كنا التقينا الروائية لينا هويان الحسن في مبنى مدرسة الشيباني(اكتوبر 2010) أثناء ملتقى فنانات من العالم، وكنا قد نشرناه في حينها.. ولكن لخطأ برمجي حذف .. لهذا نعود لنشره مع توجيه تحية للروائية لينا هويان الحسن… أنا حكواتية.

الروائية والصحفية لينا هويان الحسن مع سلطانات الرمل

 

 


بدأت حديثها بابتسامة عريضة قائلة وهي تتأمل صرح مدرسة الشيباني بحي الجلوم بحلب: لو أن كل شخص يرحب به في هكذا مكان فإنه إن لم يكن أديباً أو روائياً فمجرد دخوله إلى هذا المكان سيصبح أديباً أو روائياً…أنا روائية ولكن أشعر الآن بأنه تعززت هذه الملكة في هذا المكان لأنه حقاً .. تاريخ، ونحن دائماً نعيش أسرى هذا الحنين…. مهما حاولنا .. ذاكرتنا .. تاريخنا.. ماضينا لا نستطيع أن ندع هذا التراث ونمشي, يستطيع شخص ولد في نيويورك بان يقول هذا الشيء عادي والسبب عدم وجود ارتباط أو انتماء ولكن نحن مثقلين بهذا الارتباط والانتماء مثلاً: لا أستطيع أن أمر مروراً عابراً أمام هذه النافذة وتلك الشجرة والجرة مثل أي أحد هذا الشيء يعني لي الكثير.

وتابعت حديثها بكل شغف وحب: جيلنا الآن من الصعب أن يشعر بهذا الانتماء إلا إذا كان الأهل قد قاموا بتربيتهم عليه.. أما إذا كانت تربيتهم على النت فهذا شيء أخر. مثال: عندما أتيت من الشام إلى حلب بالقطار كان يجلس بجانبي شابان وهما طلاب جامعة، وكان المطر حينها يهطل وكان الجو رائعاً جداً وأنا كنت أقرأ وأستمتع بهذه المناظر… وهما.. يحملان بأيديهم الجوال ولم يعنِ لهم هذا الجو أي شيء, حقاً أنا أأسف على هكذا جيل وعلى ما يبدو أنها آفة عالمية ليس نحن فقط من نعاني منها. الانتماء في هذه الحالة يصبح حالة جهد شخصي.

وتحدثنا عن جمال البادية: هي تفتح لك هذا المجال من الرؤية.. تشعر بأنه لا يوجد حدود، هي الحرية للعين.. في المدينة أينما ننظر نصطدم بكل شيء وأي شيء, إصطدامات.. اصطدامات.. حواجز.. أينما ننظر .. حتى السماء لا نشاهد إلا جزءً منها.

و تنظر في الماضي: كنت أجلس وأراقب السراب.. وكان يوجد قبة من طين كانت جدتي رحمها الله قد عملته مطبخ وله أحجار أثرية صنعوا منها درج كنت أجلس على هذا الدرج البازلتي… الله أعلم من أين تم اختلاسه؟ من بناء روماني أو شيء مهدوم! لا يوجد له أساس.. لا أعرف, وعندما أتى البدو عملوه درج لعتبتهم، كنت أجلس عليه لساعات وأراقب السراب وقت الظهر .. هل تتخيل الإحساس بالشيء الرتيب نفسه…. حالة التراقص في الأفق.. وتعلمت منها….الصبر. وتعلمت بأنه في أية لحظة ممكن أن يشكل هذا السراب قصراً أو جناً.. ليس غريباً أن كل أديان العالم خلقوا في الصحراء، يوجد خاصية في هذا الهدوء يشعرك أنك قريب من الله.

وتستطرد، عندما أعيش حالة أزمة في المدينة، دائماً أتذكر ساعات الهدوء عندما كنت أجلس وأراقب السراب وجدتي نائمة.. نحن البشر نحب السراب والسراب وَهم وهو يعلمنا كيف نكشف الحقيقة…. يوجد شيء جميل جداً في النوق، تحديداً كانت تميّز كذْب الصحراء وكذْب السراب، بينما البدوي رغم كل خبرته عندما يشعر بالعطش يشاهد الماء .. فيضرب الذلول التي يركبها (أي هيا لأشرب).. ولكنها لا تنساق بسهولة … هي تعلم بأنه ليس ماءً.. هي أذكى منه لكن نحن عندما نجوع ونتألم ونفقد شيءً.. نتوهم.

وعن طفولتها حدثتنا وعلامات الفرحة تغمر وجهها المتفاءل: طفولتي المبكرة كانت مابين البدو واللاذقية.. فقد كان أبي ضابطاً وكنت أذهب معه في كل يوم إلى النادي وإلى حد الآن رائحة "المشاريب" بأنفي.. كما أذكر اللعب بالمضرب وفي كل يوم أنا على شاطئ البحر صيفاً وشتاءً هناك… فقد كان أستاذي ..هو البحر …تعلمت كيف أسبح في وجه الموج كيف أواجه موجة عالية, منطق البحر لا يختلف كثيراً عن منطقة الصحراء فالبحر هو صحراء غمرت بماء, البحر غدار وميزة الغدر موجودة فينا نحن البشر.

تتابع: أشعر بتميّز وبأنني عشت أكثر من عمري وأكثر من زمن كذاكرة متنوعة ملونة خصبة حتى أخوتي الأصغر مني لم يعيشوا الذي عشته… يُفتنون عندما أحكي لهم الحكايات.. فأنا حكواتية.. حتى أصدقائي بالمدرسة كانوا يحسبون أنني من الهنود الحمر وأنا أتكلم عن ضيعتي… كما أذكر بأن جدي كان يملك فرس تدعى /الجريشية/ ولحد الآن أتمنى أن أشاهدها ودائماً أحاول الدخول إلى الانترنت وأكتبها بجميع اللغات بالانكليزية والصينية والفرنسية والطليانية… لأنني أتذكر بأنه في يوم من الأيام أتوا مستشرقين وقاموا بتصوير صور فوتوغرافية وقام أحدهم بتذكيرهم بوجود فرس وصوروا عمّي وهو راكب على الفرس… لحد الآن أنا على أمل أن يفاجئني أحد بأرشيف مستشرق أو رحالة بصورة.. ولكن بطريقي شاهدت صوراً لأشخاص يهمونني ولكن لم أشاهد صور عمي والفرس…، البدو يسمون الخيول.. كما يسمون الصقور وحتى الكلاب.. عندما نسمي أي شيء فهذا دليل على أهميته. التسمية ليست شيء عاديا أو هراءً كل شيء يكتسب أسم من حقه..

وتقول : مهما دونت يبقى شيء لم تتم كتابته.. لا أعرف ماذا سأكتب، هذا رهن للأيام.. للمستقبل وكيف ستحركني ذاكرتي.. وحنيني إلى أين سيأخذني لا أعرف، ولكن أعلم بأن هناك شيء جميل سأكتبه، وعندما قال فْرويْد (نحن كل شيء تنتجه اليبيدو) فعلاً: الكتابة حالة مجنونة تشبه الليبيدو…

وعن عملها كصحفية قالت: الصحافة تصقل قلمي وتعطينيي المرونة أكثر، فهي جعلتني على تماس يومي مع الكتابة مثل تمارين الرياضة التي تحافظ على العضلات… أنا أؤمن كثيراً بالفضول يقال: أن الاسكندر المقدوني عندما ولد تمنت أمه من الإله قائلة: فليزرع في قلبه الفضول, وعندما كبر وأصبح عنده الفضول غزا العالم. وأنا عندما أخلق فضول عند الآخرين تجاه شيء يخصني أعتبر نفسي بأنني أنجزت شيء واليوم عندما خلقت فضول عند الحضور ودار حوار وتم طرح أسئلة دون أن يمل أحد فرحت جداً..

الرواية؛ هي حالة .. فورة .. يوجد شيء لكتابته وعالم لأدونه، يوجد ذاكرة مليئة أغرف منها… عندما أكتب لا أفكر بنتاجي أين سأنشره. عندما أنهيت (سلطانات الرمل) أعطيتها لـ إلهام عبد اللطيف.. وهي باللاذقية قلت لها أقرئيها.. اتصلت بي وقالت الرواية جميلة جداً…. أنا أريد من الناشر أن يحب روايتي وعملي مثلما أنا أحبه… أنا أؤمن بأن الشيء الذي نفعله أو نكتبه بحب غير الأشياء التي نفعلها بشكل روتيني.. لهذا شعرت بالخوف بأن أبعث بروايتي إلى الخارج بكبسة زر… وأدعهم يصممون الغلاف.. هذا لا يشعرني بالفرحة.

أنا عملت بحب وبحب استقبلت إلهام روايتي.. وائتمنتها عليها، و.. خلال ستة أشهر طبعت الطبعة الثانية وهذا قليل ما يحدث… أن تطبع رواية واحدة مرتين بهذا الفاصل الزمني القصيرة.

أما إلهام فهي زوجة ممدوح عدوان (إلهام عبد اللطيف) أسست دار "ممدوح عدوان" وعملت بانتقائية لا تنشر لأي أحد ما لم تقرأ النصوص هي بنفسها. وهي التي طبعت الطبعة الثالثة لـ(بنات نعش)..

وأما ممدوح عدوان فأعتبره من أكبر المواهب ومن أذكى الشخصيات التي مرت على الوسط الثقافي السوري.

ونعود لروايتنا "سلطانات الرمل" عند تصميم الغلاف، تم تركيبه بطريقة جميلة جداً وغريبة.. كان بحوزتي صورة جميلة جداً من صور محتفظة بها، ولم أكن أتجرأ أن أنشر أو أستخدم على الغلاف شخصية بدوية حقيقية، فقمنا بقص الوجه ووضعنا وجه (سلمى حايك) لأنه هو الوجه العربي.. والنظرة التي أريدها للسلطانة، هذه المرأة المستبدة الذكية المصرة الفخورة، لقيت هذا الشيء بوجه سلمى حايك.. فاختلسنا وجهها ووضعناه للباس البدوي والجميع أحبه.

وعن حبها للبحر حدثتنا: لازلت لا أستجم إلا إذا ذهبت إلى البحر فأنا أحبه فهو صديقي وعشيقي وخليلي الذي دائماً أهرب إليه. مشروعي لا اعرف من الصعب أن يعلم الشخص مشروعه خاصة الروائي وإن قال لك مشروعه هذا معناه أنه ليس روائي يوجد ومضات لعمل قادم …من غير قرار.


لقاء: ثائر مسلاتي، نوح حمامي
تحرير: رنا ماردينلي