الكاتبة والاعلامية بيانكا ماضية:
ومازلت أتذكر كل لحظات الحياة التي عشناها معاً، كنا نبحر في مشاعرنا ويبحر الكون كله معنا،

الكاتبة والاعلامية بيانكا ماضية

…ومازلت أتذكر كل لحظات الحياة التي عشناها معاً، كنا نبحر في مشاعرنا ويبحر الكون كله معنا، كأنه كان ينصت إلى موسيقا الحب بكل تجلياتها الأخاذة، بكل مقاماتها التي لم تصغها يد بشر..أتذكر كل رحلة مضينا فيها منذ الصباح الباكر، وكل رحلة داعبَنا فيها الليلُ بسواده.. وكل رحلة جبنا فيها البحار والمحيطات وزرنا مدناً لم نكن قد زرناها إلا في الخيال..وأذكر أنه ذات مرة استوقفنا الزورق في عرض البحر ونحن متجهان نحو الشفق، لم يكن هناك موج ولا رياح، ولاشمس، ولاظلال، فقط كنا أنا وأنت والزورق، لا بل كان القمر يطلّ علينا من عليائه، يصيخ السمع لحديثنا غير المنتهي، كم رأيته يضحك معنا، وأحياناً يبعد ناظريه قليلاً، أو يرقب إن أحداً رآنا، لم يكن هناك أحدٌ في عرض البحر إلا نحن وهو، وبضع موجات صغيرة، وسكون… جلستُ على حافة المقعد ورحت أرنو إلى عمق المياه، وكنت قبالتي…. لا لم تكن مواجهاً لي، أتذكر تنقّلك من حافة إلى حافة، ومن زاوية إلى أخرى، وأنت تعيد التوازن للزورق الذي بدأ يميل بنا عندما جاءت موجة من تحتنا؛ لتداعبنا. ضحكنا كثيراً إذ كنا مدركَين نيّة تلك الموجة، ولم أخف حينها رغم أني لا أجيد السباحة في عرض البحر، لأني كنت أثق تماماً- إن مال بنا الزورق أكثر- أن يديك ستلتقطاني، وستسحبني إليك إن ملت أكثر، وستضمني إلى صدرك ولن تجعلني أغرق..ولم تأت الموجة الكبرى، ولم يمل الزورق.. ولكني غرقتُ، غرقتُ بك حتى ثمالة التفاصيل، ولم أجد إلا صورة القمر على سطح المياه، وهي تتهادى كصورة في الخيال، كأجمل صورة بإمكان المرء أن يجدها على هذا السطح.. كم ضحكنا يومها، وكم كان السكون يرين على العالم كله، لم تكن هناك قذائف ولا صواريخ، ولا قتلى ولا دم، ولابيوت مهدّمة ولا أناس مشردون، فقط كان الحب ينثر أغلالَه علينا، يقينا من كل شرّ، من كل توحّش بدأ ينتشر في هذا العالم..


وأذكر أيضاً أنك أخذتني في رحلة إلى أعلى جبل كان محيطاً بنا، صعدنا إليه، ولم نتعب، وكنا نرتشف بين الفينة والأخرى من فنجان قهوة جلبته معك، كم كان طعمه خيالياً، لم أذق قهوة في حياتي كتلك التي صنعتها بيديك.. وبعد أن وصلنا إلى أعلى قمة وقفنا لنستمتع بهذه الإطلالة البانورامية على السهول والهضاب وكروم العنب والتين، كانت هناك روائح شتى تحملها النسائم إلينا، وكنت أسكر من تلك الروائح. كل رائحة كانت تحفر لنفسها موقعاً في ذاكرتي، ولكن الرائحة الأكثر رسوخاً وبقاء والتي مازلت أستمتع باسترجاعها في كل وقت، هي رائحة الحب… وكان بإمكان أي امرئ أن يشمها من على بعد مئات الأمتار، كانت متغلغلة في كل الفضاء حولنا… وكانت الأرض من تحتنا بديعة الألوان، كان الأخضر فيها هو المسيطر، كم كان رائعاً ذاك الأخضر بكل تدرجاته التي انتشرت على شكل مربعات ومستطيلات.. وكنت تقول لي: كل هذا العالم لك أيتها الملكة الجميلة! وكنت أضحك، لأني أملك ماهو أثمن من هذا العالم، وأكثره اخضراراً، وأكثره التماعاً وتلألؤاً..


اليوم أستعيد كل تلك اللحظات التي كانت تحملني إلى عالم آخر، وأذكّرك بها، لم تنسَ حتماً تلك التفاصيل الهانئة، التفاصيل التي مازالت محفورة في ذاكرتي، أذكرك وأنا أعلم أنك ستأخذني في رحلات أُخر، سنجوب فيها غير قمة، وغير بحر، وسيطل علينا قمر آخر، ليبدأ بالمراقبة والتنصت.. لكني في هذه المرة سأحمل له رسالة، وأخال أنه سيمضي خجِلاً بعدها..