذكر تفاصيله لما ينكأ من جراحات و عذابات ضمير تطال أكثر المقربين إلى دعد . رافقها الكرسي في مسيرتها الدراسية حتى أكملت تعليمها الجامعي بتفوق في قسم اللغة الإنكليزية و اكتملت سعادته حين راح يصحبها كل يوم إلى متحف الآثار الذي تعمل فيه كدليل سياحي و يستمع في صمن و إجلال إلى شروحها للمجموعات السياحية عن الآثار الهامة التي تغص بها قاعات المتحف الوطني . في كل يوم جديد كانت دعد تثبت أنها خلقت لهذا العمل الذي بات يشغل جل اهتمامها , و يضفي على حياتها متعة و سعادة . لكن حدثاً عابراً خطط له القدر قلب حياتها رأساً على عقب . كان ذلك في يوم من أيام آذار الربيعية حيث تكثر وفود السياح في تلك المدينة التي عرفها التاريخ منذ مولده . امتلأت قاعات المتحف على رحابتها بمجموعات سياحية من مختلف الجنسيات تتنقل في أرجائه مستمتعة بشروح هذا الدليل الأنثوي المقعد و كأنه هيرودوت أبو التاريخ , لفت نظر دعد شاب في المجموعة الكندية كثير النشاط و الأسئلة يحرص على تسجيل كل كلمة تفوه بها , و الاستفسار عما لا يفهمه , فكانت تجيبه بأناة و إنكليزية متقنة استرعت اهتمامه و حظيت بإعجابه دون أن تشبع فضوله المعرفي . لم يمر ذلك اليوم كما تمر سائر الأيام بالنسبة إلى دعد , فحين عادت إلى منزلها لم تستطع أن تخلد إلى النوم مباشرة كعادتها بعد عناء العمل , إنما ظلت مستلقية في فراشها بين اليقظة و الوسن تطوف بعينيها صورة ذلك الشاب و كأنها تعرفه من زمن بعيد , و لم يتمكن سؤال واحد من الأسئلة الكثيرة التي طرحتها على نفسها عن سر اهتمامها به أن يقنع عقلها المرتاب الذي تاه في دوامة من التساؤلات . بصعوبة بالغة تمكنت أخيراً من مراوغة عقلها و الإمساك بأول خيط من خيوط الغفلة عندما بدأت عيناها بالدوران في محجريهما لتغط في نوم عميق . كانت مفاجأتها الكبرى حين واجهها جسدها في الصباح بحقيقة الاحتلام ليلاً على نحو لا مجال فيه للتأويل أو إنكار الرعشة الجسدية . شكلت تلك المفاجأة صدمة لها بقدر ما وهبتها شعوراً لذيذاً و تأكيداً لمشاعر ظلت مبهمة قبل أن تنام .
أدركت أنها اضطرت في الماضي لأن ترحل بعيداً في الحجر على عواطفها في معركة التحدي مع الأهل و الناس لإثبات الوجود و تحقيق الذات , و أنها لم تسمح لقلبها طوال حياتها أن يخفق يقيناً أو عن غير قصد , و لعلها بما تبديه من صرامة و جدية في سلوكها و أقوالها كانت تبني بينها و بين الآخرين حاجزاً لا يسهل اختراقه . لأول مرة تكتشف أنها بحاجة إلى شيء آخر سوى هذا العقل البارد الذي بات يتحكم في حياتها كسلطان غاشم , و أن هذا العضو الصغير في الجانب الأيسر من صدرها يريد أن يعلن بضرباته عن نفسه بقوة .
تذكرت و هي تنطلق إلى المتحف نشيطة في اليوم التالي أن الشاب الكندي حين كان يحدثها لم ينظر إلى نصفها الأسفل قط فيسبب لها الحرج , و أن نظراته الباسمة لم تغادر وجهها إلى أي ركن آخر من جسمها :
– ما كلمني إنسان إلا ووزع نظراته بين وجهي و نصفي المشلول , فلماذا شذ هذا الشاب عن القاعدة ؟
لم تتوقع أن تراه من جديد في المتحف يجوب قاعاته بمفرده كمن يبحث عن شيء فقده , و لما حانت منه التفاتة إليها بادرها بتحية حارة كأنهما صديقان قديمان ثم قدم نفسه باسمه الكامل : أندريه جايسون من مونتريال . حنت رأسها بلباقة و هي تعرفه بنفسها ثم انطلقا في حديث علمي عن الآثار استهله ببعض الدعابات البريئة . كان لأندريه طريقة خاصة في الحديث تجذب السامع و تثير اهتمامه , فهو يضفي على القضايا و المفاهيم ثوباً قصصياً يجعلها أقرب للحياة من كونها أفكاراً مجردة . أصغت دعد إلى حديثه المتشعب بين العلم و الفن و التاريخ كأنها تصغي إلى أستاذ كبير فكان هناك تبادل للأدوار , أندريه يقوم بدور الدليل السياحي و دعد السائح المأخوذ بما يرى و يسمع , الغريب أنه على الرغم من كثرة الموضوعات التي تطرق إليها و خصوصيتها أحياناً لم يأت أندريه على شيء يمت إلى شلل دعد بأية صلة . و باستثناء أخذ الصور التذكارية لم تتعد الأحاديث بينهما على تنوعها ما يجري بين اثنين في مجموعة سياحية اكتشفا مصادفة أن أفكارهما متشابهة , و نظرتهما إلى الحياة و الناس و الأشياء متطابقة . و لمزيد من الدعابة طلبت دعد من أندريه أن يلتقط لها صورة بجانب تمثال لإحدى الأميرات الآرامية و قد تصنعت وقفتها في النصف العلوي من جسدها طبعاً. غير أن عبارة بالإنكليزية عناها أندريه بدقة و عبرت عن مشاعره بدقة أيضاً هي ( I like you ) لم تنه يوم دعد على خير , فحين ودعها و أخبرها أنه سيغادر المدينة الليلة كانت أفكارها تسافر خلف الغمام و قلبها يطير بجناحين و قد اخترقه سهم كيوبيد .
ليست دعد بالتي لا تعلم الفرق بين ( I like you ) و ( I love you ) و هي التي أحاطت بالإنكليزية فهماً و حديثاً و كتابة , فلماذا تعمد عقلها الباطن أن يفسر العبارة الأولى بالثانية , أو يؤولها ذلك التأويل البعيد الذي جعلها لا تعرف طعماً للهناءة بعد أن سافر أندريه ؟ أصبح كل من يعرف هذه النوارة التي تزهر بشراً و حيوية يرثى لحالها . أصيب أهلها بالذعر ولا سيما والديها لم يشفيا تماماً من عقدة الذنب حيال شللها حتى وقعت هذه المصيبة الجديدة في نفسيتها و جعلتها تذبل أمام ناظريهما . كانت تأبى أن تحدث أحداً قريباً أو بعيداً عما بها . و تلزم الصمت كلما أشار أحد من الأهل أو الأصدقاء إلى حالتها تصريحاً أو تلميحاً .
أما في المتحف فلم يتغير شيء من روتين عملها سوى أنها كانت تكثر التجوال وحيدة في القاعات حتى و إن لم يكن ثمة سائح أو زائر تشرح له أو تجيب عن أسئلته و كأنهما تبحث عن أحد أو تتوقع ظهوره بين لحظة و أخرى . مرت سنوات عدة لم تغير من حالة دعد و عادتها شيئاً غير أنها في السنوات الأخير كانت تقف إلى جانب التمثال الذي وقفت بجانبه مع أندريه مقلدة هيئة الأميرة الآرامية و تطلب من أحد السياح الذي يزورون المتحف أن يلتقط لها صورة كما فعل أندريه حتى استحالت في يوم من أيام آذار إلى حجر . عدنان كزارة
*********************
الجيل الأول، المركز الثاني
خالد الحريري ـ مال حلال
مال حلال
استدعى الحاج عبد الغني العامل الذي قطع إصبعين من يده بالمنشار الكهربائي الأسبوع الماضي و استرخى وراء طاولة مكتبة الضخمة و هو يبعث بمسبتحه العاجية بين أصابعه الممتلئة فوق كرشه الضخم , تأمل الطفل النحيل الأسمر ذو الثلاثة عشر عاماً و هو يدخل بثيابته الرثة ليقف أمامه مطرقاً و قد تدلت على صدره يده الملفوفة بالشاش الأبيض الملطخ بالبقع و سأله :
– كيف حالك اليوم يا عمر ؟
أجاب الصبي بصوت خافت :
– أحسن لكنها مازالت تؤلمني يا معلمي و …
قاطعه الحاج قائلاً :
– بسيطة بسيطة كلها يومين و يزول الألم إن شاء الله .. إحمد الله أنا أرسلناك إلى أبو عبدو الممرض بسرعة ! .. هل تأخذ الدواء الذي اشتريناه لك ؟
– نعم يا معلمي لكن ..
فقاطعه المعلم مرة أخرى :
– الله يسامحك سببت لنا مشكلة .. أرعبت العمال و أعقت عمل الورشة أكثر من ساعتين .. من الذي سمح لك بالشغل على المنشار الكبير؟
– أنت يا معلمي ! .. و قلت لي تعلم بسرعة حتى أزيد لك أجرك ؟
– لكني ما قلت لك أن تقص أصابعك ! على كل حال الحمدلله أنك خسرت أصبعين فقط ! كان من الممكن أن تخسر أصابعك كلها ! أنت يا بني لا تصلح للأعمال الخطرة و عليك أن تبحث عن عمل آخر !
نظر الصبي مذهولاً إلى المعلم و قال متلعثماً :
– لكن يا معلم …
قاطعه الحاج :
– ما بدها لكن … هذا لمصلحتك أنت … منذ متى و أنت تعمل هنا ؟
قالها و هو يفتح دفتراً بين يديه عندما أجاب الصبي بصوت خافت :
– منذ شهرين و عشرة أيام
نظر المعلم بدفتره ثم قال :
عندي مسجل منذ شهرين و أسبوع فقط … سجلتها بيدي … انظر
و مد الدفتر بحركة مسرحية إلى الصبي الذي يبعد عن أكثر من ثلاثة أمتار , ثم تابع قائلاً و هو ينظر إلى الدفتر :
– و بما أنك غبت الاسبوع الماضي يبقى شهرين فقط
ثم رفع رأسه و سأل الصبي :
– و كم حددت لك أجرك الأسبوعي يومها ؟
– خمسمائة ليرة يا معلمي
– بل أربعمائة ..ز أنظر سجلتها بيدي .. أنا لا أعطي أمثالك من المبتدئين الصغار أكثر من ذلك … يعني … ثلاثة آلآف و مئتان ليرة في الشهرين , نحسم منها أربعمائة أجر أسبوع أسبوعك الأول لأنك لم تشتغل فيه شيئاً .. كنت تراقب فقط !
قاطع الصبي المعلم بصوت خافت و قد احمر وجهه :
– لكنك أنت من قلت لي أن أراقب لأتعلم !!
– أنا يا بني أريدك أن تأكل لقمتك بالحلال ! هل ترضى أن تأخذ أجراً دون عمل مقابل ذلك ؟ طبعاً هذا حرام و أنت لا ترضى أن تأكل مالاً حراماً ! ثم هناك ثلاثة أيام كنت فيها مريضاً لم تعمل شيئاً يعني نصف أسبوع و أجره مئتا ليرة .. و هناك نصل المنشار الذي كسرته و ثمنه ثمانمائة ليرة .. و يجب ألا تنسى اللوح الخشبي الذي أخطأت في نشره يوم قطعت أصابعك و ثمنه ألف ليرة ..ز هذا إذا لم نحسب كلفة نقله من حمولة و شحن و هو مبلغ ليس بالقليل ..ز لكني سأتسامح معك .. و من جهة أخرى و الحق يقال أن اللوح لم يعطل تماماً بل يمكن الاستفادة من بقيته … لذا أعتبر أن الضرر كان لنصف اللوح فقط .. فأنا لا أحب أكل المال الذي فيه شبهة من حرام … فتكون قيمة نصف اللوح خمسمائة ليرة … كما يجب أن نخصم المئة ليرة التي اقترضتها من المحاسب يوم عاشوراء , ثم المئتي ليرة بقية الخمسمائة اليت أعطيتك إياها يوم أرسلتك لتجلب لي بعض الفواكه و الخضر و الخبز من السوق و التي غبت نصف يوم حتى جلبتها !
– قاطعه الصبي و قد امتقع لونه :
لكن يا معلم كان ثمنها أربعمائة و خمس و سبعون ليرة و أعيتك يومها ورقة حساب الفواكه و كانت ثلاثمائة أم الخضار و الخبز فلم يكن فيها ورقة حساب ؟
– أنا سجلتها بيدي ثلاثمائة ليرة و هذا يعني ثلاثمائة فقط ..ز و هكذا مجموع الحسميات ألفان و مئتان ليرة فيبقى لك أجرك ألف .. و بما أني أعطيتك خمسمائة في نهاية كل شهر … إذاً لا يبقى لك في ذمتي شيء و يكون حقك قد وصلك كاملاً دون أي نقص !!
– رفع المعلم عبد الغني رأسه من الدفتر باتجاه الصبي الذي كان يبحلق بوجهه فاغر الفم و عندما انهى المعلم كلامه أطرق هنيهة ثم رفع رأسه و قال : – أرجوك يا معلم أن تكتب لي هذا الحساب على ورقة
صرخ المعلم عبد الفني و قد احمر وجهه و ثخنت رقبته من الغضب :
– اتخونني يا ابن الكلب
قال الصبي متلعثماً :
– لا يا معلم حاشاك .. لكن حتى لا تضربني أمي إذا عدت إلى البيت خالي الوفاض. خالد الحريري
**********
الجيل الأول ـ المركز الثالث
عوض سعود عوض ـ برج من ملح
برج من الملح أنظر إليه و أتفحصه, أرى الألق في عينيه, أرى الماضي يتكوم أمامي. هلي أضحي أم أبدأ ببناء جديد يحتاج إلى أساس متين؟ و ليس أمامي سوى الملح, أرسم به أشكالاً مغلقة, كرهتها, و كرهت كل ماله علاقة بها. أصغيت إليه طويلاً, و صدقته زمناً. أما اليوم فقد ذهب الماضي بعجزه. رميت أساوري التي كانت تزين معصمي, و الأطواق التي زينت جيدي. الكلمة التي رددها طويلاً على مسامعي ما عدت أصدقها, أواثق بها. حتى إنني بت غير قادرة على نطق ما كنت أقوله بسهولة و يسر. كنت أشعر أن من حقه أن يحس بحناني, برقتي, بأنوثتي. أن أسمعه كلمات لم أسمعها لأي شخص آخر حتى القلم الذي أهداني إياه بات أصم و أبكم. ماذا أفعل؟ و ماذا يفعل معي؟! هل سنلتقي, و كيف ستكون المرحلة القادمة؟! كل هذه الأسئلة التي لم ترد إلى ذهني وقتها, باتت الآن تضغط علي, و تطالبني بالإجابة.
التقيته في حفلة, نظر إلي, و أخذ يراقب تصرفاتي و حركاتي. أما أنا فقد أدركت بحسي الأنثوي عمق نظراته, التي تشي بأكثر من معنى. تقول أشياء أربكتني, و أفقدتني توازني و القدرة على التصرف. خشيت من فحواها. أشحت نظراتي بعيداً عنه. هربت من عينيه اللتين تلاحقانني, إلا أن هروبي زادني غموضاً و إرباكاً. كيف أهرب من عينين التقطت صورتهما, وزرعتهما في شراييني و أوردتي؟ اقترب مني و سألني:
– ما اسمك !
– اسمي موجود في كل مكان, و هو ليس أكثر من مجرد لفظة اعتاد الجيران و الأهل و المدرسون وغيرهم مناداتي حتى أرد إنه لفظ يطرق سمعي عشرات المرات في اليوم ..
صمت قليلاً, هالتني نظراته, و تعجبه, و ابتسامته التي تملأ وجهه. قلت في نفسي : أأقول له الاسم الذي لو خيرت لاخترته؟ أخيراً قلت: نادني بالاسم الذي تراه مناسباً!
يإلهي ماهذه الأحجية؟ كل الاسماء الجميلة تليق بها! لماذا تفعل ذلك, و هي التي تتمتع بجمال وفقنة و أنوثة؟ هل هي صاحبة تجربة, أم هو الغرور بجمالها و لطافتها, و ما وهبها الله من رشافة و خفة ظل؟!
تواردت الأسئلة تدق جدار رأسه, و أنا امنحه أسئلة أخرى رداً على أسئلته و استفساراته. إلا أن ما شفع ابتسامتي التي أضاءت عتمة قلبه. أحس أنني استفزه و أبادله الشعور ذاته, تمهيداً لدخول مرحلة جديدة من حياتنا. راوغته و لم أمنحه لا اسمي ولا سكني ولا عملي غادرت و أنا مسرورة بما فعلت. سقط قلبه ودعاه أن يلحق بي. أن يمسكني من يدي و يطالبني بالإجابة عن أسئلته المطروحة واحداً واحداً. ود لو يرجوني أن أرأف به. أن أمنحه موعداً, أي شيء. لا أعرف لم ظل واقفاً مكانه ساهماً. إلا أنه فطن لذاته, أسرع خلفي, و حاول أن يتعقبني. راوغته, و أدخلته أزقة, حتى غبت عن نظره.
ظللت في ذاكرته امرأة عنيدة لم يستطع اقتحام مجاهلها . إلى أن قادته قدماه لدخول مكتبة . كانت مصادفة . وجدني أمامه وجهاً لوجه . برزت الأسئلة في مخيلته , لم أستطع أن أتملص منه . خرجنا سوية . دعاني لتناول فنجان قهوة . رفضت و تذرعت بانشغالي . تركني أمضي , و تتبعني , حتى عرف الكثير عني . صار من السهل عليه رؤيتي . أما أنا فعلى الرغم من العناد و الفصاحة التي أبدعت بهما . وقعت أخيراً في الشيء الذي حاولت أن ابتعد عنه . أن أتخطاه . أن أدوس على مشاعري . صارحته و قلت : منذ اللحظة الأولى التي تبادلنا فيها النظرات . أحسست أنك إنسان آخر . و قررت أن أبتعد عنك , و أن أهرب من نظراتك و أن أضع حواسي و عواطفي في ثلاجة . قال لي : إنني أفعل عكس ما علي فعله .. أجبته : هأنذا اليوم أعترف بما لك أكن أنوي قوله , أن أصارحك بأشياء خبأتها في صدري , إلا أنه كاد أن ينفجر . خفت على ذاتي , و كان لابد أن أرضخ . الآن جاء دوري لأسألك : لماذا طارتني , و لم تكف عن ملاحقتي ؟ ألم تتعب ؟ ألم يقل لك قلبك إنني لا اريد أن أدخل تجربة ؟!
صمتنا للحظات . و كل منا ينظر في عيني الآخر , و يستطلع ملامحه و تكويناته . بدا الكلام في تعبيرات وجهه , إلا أنه لم يجد الكلمات المناسبة . أطرق و أخفى خجله و حرجه , ثم فجأة تجرأ و قال : ماذا يفيدك عذابي ؟ أنت امرأة خلقت من الندى و الشعاع , و أنا أهواهما . أشرقت ابتسامتي , و بدت هالة من نور و نار . النسيم يصافح محياي , يقترب مني , و مثل شخص أصيب بنزلة برد . تنفس بعمق و قال : النسمات القادمة من صوبك تحمل إلي شيئاً من عقبك و أنفاسك . ذاكرتي تخزن أريجك … ابتسمت فأشع جسدي و فاض جمال المدينة علي .
تأججت روحي و بدأت الدعابة في كلماتي . كنت في غاية الفرح و الروعة و الأناقة . و مع ذلك وضعت فاصلاً بيني و بينه . سألته عن عمله , عن سكنه . و بعد دردشة قلت صحيح أن قلبي قد خفق , إلا أنك غير قادر على احتوائي ! دعني أذهب لا أريد أن أعذبك .
وقف أمامي كسد . ابتسمت و قلت : هل تذهب معي إلى حلب ؟
– و لماذا إلى حلب ؟
– ستعرف كل ذلك في حينه . غداً في السادسة صباحاً أكون في كراج الانطلاق .
وصل قبلي رأيته يعاين الدروب , و عندما لم يراني غادر الباحة الداخلية للكراج , ووقف يتأمل القادمين قبل أن يعود , لمح طيفي , أسرع إلى الكوة و قطع تذكرتين , في البولمان انصبت أسئلته عن سبب سفري ,, ووضعي العائلي , و خلافي مع زوجي . سردت له حكاية حبنا منذ بداية علاقتنا يوم كان زميلي في الجامعة , قبلت الارتباط به بعد أن وعدني بالحرية . إلا أن الغيرة أعمت عينيه . بدأ يشك بتصرفاتي , بعلاقاتي مع زميلاتي و زملائي , و باتصالاتي الهاتفية . كبر الخلاف , و لم يعد إلى رشده , و الآن المحكمة بيني و بينه .
لم نشعر بالوقت , كأننا خرجنا منذ دقائق . ابتسمت و شكرته , و طلبت إليه أن يتركني وحيدة في قاعة المحكمة . ندمت على ما قلته , و استغربت كيف بحت له بأسراري , حتى غدوت صفحة مقروءة . بعد ساعتين رن هاتفه . جاء صوتها الملائكي ليخبره بمكانها .
رفض أن يعود مباشرة دون غداء . أخبرته أن القاضي أجل النظر بدعوى الطلاق شهراًَ آخر .
– لماذا لا توكلين محامياً ؟
– قبل أن أراك كان هذا ممكناً !
مللت الانتظار .. في كل مرة يتم التأجيل بحجة أو بدون حجة . هذه هي المرة الخامسة التي يأتي معي . ينتظر مثلي أو أكثر مني صدور الحكم . أدخل القصر العدلي . ينتظرني في أي مكان يتلقى هاتفي , يأتي , نستريح ثم نسافر و الفرح يلفنا . نظرت هذه المره إليه و قلت : أنا متأكدة من صدور قرار الطلاق . ابق معي . أريدك إلى جانبي . أنا خائفة .
رآها زوجها . بان عليه الغضب و الانفعال . إلا أن المكان لا يسمح له بفعل شيء تداعت أفكاره عدة إلى رأسه … ماذا يفعل و قد ظهرت بوادر غيرته ؟! تماسك و نظر إليها ثانية فرآها جميلة , أجمل مما كانت عنده . تذكر بعض المواقف أيام الخطوبة , و الأشهر الأولى لزواجه . عاد إليه حبه القديم . تقدم منها و قال : أنا أحبك , و لن أتخلى عنك , أحبك .. أحبك !
تقدمت منه و عانقته و نظر القاضي إلى عناقهما . صمت و لم ينبس بحرف . الكل هالهم هذا الموقف .
بعد العناق نظرت إلى رفيق دربها . تقدمت منه , مدت يدها لتصافحه و هي تقول : كنت خير رفيق . أشكرك على مروءتك و كرمك . دعني أعرفك بزوجي … و أدعوك إلى بيتنا القريب من هنا .
نظر إليها نظرة ذات معنى و مضى . عوض سعود عوض
الجيل الثاني ـ المركز الأول
حسين البكار ـ منبج للحب صفحة أخيرة
منبج … للحب صفحة أخيرة
إلى منبج التي ابدعتني سطوراً في أسفار الحياة
لويت عنقي في آخر التفاتة إليها , فبيوتها الطينية بدأت تنسل مني رويداً رويداً , أخذت رؤوس البيوت الطينية تغيب وراء التلة التي شدنا انحدارها , و عربة يجرها حصان تتجه بنا نحو مشرق الشمس تقاوم الإعياء , كومة من أغراض و بضع دجاجات مصفدة الأرجل في سلة من قش تثير أصواتها أشجان أمي , أما أبي فلم يكترث , كنا نستمع إلى صوت حوافز الحصان بصمت , و تمزقت بين آخر التفاتة إلى موضع شهد صرختي الأول و القادم الذي سيطويني في صفحات الغد المجهول , الطريق يطول بنا في صعود الحصان و يقصر بنا حين النزول , من بعيد لاح خيال منبج , و بانت السيارات الذاهبة إلى حلب و الآيبة منها , و غمام يلف منبج , من المشارف الغريبة لها .
تسلل إحساس جديد إلى نفسي حين اقتربنا من المدينة , و حين تجلت صورتها و انجلت معالمها , لفت كيانها رائحة جديدة , و خاصة حين دخلت العربة بنا حدائق الجلنار الذي فيه مالم أره من قبل , فأتلق الجلنار المتخاصر مع الغصون الخضر الحاملة له بكبرياء و خيلاء , فأيقنت أن الورد قد استرد عطره , و قبضت الشمس على خيوطها المتناثرة بقع ضوء بين حدائق الجلنار و عناقيد السماق , عدت أدراجي إلى ذاتي لأعيد التوازن إليها , و خاصة طفولتي المسببة , و الموزعة بين سخال و جديان يتقافزن أمامي , و نهر القرية الذي كفكف ماءه و رحل , و بين ما هو مطوي في صحائف الغد , العربة مدخل المدينة مالت لليسار , و قبل السؤال عرفنا أن العجلة طلقت هواءها , و ازداد العبء على الحصان و للتوحين ولجنا الشوارع و الأزقة أدركت أن اليوم غير الأمس , و شمس هذا النهار ألحدت شقيقتها غروب البارحة , و أن الليلة الأولى ستكون هنا , ولا أدري كيف وثبت من العربة و تركت فيها شيئاً يشبه الحذاء و ما هو بحذاء , و حين لامست بقدمي أسفلت الطريق و خزتني حصيات ناعمات كن قد رحلن معي من قريتنا و تسربن إليها من تحت نعل الحذاء , و حين التفت إلى مواضع أقدامي رأيت بصمتها متواترة على سواد الإسفلت بقعاً ترابية .
ولجنا المدينة من شمالها الغربي و بدأت حوافز الحصان ترسل صوتها المتناغم , و بأن المشهد أكثر حين توقف بنا الركب أمام " حوش " ترابي و من تراب القرية إلى تراب المدينة حملت بنا مركبة الحياة .
المدينة جدد جدد , و حتى النساء جديدات جداً جداً جداً , ملاحف سود يسرن بأقمار تطل من خلال تلك الملاحف , و عنق يلفه الالتفات المندهش في كل الأماكن التي اراها , و تواثب أسئلة كثيرة و بقي سؤال وحيد محير :
" هل سيأتي اليوم الذي أصبح فيه جديداً مثل هؤلاء "
و ذات صباح بعثر أيلول أوراقه , اقتادني أبي إلى المدرسة , و حين ولجنا الباب و بان البناء , و يدي ترقص خوفاً في كف أبي , تسلل الخوف إلى ما تحت جلبابي الذي نسيت أمي أن يخيط بنيقته بانت ساقي الراجفة و أنا أجتاز الدرج , رجل نظيف جداً يجلس وراء طاولة يضع حول عنقه خرقة مزركشة تتحرك على كيفها كلما تحرك وكيفما تحرك و حين وقف وصلت إلى حافة الحزام , و حين سألني عن اسمي نسيته أنا , فأجابه أبي لأنني رضعت الخوف من حليب أمي .. الخوف من الجان و من الشرطي و من الاستاذ ..
خرجنا من الغرفة , أبي غادر و حالت اللحاق به , فأمسكني رجل و شدني من ياقة الجلابية و قال بحزم :" قف هنا و بعد الفرصة تدخل صفك " و ما إن رن الجرس حتى تواثبت الأصوات في كل المكان و اشتعل في الباحة فتيل الضجيج و فرحت أمعن النظر في هؤلاء ولا أدري من الخلف من شدني ثم هوت كف على أم وجهي , فدارت بي الارض , و انطفأ النهار , و انحبس سائل من أنفي ليتحد مع آخر من فمي لأجدني مسحوباً من ذلك الرجل الذي يحمل الشاي إلى إحدى الغرف , ثم يأخذني إلى حيث ينزل الماء من حديدة لها آذان يفركها فينزل الماء , و بعد أن زرع القطن في أنقي تناثرت قطرات من دم على واجهة الجلابية يوم ظل يعيش معي مدى العمر , و لست أدري حتى اللحظة لم جرى هذا معي , ولا أقدر على محو تلك البصمة من داخلي .
-3-
أنا و منبج كبرنا معاً , و طفت الأزقة و على كتفي في كل صيف صندوق بوظة و صوت الشيخ (( جمعة أبو زلام )) الذي كان يملأ أمداء المدينة كل يوم جمعة بخطبه الرائعة ,حيث كنت إذاك أصغي إليه و إلى انفعالاته التي تهز الوجدان , و أما صوت الشيخ عبد الباسط و الذي كنت انصت إليه عند الجامع العلائي حيث كان ينقلني و هو يتلو آيات من صورة (("ابراهيم " .. مثلاً كلمة طيبة كشجرة طيبة ..)) إلى معارج النور ليحط بي الرحال في منازل الضياء و أشجار الزيزفونت كانت تبوح بعطرها في شارع الحديقة و كنت حين يحل التعب استظل بأشجار الزنزلخت , و في كل مرحلة ترسلني مدرسة إلى أخرى و منبج تعج بأقمار يسرن في الازقة بتلك الملاحف السود و كان المشتل في منبج حديقة الأقمار , و ذات ربيع أرسلتني أمي إلى بيت أحمل له كيساً من البابونج , و حين وصلت في زقاق في شارع جنوب التبة حيث خزان مياه منبج وقفت أمام بابين مطرزين بالمسامير , فحرت بينهما , أهذا الباب أطرق ؟ أم الذي يخاصره من الشرق , و حين دبت الحيرة في طرقت لأول مرة " باب الحضر " كما كان يومذاك يقال , و حين انفرج الباب أمامي ذهلت , و أعدت النظر فماتت في فمي حروف الكلام و حين انساب صوتها للمرة الثانية تسألني ماذا أريد لملمت صورة وجهها لأول مرة فداخ في المكان و دخت به , و بسرعة و قبل أن يغلق الباب سألتها عن بيت من هذا فقالت و هي تأخذ الكيس مني " أنا ابنة صاحبة هذا البيت هات ما عندك " و بعد انطباق الباب ضيعت الجهات وضعت معها و بعد جهد وصلت إلى درب البريد , و درب البريد القديم يقابل بيتنا , و هو الذي أراني شاعر المدينة و حكيمها محمد منلا غزيل .
سكنت روحي وراء ذاك الباب المسمر , و صارت " سألقاك غداً " و شماً في جدار القلب , و رحت أجوب الشوارع بين التبة و درب البريد و الحمام الصغير الذي كان وراء طاحونة " اللبني " و عند محل عبد الهادي شيخ ويس و كما كان يقول بعض الجيران عند " حور الحنيفي ", و في كل مرة أراها كأني أراها لأول مرة , عسل عينيها بدد مرارة عمري , و أحال حياتي إلى حالة عشق مستمر , في الصورة التي تغفو على وسادة روحي , و صوتها يشطرني بالتذكار حيناً و حين التقابل العابر تشتعل بصوتها قناديل روحي , قمر أطاح بكل ما في المدينة من كواكب , لقد حلت على منزل روحي عصفورة حلم و لن أخرجها من قفص الروح , و حين لبست عباءة الحب و لجت عامين في حلب و ظلت بألحاظها التي صارت سيوفاً تغلغلت في مهجتي , و حين جد الجد , و راح الخاطبون يطرقون باب أهلها تمنيت أن تخرج الدسر من الباب و تنغرس في صدور كل القادمين و حين ذهبت أمي قيل لها "لا" ووجدتني أقود حطام روحي في الدروب و قال لي من يحب الخير لي " إذهب إلى ضريح الشيخ عقيل المنبجي و أقرأ الفاتحة " و لم أفلح إلا بطمأنينة غادرتني حين أخذت أتعثر بأحجار المقرة , حيث ضاعت على الشواهد أسماء الراحلين , و باتوا دارسين كالحياة التي تعصف بي .
لم أكتب يوماً منبج, بل منبج كانت تكتبين حرفاً حرفاً , و جملة جملة , و صار الحزن ديوان الأماكن كلها , و حين عدت إلى ذات المدرسة معلماً رحلت زحوف الخوف مني و ذات مساء و بينما كنت أريد استعادة ذاتي وجدت سيارات تتوقف في فم ذياك الزقاق و حينذاك عمي كل شيء فيء لا بل شعرت بأني لا اساوي في هذه الدنيا شيئاً بعد أن حملت السيارات نعش روحي و مضت , وقفت على الرصيف أنظر , ثم عدت أدراجي خالي الوفاض مني و منا , و ناخت منبج بليلها الثقيل على كاهلي و توأمني قهراً مدقعاً صار كظلي بالنسبة لي كاسمي و أنا بالسبة لها كاسمها فكيف يهرب المرء من اسمه ؟! صوت واحد ظل يطرق أبواب قلبي و عقلي و روحي و بعد سنسن فررن مني كما يفر الماء من بين الأصابع ظل صوتاًَ يطاردني حيث أكون , و بعد أن حاولت طيه من مسمع روحي كان يصر على العودة إلي ليهمس في مسمعي " أحبك .. سألقاك غداً " .
-4-
ذات صباح خرجت من حيث أنا إلى المدرسة و الحياة أيام تتناسل من أجداث بعضها البعض و لم استفق إلى عندما طرق المستخدم باب الصف , و بعد الدخول قال : " هناك زائر يريد أن يراك "
خرجت من الصف و يممت ذاتي صوب الإدارة , و لا أذكر أني طلبت ولي أحد ممن معي , و حين انفرجت دفة الباب , ووقع بصري على من جاء عاد إلى ذاتي الارتعاش , و عادت زحوف شوق تتسلل بي لتصل إلى نهايات الأصابع خدر ثم ذهول لفني وقفت .. بلعت ريقي .. رأيت القمر المهاجر مني بعيداً يعود إلي وقفت حاولت التواري عني بنصف الخمار و ابتلعت بدورها شهقتها التي فشل الدمع في لجم مهر حزنها لكن نصف القمر الدامع عاد بدراً خرجت يدي رغم أنقي و طارت صوب منابع دمعها و راحت تكفكف عن الوجه المطرز بالحزن ذاك الشحوب , فأنا ما شعرت يوماً بأني عنها غريب ولا هي شعرت معي أنها غريبة , فأنا هي و هي أنا " فأنا أشهد عند الله أني أحبها " و على الفور غادري الخوف و كذا هي خلعت منا كل ما باعد بيننا , و دون تردد عقدت كفي القران على كفها , و خرجنا بنا في منبج , و سرنا معاً و لم نكترث لمن هم في الشوارع عرفت في الطرق الموصل إلى بيتها أن الله قد أودع مالكها المقبرة و قبل أن نجتاز المسافة بين درب البريد و طريق التبة لم نر أحد و لم يرانا أحد و كأن من في الشوارع ذلك اليوم على أعينهم غشاوة , أو ربما كان الخوف هو الذي يسربل خطانا كل الطرقات تعرف وقع خطونا انعطفنا شرقاً في التواءات زقاقية عديدة و عند ساقطة باب بيتها استدارات بنا منبج كلها , و كأن هذا اليوم قد غسل سني القحط كلها خرجت يدها البيضاء من تحت الملحفة السوداء و هوت عليها عدة مرات , و صوت خطوات عجلى جاءت , و حين انفتح الباب شهقت أمها حين رأتنا , و ارتسمت ألف علامة استفهام تصل في مداها حدود الفضيحة , و لكن يدور في الضياء خير ألف مرة مما قد يدور تحت عباءة الظلام تراجع الباب إلى الخلف بيد أمها الراعشة و بانت للمسامير المزروعة في واجهته ظلال صغيرة , و سرنا و أمها أمامنا يسوقها رعب أخذ يلعب في مشيتها , ثم جلسنا على أريكة و أمامنا كرس من القش صغير , و نن ندرك حين فعلنها ما فعلناه أن هذا السكون سيمتخض بعد قليل عن العاصفة , ثم غادرتني قليلاً و أحضرت دفتراً بغلاف بنفسجي خطت عليه " سألقاك غداً " و قبل أن أتصفح ذلك الدفتر غادر الباب صمته ثم اندفع ساطور كان بطول حامله و عندما اقترب أكثر تعثر بكرسي القش الصغير , فهو الساطور و حين ارتطم بالأرض أرسل قدحاً لم يكن هذا القدح بأقل وميضاً من الشرر .
الجيل الثاني ـ المركز الثاني
وليد شعيب ـ مهبولة
مهبولة !
مهابيل ! .. كلهم مهابيل !..
الله خلقني في بلد المهابيل !؟ كل الناس مهابيل ! أهلي و أاربي و جيرانهم و أصدقاؤهم .. كلهم مهابيل .
أخي خليل , أكبر مني , أحبه أكثر من الجميع , لأنه أحسنهم , لكن يا حسرتي ! هو أهبلهم .
لم يكن يضربني مثلهم , فقد كنت أعطف عليه و ألاعبه دائماً " يلوي لي قلبي " ! كان يمسك يدي عندما أركب على الخروف المربوط و أقول : بيب … بيب ! و كان يا حرام ! دائماً يشتري لي الشوكولا لأبقى ألعب معه ! .
كنت أشتاق إليه , لأنه يغيب كثيراً عن البيت .. يذهب إلى مدارس المهابيل مع الأولاد عند الصباح و يعود معهم عند الظهر .
و لما صار له شوارب مضحكة , ذهب إلى مدرسة مهابيل أكبر في الشام اسمها جامعة و لم نعد نراه كثيراً , و كان يأتي إلى البيت كل مدة ليأخذ "مكدوس " .
أنا أحب خليل لأنه حلو , و يضحك كثيراً بصوت عال , يدق موسيقا و يرقص , يحبني و يرقص معي . أجن إن حصل له شيء , أخاف و أشفق عليه . و أكثر مرة خفت عليه عندما جاء ثلاثة بشعين و معهم بواريد و فتشوا البيت , يا حرام ! أخذوا كل الكتب و الأوراق التي كان خليل المهبول يقرأ فيها و أخذوه معهم . دفشوه و أطلعوه إلى السيارة من الوراء مثل خروفنا الذي ذبحوه ! .
" بس ..! ليش ما ضربهم ؟! هو كبير و قوي !؟" كان وجهه " زعلان " و أصفر ! .
و لما تأخر سألته أمير عنه فقالت : بالحبس ! . خفت أن يكونوا ذبحوه مثل الخروف !. غضبت عليهم كثيراً و شتمت أمهم شتيمه الفلفل الموجعة ! و لم تضع أمي الفلفل في فمي ! فشتمتهم مرة ثانية !." يمكن حبسوه منشان يبطل مهبول ".
كانت أمي تزوره في حبس المهابيل و تأخذ له الأكل .. لكنه ظل مهبولا , دائماً يطلب منها الكتب , و كانت هي أهبل منه , دائماً تأخذ له الكتب .
نمت و أفقت كثيراً و بقي خليل في الحبس .. اشتق إليه .. و لما خرج فرحت و رقصت و قفزت على رقبته و لوثت قميصه بالشوكولا , و عضضت خده . و صار بيتنا يمتلئ كل يوم بالمهابيل , يأتون ليتفرجوا على أخي خليل المهبول , كانور يحبونه كثيراً , و أنا أحبه كثيرا , نعم أحبه كثيرا , أكثر من المهبولة أختي , و حتى أكثر من كلبنا روكي و من الخروف الذي ذبحوه!.
لما وجد خليل واحدة مهبولة مثله تزوجها, صار لينام هو و إياها و لم يعد يسمح لي بأن أنام معه في الغرفة! قلت له بأني أقبل أن أنام و إياه على سرير و تنام المهبولة على السرير الآخر لوحدها ! فلم يقبل! مهبول!. ثم تركا الغرفة لي وحدي و ذهبا إلى بلاد بعيدة يتكلمون فيها مثلنا , و بعدها ذهبا إلى بلاد أبعد بكثير ! يتكلمون فيها مثل جارتنا كاترين الشقراء.. مهابيل !.
اشتقت إلى خليل كثيرا, و لما نمت رأيته رجع و صار كبيراً شعره أبيض .. و صار أجمل! ابتسم لي و قبلني و أعطاني فستاناً أحمر و قنينة كولونيا أحسن من قنينة المهبولة أختي و قال : كيفك يا ريمة بعدك عاقلة!؟ اقترب مني .. وشوشني و قال لي كلمة السر ورددت عليها من غير أن يسمعونا ! ول ما أفقت الصبح لم أره! أين ذهب !؟ سمعت من إخوتي و من الناس أنه يصل في المساء.. طيب ! كيف رأيته أنا!؟.
في هذا اليوم , جاء كثيرون إلى بيتنا و أخرجوا الأغراض من الصالون ووضعوا كراس كثيرة ليست لنا في أرض الدار و كانوا يبكون .
في الليل, قالوا : وصل خليل . صرخت, ركضت لأقفز و أتعلق برقبته القوية و أشم رائحته الطيبة, أسند راسي على كتفه, أضع خدي على خده, أقبله كثيرا, و أقف و أمسك أذنيه و أفركهما و أنظر في عينيه و أرى إن كان لا يزال يحبني!؟.
دخل الرجال الصالون حاملين على أكتافهم صندوقا كبيرا يلمع, يشبه خزانة أمي التي كانت تخبئ فيها الشوكولا قبل أن تموت! " أكيد خليل مختبئ فيه حتى ينقزني مثلما كنا نلعب أنا و إياه " !. و لما حطوا الصندوق على الأرض و فتحوه, نظرت إلى داخله فرأيت خليلا نائما..
" لأنه تعبان من السفر! ". تغير كثيرا و صار شعره أبيض و كذلك شارباه المضحكان, كان يلبس بدلة, فأصبح يشبه أبي قبل أن يموت!. خفت لما رأيته! فلم يكن نائما مثلما كنت أراه عندما كنا ننام في الغرفة الجوانية و لم أسمع شخيره المضحك! جلست قربه.. ناديته : خليل!.. خليل!.. فلم يرد!؟.. أمسكت يده فكانت باردة مثل اللحمة في البراد! لم تدفء يدي مثلما كانت تدفئها بعدما كنت ألعب بالثلج!.
نظرت إلى الناس حولي فكانوا جميعهم يبكون.. نظرت إلى خليل و طلبت منه أن يفتح عينيه فلم يفتحهما.. كأنه لا يسمعني!.. " لم يشبع نوما! ".. زاد الصراخ و البكاء حولي, خفت! قرصت خده مثلما كنت أفعل عندما أغضب منه! فلم يحس و لم يتحرك! اقتربت منه, قربت رأسي من رأسه.. خفت , قربت فمي من أذنه ووشوشته كلمة السر فلم يرد عليها! خفت! دائماً كان يرد عليها!؟ التفت إلى أخي و أخواتي فكانوا يبكون و يقولون: يا خيي سلم لنا على أمي.. مهابيل! كيف يسلم على أمي!؟ حزنت و أشفقت عليهم.
صار رأسي يوجعني كثيرا, و الدموع تملأ وجهي و تسيل على رقبتي.. تدخل صدري و تبلل قميصي, و أنا أبكي و أصرخ.ز أبكي و اصرخ.. وألطم وجهي.. و صرت مهبولة مثلهم!. وليد شعيب
الجيل الثاني ـ المركز الثاني
ماجدولين الرفاعي ـ امرأة لا تشبهني
امرأة لا تشبهني !
حررت شعرها الأسود من قبضة الشريط الحريري الأحمر الذي يضمه فتحت زرا إضافياً من أزرار القميص الأبيضِ الشفاف و تركت لعنقها العاجي حريته في مغازلة خصلات شعرها , بينما تسلل سلسالها الذهبي إلى سرداب فضي يمر بين نهدين أبيضين انكشف نصفهما من فتحة القميص و النصف الآخر كان جلياً للعيان يشفه قميص حريري بالكاد يغطي جسدها , جلست باسترخاء و غنج فوق الأريكة الزرقاء المريحة , كان فارس يقف أمامها بتهجم و اهتمام كبير بتفاصيل وجهها .. يقترب حيناً كي يرفع خصلة من شعرها غطت نصف جبهتها ثم يرجع إلى الوراء متفحصاً عن بعد شكل جلستها , ابتسمت له ابتسامة بيضاء تشي بحبها و تعلقها به .. فبانت أسنانها الصغيرة المتراصة , أما عيونها فقد تدفق من حدقاتها شلال فرح و حدائق سوسن … تجاهل ابتسامتها و قال لها بصوت جهوري تفوح منه الثقة بالنفس و النرجسية
المعتقة : اجلسي جلسة تشعرين معها بالراحة التامة لأن جلستك هذه قد تطول لساعات و رجاء لا تأتين بأية حركة , خذي نفسً عميقاً قبل كل شيء ..
– ما أجمل أن أكون الملهمة لفنان اعشقه و يعشقني لابد و أن ملامحي ستبدو في الصورة أكثر صفاء و أكثر رقة و عذوبة , سيظهر حبي له في تفاصيل اللوحة و ألوانها فعادة ما يعكس الفرح ضوءه على وجه الإنسان فيلونه بألوان الطيف .
رددت هذه الكلمات بينها و بين نفسها , و هي تشعر بالغبطة و السرور , راحت تنظر إليه نظرة غنج و دلال , لم يتغير من صرامة نظراته وجديته
كان وجهه ملبداً بالجدية و هو ينقل نظراته بينها و بين حامل اللوحة ثم يمرر ريشته على القماش المشدود بإحكام إلى حاملها الخشبي …
تململت في جلستها … تأففت ثم استكانت أمام نظراته الصارمة التي أنذرتها بالتوقف عن الحركة ..
من أصعب المهمات التي توكل للمرأة هي المهمة التي يتطلب معها أن تصمت لساعات … ساعة … اثنتان … ثلاثة … أوف متى تنتهي من الرسم يا رسول المحبة ؟
كانت قد بدأت الشعور بالتعب و الملل من حالة الصمت و الجمود التي فرضت عليها بإرادتها و لكن ما باليد حيلة فللشهرة رسومها الباهظة فقد تصبح هذه اللوحة مشهورة كلوحة ( الجو كندا ) , أو ليس ليوناردو دافنشي أمضى أربع سنوات في رسم امرأة يحبها ؟!! ضبطت أعصابها و استمرت في ممارسة الصبر الذي ما اتقنته يوماً ..
أبدت أمامه عد اكتراثها بنداءات هاتفها المحمول التي كانت تترى واحدة إثر أخرى .. كانت تعلم سلفاً بأنه لن يسمح لها بالرد على هواتفها كي لا ترتبك جلستها و تفسد اللوحة التي تعب في رسم مخططها الأول ..
– و لكن ماذا لو كان على الهاتف والدي و قد أزعجه عدم ردي على اتصالاته ؟ ماذا سأقول له و أي كذبة بيضاء أو حمراء سأخترعها كي يقتنع بصدقي ؟
– ماذا لو كان المتصل مديري في العمل و قد أزعجه غيابي و تأخري عن العمل دون مبرر ؟ بالتأكيد سيزعجه عدم ردي على الهاتف أكثر و أكثر .. أنا واثقة بأنني سأجد قرار فصلي عند المحاسب …
لا يهم فللشهرة رسوم باهظة الثمن و علي تحمل تكاليفها …
جالت في فكرها مئات الأسئلة و قوافل من الأفكار , و التهيئات , و الصور و لكن كان عليها طردها جميعها و الاسترخاء التام خشية أن تظهر ملامحها في اللوحة متوترة قلقة …
كان فارس منهمكاً في عمله , يمزج الأزرق بالأحمر فينبهر بالبنفسجي المتوهج حزناً , لم يلحظ توترها و قلقها , فهو كالعادة ينسى نفسه تماما عندما , يستغرق في العمل كلياً فينسى مشاعره و أحاسيسه و ينسى معهما كل الدنيا فليس لطموحه حدود …
أمام انهماك فارس و طول فترة صمته راحت ناهد في شرود طويل , تذكرت الكثير من مواقفه السيئة معها ولامبالاته أمام أحزانها , فقد كان آخر المعزين يوم وفاة والدتها و عذره وقتها أنه لم يعلم إلا متأخراً لأنه لم يتصل بها بسبب عدم وجود تغطية في المرسم باعتباره قبوا , يوم عيد ميلادها افتعل مشكلة تافهة كي تكون سبباً في غلق الهاتف في وجهها و من ثم التواري أياما قبل أن يقول لها كل عام و أنت بخير و لم يكلف نفسه عناء شراء و لو باقة ورد بحجة أن موعد الاحتفال قد فات وقته … تذكرت اكتشافها لخيانته مع صديقتها ,
فانهمرت أحزانها بغزارة و قطبت جبينها و تناثرت في المرسم التنهيدات ..
ارتجفت على وقع صوته المرتفع الذي جلجل في المكان و هو يصرخ :
– ناهد … ما بك ؟ انتبهي سوف تفسدين اللوحة عدلي جلستك ولا تتحركي ..
رسمت هذه المرة ابتسامة بلاستيكية تشبه ابتسامة الفرح و حاولت اصطناع السعادة لعل عيونها تعاود لمعانها مرة أخرى .
( لقد صدقت فرحي و آمنت بابتسامتي جيداً .. هذه المرة استطعت خداعك )
غول الوقت يأكل الساعات و قلبها تزداد نبضاته خوفاً .. قلقاً .. و مللاً أيضاً .. ما الذي دعاها لقبول عرضة و الجلوس ساعات أمامه ؟
لماذا لم ترفض عرضة على الأقل في الوقت الذي حدده هو ؟ لماذا لم تفرض شورطها كأن يرسمها في يوم إجازتها و بعد تامين كذبة مناسبة لأهلها ؟
لماذا سمحت له بان يسلبها إرادتها و يحولها إلى دمية يحركها بمزاجه المتقلب كالشتاء ؟
تبا لها كيف حجمت عن شخصيتها أمامه و هي المرأة القوية المتحدية الصلبة ؟
أيعقل أن يكون للحب سحر يجعلك أليفاً كأرنب منزلي مطواع ؟
لم تسمع وقع خطاه و هو يتجه صوبها فوجئت بيده الباردة و هي تمتد إلى صدرها و تلامس جلدها الأملس كي تعدل فتحة القميص .. هي ذات اليد التي كانت تعشقها و تشعر بدفئها عندما تلمس خدها في جلسات حميمة هي ذاتها الأصابع التي كانت تشعلها رغبة و هي تداعب شفتيها .. لكنها الآن لم تشعر إلا ببرودة تلك اليد و هذه الأصابع فقد لامست صدرها كالسماعة الطبيب الأكثر برودة من مشاعرها , في هذه اللحظة التي اجتمعت فيها كل انكساراتها و تحولت إلى خنجر غاص عميقا في وجدانها , و تقاطرت قوافل ندمها نحو اللحظة التي بددتها الذكريات … ( إن ما فعلته أنت من أشياء حطمتني لا يقاس بحجم ندمي الذي أشعر به الآن ) , و هل ينفع الندم و يرجع ما فات من سالفات الأيام ؟
لقد سلمته قياد قدرها باسم الحب فتنازلت عن كبريائها و عن كرامتها و صارت امرأة عادية كغيرها من النساء تقتلها الغيرة و هي تلاحقه محاولة كشف ألاعيبه و حيله و تبريراته السخيفة مقتنعة تماماً بكذبه و بخياناته و لكنها كانت دوماً تكذب على نفسها و تصدق تبريراته .. ربما لم تكن تصدقها و لكنها لا تريد الابتعاد عنه !
– ناهد للمرة الأخير أحذرك ستفسدين اللوحة عدلي من وضعيتك … دقائق و ننتهي …
– لا بأس ياعزيزي أنا آسفة جداً يبدو أنني شردت قليلاً ..
بكل جدية تابع فارس رسم اللوحة وبدت ملامحه أقل صرامة و راح ينقل ريشته بخفة , ضربة هنا و ضربة هناك … بينما ينظر بين الفنية و الأخرى إلى وجه ناهد الذي امتقع لونه و زينته ابتسامه صفراء .. و هي تجبر عقلها الباطن على تذكر الأشياء الجميلة التي جمعتهما معاً .. تذكر الرسائل الرقيقة التي كانا يتبادلانها صباحاً .. تذكرت الأمسيات الجميلة في مقاهي الحي القديم , تذكرت دموعه على صدرها عندما عايش آلام الكلى لمدة ثلاثة أشهر فكانت له ممرضة و أختاً و حبيبة , بكى يومها ندما قبل يديها و هو يعتذر عما تسبب لها من مشاكل و أحزان .. كانت تشعر وقتها و كأنها أم عليها رعاية وحيدها المشاغب التائب عن مشاكساته ..
– ناهد هيا اذهبي الآن إلى المطبخ و اعدي القهوة انتهينا ..
استلقت على المقعد و مدت جسدها بالكامل , لوحت بيديها في الهواء في محاولة لتنشيط خلاياها المسترخية , ألقت نظرة باتجاه فارس الذي أشعل لفافة تبغ و راح يمج دخانها بتلذذ المنتصر بعد معركة ضارية .. كانت هي إحدى أدواتها ..
بعد دقائق قفزت ناهد من مكانها بسرعة و توجهت صوب اللوحة تريد أن ترى حصيلة صبرها و إبداع فارسها المشهود له في كل الأوساط الفنية و الثقافية .. نظرت إلى اللوحة ثم صرخت صرخة مدوية اهتزت لها كل نوافذ المرسم و مراياه : إنها امرأة لا تشبهني !!! ماجدولين الرفاعي
الجيل الثالث ـ المركز الأول
مصطفى الموسى ـ تمثال من ثلج
تمثال من ثلج بعد منتصف الليل بدقائق , انتشله النعاس من التثاوب على أريكة غرفة الجلوس .. ثم قاده كطفل إلى غرفة النوم ضوء خفيف ينسل بهدوء من مصابيح الشارع إلى غرفة النوم عبر زجاج النافذة , ليهجو بضعف عتمتها .
بكاء مخنوق لا يكاد يسمع , و كأنه لامرأة بعيدة . تأمل اهتزاز جسدها و داعب – محتاراً – ذقنه بسبابته …
ثم اندس جانبها في الفراش , عندئذ استدار جسدها إلى الجهة الثانية .
أرخى رأسه على الوسادة , الوسادة ذاتها التي تحضن رأس زوجته من الطرف الآخر .
هو أيضاً استدار فأصبح مقابل ظهرها , على السرير نفسه . تحت الغطاء ذاته , في عتمة غرفة نومهما .
قال له رجل داخل سره : – ألم تجد حلاًَ آخر .. سوى أن تصفعها ؟
تنهد بحزن هائل يجثم كصخرة على صدره .. وضع كفه بين خده و الوسادة , و قال مغمض الجفنين في أعماقه لذلك الرجل :
– لم أكن أقصد صفعها .. لقد أخطأت ..
– – إذن استدر إليها الآن .. إنها حزينة .. لم تنعم بعد .. الحزن سببته صفعتك لروحها لن يجعلها تنام , استدر إليها و ارفع الغطاء عن وجهها .. امسح دموعها الخرساء , اعتذر منها قم قبلها ..
– لا أستطيع ..
همس بضعف .. فأردف له ذلك الرجل الجالس في أعماقه :
– حاول .. تذكر ما قاله جدك في ليلة قديمة .. قال لك " لا تجعل امرأة ما تحبك أن تنام حزينة منك " .. أنت اسمعني .. لا تسمح لهذا الخطأ أن يكبر , هو ما يزال صغيراً .. يحبو بأظافره الطويلة داخل قلبها . مجرد كلمة و قبلة تكفيان لمحاصرة خطئك , و إرساله إلى النسيان ..
مرتكباً .. استدر إليها ببطء تفوح منه رائحة الخجل , ثم استنشق نفساً عميقاً .
مد يده – ذات الأصابع الخائفة – إلى كتفها المتدثر بالغطاء , لكن .. قبل أن يلمسها تجمدت بغتة أصابعه في الهواء , عض على شفته السفلى .. بعد ثوانٍ أرجع يده و استدر إلى الجهة الأخرى .
– قلت لك مجرد كلمة و قبلة , كلمة من أجل ذاكرتها تحميها من مشهد الصفعة , و قبلة على خدها الأبيض الذي رسمت عليه أصابعك .. فقط .
همس بحنق له ذلك الرجل .
– لا أستطيع .. أعدك .. غداً سأراضيها ..
– الآن .. لا تركل هذه الفرصة ..
– أرجوك .. أنا مرتبك .. أعطني مهلة حتى مساء الغد .
– إذا أعطيتك مهلة .. قد لا تعطيك هي مثل هذه المهلة .
– أرجوك لا ترهقني ..
قال الزوج متوسلا .. ثم بعد هنيهة صرخ بغضبٍ ذلك الرجل :
– عثرت على حل سهل يناسب ترددك استدر إليها و قل : " تصبحين على خير "
– الآن ! ..
– و هل " تصبحين على خير " تقال في الصباح ؟ .. طبعاً الآن .. أسرع .. قلها الآن ..
التفت بحذر إليها .. كان جسدها ما يزال يرتعش ببكائه الصامت تحت الغطاء . ارتجفت شفتاه قليلاً .. حاول أن يتكلم .ز تلعثم .. ولا حرف استجاب لرغبة لسانه , و كأن لسانه صار أشبه بجثة .. حاول مرة ثانية و ثالثة .. إلا أن لسانه ظل مشلول الحروف .
ضاق ذرعاً بنفسه , فاستدار على عجل إلى جهته , و حشر رأسه – مثل طفلٍ – تحت الوسادة .
– أنا ذاهب .. وداعاً ..
قال الرجل الجالس في أعماقه و هو ينهض كمسافر .
– إلى أين ؟..
بلا اهتمام تساءل الزوج و هو يتثاءب .
– إلى أي مكان واسع , حجمك لم يعد يتسع لي ..
– أعدك .. غداً سأحل المشكلة , الآن أنا تعب و نعسان .
ثم اختفى ذلك الرجل , و كأنه ماء تحول إلى بخار .
أسفل الوسادة و الغطاء ظل الزوج وقتاً طويلاً يحاول أن ينام , ثم غفت عيناه لدقائق .
نسمة هواءٍ باردة جاءت من شوارع الليل , دفعت النافذة ففتحتها قليلاً , و دخت بهدوء و حذر إلى غرفة النوم .. كشبح لصٍ يبحث عن شيء ما ليسرقه .
على الطاولة الصغيرة الملاصقة للسرير من جهة الزوج , علا رنين جرس الهاتف .
نصف نائم و بتثاقل بسط يده و صار يتحسس الهاتف , إلى أن عثرت أصابعه على السماعة , فالتقطها ووضعها على أذنه و عيناه ما تزالان مغمضتين .
– ألو ..
قال الزوج و تثاءب .
– ألو ..
استيقظت عيناه عندما تسلل ذلك الصوت الضبابي – ذو النكهة الغامضة – إلى أذنه .
– من تريد ؟..
تساءل بريبةٍ فأجابه الصوت الضبابي .
– بجانبك يوجد امرأة جميلة .. أخبرها أنني سأخطفها الآن من سريرها , و أطير بها إلى قصري .
بلا تفكير .. خبط بحنقٍ السماعة على الهاتف , عض على شفته السفلى ثم راح يتأمل سقف غرفة النوم بملامح وجهه المتهجمة .. تشابكت أصابع كفيه مع بعضها تحت رأسه على الوسادة .
همس ممتعضاً في سره : – يمكن أن يكون لديها عشيق , و عشيقها هذا يريد إزعاجي في هذا الوقت المتأخر من الليل .. الخائنة .. كنت أظن أنها تحبني .. كم أنا بسيط ؟ امرأة مثلها تستحق أكثر من صفعة .. أصبت عندما نمت دون أن أكلمها ..
علا رنين الهاتف ثانية فرمقه الزوج مرتاباً بطرف عينه , ظل يرن لدقائق .. تخيلها سنوات .. كاد أن ينفجر .. تناول فجأة السماعة ووضعها على أذنه .
– ألو ..
قال الزوج بنبرة غاضبة .
– ألو ..
أجاب الصوت الضبابي و كأنه قادم من عالم آخر , كظم الزوج داخل صدره قنابل غيظه .
– ماذا تريد ؟..
– أريد زوجتك الآن دون أي شرط ..
وصلت الشتائم حتى رأس لسانه , لكنه تمهل ثم سأله الزوج :
– من أنت ؟..
هطلت على أذنه زخة قهقهات محملة بصداها , و كأنها قد عبرت محيطات و قارات و أزمنة عديدة و خرائب منسية .
قهقهات لها طعم الغبار على اللسان , ثم صاح ذلك الصوت الضبابي في أذنه :
– أنا الموت .
بوجه يكلله الفزع نهض نصفه الأعلى عن السرير .. و هو يلهث , لا شيء في غرفة النوم سوى العتمة .
تأمل على إيقاع أنفاسه المتسارعة هذه العتمة بخوف .. زفر و مسح بأصابعه عرق جبينه , تنفس الصعداء ثم شتم هذا الكابوس .
تثاءب .. فهبط رأسه على الوسادة , مرة دقائق من سكون لم يستطع إغماض جفنيه أثناءها .
خاف – إن هو غفا – أن يرى كابوساً آخر , صرير مفاصل قضبان النافذة ذكره بزوجته .
فجأة التفت بسرعة البرق و مد يده إليها , كان الغطاء قد انحسر عنها قليلاً فبان كتفها .
لا مست – أثناء ارتفاع خفقات قلبه – أصابعه بياضها .. فسرت في جسده رعشة حادة , ارتجفت على إثرها كل خلاياه .. بعد أن داهمتها موجة من برد .
أمسك بعنف كتف زوجته و هزها , لهنيهة خيل له و كأنهقد وضع يده على تمثال من ثلج , هزها ثانية منتظراً صوتها .
لم يفهم شيئاً .. لم يسمع شيئاً سوى ضجيج خفقات قلبه الخائفة , عيناه الحائرتان نظرتا بتوجس إلى النافذة .
ضوء خفيف لمصباح الشارع , ساعده فلمح قبل دمعته بثانية – هو الجالس على السرير بوجه يكلله الشحوب في عتمة غرفة النوم , جانب زوجةٍ صامتة صمتاً أبدياً – لمح نافذة الغرفة , و التي كانت في هذه اللحظة تماماً مفتوحة على مصراعيها …. مصطفى الموسى
**************
الجيل الثالث ـ المركز الثاني
جيهان سيد عيسى ـ حب
حب ؟؟!! .. يقترب بوجهه من البخار المتصاعد من فنجان القهوة الذي يحتويه بين يديه لعله يبعث فيه شيئاً من الدفء – يخنقه بأصابعه يحاول أن يتحد معه – ثم يرجع بكرسيه إلى الوراء قليلاً , تصطدم عيناه بالساعة المصلوبة على الحائط أمامه , لقد دب البرد في أوصال عقاربها المتكاسلة حتى كأنها شلت عن الحركة .." أين رشاقة هذه العقارب عندما كانت تركض و تتسابق مع نظراته و تغلبها ؟ لماذا لم تعد تنزلق على جسد الساعة كسالف عهدها ؟ و قطرات المطر التي كانت تتراقص على بلور النافذة إنها اليوم تنزلق لزجة و كثيفة كالصمغ و كأنها تريد اقتحام غرفته لتمتد حبالا حول عنقه و تخنقه … لا شيء في هذا الكون يتحرك حتى الأرض كأنها تعبت من الدوران فقررت الوقوف .. لا أحد في هذا المنزل سوى الوحدة يداعبها , يحاول أن يتعايش معها و يتأقلم مع جدران كهوفها و يعرض عليها صداقته فهو وحيد مثلها و قد فرضت عليهما الإقامة معاً في منزل واحد و غرفة واحدة و فراش واحد … لكنه يكره بردها و ثلوجها و صمتها و سكونها و هو الذي اعتاد في الأمس حرارة شمس استوائية …" ما أقساك أيتها الوحدة و ما أقبح وجهك المتجمد " لا لن يحمل الوحدة كل هذا إن زوجته " هي السبب نعم هي السبب " يقولها في نفسه و قد عاد بكرسيه إلى الأمام و بللت وجهه دموع عين أسكرتها عناقيد خمرة الحب ليال طويلة , لقد زرعا معاً بساتيناً من الذكريات لكنها تركتها و رحلت فأقسم أن لا يدعها تذبل و تموت لكن إلى متى سيستطيع أن يسقيها وحيداً ..؟ زرعا الليل قرنفلاً و النهار ياسميناً فتنكرت لكل ذلك و أدارت ظهرها و بكل برود مشت حينما جاءها هذا الغريب , ناداها فتتبعته …" ما أكثر غدر النساء !" ألم تحلف له بالأمس بأنها ستظل ظله الذي لا يفارقه أبداً ووثقت اليمين بسلسال من الدموع . أجل إنه مازال يتذكر و الجدران تشهد و هذه النافذة تشهد .. كيف سمحت لغيره إذا أن يغويها و يعرف طريقه إليها و هي التي زعمت بأنها لن تحيا مع أحد سواء – كيف سلبه إياها و هو واقف يتفرج لم يفعل شيئاً و لم يحرك ساكناً , لم يستطع , مع أنه كان معها لم ينتبه إليه كيف جاء , ما إن ظهر لها حتى استسلمت لمكره و مضت معه , هل تراها حلفت له أيضاً بأنه بات ظلها الذي لن يفارقها أبداً , الجميع من حوله – في البداية – استنكروا و رفضوا هذا الغريب لكنهم في النهاية اعترفوا به و بات واقعاً لا سبيل لإنكاره وزاروها مصطحبين معهم سلال الورد , فستان زفافها لازال معلقاً في الخزانة يحكي لها عن أجمل ليالي العمر , عودته كلما عزفت الساعة لمولد عام جديد في علاقتهما أن ترتديه له و تجلس عروساً رائعة بين يديه , لكن لا الساعة عادت تعزف ولا الثوب عاد يجد من يرتديه , أخبرته بأنه ثوب زفافها الوحيد و الأخير لكنها غدرت و ارتدت غيره , أجل لقد زفت عندما تركته أيضاً بثوب أبيض جديد – لكنه و رغم الخيانة و الغدر مازال يحبها و يعشقها إنه يشعر بها تجري في عروقه , كلمة " حبيبي " تأتيه أصداؤها بغنجها و دلالها من كل غرف البيت يركض وراءها , يبحث عن مصدرها فإذا بها تأتي من المطبخ , يذهب …"لا" إنها تأتيه من الحديقة يركض … لا إنه يسمعها تأتي من غرفة الطعام , يسعى … يبحث الآن يجدها إنها مختبئة مابين النوافذ و الأبواب و الستائر , يمشي بحذر عله يباغتها فيصطدم ببلور النافذة المغتسل بقطرات المطر المتراقصة الشامتة به , يذهب يبحث في غرفة الطعام … في المطبخ … في الحديقة … في الخزانة … وراء الأبواب … في غرفة النوم … في الفراش … تحت الوسائد … في كل مكان , ينقسم شظايا و ينتشر في كل انحاء المنزل يبحث عنها فيصطدم الأصداء , يغلق أذنيه , تظهر له على الجدران … على الأرائك متوسدة .. في المطبخ تجلي , تكنس … من وراء النوافذ منتظرة يركض و تركض عيناه قبله لا يسبقها إلا يداه فإنا بكل شيء يتبخر و يتكاثق و يتحول لغمام يهطل قطرات الوحدة و السكون فيشعر ببرد مفاجئ , يرتجف و يعود لفنجان القهوة عله يجد الدفء ببخاره المتصاعد فيجده قد برد من كل شيء , يتذكر لحظة الرحيل , رغم قبولها و استسلامها لذلك الغريب و لغدره إلا أنها ودعته بدمعة خنقته ملوحتها التي انتشرت لتغطي كل انحاء البيت .. كل ما حوله صنعته بيديها هذا وضعته هنا و تلك وضعتها هناك .. و هذه الآنية وضعتها في تلك الزاوية , و هذا الكرسي خبأت وراءه ضحكة أحمل ما كان فيها أنها له وحده .. عطورها … ثيابها , في هذا المكان اختلفا و تشاجرا , في تلك الزاوية ذوبا الشجار بعناق طويل ." أي ليل طويل يمضي بدونك يا حبيبتي ؟؟ و أي غدر كبير جعلك تتركين خطواتي وحيدة و تمضين ؟؟ " هاهي زخات المطر تهطل بغزارة و السماء ترعد بقوة ," أين رأسك يركض خائفاً كعادته فلا يجد إلا صدر خليجاً ترسو عنده سفينتك بعد سفر طويل متعب …" أين تجدين أمانك الآن ؟ نسيت ؟ " حبيبي .. صدرك يمنحني أماناَ غريباً لم اشعر به في حياتي … عنده اشعر بأني أقوى من في الأرض جميعاً … لا أخاف شيئاً حتى المطر يصبح سيمفونية جميلة عندما أكون على صدرك , و كذلك المتعة تسحب ظلمتها بعيداً عني عندما أرسو عليه …. صدقني حبيبي .. لا أدري لماذا ؟؟ و لكنها الحقيقة "و تسبحين بعدها في بحر نوم عميق … أين تخبئين رأسك الآن يا حلوتي من هذه الزخات القوية ؟؟ إلى أين تهربين من جنون تلك الرعود و البروق ؟؟؟ هل وجدت أماناً آخر بعيداً عني ؟؟ أم أنك قد أضعت ذلك الأمان ؟.." و تعمل الأفكار و الذكريات مطرقتها على رأسه … لا يستطيع ,,, أي لغم في راسه سنفجر الآن ؟ عيناه تغور في مغارتيهما … تهرب تختبئ .. أذناه دوي الذكريات يكاد يصمها , هجوم عنيف تشنه صور علقت بالمخيلة و سيطرت عليها , حرب لا هوادة فيها لا يملك في ساحتها أدنى نوع من أنوع السلاح … يهرب وراء عينيه , وراء أذنيه , وراء جلده و أعضائه , لكن الهجوم كاسح , صورتها … صوتها … ضحكتها … خوفها … حزنها … فرحها … ليلها … صباحها… و فنجان القهوة من يها كل شيء , كل شيء يهجم و يهجم و يشعل فيه نيران شوق لن تنطفئ .. لقد حولته تلك النيران لمرجل يغلي و يغلي , لم يعد يقدر , سيراها أجل سيراها , لن يتمنع عن رؤيتها أكثر من ذ1لك رغم خيانتها , سيذهب و يزورها كما زارها الآخرون و ستستقبله , أجل لن تتمنع عن رؤيته , سيشفع له عندها حب أزلي قديم حب شهده البحر يوماً فاكتسب خلوده … حب عايشته الليالي فأضاءت لها النجوم , حب لا يجد له مرادفا في قواميس اللغات ولا يذكر كيف ولد و كيف صار الكون بأسره … حب باركه رب السماء و الارض … أجل , سيذهب رغم أنه لا يطيق رؤيتها في منزل غير منزله و عند أحد سواه , لكنها براكين الشوق تتأجج و تتلبسه نيرانها .. يفتح الباب و ينطلق , يبحث عن سيارة تقله لعندها لكن الليل مازال قابعاً لا يتحرك من شدة البرد ولا يوجد سائق مجنون يغامر بالخروج من منزله الآن باحثاً عن زبون لذلك قرر أن يركض إليها و يركض … يسلم نفسه للرياح و يفرد جناحيه و يطير غير آبه بقوتها ولا بزخات المطر فوقه فهو يشعر بحاجتها إليه , إلى صدره , هو متأكد بأنها في هذه اللحظة خائفة تبحث عن صدره , عن أمانها و خليجها , لكنها لا تجده , نعم يعرف أنه من المستحيل أن تشعر بالأمان على صدر غير صدره لذلك يحمله إليه و يركض صائحاً " لا تخافي يا حبيبتي فصدر قادم إليك , لن أسمح للظلمة و عواصف المطر بالتآمر عليك , لا تخافي يا ياسمينتي … يا قطتي الصغيرة … ليس هناك من يمنحك الأمان غيري , كم بعيدة هي المسافات بيننا , لكنني سأصهرها بخطواتي لأجل عينين خائفتين … يا إلهي كم أنا سعد فها هي مشارف منزلك تتراءى أمام عيني … لم تعد بيننا سوى أمتار سيختصرها قلبي قبل قدماي , تموزك قد عاد يا حلوتي فلا تخافي , ستضعين رأسك الصغير على صدري و تغلق كفاي النوافذ عليه فلا يستطيع الخوف أن يهيج الأمواج في بحر عينيك الصغيرتين , فلتهدأ و لتسكن ففارسها قد عاد , عاد عرشك المسلوب و عدت أميرة من جديد … أبجديتي القديمة قد جاء من يقك طلاسم الحروف المخبأة … هاهو الآن قد وصل و حارس البوابة نائم , يدخل …. يركض …. و يبدأ القلب بالرقص على دقات طبول إفريقية تدق و تدق و يتماوج مع نيران بعيدة و يتماهى معها في لوحة واحدة , يركض …. كل ما فيه ينادي "حبيبتي " يجدها نائمة بخوف , يلقي بنفسه عليها " حبيبتي تستسلم له و يستسلم لها غير آبهين ببكاء السماء فوقهما , و في الصباح يرتفع صوت المآذن معلناً عن جنازة رجل وجد مستلقياً بهدوء فوق قبر زوجته " …. جيهان سيد عيسى
**************
الجيل الثالث ـ المركز الثالث
رغد علاء الدين ـ مريضة ذات حظ
مريضة ذات حظ رائحة الدواء تعبق بالمكان ..
و الشراشف البيضاء مكدسة فوقها كالكفن الثقيل …
أطباء ذوو ابتسامات مزيفة يسألون عنها بلهجة قلق كاذبة …
كانت تنظر إلى شاشة المحمول طويلاً ..
تصرخ بصمت في وجه الوقت … امض أيها اللعين …
سئمت هذه الابتسامات المزيفة …
و هذه الغرفة التي بشكلها البائس تزيد المريض مرضاً ..
دارت بعيونها المرهقة في انحاء الغرفة بيأس …
إلى أن وصلت إلى النافذة فثبتت نظراتها عليها …
و فاضت عبرة منعتها طويلاً من الحرية …
احست بالبعد و الألم … باليأس و العجز …
فجأة … صرير مزعج أثناء فتح الباب بطريقة همجية …
حولت عيناها من النافذة التي كانت تحس بعض الحرية و هي تنظر عبرها إلى ذلك الكائن العجيب الذي سد أغلب الفراغ الناتج من فتح الباب …
ممرضة فازت بلقب أكثر وجه حوى أكبر عدد من الألوان … ترتدي الثياب التي كانت بيضاء بيد أنها أبت إلا الرغبة بالزينة ببعض بقع الزيت و الدواء و الشاي و الدماء …
و نطق ذلك الكائن العجيب بصوت يشبه كل الأصوات إلا صوت الأنثى … جائتك هذه الباقة من الورد … و تقدمت ووضعتها على الطاولة … قرب ذلك السرير التعيس الذي يحوي جسدها المنكمش ..
باقة .. غاية في الجمال .. لا تحوي إلا الورد الأبيض
باقة تنطق عشقاً و لهفة …
آآآآه .. خرجت من فمها عنوة .. لشدة تأثرها …
مدت يدها و أمسكت البطاقة الموجودة على البطاقة ..
شفاكِ الله .. يا أغلى من الروح …
و اغرورقت عيناها بفيضان من الدموع ….
أغرق وجنتيها اللتان طالما خفق لهما قلب حبيبها …
حالة من الذهول الممزوج بالسعادة الحذرة …
سنين مضت و أنا استجدي هذه اللفتات …
أزمان مرت و أنا أحلم .. حتى بالفتات …
ما السبب الذي دفع زوجي .. لأن يتحول إلى إنسان على حين غرة …
ما الدافع لإرسال ما يحييني و يغمرني بالسكينة …
يومان قد مروا .. و أنا هنا … و هو لم يتصل حتى … ليسأل عني …
مممممممممممممممم .. لا أبالي .. سأستمتع بالنظر إلى جنائن الورد هذه ..
ما أروع الورد .. و ما أكثر نطقه لكل التعابير و المشاعر ..
و فجأة و بنفس الطريقة اللبقة .. تدخل الممرضة صاحبة اللهجة الغبية … أليست هذه الغرفة رقم 27 أجابت ..لا.. هي الغرفة 26
بكل قسوة .. اقتربت و بخطوات ثقيلة الصوت .. اختطفت الباقة .. مبتعدة باتجاه الباب الذي بالكاد يتسع لحجم بلادة هذه الممرضة .. خطأ بالغرفة .. الورد ليس لك … هو للغرفة المجاورة …
هي .. شعرت بخناجر بعدد العروق الموزعة في جسدها .. تنغرز .. خنجراً كبيراً .. في كل عرقٍ صغير ..
و بكل .. عدل .. رغد علاء الدين