بكل لطف و رحابة صدر استضافنا الفنان التشكيلي غسان الصباغ , فكان لعالم نوح حوار معه اتسم بكل شفافية وصدق

 

 

 

 

 

بكل لطف و رحابة صدر استضافنا الفنان التشكيلي غسان الصباغ في بيته " المرسم " , فكان لعالم نوح حوار معه اتسم بكل شفافية وصدق:

 

 

الفنان التشكيلي غسان صباغ اسم كبير في عالم التشكيل السوري, من أين كانت البدايات ؟

البداية كانت من العائلة, حيث كان عمي من أوائل المصورين السورين وأول مصور فوتوغرافي في مدينة حماة, وفي فترة الوحدة مع مصر عام 1958 جاءنا أستاذ مصري لتدريس مادة الفنون في المدرسة وتأثرنا به وبأعماله أنا وأخي الأكبر بسام, حيث كنت كمن يغار من النشاط الذي أبداهُ أخي الكبير فكنت أتحين الفرص لأخذ الألوان خاصته بالخفية, وأرسم بها لوحات على أي شيء يمكن الرسم عليه. (فيما بعد تابع أخي دراسته في كلية الفنون الجميلة).
بنظري أن بداياتي الفنية كانت بوجود الهواية و الرغبة في مشابهة الأشياء من حولي, وتجسيدها على شكل عمل فني وهذا كان يتحقق بأدوات بسيطة من ألوان وفراشي كنت أشتريها مما أحققه من الوفر الذي يعود إليّ من ممارسة العمل في العطلة الصيفية, كون الحال المادية للعائلة كانت ضعيفة.
كما أني كنت في تلك المرحلة أقوم برسم لوحات توضيحية لمادة العلوم, كذلك من مصورات جغرافية, وقد ساهم ذلك في تطوير قدراتي بشكل جيد, كما أننا كنّا في نهاية الخمسينيات نخرج إلى منطقة في حماه تدعى باب النهر, برفقة الأستاذ الفنان سهيل الأحدب, وهو من رواد الحركة الفنية في حماه, كما أني أتذكر عندما كنت الصف التاسع أو العاشر, فزت بالجائزة الأولى في مسابقة على مستوى حماه, وبعد أن حصلت على شهادة البكلوريا حاولت الالتحاق بكلية العمارة في دمشق, ولم أتمكن من ذلك لأني أخطأت في رسم أحد المساقط ( رسم مسقط المطبخ) ولم أحصل على العلامة التي تخولني دخول الكلية, رغم حصولي على أعلى علامة في الرسم مما دفعني إلى كلية العلوم. ومارست نشاطي الفني خلال إقامة معرض خلال دراستي في السنة الأولى, وفي عام 1965 أقيمت مسابقة على مستوى جميع مراكز الفنون التشكيلية للفوز بمنحة لدراسة الفن في الاتحاد السوفيتي لصالح جامعة دمشق, وأحرزت المركز الأول وحصلت على البعثة.

عندما بدأت بعثتك الدراسية الفنية في معاهد الاتحاد السوفيتي, هل وجدت صعوبة في الدراسة الأكاديمية, و كيف وجدت الفوارق بيننا و بينهم؟
عندما باشرنا الدراسة في جامعة ريبن في مدينة لينينغراد, كنّا نظن أننا جئنا و أننا أصحاب مواهب و خبرات كبيرة, إلا أننا صُدمنا بالمستوى العالي جداً لباقي الطلاب الروس، ولأننا لم نكن نحمل الكثير, وذلك ؛ بسبب أننا كنا نمارس الفن كهواة, أما هم فكانوا يدرسون الفن منذ الصف السادس !! ولذلك كان الطلاب والذين هم من أعمارنا كانوا أساتذة و نحن كنا تلاميذ !! وكان أحد الزملاء في تلك الأكاديمية من أثيوبيا يدعى يونس غابيسا كان يقول لي: لماذا يأتون لدراسة الفن…إنهم أساتذة !! و كان يقصد بذلك الطلاب الروس, وبعد مرور عام تمكنا من تقليص الفارق و اللحاق بمستواهم كوننا كنّا أكثر إقداماً و جرأة على استخدام الألوان و خاصة الألوان الحارّة, كوننا من بيئة مشرقية تظهر فيها الألوان بقوتها بينما هم كانوا يعيشون في مدن تغلب عليها الألوان الرمادية بسبب الثورة الصناعية و تلوث المدن كما أنَّ التوقيت يلعب دوراً حيث يمكن مقارنة ذلك بين رؤية الألوان المشرقة في بيئتنا في الساعة التاسعة صباحاً بينما تكون مدينة لينيغراد مظلمة في نفس الوقت و أننا كنّا نريد أن نثبت أننا لا نقل عنهم .

 

بما أن المدرسة الواقعية هي السمة المميزة لخريجي الاتحاد السوفيتي, هل حاولت البحث و تقديم تجربة فنية تشكيلية خارج نطاق المدرسة الواقعية؟

طبعاً بالتأكيد لديَّ محاولات, اعتمدت فيها على الزخرفة التزينية يغلب عليها الحداثة لم أعمل عليها كثيراً, حتى لا أشتت قدراتي, ومن جهة أخرى لم أكن مقتنعاً بها. بشكل عام أفضل المدرسة الواقعية وأستغرب النظرة المادية لبعض الفنانين الذين سلكوا منهج الحداثة من أجل المال, بالنسبة لي لم أستوعب الأمر و لا أريد استعابه.

ما هي أهم الأعمال التي قدمتها, و التي تعتبر محطات مميزة في مسيرتك الفنية ؟

ليس لي معارض فردية كثيرة, لكن كنت في غاية النشاط في المعارض الجماعية و بعد عودتي من الدراسة في روسيا , حيث قمنا بتشكيل لجنة في مركز الفنون التشكيلية في حماه, مهمتها تنظيم معارض فنية جماعية جوالة في جميع محافظات القطر وتهدف إلى تسويق الأعمال الفنية, وقد حققنا نجاح لا بأس به في تلك الفترة.
وكان من ضمن الأسماء المشاركة في تلك المعارض : حمود شنتوت – عماد جروة – سهام منصور – زهير حضرموت وكلٌ منهم له أسلوبه المميز, و هم أسماء لا تزال موجود في عالم التشكيل السوري. ولديهم مراسم في حماة و أنا لديَّ في حماه مرسم و في حلب مرسم و أحب أن يكون عندي مرسم أين ما ذهبت … !!

 
كونك مقيم في مدينة حلب , ومن خلال الأعمال و الأنشطة الفنية التي تحضرها , كيف تقيّم الحركة الفنية التشكيلية في حلب ؟


رغم وجود نشاط فني جيد في حلب إلا أنه بدون صدى و يكاد أن يكون مغموراً, بسبب بعدهُ عن العاصمة حيث تتركز وسائل الإعلام التي تسلط الأضواء على الفعاليات الفنية التشكيلية, حتى أنا لو كنت في دمشق لاختلف وضعي سواء على الصعيدين المادي أو الفني, لكنّي أشارك في المعرض الجماعية في حلب وخاصة معرض ربيع حلب كل عام, بشكل عام أغلب الفنانين في حلب هم هواة لهم نشاط متميز و حالات إبداعية, و البعض منهم من أجل أن يحسّن مستواه مادياً يلجأ إلى لعبة اللون و الكتلة و ( الديكورية ) من أجل جذب الأنظار وقد يغيب و ينعدم الرسم في عمله الذي يطلقون عليه تسمية الحداثة و أنا أسميه الزخرفة, وهذا تحطيم للقواعد التي يقوم عليها الرسم الواقعي, وبالتالي يؤدي إلى أعمال بدائية كصفة عامة, فالبعض يتحاشى رسم الإنسان (بغض النظر عن المفهوم الديني) فهو يؤكد أنه ليس لديه الإمكانية لرسم أي جزء من الإنسان بطريقة تشريحية سليمة !!

إذا انتقلنا إلى مدينة حماه، برأيك ما هي أهم التجارب الفنية التي قدمتها للحركة التشكيلية في سوريا ؟

قدمت حماه الكثير من الأسماء الكبيرة في عالم التشكيل السوري وكانت هناك عائلات " فنية تشكيلية " مثال على ذلك هناك آل الصابوني : مخلص – علي – ماجد – منير و كذلك آل الشنتوت : حمود – فارس – عبد الباسط و كذلك عائلتي آل الصباغ : بسام – حسان – و أنا غسان و كذلك آل فرزات : علي – أسعد – فريز و كذلك من الأسماء الهامة عماد جروة – زهير حضرموت فايز عبد المولى – سهام منصور – زهربان حاج اسماعيل – موفق جمال – بركات عرجة – موريس سنكري – مصطفى الراشد نجيبة – خزيمة علوان – نشأت الزعبي – صفوان داحول وأعتذر عن نسيان من لم تتمكن ذاكرتي من ذكر أسمائهم في هذا المقابلة .

هل برأيك الفنان هو نتاج الدراسة الأكاديمية أم هو نتاج الحالة الإبداعية ؟

هو نتاج الحالتين حيث بنظري الهواية تشكل 20% لكن الحداثة في الفن تعتمد على هذه فقط, و أنا أرى أن أهم شيء في العمل الفني هو التكوين لأن التكوين يشبه إشادة بناء إذ عليك أن تبدأ بالبناء من الأساس و ليس من العناصر الثانوية ( النافذة أو الباب ) إذ أن الشكل العام القوي الذي يحتويه العمل الفني مع القليل من اللون يمكن أن يؤدي إلى عمل يجذب النظر و النجاح, وهذا لا يحتاج إلى دراسة, فهناك في الغرب يقيمون معارض لأناس مفلسين فنياً و فكرياً و كل ما يقومون به هو عبارة عن خرشات لونية و هذه الأعمال لا تستند إلى معايير فنية و إنما إلى معايير التسويق و التجارة.

هنا يعترينا سؤال, هل تأثرت بأحد من فناني المدرسة الواقعية التي تنتمي إليها ؟

لا لم أتأثر بأيٍ من فناني المدرسة الواقعية و قدمت نفسي بأسلوب خاص, لكن بشكل عام يمكننا القول أننا أخذنا التأثير العام من أعمال كبار الفنانين مثل رامبراندت و فان كوخ و آل غريكو, و هؤلاء لم يدرسوا الفن بشكل أكاديمي , ولكنهم تتلمذوا على يد أساتذة في مراسمهم, و البعض منهم درس الفن بشكل خاص من خلال زيارة المتاحف, وهذا لم يتوفر في بلادنا إلا من فترة وجيزة ,ومن خلال أعمال الفسيفساء.

 يقول بيكاسو أنه : احتاج خمس سنوات لدراسة الفن بشكل عام و عشرين سنة ليرسم بعفوية الأطفال, ما رأيك بهذا الكلام ؟

بيكاسو رسام كبير و قد كانت بدايته الأكاديمية تفوق الوصف لكن سياق التطور التاريخي في تلك الفترة وضعته مع زميله جورج براك في مواجهة مع الأساليب القديمة وقدموا شكلاً جديداً أطلق عليه فيما بعد التكعيبية. وقد ساهمت ثورة الإعلام بنشر شهرة بيكاسو بشكل كبير .

 

 

بمناسبة الحديث عن الشهرة, هل تكون الشهرة نتيجة الإعلام بشكل مطلق أم أن الفنان يفرض نفسه ؟

بالتأكيد الإعلام له دور كبير, لدينا كمثال المعرض السنوي الذي يقام عندنا وهو أهم حدث فني تشكيلي على مستوى القطر, فقد كانت قبول الأعمال وفق معايير تحددها الجهة الناظمة للمعرض وقد كان أحد الشروط في السنوات الماضية يفرض شرط أن لا يقل أحد أبعاد اللوحة عن 50 سم و هذا أمر غريب, فالمتاحف العالمية مليئة باللوحات المشهورة التي تقل عن هذا المقاس, وبالتالي هذا الشرط قد حرم الكثير من الفنانين من عرض أعمالهم, وغيّب تسليط الإعلام على نشاطهم, لكن هذا الأمر تغير هذا العام و تم إزالة هذا الشرط و بالتالي فتح الباب أمام الجميع لتقديم إبداعهم بالأبعاد التي يرغبونها بالجودة التي تفرض نفسها على العمل.


من خلال خبرتك الكبيرة و نشاطك المتواصل منذ سنين بعيدة, ما هي برأيك الطريقة المثالية التي يجب أن يسلكها الفنان من أجل أن يكون على مسار تصاعدي في حياته الفنية ؟

لقد قمت بتقديم خبرتي لمجموعة من الموهوبين من الذين لم يتعلموا الفن بشكل الأكاديمي, و قد أصبحوا الآن زملاء فنانين في عالم التشكيل و منهم: الفنان ياسر محمود – غسان سعيد – جميل جراح و أثبتوا الجدارة الفنية وهذا لا يأتي إلا من خلال العمل المتواصل الدؤوب الذي يُنضج التجربة الفنية و يُراكم الخبرات . لذا يمكن تلخيص الأمر بكلمتين : العمل المستمر .

هل العمل الفني هو الذي يقود الفنان, أم أن الفنان هو الذي يفرض مسار تتطور العمل الفني ؟

بكل تأكيد الفنان هو من يجب أن يضع الأساس السليم و التصور النهائي لما يمكن أن ينتهي إليه العمل , إذ من غير المقول أن نقف أمام اللوحة الفارغة و نحاول أن نبني عمل دون أن يكون لدينا تصور لما يقوم به الفنان و يجعل الأمر متروكاً للصدفة . كمثال أحد الفنانين اللذين أعرفهم منذ سنين أخبرني أنّه يريد مني أن أقوم بزيارته لمشاهدة عمل فني أنجزهُ و يكون بمثابة مفاجئة إبداعية كبيرة, و عندما ذهبت إليه قام بإحضار قطعة كبيرة من القماش تُماثل حجم سجادة و فردها أمامي, كانت عبارة عن آثار أقدام ملونة لشخصين أحدهما كبير والثاني صغير و قال لي أن هذا العمل قام بتنفيذه بأقدامهما هو وإبنه وأن عنوان اللوحة هو: النزهة !. هذا المثال هو خير ما يمكن أن نعبر عنه بأنه عمل قام بالاعتماد على الصدفة ولم يكن هناك دور لإبداع الفنان فيه, حتى و إن نفذه بنفسه, برأي العمل الفني يعتمد على بناء أساس متين و شكل عام يتم الانطلاق منه نحو إضافة التفاصيل حتى نهاية العمل, كما لو كنت تقوم بإشادة بناء كما ذكرت ذلك من قبل.

 

كلمة أخيرة ….

أتقدم بالشكر و التقدير و العرفان للزميل الفنان الضوئي نوح عمار حمامي مؤسس و صاحب موقع عالم نوح الثقافي, والذي يثري الحركة الفنية والأدبية في حلب بشكل خاص وسوريا بشكل عام بتسلط الضوء على نشاط الذي يقدمه الفنانين والأدباء و الشعراء من الأجيال القديمة و الشابة بشكل رائع و فريد ..

 

زكريا محمود _ عالم نوح