العباس جدة: ما يزعجني في المسرح العربي والمغربي ويثير استيائي هو سيادة وطغيان الخطاب الإيديولوجي الدعوي والوعظي وهيمنة الواقعية الإختزالية الساذجة الفجة على السواد الأعظم من العروض

                                              لقاء عابر جدا

        

                            العباس جدة — حاورته لطيفة بوشنتوف

— بعيدا عن عالم الكتابة من هو العباس جدة ؟

العباس جدة من مواليد مدينة فاس سنة 1955 ومن أسرة متواضعة جدا. تلقيت تعليمي بإعدادية وثانوية إبن خلدون حاليا (الشراردة سابقا) التحقت بعد ذلك بجامعة سيدي محمد إبن عبد الله (ظهر مهراز) تخرجت منها بإجازة في الفلسفة. اشتغلت مدرسا للفلسفة ابتداء من 1980 بسوق السبت، بني ملال. انتقلت إلى عين تاوجطات كمدرس لمدة عامين، وفي سنة 1991 التحقت بثانوية عمر إبن الخطاب بمكناس. وفي سنة 2012 إنتقلت الى مدينة القنيطرة. متزوج ولدي ثلاثة أبناء لا زالوا يواصلون دراستهم الجامعية.

منذ الثانية عشر من عمري وأنا أعشق فنون الفرجة حيت كنت أتردد بانتظام على ساحة باب المكينة وساحة باب بوجلود لمشاهدة جميع أشكال الحلقة من حكايات وتمثيليات وموسيقى شعبية ورقص وملاكمة، وبالموازاة مع ذلك كنت أحرص على مشاهدة فيلمين بسينما "الشعب" كل يوم أحد.

بالإضافة إلى تتبعي للعروض المسرحية التي كانت تعرضها الفرق المسرحية الفاسية النشيطة آنذاك (نهاية الستينات وبداية السبعينات) كالمسرح الشعبي والإتحاد الفني ومسرح الطليعة وما أدراك ما مسرح الطليعة، بإدارة المبدع المرحوم زكي العلوي. كما كنت معجبا بالمبدعين المرحومين محمد تيمد (تيمود أو الجيلالي) ومحمد الكغاط. الشيء الذي حثني على الإلتحاق بفرقة اللواء المسرحي سنة 1974 لأمارس المسرح كممثل على يد محمد تيمد وأحمد العراقي وعبد الكريم بالرشيد ومحمد الكغاط وبمشاركة عبد الحق الزروالي. وبإنخراطي في اللواء المسرحي يكرس شغفي بالمسرح وعشقي لأب الفنون.

— كيف تورطت في عالم الكتابة ؟

في الحقيقة لم أحلم يوما، ومنذ أن بدأت القراءة بشكل منتظم ، ولوج عالم الكتابة. كنت أقرأ بشغف مؤلفات الروائيين والفلاسفة والمسرحيين بكثير من الإعجاب والرهبة على اعتبار أن فعل الكتابة يقتصر على العباقرة والملهمين؛ والقلة القليلة من الصفوة أو النخبة المثقفة هي وحدها قادرة على الإبداع والكتابة.
إذن كان التأليف الأدبي والإبداع الفني في تصور شاب في العشرين من عمره بعيد المنال إن لم أقل معجزة، خصوصا عندما كنت أنبهر بروائع الأدب العالمي كرواية "الجريمة والعقاب" لدوستيفسكي أومسرحية "هامليت" لشكسبير أومسرحية "بستان الكرز" لتشيكوف. لقد كان حلمي الرئيسي والوحيد هو أن أصبح ممثلا مسرحيا ناجحا ثم مخرجا مسرحيا ولما لا ممثلا سينمائيا ؟ وفكرة الكتابة المسرحية لم تراودني إلا بعد أن خبرت المسرح الهاوي لأكثر من عشر سنوات كممثل أولا. ولم أجرؤ على الكتابة لنفسي أولا سوى في سن متأخرة. فكان النص المسرحي الأول والقصير"درس في التاريخ" سنة 1984.
فالدافع للكتابة ثم الجرأة على الإمساك بالقلم ووضع الخطوط العريضة لنص مسرحي ثم تحديد شخصياته فالحوارات والحبكة، لم يتأت هكذا اعتباطا، وإنما كان الدافع اليه العاملين التاليين:
أولا، كنت أعيش تمزقا بين ما أقرأه وأشاهده من مسرحيات غربية ممتعة ومؤثرة وما نمارسه نحن كمسرحيين هواة، ينقصنا التكوين والتجربة على مستوى الكتابة المسرحية أولا ثم الإخراج فالتشخيص. إن الذي حثني على الكتابة المسرحية هو طبيعة النصوص التي كانت تروج آنذاك في عروض مسرح الهواة والتي كان يغلب عليها الخطاب المباشر والتقريرية الفجة. لقد كانت نصوصا هزيلة جدا بالقياس لما كنت أقرأه آنذاك من نصوص مسرحية عالمية. وكان هذا يولّد في نفسي بعض مشاعر الإحباط والتذمر.
ثانيا، الكتابة بصفة عامة، وفي تصوري الشخصي تفرض نفسها على الشخص من حيث أنها رغبة كامنة فيه ولكنها ملحة، للتعبير عن الذات ومن ثم تحقيقها وتكريسها كتقليد خاص. فالتعبير عن هواجس الذات وتطلعاتها وإخفاقاتها هو تحقيق لوجودها. والكاتب من طبعه ينزع للبوح والإفصاح، وتسكنه إرادة التعبير والتحدي. فهو يتحدى ذاته ويتحدى العالم الذي يحيط به. إن المبدع مسكون بالرغبة في الخروج من الذات للعودة إليها، ومسكون بالتعالي عن العالم بعد الإنغماس فيه. إنها إرادة إعادة تشكيل الذات وإعادة تركيب العالم من جديد.

— تعرف الحركة المسرحية تراجعا كبيرا… ماهي الأسباب؟

بل يعرف المسرح بالمغرب وفي العالم العربي أزمة حادة وبؤسا شديدا بالقياس الى مرحلة الستينات والسبعينات، هذا بالرغم من أننا شهدنا في نهاية الثمانينات تأسيس المعهد العالي للفنون المسرحية والتنشيط الثقافي، ورغم بداية الحديث عن العمل المسرحي الإحترافي. وللتوضيح كلمة احتراف تدل على معنيين: تعني أن الفنان يستطيع أن يضمن قوت يومه على الأقل من مهنة المسرح وحدها، وتعني أيضا الإتقان الفني والمهارة المسرحية. علاوة على محاولة إنعاش الحركة المسرحية من خلال تنظيم وزارة الثقافة للمهرجان الوطني للمسرح بمكناس منذ 1999، وسياسة دعم الفرق المسرحية سنويا. لكن رغم هذه الإجراءات وهذه الإمكانيات والمهراجانات وتكوين الممثلين والسينوغرافيين والمنشطين المسرحيين والثقافيين من بداية التسعينات الى اليوم، فإني أستطيع الجزم بأن الحصيلة ظلت هزيلة، ولم تولد سياسة الوزارة الوصيّة سوى الخيبات والإخفاقات. ولكي لا أنعت بالعدمي وُيعاب علي تشاؤمي وسلبيتي المفرطة، أقول : إن سياسة الدعم المالي للفرق المسرحية وتكوين الفنانين وتنظيم مهرجان وطني لمدة خمس عشرة سنة ، كل هذه المجهودات القيمة والهامة لم تصب هدفها – مع الأسف- والذي يتمثل أساسا في إنعاش الحركة المسرحية وبلورتها في اتجاه تقديم عروض مسرحية في المستوى المطلوب وتطوير الممارسة المسرحية تأليفا وإخراجا وتشخيصا وأخيرا مصالحة الجمهور نسبيا مع أب الفنون والمسرحيين المغاربة أنفسهم لأن العديد منهم يمتنع عن مشاهدة العروض. الأهداف المنشودة إذن ظلت معلقة. لماذا ؟
أعتقد أن هناك سببين لا ثالث لهما: الأول موضوعي والثاني ذاتي. الأول يتمثل في وزارة الثقافة من حيث أنها لا تعمل بجدية وحزم. إنها لا تتحمل مسؤوليتها كاملة. فالعمل الجدي والإحساس بالمسؤولية يستلزمان أولا، الإرادة السياسة الحقيقية في النهوض بالمجال الفني والمسرحي، ثانيا، الحرص على انجاز برامج ومشاريع فنية وثقافية. وأن تكون الوزارة القدوة بالنسبة للفنانين كالتحلي بالقيم الإنسانية العليا من عدل وإنصاف ومساواة وتكافئ الفرص وموضوعية ونزاهة وحياد وتنظيم عقلاني وإدارة مستنيرة. ولا أعتقد أن وزارتنا تحرص على إشاعة وتكريس هذه القيم الإنسانية والفنية والمهنية في دواليبها وبين موظفيها وفي الوسط المسرحي وبين المسرحيين. والأخطر في الأمر أن مسؤوليها يشجعون على الغش وتكريس الحيف والزبونية.
أما العامل الذاتي فيمكن التعبير عنه ب"أزمة خلق وإبداع" هذه الأزمة نتحمل مسؤوليتها نحن المسرحيون من مؤلفين ومخرجين وممثلين ونقاد مسرحيين. يبدو أن تجربة عشرين سنة الأخيرة، لم تؤت أكلها في إفراز كتاب يحسنون فن الكتابة المسرحية، ومخرجين مجددين، وممثلين متمرسين، وعروض مسرحية جذابة، وحركة مسرحية متنامية باضطراد. وهكذا ظلت الحركة المسرحية مع الجيل الجديد – جيل المعهد العالي للفنون المسرحية، الذي كان من المنتظر أن يدفع بالفعل المسرحي خطوات الى الأمام – تراوح مكانها تقريبا. وأضحي خريجو المعهد يكررون أنفسهم بالقياس الى تجارب البدايات الواعدة. بل أصيبوا في السنوات الأخيرة بنوع من التيه والدوار والذهول السلبي إن لم أقل بالفصام .
فالأزمة هي أزمة إرادة وتدبير وتنظيم وتسيير تتحمل الدولة مسؤوليته، وأزمة إبداع وخلق من حيث أن المسرحيين لا يجيدون مهن المسرح من كتابة نصية وإخراج وتشخيص ولا يحرصون على تطوير تجاربهم ، فضلا عن انعدام أخلاقيات المهنة من تواضع وتعاون ونزاهة وعرفان…

                                    

— بوصفك كاتبا مسرحيا، نشرت ثلاث مجموعات مسرحية وهي: في "ظلمة الليل"، "الإمبراطور الجديد" و"ملاك الجحيم" كيف تتصور النص المسرحي؟ وما هي مقومات الكتابة المسرحية في تقديرك؟

ما يزعجني في المسرح العربي والمغربي ويثير استيائي هو سيادة وطغيان الخطاب الإيديولوجي الدعوي والوعظي وهيمنة الواقعية الإختزالية الساذجة الفجة على السواد الأعظم من العروض، مما يفقدها بعدها الفني الجمالي الضروري أولا، وبعدها الإنساني الغني، المتعدد المستويات ثانيا. فماذا أقترح ككاتب مسرحي؟
– مساهمة مني في تحرير مسرحنا من الخطاب المباشر ومن التقريرية، أعتمد في كتاباتي على الإيحاء والرمز والتلميح والخيال والحلم… إلى غير ذلك من الأساليب التي تضع مسافة بين الكاتب والواقع المباشر.
– المزج بين الواقعية واللاواقعية، بين المعقول واللامعقول، بين الوعي واللاوعي، بين الواقع والخيال، بين العقل والعبث… إلى غير ذلك من المفاراقات والمتناقضات التي تكون الوضع البشري المعقد.
– للشخصية المسرحية: أنطلق في الغالب الأعم من تحديد ورسم الشخصية المسرحية بدقة وعناية، فأهتم كثيرا بطبيعتها وسلوكها فأطرح عليها الأسئلة التالية : كيف تفكرين؟ ماهي تطلعاتك ؟ ماالذي يشغلك بشكل خاص؟ ماهي ردة فعلك تجاه هذا المؤثر أو ذاك؟ كيف يمكن أن يكون تصرفك بخصوص هذا الموقف أو ذاك؟
– تصور الشخصية: أتصور الشخصية المسرحية ليس كذات واحدة متجانسة لا تقبل القسمة، وإنما كبنية دينامية مركبة تتجاذبها قوى الخير والشر، وتتأرجح بين الوعي واللاوعي، بين الإرادة واللإرادة، بين الأمل والخيبة، بين الكذب والصدق…
– العلاقات بين الشخوص: ما يروق لي في المسرح هو طبيعة العلاقة ونوع العلاقات التي يمكن أن تنسج بين الشخصيات في ظل واقع معين أو معطى محدد، وما تفرزه هذه العلاقات من صراعات وتوترات وردود أفعال شيقة وغير منتظرة.
-الوضعيات المسرحية: المسرح في تصوري هو وضعيات وحالات، وكثيرا ما أنطلق من وضع إجتماعي معين أو حالة نفسية أو موقف سياسي، أو حالة عبث وتيه: كوضعية الأستاذ الباحث المقبل على الإنتحار وهو يحتفل بعيد ميلاده في مسرحية "عيد ميلاد سعيد" ووضعية العانس بين انتظارعودة خطيبها من المهجر أو الإقبال على الزواج من أول رجل يتقدم لطلب يدها… إن مسرحي يتمرد على نمط الكتابة السائدة، فهو مسرح تجريبي بامتياز. لا يولي أهمية للذوق المسرحي المبتذل القائم بل يرفضه ويعمل على تحطيمه.

            

— حدثنا عن المواضيع والتيمات التي تسكن كتابتك وتخترق مسرحك التجريبي.

هناك ثيمات أساسية تشغلني ولا أكف عن الرجوع لها وإثارتها بشكل آخر ومغاير في مسرحيات عديدة، فهناك مثلا إشكالية التواصل أو بالأحرى اللاتواصل بين الذوات، في مسرحية "العانس" وفي مسرحية "عيد ميلاد سعيد" وهناك إشكالية السلطة وكيف أن العلاقة بين الأفراد والجماعات تنبني على حب التملك والسيطرة والنزوع إلى الإستبداد والإستفراد في مسرحية "الإمبراطور الجديد" ومسرحية "الصدر الأعظم" وهناك تيمة القلق، الوجود البشري، العلاقات الإنسانية، والحتمية التي تسحق الإنسان في مسرحتي" الرحلة" و"يا للخسائر العظيمة". فكل كاتب لا بد وأن تستحوذ على ذهنه بعض الإشكالات التي يعيد طرحها بصيغ مختلفة في كل مؤلف من مؤلفاته.

العباس جدة — حاورته لطيفة بوشنتوف