قصص هيثم بهنام بردى الشارقة
- فبراير 19, 2015
- 0
الكاتب هيثم بهنام بردى
قصص مشاركة في ملتقى حلب التاسع للقصَّة القصيرة جدًّا
دورة الوفاء إلى حلب من الشارقة عاصمة الثقافة الإسلامية
الساعة السابعة مساء أيام (19-20-21-22 /2015/2)
قصص مشاركة في ملتقى حلب التاسع للقصَّة القصيرة جدًّا
الكاتب هيثم بهنام بردى
دورة الوفاء إلى حلب من الشارقة عاصمة الثقافة الإسلامية
الساعة السابعة مساء أيام (19-20-21-22 /2015/2)
هيثم بهنام بردى
العراق/ الموصل
إبتسامة
بيت قديم تهب من جنباته رائحة الطابوق والرطوبة والذكريات العتيقة، بيت كل مافيه قديم: الآثاث، البلاط، التنور، الطابوق، الستائر، والأنفاس التي تتجول في أفيائه وزواياه وسقوفه المتقشرة.
بيت كل ما فيه يفصح عن خلاصة عراكه مع الزمن وهو يلم بقاياه المتهالكة وفي بصيرته تجربة العنقاء مع الرماد.
بيت يقايض ما تبقى فيه من حياة بالتمسك بآهاب المرأتين الشابتين اللتين تؤنسان وحشته بصراخهما وشجارهما السرمدي أناء الليل وأطراف النهار، وبعد أن ينتهيان من الزعيق تقتعد كل واحدة عتبة غرفتها ثم تشرعان ثدييهما بوجه السماء والزمن المهرول والشمس اللائبة، ويلقفان الحلمتين بفمي طفلين رضيعين.
الأولى: وهي تناغي رضيعها المنهمك بالمص مثل نحلة دؤوبة على وردة ريانة يغطيها الغبار والنسيان.
– هلم يا صغيري الجميل، أرضع حليبي الطيب لتصير في المستقبل طبيباً مشهوراً يداوي الناس.. الناس الطيبين فقط.
وترمي الأخرى بنظرة مصبوغة بألوان الطيف النفسي المتشابك كنسيج العنكبوت، وفي العمق، في سويداء الحدقة نيران تهمي.
الثانية: وهي تحضن وليدها وتعصر ثديها بأصابعها المتشققة، ترنم.
– هيا ياصغيري الساحر، أرضع روحي وحياتي لتصير مهندساً معروفاً يبني العمارات ويسكن في قصر كبير وله سيارة حديثة.. وعلى كيد العذال.
والعنكبوت ينسج في الكيانين اللابدين خلف خرق تعارك الزمن، ويتحول الكيانان إلى مجرد خيوط دكناء لعناكب عديدة تسكن القلوب والأعصاب لتتحول المرأتان إلى عود ثقاب وكاز.
الطفل الأول: يتخلى عن الحلمة، وينظر إلى الآخر.
الطفل الثاني: يتخلى عن الحلمة، وينظر إلى الأول.
فيشرق الطابوق المتداعي والسقف المتشقق والطوار البليل البارد، بطيف إبتسامتين تنسل من فمين لدنين ويغسل أدران الزمن ويقطع خيوط العنكبوت.
الأصدقاء
أتكور، أتقنفذ، أصرف أسناني صريفاً، أدخل ركبتيّ المرتجفتين في حنايا بطني الحارة الدافقة بالأنفاس، لا جدوى… البرد يثلج عظامي، والبطانية الفريدة الوحيدة تقف عاجزة أمام البرد القارس (تجعل الجسد يحترق وكأن البرد نار)، أفتح عينيّ وأشمل غرفتي بنظرة متعبة: أغرق مع أشيائها وأبحث عن آثاثها وسط دغل من غلس جهم هارب من نثيث الريح المدومّة في الخارج، المتعاركة مع أشجار النخيل والسدر والصفصاف، أتوسل الضياء… أراه ملموماً على نفسه وينوس بإستحياء جم في أحشاء الزجاجة الصغيرة لقنديل لم يغتسل منذ زمن. أقفز من السرير وأتوثب قافزاً في أرجاء الغرفة مثل ممسوس، أبحث عن البرد لكي ألثم خناقه بقبضتي، أهمس لنفسي.
– كيف أتصرف؟ كيف أتقيّ الزمهرير المسافر في أعماق العظام؟
أتجه صوب المنضدة وأفتح زر المذياع، وشيش كالريح الصرصر الهابة من أعماق الغابة الغارقة في عمق القرية الحجرية، أقفل الزر فيغرق الكون في سمفونية الليل والبرد والريح، وفي لمحة تعانق عيناي أصدقائي الخلّص في وحدتي الخرافية، أراهم يبتسمون لي: همنغواي، باربوس، نجيب محفوظ، ديستويفسكي، أبن طفيل، ديوارنت، ملفل، يوسف أدريس،…الخ، أبادلهم الإبتسام وأهمس لهم.
– أعرف ما تفكرون فيه.
وفي الحال أنفّذ رغبتهم الملحاحة، أحملهم برفق بأغلفتهم الزاهية وأرتبهم فوق البطانية ومن ثم أحشر أصدقائي الآخرين فوقهم، نتراص في كيان مفعم بالمحبة الأبدية ثم أحشر جسدي المنتفض بالحياة تحت البطانية وأغمض ذاتي على همساتهم وقصصهم ورواياتهم وأبحاثهم التي ما أتموها بعد.
الصخرة
دخل رجل مدينة متلفعة بالليل، إتجه نحو حي الشمال، طرق باباً، فتحه شيخ وقور بجلباب مذهب الحواشي، قال الرجل:
– جوعان.
أُوصِد بوجهه الباب.
في الحي الجنوبي.
– عطشان.
أُوصد بوجهه الباب.
في الحي الشرقي.
– تعبان.
أُوصد بوجهه الباب.
في الحي الغربي.
– نعسان.
أُوصد بوجهه الباب.
خرج من المدينة، إتكأ على صخرة صمّاء يتأمل البحيرة الغافية، أخضلّت عيناه بالدمع، وفي إحدى إنفتاحات الأهداب البليلة لمح من أبواب المدينة: الشمالية، الجنوبية، الشرقية، الغربية… أطفالاُ يخرجون أسراباً: جوعى، عطاش، عرايا، نُعس. دخلوا في الرجل، فتسربلت المدينة والصخرة والبحيرة والسماء بالضياء، وإنشقت أبواب المدينة…
العشّان
إرتقى الصبي قمة الجذع، كان يعّض طرف دشداشته بنواجذه بشّدة، وبيده اليمنى يتحسّس الصرة الصغيرة التي تعانق أسفل بطنه، يحس بالرطوبة تداعب أسفل سرته فيحبس ضحكة عميقة،… يحدق صوب الهدف، يخرج الأول رأسه ويرشقه بنظرة مستفهمة بعينيه الصفراوتين المزغبتين فيما الآخر لابد على القش لا يند عن أية حركة، يمسك بالغصن محاذرا ألاّ يسقط ثم ينهض قدميه وينزلق جسده زاحفاً فوق الأوراق مثل أفعى محنّكة، يحاذي العش، ينظر اليهما… شعرا بوجوده فرفرفا جناحيهما اللحميين وفتحا منقاريهما وأغلقا عينيهما، مد ذراعه نحو عبّه وأخرج الصرة، فرشها على لملمة دشداشته بين ساقيه، بانت في طياتها حبيبات البرغل المطبوخة الباردة، أركن ظهره على غصن غليض ثم مد أصابعه وتناول حبة ووضعها في جوف المنقار الأول والثاني، وهكذا منقار يعقب منقارا حتى إرتكن الرأسان في دعة وهدوء وفي أمائر العيون شبع أكيد ونعاس آسر وناما بأمان في العشّين… عشّ من قش وآخر من لحم ودم .
ما كان حلماً
الفضاء الموبوء بالعتمة والعطن والهواء الرطب والعناكب السادرة يجثم على المناضد والتخوت ويتسلل إلى ثنايا الوجوه المصلوبة على الجدران والمرايا…
والذكريات العتيقة والقامات المتلفعة بالدمائر والصايات والأحذية القطنية ورائحة التبغ الرديء، تفد إلى الداخل مضيئة الأرجاء ببريق عيونهم وأسنانهم، يتصالب الليل في الخارج ويومض المكان بأسنة النار المنبعثة من السماور المرصع بالحلي العاجية وخرز الكهرب، تجلس القامات على التخوت وعلى الأفرشة البالية اللائطة حذاء الجدران: تدخن، تتصايح، تتخاطب بالأيدي والإيماءات والإيماضات… تلعب النرد والحالوسي والداما، تتزاحم في الفضاء رائحة: السعوط والقهوة المرة واليانسون والبيبون والهيل والشاي السيلاني و… الأحاديث، والذكريات، والآهات، والأغنيات، والمواويل، حتى أن الرجل أقسم أنه في أوبته من المدينة فجراً لم يكن يحلم قطعاً حين شاهد والده وخاله المتوفيين منذ عقدين من السنين، يخرجان كتفاً لكتف من بقايا المقهى المهجور المستوحد في طرف القرية.
التصفيق
دخل القاعة يقدّم قدماً ويؤخر أخرى، سحره الصمت الذي أعقب تلك الجلبة المكتومة للأجساد المعروقة المتدافعة للخروج إلى الفضاء، توقف… رفع رأسه وشمل أرجاءها ببقايا نظرة كسيرة مليئة بالشنار وجسده يعرق الخيبة والفشل، والإحساس بالضآلة يعرّية حتى العظم، صفدته النافورة التي تتوسط القاعة، لخرير ماءها وهو يتدفق من الخوذة المعفّرة بالدم والتراب، واللذان في يشكلان في تكلسهما وتآصرهما خميرة خبز سماوي له طعم شهد لا ينتجه نحل أرضي، والنافورة تتجه بأبصارها نحو صدر القاعة حيث تشخص منصة من خشب الزان يتدفق منها صفان من الكراسي البلاستيكية… ويالعجب الزمن، الزمن كائن فريد كلما توصلت إلى إستغوار ملامحه تترجرج إلى كائنٍ جديد،…. إبتسم بمرارة، ما يفكر فيه ألآن هو الشعر بعينه، ومن خلل الدمعة النازفة من مآقيه أبصر شاعراً له ملامح تتطابق مع ملامحه يتجلى على المنبر مصحوباً بالطوفان الهادر من أعماقه ليصطدم بالصمت المريب الذي يتشرب من الوجوه المصلوبة على جدران القاعة، والعطش في عيونها العطشى ليس للشعر حسب بل لتراتيل الملائكة،… أحاط الصور المصلوبة فوق المربعات المرمرية المرصوفة بنسق ينافس حجيرات خلية النحل في تناسقها، وهمس يناجيها.
– إنني أحتكم إليكم، إليكم حسب… هل أنا شاعر فاشل ….؟
لمح الوجوه تغادر شواهدها وتتجّبب أجسادها الأثيرة وتقتعد الكراسي بهدوء مهيب ثم شخصت أبصارها إليه، أخرج ورقته المدعوكة، بسطها فوق المنبر وإستدعى ربة الشعر التي وافته ترفرف فوق هامته بشكل سرب من الفراشات تحترق في الإحمرار الباذخ للماء المتدفق من الخوذة لتسقط شظايا من أوراد النرجس فوق الحوض الذي يتهادى ماؤه بسكينة الفراديس،……وأكد المكلفون بغلق المتحف بعد الأمسية الشعرية، أنهم رأوا الشاعر الذي كان يبكي في الطوار قبل إنتهاء الأمسية بعد أن خذله الجمهور يقرأ قصيدته للكراسي الفارغة والنافورة المتدفقة بالماء والغسق الزاحف الى الأرجاء، كل هذا أدخلوه ضمن المنطق كون الشاعر في حالة خاصة، ولكن غير المنطق في الأمر (ويعززون ذلك بالقسم) إنهم سمعوا تصفيقاً متواصلاً ولأكثر من خمس دقائق، ولكن ممن….؟!!!.
البيت
صبي يقتعد قمة رابية تبعد إطلاقة مقلاع عن آخر بيت في القرية، يحدق عالياً وفي فمه بقايا سكاكر، يتابع بعينين عسليتين الدائرة التي ترسمها الطائرة المحلقة في السماء وصوت أزيزها يختلط بقأقأة الدجاج المنتشر في الحقل وثغاء الحملان السارحة بين صفي أشجار الزيتون والفستق، يتوكأ على عصاته ويلتقط قطعة سكاكر جديدة ويلقمها فمه الغض ويبدأ بتكسيرها وعيناه تتابعان جسد الطائرة الذي يبدو أحد جنبيها أسود والآخر أبيض، وهي تتقلب مثل حمام منزلي مدرب، همس لنفسه.
ـ كيف تطير الطيارة..؟
ويحاول جاهداً أن يتقصى الجواب في ذاكرته اليافعة ولكنه يبدو عصيا كلغز، يغض طرفه ويرقب القطيع، ثمة حملان إتجهوا نحو أمهاتها وصاروا يرضعون الحليب الجني اللذيذ، تلمض وهو يتذكر وجبته الصباحية… الجبن واللبن والحليب… أعاد نظره نحو الفضاء، يتناوب اللونان الأسود والأبيض في الظهور كسمكة طرية تتلبّط في أسار الشباك، يتقيأ جسدها كائناً أسطوانياً ينحدر كالمطر نحو الأرض، ثم يختفي خلف تشابك شجر الزيتون والفستق لتصير الأرض أرجوحة والفضاء رعداً فتطير الطيور من قمم الأشجار ويسعى الدجاج لائطاً في أفياء البيوت، وتتوقف الحملان عن اللعب وتقفز نحو أصواف أمهاتها، وتسقط قطعة السكاكر من فم الصبي وهو يحاول أن يتماسك طارداً الرعدة من أوصاله والصريف من أسنانه، وعندما سيطر على زمام جسده، عانقت عيناه غيمة من دخان اسود يتعالى في الأفق، وأمامه وعلى مقربة من جسد الغيمة وعلى مدار أفقي من ناظريه وعلى مقربة من منحدر الرابية نحو النهر لمح زوجاً من طائر السنونو وفي منقار كل منهما قشة يابسة يحلقان بجسديهما الأبيضين الأسودين نحو سقف غرفة مضخة الماء الهادرة بالصوتين، المحرك وخرير الماء المنساب نحو الحقول، يقفان قرب السقف ويضعان قشين جديدين لعشهما المرتقب.
فزاعة
نبعت من الزحام، أمسكتني من كتفي وثمة في مآقيها إلتماعة خاطفة، إرتجفت الشفتان القرمزيتان وإختلجتا…
– لازلت أسمع كركرته…؟؟.
توقفت تلتقط أنفاساً متهدجة ثم نبرت متسائلة.
– أتسمعه انت أيضاً؟.
إمتد صمت ثانٍ، تابعت.
– لم يبق سوى صدى الكركرة،… يمتد بصري الزائغ، لاشىء البته سوى ركام أبنية متصدعة، وشرفات بيوت تحاكي لحظة كانت على قيد الحياة قبل أن يحدث ذلك الشىء.
وبعد أن إلتقطت بقايا النفس المتهدج قالت.
– كانت السواعد والقبضات الخشنة المشعرة تكبلّني كالأصفاد، تمنع جسدي الممسوس بأسار الرهبة والذهول من إقتحام ذكرى البيت الذي كان… والولوج إلى أحشاء الحجارة وأسياخ الحديد وعناق جسده المتناسل من هنا…
وأشارت إلى بطنها ثم أمسكتني ثانية ونبرت بحنان بالغ.
– كان مستلقياً في مهده يناغي الملائكة بكركرته ويداعبها بكفيه اللدنتين حين دمدمت الأرض وأربدت تحت أقدامنا ملبية نداء تلك الفرقعة الهائلة، ولحظة واهلة فقط، إستحال الكون فيها إلى أرجوحة ثم اختفى ولدي تحت الأنقاض.
أنزلت أناملها تتفحص تفصيلات وجهي المسكون بالدهشة، ثم إنتفضت وأفردت كفيها للليل الفتي المتهالك فوق الرصيف وهمست.
– نعم ياكبدي…؟!
وبعد برهة وكأنها تستجيب لنداء آسر.
– سآتيك حالاً.
وإختفت…… كما نبعت فجأة، تاركة جسداً شاباً مسمراً على الرصيف وقد ألجمت حواسه
اللحظة النادرة تلك فأفرد ذراعيه مثل فزاعة.
البكاء
بالتأكيد كان طلبها إنقاذاً لحالة اللاتوازن الذي كنا نمور في آتونه وقتئذ، فهي الوحيدة القمينة بالتعبير عن أعمق الأحاسيس المتوهجة في حنايانا، بيد أنها لا تستطيع أن ترقى أسوار الأنا العالية جداً، هي…فقط بغلالتها المتسربلة إلى ما تحت ركبتيها والمعبأ بأوراد دوار الشمس التي تضيء عتمة الغرفة الموصدة الأبواب والنوافذ والحيطان والقلوب والأنفاس، القامات تغرق في رصاص ثقيل معتم: وجهي، ووجه الأم، والجد والجدة، والتلفاز والنيون السادر في النوم ، فقط… وجهها كان يضيء بؤس وجوهنا ويجعلنا نتحّلق في تقاسيمه الطفولية الرائعة ونحن نهّوم حوله كالفراشات الباحثة عن حتوفها أو خلاصها في فيء الوهج البارق… قالت بنبرة طفولية.
– ماما … أني خائفة.
إحتضنتها الأم كما تعانق أجنحة الفراشة حزم الضياء الثاوية وتحترق في حشاياها الدافئة الدافقة.
– تعالي يا حبيبتي… نامي في حضني.
يهرع الضوء إلى الفراشة، وتهرع الفراشة إلى الضوء، ويتلاحمان، يقدح بريق يضيء الحجرة ليتوافق مع الومض الذي يجبّب المدينة المطفأة الآيلة إلى الخراب، ولحظة وامضة تترجم إلتقاء رقبة الحمامة بنصل السكين، هذه الهنيهة النادرة المتأرجحة بين الإنطفاء والإنعتاق، رنمت الطفلة.
– ماما… أريد أن أبكي، هل يسمعون بكائي ويقصفون بيتنا؟.
– كلا يا طفلتي.
– سأبكي.
وغسل الفضاء المزمجر نشيج ناعم قصير كنسمة جبلية ثم تصاعد وصار أنين لبوة ثكلى ومن ثم صاحبه الأنين الكورالي الصادح من الأب والأم.. الجد والجدة… والحجرة، البيت، الزقاق، الحي، المدينة… وصار الوجود كله نشيجا طويلاً ممتداً من الأبد إلى الأبد.
ورود
دخل ولدي باحة الدار وهو يحمل أصيصة بها أوراد بنفسجية ذابلة، حولت نظري وبصيرتي تغادر منظراً أتمنى أن لا أشاهده مرة أخرى وإلى الأبد … جموع الناس الزاحفة كالبحر ساعة النوء نحو الأبنية، تحطم البواب وتقتحم وتخرج ومعها أسلابها، تلفازات، كراسي، أطقم، هواتف.. الخ، ثم تعود وهي ممغنطة بتيار الجنون وهكذا دواليك،… فوضى تسود المدينة أينما وليت وجهي، إطلاق رصاص، صراخ، وأسراب الحمام المذعورة المحلقة نحو الفضاء، نظرت نحو الأسفل حيث الطوار وصرخت بولدي الذي لجمته المفاجأة فوقف صاغراً كالتمثال، نزلت درجات السلم بسرعة وهرعت صوبه، إنكمش في مكانه وتهيأ لصفعة موجعة، بيد أني أمسكت نفسي وهتفت به.
– ما هذا..؟.
لم يجب بل صارت نظراته الزائغة تتناوب بين كفي المشهرة ونهايات البنفسج الذابل، ولأول مرة رأيت إبريق ماء في يده الأخرى، توقف تفكيري لوهلة، وترجم لساني فحواه..
– وما هذا..؟.
خرجت الكلمات من فمه مبعثرة لا يربطها رابط ولكنها تماسكت في النهاية وسمعتها بوضوح.
– هذه الورود كادت تموت، والأقدام تدوسها..
ثم بعد برهة..
– إنها ذابلة..
ووجدت نفسي جوار ولدي ويميني تمسك مع يمينه بالإبريق ومضينا معاً نصب الماء في الأصيصة.